أ. د. عادل الأسطة - هُويّة بلا ديانة، فالهُويّات بعضها قاتل...!

قبل أسابيع قليلة كتبت على صفحة الفيسبوك عنوان قصيدة محمود درويش "سجِّل أنا عربي"، وأدرجت تحتها السؤال التالي: هل ستغدو هذه القصيدة شعار العرب في السنوات القادمة؟ وكان السبب وراء إدراجي العنوان وإثارة السؤال، ما كنت أصغي إليه وأنا أُتابع أخبار الحرب في سورية، وما ردد من أن الدولة العبرية تريد منح امتيازات للمسيحيين.
كان الشاعر محمود درويش كتب هذه القصيدة في 60 ق20، وكان لها مناسبة يرويها القاص حنا إبراهيم صاحب مجموعات قصصية عديدة، وقد رواها لي الأستاذ أحمد أبو بكر من يعبد، فقد أنجز هذا رسالة ماجستير عن حنا إبراهيم أديباً، وقد قابله مراراً وحاوره، ومن هنا أصغي إلى قصته القصيرة، وآمل ألاّ تكون الذاكرة خانتني، بخاصة أنني قرأت في كتاب محمود درويش "ذاكرة للنسيان" شيئاً آخر مختلفاً.
روى حنا لأحمد أن الضابط الإسرائيلي في مكتب إصدار الهُويّات سأله عن جنسيته ـ يقصد ديانته، فهل حنا مسيحي أم درزي أم مسلم أم أرمني، وكانت السلطات الإسرائيلية ترمي من وراء ذلك إلى تفتيت الشعب العربي الفلسطيني الصامد على أرضه، من أجل السيطرة عليه، بعد بثّ الفرقة بين أبنائه، وقد أجاب حنا الضابط قائلاً: سجّل أنا عربي. وكان حنّا، يومها، شيوعياً ويعمل في محجر بالفعل ـ في كتاب ذاكرة للنسيان قال درويش إنه كتب هذه القصيدة حين سأله الضابط عن ديانته ـ وقد يكون الشاعر نسي، أو قد تكون القصة حدثت مع حنا ومع درويش، فالسؤال كان يتكرر، وقد يكون حنا ردد القصة على مسامع درويش يوم قال الأخير ما جرى معه أمام رفاقه، فدرويش، يومها، لم يكن متزوجاً، ولم يكن يعمل في محجر، ولم يكن لديه تسعة أطفال.
بغض النظر عن أصل القصة، إن كانت حدثت مع حنا أو درويش أو مع غيرهما من أبناء فلسطين، فإن سؤال الهُويّة في ذلك الزمن كان سؤالاً خبيثاً، وكان الرد عليه رداً ذكياً: سجِّل أنا عربي، وكان العرب في فلسطين، زمن المدّ القومي الناصري في 60 ق20، ينتمون لعروبتهم، لا لديانتهم، بل إن الأمر أسبق من 60 ق20 بكثير، وهو ما بدا في إحدى قصائد اللبناني المقيم في يافا وديع البستاني صاحب ديوان "فلسطينيات" حين كتب:
أجل مسيحي، اسألوا الأمس والغدا ولكن عروبي يحب محمدا
راداً على سياسة الانتداب التي حاولت التمييز بين الفلسطينيين على أساس الديانة.
وأظن أن أحد أسباب كتابتي على الفيسبوك عن قصيدة درويش: سَجّل أنا عربي، هو ما أذاعته وكالات أنباء عن نية الدولة العبرية إعطاء امتيازات للمسيحيين في فلسطين، مميزة بينهم وبين المسلمين.
هذا بالإضافة إلى السبب الذي أوردته في بداية هذا المقال: أخبار الحرب في سورية وما ينجم عنها من ادعاءات وتأويلات وإشاعات و.. و.. وأيضاً ما أخذ يشاع عما يجري من اقتتال بين السُنّة والشّيعة في العراق.
وأنا أقلب، صباح الأربعاء 19/2، ما ينشر على الفيسبوك، التفت إلى كاريكاتور للمرحوم ناجي العلي، يخاطب فيه الرجل السمين البرجوازي الرجل الضعيف الفقير المعدم، سائلاً إيّاه عن هُويّته: أنت مسلم أو مسيحي، سني أو شيعي، درزي أو علوي، قبطي أو ماروني، روم كاثوليك أو روم أرثـ، ولا يكمل فالفقير العربي يرد عليه: أنا عربي يا جحش. ولا شكّ أن الكاريكاتور يعود إلى ما قبل 1987 عام اغتيال الفنان، وكان سؤال الهُويّة للذبح عليها ـ الهُويّة ـ بدأ يشيع في لبنان، وهو ما سينعكس لاحقاً في روايات عديدة كتبها روائيون لبنانيون مثل إلياس خوري "سينالكول" وجبور الدويهي "شريد المنازل" وربيع جابر "الاعترافات" و.. و.. و.. .
قبل أيام سمعنا في الأخبار عن نية السلطة الوطنية الفلسطينية حذف خانة الديانة من الهُويّة، وقد أثار الخبر جدلاً بين الناس وفي أوساط الفيسبوكيين، وكنت قرأت الخبر الذي أدرجه د. عبد الرحمن البرقاوي، المقيم في غزة، على الحائط الفيسبوكي، وعقّبت عليه تعقيباً أقول فيه: لعلّه رد ذكي من أبو مازن على إصرار الدولة العبرية على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة.
أنتم تريدون دولة يهودية، ونحن نريد دولة لمواطنيها، بغض النظر عن الدين. أنتم متعصبون منغلقون، ونحن منفتحون في عالم الانفتاح والعولمة، وقد راق تعقيبي للدكتور عبد الرحمن، وواصلت الكتابة الساخرة، بل والحديث الساخر عن ما وراء الحداثة وعالم ما بعد الحداثة لدى أبناء العمومة، وأشرت للطلاب في محاضراتي، وأنا أثير سؤال الهُويّة، إلى المجتمع الألماني الذي بدأ يميل إلى الانفتاح أكثر وأكثر، وذكرت آخر إحصائية قرأتها عن نسبة الإنجاب من الزيجات المختلطة، ففي ألمانيا، الآن، كل طفلين من خمسة أطفال هما من زواج مختلط ـ أي من المانية وغير ألماني أو من ألماني وغير ألمانية، بل إن ألمانيا أخذت، منذ بداية هذا القرن، تمنح الجنسية الألمانية لغير الألمان.

سؤال الهُويّة في الرواية العربية:
غير بعيد عن السياق، فإن الروايات العربية التي رشحت العام الماضي للقائمة القصيرة لجائزة بوكر، كانت تثير سؤال الهُويّة.
لم نكن نلتفت إلى الديانة، وكنا نعيش معاً على أننا عرب، ولما جاء وقت أثرنا فيه هذا السؤال اختلفت بنا السبل وشهد المجتمع العربي نزاعاً دموياً ذهب ضحيته أفراد أبرياء، لا لسبب اقترفوه، وإنما لاسمهم أو لديانتهم أو للهجتهم، وهذا دفع بالروائي أمين معلوف إلى كتابة كتابه "الهُويّات القاتلة"، حيث أصبح القتل في لبنان على الهُويّة.
وتعدّ رواية جبور الدويهي "شريد المنازل" (2010) من الروايات البارزة التي أتت على الذبح على الهُويّة.
بطل الرواية الذي ولد لأبوين مسلمين، عاش وتربّى في كنفهما وفي كنف أسرة مسيحية معاً، فقد كانت العلاقات شبه طبيعية، يصطاف المسلمون في بيوت يؤجرها المسيحيون، ولا يسألون عن الديانة، ولأن الأسرة المسيحية لا تنجب، فإنها تتبنى الطفل المسلم، ولا تعارض أسرته إقامته مع أسرة المضيفين.
ولما تبدأ الحرب الأهلية، ولما تقوى وتشتد، بدأت الحواجز تقام، وغدا الاسم هُويّة، وأيقونة العذراء هُويّة، والقرآن هُويّة، ولما كان للبطل اسمان، وكان يحمل الأيقونة والقرآن، فقد كاد يدفع حياته ثمناً، علماً بأنه كان في شقته في بيروت يستقبل أفراد خليّة فرج الله الحلو الشيوعية، وكانت تضم المسلم والمسيحي واليهودي.
ولم يكن الرفاق ليسألوا عن خانة الدين، فقط حين تدهمهم قوات الأمن في الشقة تبدأ السؤال، ويسألون موريس الذي كان الرفاق يعرفون أنه يهودي، ولكنهم كانوا يرونه رفيقاً، أما هو فقد كان يرى نفسه يهودياً بالولادة ومعادياً للصهيونية:
"مكتوب هنا أنك إسرائيلي! صحح له موريس كأنه فعل ذلك من قبل: الدين إسرائيلي وليس الجنسية. أكمل الرقيب: لكنك تحكي العربية جيداً. أحكي العربية لأنني لبناني. ولمزيد من الإيضاح سأل موريس الرقيب أول: ما المكتوب على هُويّتك أنت في خانة الدين؟ "درزي" أجاب الرقيب. وأنا إسرائيلي.. وتابع: مولود عام 1947 في منطقة زقاق البلاد ورقم سجلي ثلاثة وخمسون. نقطة على السطر" ويواصل الرقيب سؤال أفراد الخلية عما يفعلونه، وحين يصل إلى البطل المسلم/ المسيحي يسأله عن دينه، وهنا تتدخل يسرى مكتبي سائلة مستنكرة: ما أهمية الدين هنا، فأجابها الرقيب أول إنها المرة الأولى يقع فيها على هُويّة خانة الدين فيها فارغة" (99/100).
ومثل رواية الدويهي التي تبين بشاعة الحياة وقسوتها، حين يبدأ سؤال الهُويّة، وحين يميز بين أبناء الوطن الواحد اعتماداً على الدين، رواية سنان انطون "يا مريم" (2012).
يوسف المسيحي ونسيم حزقيل اليهودي وسالم حسين المسلم كانوا طلاباً أصدقاء وكانوا يجلسون معاً داخل الصف وكانوا دائماً مع بعض في الساحة.
منذ قيام دولة إسرائيل وأحداث الفرهود في العراق بدأت الأمور تتعقد، ومنذ كتب صدام على علم العراق عبارة دينية وأرادها في 90 ق20 دولة إيمان ازدادت تعقيداً، وبلغت الذروة في أيامنا هذه، حتى أصبح القتل بين سُنّة وشيعة ووصلنا إلى ما وصلنا إليه. هل سيأتي يوم نعود فيه إلى سطر محمود درويش : "سجِّل أنا عربي و.. و.. و..؟



د. عادل الأسطة
الايام-دفاتر الأيام
23 شباط 2014
**************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...