صدر ديوانٌ جديد للشاعر المغربي عبدالكريم الطبال، موسوم بـ" الورْدة فوْق الأرض" في حلَّة أنيقة ، عن دار سيليكي أخوين - طنجة، ماي 2021 م. والديوانُ عبقٌ بنسائمِ ورودِ الشِّعْر الجميلةِ المتنوعةِ الألوان، وعبيرِ الأرض الطيبة المعطاء. و قد صدر الديوان المحتفي بجمال الكون، وجلال الخالق، متحديا زمن الأوبئة، منتصراً للحياة والإنسان والجمال.
يشتمل ديوان "الوردة فوْق الأرض " على إحدى وخمسين قصيدة، اختار الشاعر أن يضع لكل مجموعة منها عنوانا كما يلي:
"أمام المرايا" : 5 قصائد / - "أصوات غائمة" : 9 قصائد / - " أشجار أخرى": 6 قصائد / - "في القرب الأول" : 5 قصائد / ـ "في مهب الممكن " : 3 قصائد / - " في خيمة الليل " : 3 قصائد / "بين الأشياء والأشياء" : 5 قصائد : / - " ما كان لي أن أجيء" : 4 قصائد / "مع طيور التمّ " : 11 قصيدة. والملاحظ أن الشَّاعر اختارَ هذه العناوينَ بحسِّ الشاعر المتمرِّس بحيثُ يمكن أن يكون كلُّ منها عنوانا لديوان. وتمثل عنواناً للقصائد التي تنضوي تحتها. إن ديوان الشاعر عبدالكريم الطبال جدير بالقراءة والدراسة المعمقة كغيره من دواوينه التي تشكل تجربة شعرية باذخة متفردة خلق الشاعر ليعيش لها عاشقا مدنفا مخلِصاً لحبٍّ واحدٍ إخلاصَ الشعراء العذريين. ولا أنسى عشقَه الثاني ألا وهو مدينته الأثيرة شفشاون. وسنكتفي بمقاربة قصيدة " الوردة فوق الأرض" انطلاقاً من النص الموازي المتمثل في العتبتين التاليتين :
1 ـ عتبة العنوان:
عنوانُ الديوان "الوَردةُ فوقَ الأَرض"، يتكونُ من مبتدأ ( الوردة ) خبره شبه جملة من ظرف مكان ( فوق ) وهو مضاف و( الأرض ) مضاف إليه. هل يعني لفظُ (فَوْق) في سياق جملة العنوان أن ثمة وردةً سقطتْ على الأرض الصلدة من أعلى عودها التي كانت تتوج قمتَه بتاج الجمال في مرحلة تفتحها ونضجها ونضارتها؟ هل يوحي العنوان هنا بسقوط الأشياء الجميلة إلى الحضيض , وإلى ابتذال القيم الأصيلة وانهيارها في زمن هيمن عليه القبح وبشاعة الواقع؟ أم أن ظرف المكان (فوق )، يوحي إلينا بأننا مقبلون على الدخول إلى عوالم مفعمة بالجمال والسمو والأجواء الروحية الشفيفة ؟ ففي النص الكبير : مجموع قصائد الديوان، وضمنها القصيدة التي تحمل عنوان الديوان، سنلفي الشاعر كأنداده من الشعراء الذين ينتصرون لقيم الجمال والخير والصفاء والتفاؤل ، يحاول أن " أن يلجَ الأعمقَ ، ويرتقي إلى الأسمى والأنبل واعتلاء العوالم الأبدية المتعاقبة وحقائق الروح المثلى بكل معانيها وتجلياتها.." (1) وهذا ما يؤكده الشاعر بقوله إنَّ شعره " شعر إنسان يعيش في الأرض .. ينظر إلى روح السَّماء. " (2) ، فقد كان دائم الميل إلى المحتد الصوفي، عاش في طفولته في بيت كل أجوائه تهيئه إلى" الاغتراف من نبع التصوف، أو على وجه الدقة إلى الأفق الروحاني." (3) . والعنوان " علامة دالة على النص" حسب جان ريكاردو (4) . فماذا نلفي من خلال عتبة عنوان القصيدة الذي اختاره الشاعر عنواناً لكل ديوانه " الوردة فوق الأرض " ؟ ( ص: 28 ) هل نصادفُ صيغاً نصية تتضمن المعنى الذي تبادر إلى ذهننا أولَ الأمر، ( السقوط والانحدار إلى حضيض الأرض المادي ... ؟). يأتينا الجوابُ من خلال الصيغ النَّصية التي يوظفُها الشاعرُ في القصيدة، فهي تقابلها وتناقضها خارقة أفق انتظار المتلقي. إنها تنطوي على السمو والجلال والارتفاع إلى عوالم روحية شفيفة ؟ فالوردة ترتفعُ إلى الأعلى والأسمى. نقرأ القصيدة :
تَمْشي على النَّهْرِ
مِنْ دونِ جِسْرٍ
ولا تبتلُّ
ولا تَغْرَقْ
تَكْتبُ المَاءَ
مِنْ دونِ حِبْرٍ
ولا يَمْحو المَاءُ
الكلماتْ
تتفرَّسُ في النَّهْرِ
كَما يتفَرَّسُ فيها
والوَجْهُ بينَهُما
واحِدْ
أَيُّهَا الصَّامِتُ
خَلْفَ الصَّمْتِ
مالَكَ
تُخْفي وْجْهكَ
والصَّمْتُ وَاحدْ ؟
إن الشاعر يَخرقُ أفق انتظارنا، فليسَ في معجم النَّص وجودٌ للفظ (الأرض) أو ما يوحي بالعالم المادي ، فليس ثمة إلا لغة القصيدة الشفيفة المجنحة " لغة الروح ، لغة الأسرار ، ولغة الصلاة ، وأنَّى له أن يقبضَ على جناحِ القصيدة وهي طائرٌ لا يكفُّ عن التحليق ، ولكنه مقدور عليه أن يعرجَ إلى مقامها، ولو حلقتْ فَعلى الأثر دائماً يسْري وقد يقبض على الظل أو على الصَّدى ، فيشفيهِ ما أدركَ غلةً حارقة." ( 5 ) . إنَّ المُعجمَ المستخدم في النص ينتمي إلى حقل الماء، رمز الحياة والغضارة والخصوبة والنماء. فلفظ الماء يتكرر مرتين ، ولفظ النهر أيضاً يتكرر مرتين، وليس ثمة في القصيدة إلا ما يوحي بعوالم روحية شفافة لطيفة، فالوردة تمشي فوق ماء النهر دون أن تبتل ، والوردة تتفرس في ماء النهر لترى جمالها كصنيع نرسيس في الأسطورة . إنها معجبة بجمالها ، ترى في مرآة النهر وجهها الجميل، ويتبادلان النظر فيما بينهما كأنهما عاشقان ، ليس في عالم النص إلا الجمال والسمو والهدوء والسكينة. لقد تكرر لفظ الصمت في صيغتين اسم الفاعل ( الصامت ) والمصدر ( الصمت ) في ثلاثة أسطر من المقطع الأخير من النص دلالة على توق الذات الشاعرة إلى السكينة الروحية. ومن الجدير بالذكر هنا ، أن الصوفية عُنوا برمز "الطبيعة ، فقد نظروا إلى المخلوقات جميعاً على أنها مجلَى من مجالي الحق، والجمال الإلهي ، ولا بد أن يكون الشَّجرُ والأنهارُ والورد وكل مظاهر الجمال في الطبيعة من مصادر الإعجاب." (6) ، و" في رباعيات الخيام ، يكاد رمز الطبيعة بما فيها من ورد وماءِ وعطرٍ وعشب وخمائل ، أن يغلب رمز الخمرِ الذي هو عمادُ شعر الخيام في رباعياته، ولهذا كان لعمر الخيام زهرةٌ نُسِبتْ إليه ...وصفتْ بأنها أجملُ الزهور قاطبةً ، والوردُ في شعر الخيام رمز الحب والعشق ، رمز الروح والوصال " (7) ألا تكون الوردة في قصيدة الشاعر عبدالكريم الطبال تشير إلا نفس الدلالة؟ أليس ثمة عشق بين الوردة والنهر ؟:
تتفرَّسُ في النَّهْرِ
كَما يتفَرَّسُ فيها
والوَجْهُ بينَهُما
واحِدْ
2 ـ عتبة الغلاف : ربما يؤازر ( العنوانُ ) ما نذهب إليه في العتبة الأولى (غلافُ الديوان ) الذي يمثل لوحة فنية للرسامة الأوكرانية " إلينا هيربكينسكايا "، ذات الأرضية السماوية اللون كأنها سماء صافية الأديم، تبعث على البهجة والانشراح، نرى خلالها أغصانَ شَجرةٍ تمتلئ بأزهار بيضاءَ متفتحةٍ تُضيء غلاف الديوان بنورها المنبعث من لونها الأبيض، يضاف إلى لون الأزهار البيضاء التي تشبه الياسمين ، إطار اللوحة الأبيض اللون الذي يحيط بها ، ويطل العنوانُ من أعلى اللوحة مكتوباً بالبنط الغليظ بنفس لون أرضية شجرة الورود وسط الغلاف. في أعلى الغلاف نجد اسم الشاعر( عبد الكريم الطبال )، وقد كتب بخط رقيق، وذلك ليوحي إلينا بتواضع الشاعر، ونبذه لحب الظهور . أما كلمة ( شعر) التجنيسية ، فقد كتبت في أقصى اليسار فوق لوحة الغلاف بخط رقيق أيضاً ، ربما دلالة على أن الشاعر رغم تجربته الشعرية الباذخة الغنية الممتدة عبر عقود، يعتبر نفسَه ما زال يبحث عن قصيدة لم يكتبها بعد. إنَّ ثمة انسجاماً في الألوان يوحي بأننا بإزاء الدخول إلى عالم يخلو من القلق وتسوده الكلمات المتناغمة المتناسقة حيث تلتقي في انسجام أقانيم تجربة عبدالكريم الطبال الشعرية الثلاثة : الرؤيا ـ الذات ـ الإيقاع . يقول الشاعر " أثناء الكتابة تحضر القصيدة بهُويتها ولباسها كما هي، وكما ستكون بعد انتهاء الكتابة ، فالثلاثة واحد بدءً و انتهاءً . " (8 )
إن الغلاف كما وصفنا، يوحي إلى المتلقي بأنه مقبل على ولوج عالم نوراني مفعم بالصفاء والجمال والسكينة والسماوات البعيدة عن حضيض الأرض المضرجة بدماء الشر ومظاهر القبح. يقول الشاعر عبد الكريم الطبال: " دائماً كان الشاعر ثورياً بمعنى ما على القبح في هذه الحياة ، ولذلك كنتُ منجَذباً إلى الشعر الرومانسي لدى شعراء المهجر بالأساس، ثم إلى شعراء "أبولو"، فَكُل هؤلاء كانوا بمعنى ما دعاة إلى الحرية في أسمى معانيها . " ( 9 )
الهوامش :
1 ـ موقع أنفاس الإليكتروني ، بغاديد عبد القادر ، النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر بين التخطي المحسوس والانعطاف نحو الباطن ، 21 يناير 2018 .
2 ـ عبدالكريم الطبال / ناسك الجبل ، حوار في الحياة والشعر ، عبداللطيف الوراري ، سليكي أخوين ، طنجة ، 2016 ، ص : 96 .
3 ـ نفسه ، ص : 96 .
4 ـ شعيب حليفي ، هوية العلامات / في العتبات النصية وبناء التأويل ، ط.1 ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ، 2005 ، ص : 11 .
5 ـ نفسه ، ص : 99 وما بعدها.
6 ـ إبراهيم محمد منصور ( د) ، الشعر والتصوف / الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر ، ط.1 ، دار الأمين ، 1420 هـ / 1999 م. ، ص : 68 .
7 ـ نفسه ، ص : 69 .
8 ـ عبدالكريم الطبال / ناسك الجبل ، حوار في الحياة والشعر ،ملرجع مذكور ، ص: 103 .
9 ـ عبدالكريم الطبال / ناسك الجبل ، م, س , ذ ، ص : 52 .
* جريدة "الشمال" عدد يوم السبت 10 دجنبر 2022
يشتمل ديوان "الوردة فوْق الأرض " على إحدى وخمسين قصيدة، اختار الشاعر أن يضع لكل مجموعة منها عنوانا كما يلي:
"أمام المرايا" : 5 قصائد / - "أصوات غائمة" : 9 قصائد / - " أشجار أخرى": 6 قصائد / - "في القرب الأول" : 5 قصائد / ـ "في مهب الممكن " : 3 قصائد / - " في خيمة الليل " : 3 قصائد / "بين الأشياء والأشياء" : 5 قصائد : / - " ما كان لي أن أجيء" : 4 قصائد / "مع طيور التمّ " : 11 قصيدة. والملاحظ أن الشَّاعر اختارَ هذه العناوينَ بحسِّ الشاعر المتمرِّس بحيثُ يمكن أن يكون كلُّ منها عنوانا لديوان. وتمثل عنواناً للقصائد التي تنضوي تحتها. إن ديوان الشاعر عبدالكريم الطبال جدير بالقراءة والدراسة المعمقة كغيره من دواوينه التي تشكل تجربة شعرية باذخة متفردة خلق الشاعر ليعيش لها عاشقا مدنفا مخلِصاً لحبٍّ واحدٍ إخلاصَ الشعراء العذريين. ولا أنسى عشقَه الثاني ألا وهو مدينته الأثيرة شفشاون. وسنكتفي بمقاربة قصيدة " الوردة فوق الأرض" انطلاقاً من النص الموازي المتمثل في العتبتين التاليتين :
1 ـ عتبة العنوان:
عنوانُ الديوان "الوَردةُ فوقَ الأَرض"، يتكونُ من مبتدأ ( الوردة ) خبره شبه جملة من ظرف مكان ( فوق ) وهو مضاف و( الأرض ) مضاف إليه. هل يعني لفظُ (فَوْق) في سياق جملة العنوان أن ثمة وردةً سقطتْ على الأرض الصلدة من أعلى عودها التي كانت تتوج قمتَه بتاج الجمال في مرحلة تفتحها ونضجها ونضارتها؟ هل يوحي العنوان هنا بسقوط الأشياء الجميلة إلى الحضيض , وإلى ابتذال القيم الأصيلة وانهيارها في زمن هيمن عليه القبح وبشاعة الواقع؟ أم أن ظرف المكان (فوق )، يوحي إلينا بأننا مقبلون على الدخول إلى عوالم مفعمة بالجمال والسمو والأجواء الروحية الشفيفة ؟ ففي النص الكبير : مجموع قصائد الديوان، وضمنها القصيدة التي تحمل عنوان الديوان، سنلفي الشاعر كأنداده من الشعراء الذين ينتصرون لقيم الجمال والخير والصفاء والتفاؤل ، يحاول أن " أن يلجَ الأعمقَ ، ويرتقي إلى الأسمى والأنبل واعتلاء العوالم الأبدية المتعاقبة وحقائق الروح المثلى بكل معانيها وتجلياتها.." (1) وهذا ما يؤكده الشاعر بقوله إنَّ شعره " شعر إنسان يعيش في الأرض .. ينظر إلى روح السَّماء. " (2) ، فقد كان دائم الميل إلى المحتد الصوفي، عاش في طفولته في بيت كل أجوائه تهيئه إلى" الاغتراف من نبع التصوف، أو على وجه الدقة إلى الأفق الروحاني." (3) . والعنوان " علامة دالة على النص" حسب جان ريكاردو (4) . فماذا نلفي من خلال عتبة عنوان القصيدة الذي اختاره الشاعر عنواناً لكل ديوانه " الوردة فوق الأرض " ؟ ( ص: 28 ) هل نصادفُ صيغاً نصية تتضمن المعنى الذي تبادر إلى ذهننا أولَ الأمر، ( السقوط والانحدار إلى حضيض الأرض المادي ... ؟). يأتينا الجوابُ من خلال الصيغ النَّصية التي يوظفُها الشاعرُ في القصيدة، فهي تقابلها وتناقضها خارقة أفق انتظار المتلقي. إنها تنطوي على السمو والجلال والارتفاع إلى عوالم روحية شفيفة ؟ فالوردة ترتفعُ إلى الأعلى والأسمى. نقرأ القصيدة :
تَمْشي على النَّهْرِ
مِنْ دونِ جِسْرٍ
ولا تبتلُّ
ولا تَغْرَقْ
تَكْتبُ المَاءَ
مِنْ دونِ حِبْرٍ
ولا يَمْحو المَاءُ
الكلماتْ
تتفرَّسُ في النَّهْرِ
كَما يتفَرَّسُ فيها
والوَجْهُ بينَهُما
واحِدْ
أَيُّهَا الصَّامِتُ
خَلْفَ الصَّمْتِ
مالَكَ
تُخْفي وْجْهكَ
والصَّمْتُ وَاحدْ ؟
إن الشاعر يَخرقُ أفق انتظارنا، فليسَ في معجم النَّص وجودٌ للفظ (الأرض) أو ما يوحي بالعالم المادي ، فليس ثمة إلا لغة القصيدة الشفيفة المجنحة " لغة الروح ، لغة الأسرار ، ولغة الصلاة ، وأنَّى له أن يقبضَ على جناحِ القصيدة وهي طائرٌ لا يكفُّ عن التحليق ، ولكنه مقدور عليه أن يعرجَ إلى مقامها، ولو حلقتْ فَعلى الأثر دائماً يسْري وقد يقبض على الظل أو على الصَّدى ، فيشفيهِ ما أدركَ غلةً حارقة." ( 5 ) . إنَّ المُعجمَ المستخدم في النص ينتمي إلى حقل الماء، رمز الحياة والغضارة والخصوبة والنماء. فلفظ الماء يتكرر مرتين ، ولفظ النهر أيضاً يتكرر مرتين، وليس ثمة في القصيدة إلا ما يوحي بعوالم روحية شفافة لطيفة، فالوردة تمشي فوق ماء النهر دون أن تبتل ، والوردة تتفرس في ماء النهر لترى جمالها كصنيع نرسيس في الأسطورة . إنها معجبة بجمالها ، ترى في مرآة النهر وجهها الجميل، ويتبادلان النظر فيما بينهما كأنهما عاشقان ، ليس في عالم النص إلا الجمال والسمو والهدوء والسكينة. لقد تكرر لفظ الصمت في صيغتين اسم الفاعل ( الصامت ) والمصدر ( الصمت ) في ثلاثة أسطر من المقطع الأخير من النص دلالة على توق الذات الشاعرة إلى السكينة الروحية. ومن الجدير بالذكر هنا ، أن الصوفية عُنوا برمز "الطبيعة ، فقد نظروا إلى المخلوقات جميعاً على أنها مجلَى من مجالي الحق، والجمال الإلهي ، ولا بد أن يكون الشَّجرُ والأنهارُ والورد وكل مظاهر الجمال في الطبيعة من مصادر الإعجاب." (6) ، و" في رباعيات الخيام ، يكاد رمز الطبيعة بما فيها من ورد وماءِ وعطرٍ وعشب وخمائل ، أن يغلب رمز الخمرِ الذي هو عمادُ شعر الخيام في رباعياته، ولهذا كان لعمر الخيام زهرةٌ نُسِبتْ إليه ...وصفتْ بأنها أجملُ الزهور قاطبةً ، والوردُ في شعر الخيام رمز الحب والعشق ، رمز الروح والوصال " (7) ألا تكون الوردة في قصيدة الشاعر عبدالكريم الطبال تشير إلا نفس الدلالة؟ أليس ثمة عشق بين الوردة والنهر ؟:
تتفرَّسُ في النَّهْرِ
كَما يتفَرَّسُ فيها
والوَجْهُ بينَهُما
واحِدْ
2 ـ عتبة الغلاف : ربما يؤازر ( العنوانُ ) ما نذهب إليه في العتبة الأولى (غلافُ الديوان ) الذي يمثل لوحة فنية للرسامة الأوكرانية " إلينا هيربكينسكايا "، ذات الأرضية السماوية اللون كأنها سماء صافية الأديم، تبعث على البهجة والانشراح، نرى خلالها أغصانَ شَجرةٍ تمتلئ بأزهار بيضاءَ متفتحةٍ تُضيء غلاف الديوان بنورها المنبعث من لونها الأبيض، يضاف إلى لون الأزهار البيضاء التي تشبه الياسمين ، إطار اللوحة الأبيض اللون الذي يحيط بها ، ويطل العنوانُ من أعلى اللوحة مكتوباً بالبنط الغليظ بنفس لون أرضية شجرة الورود وسط الغلاف. في أعلى الغلاف نجد اسم الشاعر( عبد الكريم الطبال )، وقد كتب بخط رقيق، وذلك ليوحي إلينا بتواضع الشاعر، ونبذه لحب الظهور . أما كلمة ( شعر) التجنيسية ، فقد كتبت في أقصى اليسار فوق لوحة الغلاف بخط رقيق أيضاً ، ربما دلالة على أن الشاعر رغم تجربته الشعرية الباذخة الغنية الممتدة عبر عقود، يعتبر نفسَه ما زال يبحث عن قصيدة لم يكتبها بعد. إنَّ ثمة انسجاماً في الألوان يوحي بأننا بإزاء الدخول إلى عالم يخلو من القلق وتسوده الكلمات المتناغمة المتناسقة حيث تلتقي في انسجام أقانيم تجربة عبدالكريم الطبال الشعرية الثلاثة : الرؤيا ـ الذات ـ الإيقاع . يقول الشاعر " أثناء الكتابة تحضر القصيدة بهُويتها ولباسها كما هي، وكما ستكون بعد انتهاء الكتابة ، فالثلاثة واحد بدءً و انتهاءً . " (8 )
إن الغلاف كما وصفنا، يوحي إلى المتلقي بأنه مقبل على ولوج عالم نوراني مفعم بالصفاء والجمال والسكينة والسماوات البعيدة عن حضيض الأرض المضرجة بدماء الشر ومظاهر القبح. يقول الشاعر عبد الكريم الطبال: " دائماً كان الشاعر ثورياً بمعنى ما على القبح في هذه الحياة ، ولذلك كنتُ منجَذباً إلى الشعر الرومانسي لدى شعراء المهجر بالأساس، ثم إلى شعراء "أبولو"، فَكُل هؤلاء كانوا بمعنى ما دعاة إلى الحرية في أسمى معانيها . " ( 9 )
الهوامش :
1 ـ موقع أنفاس الإليكتروني ، بغاديد عبد القادر ، النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر بين التخطي المحسوس والانعطاف نحو الباطن ، 21 يناير 2018 .
2 ـ عبدالكريم الطبال / ناسك الجبل ، حوار في الحياة والشعر ، عبداللطيف الوراري ، سليكي أخوين ، طنجة ، 2016 ، ص : 96 .
3 ـ نفسه ، ص : 96 .
4 ـ شعيب حليفي ، هوية العلامات / في العتبات النصية وبناء التأويل ، ط.1 ، دار الثقافة ، الدار البيضاء ، 2005 ، ص : 11 .
5 ـ نفسه ، ص : 99 وما بعدها.
6 ـ إبراهيم محمد منصور ( د) ، الشعر والتصوف / الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر ، ط.1 ، دار الأمين ، 1420 هـ / 1999 م. ، ص : 68 .
7 ـ نفسه ، ص : 69 .
8 ـ عبدالكريم الطبال / ناسك الجبل ، حوار في الحياة والشعر ،ملرجع مذكور ، ص: 103 .
9 ـ عبدالكريم الطبال / ناسك الجبل ، م, س , ذ ، ص : 52 .
* جريدة "الشمال" عدد يوم السبت 10 دجنبر 2022