(من شيبان الأبله الأمي إلى الحبر أبي يعقوب: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) (الآية 16 من سورة الحديد)
أمـا آن مـن صبح الرشاد تنفس = وحـتى متى ليل الظلام معسعس
تراني أرى فجرى الهدى متعرضا = فـيـنزع للترحال صبٌّ معرّس
ومـا حـذري إلا شعوب مغيرة = ومـا لاح إصباح وأشمط حندس
أما بعد:
فإن كتابك ورد مشتملا على ماهية العقل وحقيقته. وقد الفيتُه وافيا بمقصودك غير واف بمقصودي.
ولست ممن قنع عن الدر بالصدف، واقتنى علوما لم يؤمر بها شرعا، فاستغرقت فيها همته حتى زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف. وكل ما تذروه رياح الموت فالهمة تقتضي تركه:
وكم من منزل لو مت فيه = لكنت به نكالا في العشيرة
وقد استشهدتَ بالحديث في النظر في الأسباب، والترقي منها إلى مسببها، فالأمر كما ذكرت، لكن ليست أسباباً، هي ظلمات ثلاث.
بل هي أسباب نورية، يستدل بها على منورها، فمعرفة النفس مقام محمود، وهو مقام المقربين، من عرف نفسه موحدا لربه.
وقد منّ الله سبحانه بعلوم جليلة ربانية محمدية، يعضدها الشرع، ويشهد لها العقل السليم الجامع بين الأصل والفرع، كالجمع والافتراق، وخرق السبع الطباق، وحقيقية البرزخين، وما اشتملت عليه أرحام الإنثيين، والترقي من الأين إلى حيث لا أين، وكيفية الأرواح والأشباح، وسكون الليل وانفلاق الصباح، واختلاف الألسن والأصوات، ومنطق كل شيء وعجائب الآيات. إلى غير ذلك مما لم يُلفَ مسطورا.
وقد اضمحل الوجود، وبطل دعواه، وبرز المكنون على كل شيء، كلا بل هو الله، وأعرب بلسان ناطق فصيح غمزا أو رمزا (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) (الآية 98 من سورة مريم)
بل لو ترانا والأحبة حولنا لرأيت = غـزلانـا تـصـيـد سـباعا
بـل لو ترى تلك البقاع وحسنها = لـلـظللت بالحسن البديع مراعا
شـوقي طباع واصطباري كلفة = وأرى الـتـكلف لا يزيل طباعا
وكثيرا ما تشير إلى مطالعة كتب حرام الوقوف عليها عقلا وشرعا، ولنا في رسول الله إسوة (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (الآية 82 من سورة النساء) وكفى بهذا جمعا، والحنيفية السمحة قد أشرق سراجها وعم نورها، وقهر سلطانها كلَّ أشرس عاتي القلب، ليس له تحقيق أهل الأصول، ولا تدقيق أهل الوصول، فهم الهمج الرعاع الذين هم لكل ناعق أتباع، قد أوثق الغي عقولهم (فهم في ريبهم يترددون) ، آفتي معرفتي، أرى الشر من ذوي النباهة قريبا.
وكأني بسيدي يقول: قد شب عمرو عن الطوق، وما أحوجه في حقيقة الشرع وحالة التصوف إلى شيء من الذوق.
واعلم أنه لا تظهر حالة حسنة إلا بملازمة أصل صحيح، فإن كنت ممن أراد الآخرة وسعى لها سعيها، وأناب إلى الله بقلب سليم فها أنا أقبّل قدميك، متبع ما يوحى إليك.
وإلا فاطوِ عني طومار الهذيان، ولا تقعقع لي بالشنان -إشارة إلى المثل: (فلان لا يقعقع له بالشنان) أي لا يخدع ولا يروع -
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا) إلى قوله تعالى (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) (سورة مريم: الآيات 43 حتى 47).
ولـما استبان الصبح أدرج ضوءه = بـأنـواره أنـوارَ ضوء الكواكب
أشـرق فـي الـليل نور بهجته = ولاح حـتـى طـفيت مصباحي
مـا زلـت أعرف أيامي وأنكرها = حـتى استبانت فلا بيض ولا سود
وحال بي في بحار الكشف مختبطا = لا الـقرب قرب ولا الإبعاد تبعيد
جعلنا الله وإياكم من الموحدين المتبعين، ولا جعلنا من الملحدين المبتدعين. آمين أمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وسلم وكرم. (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (الآية: 11 سورة إبراهيم).
------------------------
أبو علي: الحسن بن محمد بن عمران النفطي المتصوف الفقيه الأديب. مولده في بلدة نفطة بالجريد في تونس، ووفاته مسموما في رجب (621هـ) لا يزال قبره معروفا حتى اليوم في (نفطة) كما ذكر روبار برنشفيك في كتابه (تاريخ أفريقية في العهد الحفصي) ترجمة حمادي الساحلي (ج2 / ص 336). وأما رسالته التي ننشرها في هذه البطاقة، فقد وصلتنا عن طريقة رحلة التجاني : عبد الله بن محمد بن أحمد (نشرة الدار العربية للكتاب: ص144) ووصلتنا أيضا هي ورسالة أبي يعقوب الطري التي يرد عليها، عن طريق كتاب (سبك المقال لفك العقال: ص71) لابن الطواح -انظر خاتمة البطاقة السابقة- وموضوع الرسالة الرد على أبي يعقوب الطري في رسالة بعث بها إلى النفطي في صناعة الحكمة ومراتب النطق الثلاث، ومراتب العقل وتجلي الملائكة. قال ابن الطواح: فجاوبه الإمام المتبحر الذائق
أمـا آن مـن صبح الرشاد تنفس = وحـتى متى ليل الظلام معسعس
تراني أرى فجرى الهدى متعرضا = فـيـنزع للترحال صبٌّ معرّس
ومـا حـذري إلا شعوب مغيرة = ومـا لاح إصباح وأشمط حندس
أما بعد:
فإن كتابك ورد مشتملا على ماهية العقل وحقيقته. وقد الفيتُه وافيا بمقصودك غير واف بمقصودي.
ولست ممن قنع عن الدر بالصدف، واقتنى علوما لم يؤمر بها شرعا، فاستغرقت فيها همته حتى زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف. وكل ما تذروه رياح الموت فالهمة تقتضي تركه:
وكم من منزل لو مت فيه = لكنت به نكالا في العشيرة
وقد استشهدتَ بالحديث في النظر في الأسباب، والترقي منها إلى مسببها، فالأمر كما ذكرت، لكن ليست أسباباً، هي ظلمات ثلاث.
بل هي أسباب نورية، يستدل بها على منورها، فمعرفة النفس مقام محمود، وهو مقام المقربين، من عرف نفسه موحدا لربه.
وقد منّ الله سبحانه بعلوم جليلة ربانية محمدية، يعضدها الشرع، ويشهد لها العقل السليم الجامع بين الأصل والفرع، كالجمع والافتراق، وخرق السبع الطباق، وحقيقية البرزخين، وما اشتملت عليه أرحام الإنثيين، والترقي من الأين إلى حيث لا أين، وكيفية الأرواح والأشباح، وسكون الليل وانفلاق الصباح، واختلاف الألسن والأصوات، ومنطق كل شيء وعجائب الآيات. إلى غير ذلك مما لم يُلفَ مسطورا.
وقد اضمحل الوجود، وبطل دعواه، وبرز المكنون على كل شيء، كلا بل هو الله، وأعرب بلسان ناطق فصيح غمزا أو رمزا (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) (الآية 98 من سورة مريم)
بل لو ترانا والأحبة حولنا لرأيت = غـزلانـا تـصـيـد سـباعا
بـل لو ترى تلك البقاع وحسنها = لـلـظللت بالحسن البديع مراعا
شـوقي طباع واصطباري كلفة = وأرى الـتـكلف لا يزيل طباعا
وكثيرا ما تشير إلى مطالعة كتب حرام الوقوف عليها عقلا وشرعا، ولنا في رسول الله إسوة (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (الآية 82 من سورة النساء) وكفى بهذا جمعا، والحنيفية السمحة قد أشرق سراجها وعم نورها، وقهر سلطانها كلَّ أشرس عاتي القلب، ليس له تحقيق أهل الأصول، ولا تدقيق أهل الوصول، فهم الهمج الرعاع الذين هم لكل ناعق أتباع، قد أوثق الغي عقولهم (فهم في ريبهم يترددون) ، آفتي معرفتي، أرى الشر من ذوي النباهة قريبا.
وكأني بسيدي يقول: قد شب عمرو عن الطوق، وما أحوجه في حقيقة الشرع وحالة التصوف إلى شيء من الذوق.
واعلم أنه لا تظهر حالة حسنة إلا بملازمة أصل صحيح، فإن كنت ممن أراد الآخرة وسعى لها سعيها، وأناب إلى الله بقلب سليم فها أنا أقبّل قدميك، متبع ما يوحى إليك.
وإلا فاطوِ عني طومار الهذيان، ولا تقعقع لي بالشنان -إشارة إلى المثل: (فلان لا يقعقع له بالشنان) أي لا يخدع ولا يروع -
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا) إلى قوله تعالى (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) (سورة مريم: الآيات 43 حتى 47).
ولـما استبان الصبح أدرج ضوءه = بـأنـواره أنـوارَ ضوء الكواكب
أشـرق فـي الـليل نور بهجته = ولاح حـتـى طـفيت مصباحي
مـا زلـت أعرف أيامي وأنكرها = حـتى استبانت فلا بيض ولا سود
وحال بي في بحار الكشف مختبطا = لا الـقرب قرب ولا الإبعاد تبعيد
جعلنا الله وإياكم من الموحدين المتبعين، ولا جعلنا من الملحدين المبتدعين. آمين أمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وسلم وكرم. (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (الآية: 11 سورة إبراهيم).
------------------------
أبو علي: الحسن بن محمد بن عمران النفطي المتصوف الفقيه الأديب. مولده في بلدة نفطة بالجريد في تونس، ووفاته مسموما في رجب (621هـ) لا يزال قبره معروفا حتى اليوم في (نفطة) كما ذكر روبار برنشفيك في كتابه (تاريخ أفريقية في العهد الحفصي) ترجمة حمادي الساحلي (ج2 / ص 336). وأما رسالته التي ننشرها في هذه البطاقة، فقد وصلتنا عن طريقة رحلة التجاني : عبد الله بن محمد بن أحمد (نشرة الدار العربية للكتاب: ص144) ووصلتنا أيضا هي ورسالة أبي يعقوب الطري التي يرد عليها، عن طريق كتاب (سبك المقال لفك العقال: ص71) لابن الطواح -انظر خاتمة البطاقة السابقة- وموضوع الرسالة الرد على أبي يعقوب الطري في رسالة بعث بها إلى النفطي في صناعة الحكمة ومراتب النطق الثلاث، ومراتب العقل وتجلي الملائكة. قال ابن الطواح: فجاوبه الإمام المتبحر الذائق