أ. د. عادل الأسطة - زمار البلد

في سيرتها "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" تأتي فدوى طوقان على موقف معلمات مدينتها نابلس، في ثلاثينيات ق 20، من أشعارها التي كانت تكتبها وتنشرها. لم تكن المعلمات يصدقن أن فدوى التي لم تنه الصف الخامس الابتدائي، تكتب الأشعار التي تنشرها. كن يقلن: أخوها إبراهيم يكتب لها الشعر، وهي تنشره باسمها. ولم يصدقن أن ما تكتبه فدوى وتنشره كان صادرا عنها، لم يصدقن هذا إلا بعد موت إبراهيم واستمرارها في الكتابة والنشر. وربما لم تلتفت معلمات المدينة إلى فدوى التفاتا لافتا إلا بعد الاحتلال، ما سبب لها، ابتداءً، ألما كبيراً. هل أفشي سرا حين أقول أن دواوين فدوى الصادرة عن دار الآداب قبل العام 1967 ظلت معروضة في مكتبات نابلس حتى العام 1977؟ أنا اشتريت: أمام الباب المغلق، ووجدتها، وأعطنا حبا من إحدى مكتبات نابلس في العام 1977، وما زلت أحتفظ بها. هذا يعني أن فدوى لم تلق رواجا في مدينتها حتى فترة متأخرة.

هل اختلف ادوارد سعيد كثيرا عن فدوى؟ لا أملك إجابة يقينية، ولكني سمعت أن المرحوم د. إحسان عباس لم يبد استعدادا لترجمة كتاب الاستشراق، قبل شيوعه وترجمته إلى لغات عديدة، منها العربية، حيث نقله إليها د. كمال أبو ديب. لم يكن نجم ادوارد سعيد، بعد، قد سطع في سماء العالم العربي. هل شعر د. إحسان عباس، فيما بعد، ببعض الندم. لست أدري.
في إحدى رسائل محمود درويش إلى سميح القاسم، يكتب درويش أن الفلسطيني، حتى يصدقه الغرب، يحتاج إلى شاهد يهودي يؤكد ما يذهب إليه الفلسطيني. طبعا الفلسطيني ليس ابن بلد غربي، فهو ليس زمار البلد، ولكن هناك صلة ما، فيما أرى، بين ما قالته فدوى وما قاله درويش، وإن كانت بعيدة نوعا ما.

الحكايات المشابهة لحكاية فدوى طوقان، في الحياة وفي الروايات كثيرة. مرة نقلت الصحف العربية حكاية مهندس عربي يحمل جواز سفر أمريكيا، جاء مع مجموعة من المهندسين الأمريكان إلى ليبيا متعاقدا، وحين عرفت الدولة الليبية أنه عربي أصرت أن يكون عقده مثل عقد المهندسين العرب، لا مثل عقد المهندسين الأمريكيين، ولولا تعاطف زملائه الأمريكيين معه، حيث هددوا بالعودة جميعا، لعومل على أنه مهندس عربي، لا أمريكي، ولقبض أجرة أقل، علما بأنه سيقدم المجهود نفسه، وأن معلوماته هي معلوماته، بغض النظر عن الهوية التي يحملها.

ربما يتذكر قراء رواية الأديب المصري علاء الأسواني "شيكاغو" حكاية المصري الذي أراد أن يدرس في بلده وأن يخدم فيها، فرفض لأنه قبطي، ما جعله يغادر مصر إلى أمريكا، ويغدو فيها جراح قلب شهيرا، سيجري عملية قلب لأستاذه الذي رفض تعيينه في مصر، فلم يتعامل مع أستاذه بحقد، ولم يعامله بالمثل، فلقد تغلب الإنساني فيه على الجانب السلبي.
سأتذكر حكايات الأدباء، وحكايات أبطالهم، وبعض القصص التي قرأتها في الجرائد أو من آخرين، وأنا أتابع ما ألم بمسلسل الاجتياح. كان المسلسل أنجز عن ربيع 2002 الفلسطيني، وركز على حصار مخيم جنين. وكما علمت فقد عرض في العام 2007، ثم أعادت الفضائية الليبية في شهري (تشرين 1+ تشرين 2) عرضه. وقد رفضت أكثر الدول العربية عرضه. طبعا سأقرأ، هذه الأيام، كلاما كثيرا عن سبب منع العرض: لا تريد الدول العربية أن تسبب إحراجا. لا تريد أن تغضب دولة أبناء العمومة، وأن تسيء إليها وإلى علاقتها معها. والغريب مثلا أنني لم أقرأ إطلاقا عن سبب آخر مثل: ولا تريد أن يتوحش الإسرائيليون ثانية حتى لا يكرروا ما حدث في جنين في أماكن أخرى: في بلاطة أو عسكر أو الفارعة. في الخليل أو طولكرم أو قلقيلية. في غزة، علما بأن هذه تحاصر وتعاني ما تعاني.

سيفوز المسلسل بجائزة عالمية هي جائزة (ايمي). هل ما حدث مع فدوى طوقان سيتكرر مع المسلسل؟ أعني هل ستعيد الفضائيات العربية الآن بث المسلسل، فقد ذاع صيته في الغرب؟ حين غدت فدوى معروفة في العالم العربي ونشرت أعمالها وأقامت غير أمسية شعرية بدأ سكان مدينتها يحتفلون بها. وهل ما قاله محمود درويش سيتحقق: لا بد من شاهد يهودي حتى يصدقنا الغرب؟ هل لا بد من جائزة عالمية حتى تجرؤ الفضائيات العربية على بث المسلسل، فإذا ما اعترضت ست الحسن والجمال والعدل: إسرائيل، قال العرب: الغرب منحه جائزة (ايمي) فلا تلومونا؟ والآن المسلسل حظي بهوية عالمية: جائزة (ايمي). والطريف أن ليبيا التي أرادت أن تعامل المهندس العربي على أنه عربي بثت المسلسل، فهل الدول العربية، الآن، ستتصرف تصرف ليبيا في سبعينيات القرن العشرين؟ أنا لست أدري.
زمار البلد لا يطرب: مثل شعبي كررته فدوى طوقان، واستحضرته في سيرتها، لأنها مرت بتجربة تؤكد صدق ما يقوله، وينطبق هذا أيضا على الطبيب في رواية علاء الأسواني، وينطبق على... وعلى.. وعلى... وعلى.....
في السياق ذاته: خبر عاجل

"خبر عاجل" عنوان رواية تاريخ كتابتها آب 2005 لسجين هو كميل أبو حنيش، ولا يوجد على الغلاف تاريخ النشر ومكانه ودار النشر، وربما تكون العمل الروائي الأول لصاحبها، فلا معلومات عن نشاطه الأدبي، ولم أقرأ له من قبل. لم اقتن الرواية من مكتبة أو من معرض كتاب، فلقد أحضر لي بعض الطلبة، مشكورين، قبل أسبوعين، نسخة منها وقالا لي: إن شاء الله تكون مقالتك القادمة حولها، فقلت لهم: الأسبوع القادم سأكتب عن مريم الحكايا لعلوية صبح، ولعلني سأكتب عن "خبر عاجل" الأسبوع الذي يليه.

سأقرأ الرواية في يوم واحد، فهي تقع في حدود 126 صفحة من الحجم المتوسط، وتتمحور حول شخوص من مخيم عسكر الجديد ومن جامعة النجاح الوطنية. والمكانان لهما في نفسي مكانة، لذكريات جميلة في المخيم، أيام المراهقة، ولعمل طويل ومضن، ممتع وصعب وقاس، في جامعة النجاح. هل سأمدح الرواية أم سأكتب عنها مقالا يجعل كاتبها يكرر: زمار البلد لا يطرب.

سأجد نفسي، وأنا أفكر في الكتابة عن الرواية، بين نارين: نار الاحترام لمؤلفها، ونار الانحياز للناقد الأدبي فيّ. وسأقول: للرواية قيمة تاريخية، وليس لها قيمة فنية. وسأتذكر، وأنا أقرأها، ديوان المرحوم محمود درويش: "حالة حصار" (2002)، فثمة تقاطع كبير واضح بين ما كتبه درويش على لسان الشهيد الذي كان يفجر نفسه، وبين ما يقوله أسامة الذي يفجر جسده. هل قرأ كميل أبو حنيش "حالة حصار" واستوعبه، وترك أسامة يقول ما ورد على لسان الشهيد في أشعار درويش أم أن أسامة/ ومن ورائه كميل، عبّرا عما كان في داخلهما، وهو ما صاغه درويش شعرا، لكأنه كان استمع إلى الشهداء، إلى أسامة بطل خبر عاجل.

الفارق بين ما كتبه درويش وكميل أبو حنيش في "خبر عاجل"، جماليا، فارق كبير. طبعا لا عجب، فالأول شاعر متمرس اجتهد وأصدر عشرين مجموعة قبل "حالة حصار"، والثاني كانت روايته الأولى. هل نتذكر ما قاله درويش في "حالة حصار" على لسان الشهيد: الشهيد يعلمني لا جمالي خارج حريتي؟ ربما، بل يجدر، علما بأن هذا لا يعفي الكاتب من إتقان أدواته.

أسامة بطل "خبر عاجل" يحب الحياة الكريمة ويرفض الذل وحياة البؤس في المخيمات، وإسرائيل تضيق عليه وعلى أبناء شعبه وعلى اللاجئين، ولا تترك له فرصة لحياة كريمة. ألم يكتب درويش على لسان الشهيد: "الشهيد يوضح لي: لم أفتش وراء المدى/ عن عذارى الخلود/ فإني أحب الحياة/ على الأرض، بين الصنوبر والتين، لكنني/ ما استطعت إليها سبيلا،/ ففتشت عنها بآخر ما أملك:/ الدم في جسد اللازورد". وهذا أزعج الإسرائيلي (درور ايدار). آمل ألا يكرر كميل: زمار البلد لا يطرب. الرواية تحتاج إلى مراجعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...