في مباراة ملحمية حملت السحر والتشويق والبراعة، انتصر المنتخب الأرجنتيني على نظيره الفرنسي بركلات الترجيح بعد تعادلهما في الوقتين الأصلي والإضافي. وبهذا تكون صفحة المونديال قد انتهت، ومعها طويت لحظات من المتعة والفرح والنشوة والأسى وخيبات الأمل.
أعتقد أن المنتخب الفرنسي قدم الدرس الأكثر بلاغة في هذه الموقعة الكروية. وأنا هنا لا أحلل مهارات اللاعبين أو بنية المنتخب، أو دور النجوم والمدرب، فهذه أمور تُترك للخبراء والمتابعين، وأنا لست واحداً منهم.
كما أن تركيزي على الدرس الفرنسي لا يقلل من أهمية لحظات الفرح التي أهداها المنتخب المغربي لملايين العرب والأفارقة، بتلك الصورة الناصعة للعب الجميل والتفاني والوعي الذي دفعهم إلى رفع علم فلسطين إلى جانب العلم المغربي. لكن الدرس المغربي ليس جديداً سوى في عنوانه، لأن أغلبية اللاعبين المغاربة أتوا من فرق أوروبية، وهم بذلك جزء من بنية كروية تعم أوروبا بصفتها السوق الأساسية لتبادل اللاعبين المحترفين.
غير أن الدرس الفرنسي بما يحمله من مؤشرات ثقافية وسياسية، في زمن صعود الفاشيات والتيارات اليمينية يحمل الكثير من الدلالات.
ما معنى أن يتشكل فريق يقف تحت العلم الفرنسي، وينشد «المارسييز» مع بداية كل مباراة، من هذه النخبة الممتازة من اللاعبين المهاجرين؟ وما معنى أن نرى منتخباً فرنسياً ملوناً يتحرك على بساط الملعب الأخضر؟
هل هذه إحدى المصادفات الجميلة التي تهبها لنا كرة القدم؟ أم نحن أمام ظاهرة تتعدى المستوى الكروي، وتفرض ظلالها على مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية؟
قبل أن نحلل تعالوا نقرأ الوقائع، فالمنتخب الفرنسي يضم إلى جانب اللاعبين القلائل من ذوي الآصول الفرنسية، أكثرية من اللاعبين من أصول شتى: الكامرون وغينيا والكونغو والجزائر والمغرب ومالي والسنغال وأنغولا وتوجو وغوادولوب.
هؤلاء اللاعبون ولدوا في فرنسا، وصاروا جزءاً من نسيجها الاجتماعي، لكنهم في المقابل يحملون هوية مزدوجة. الهوية المزدوجة هي إحدى سمات زمننا، لذا تستطيع أن تكون فرنسياً وعربياً في الوقت نفسه، بهذا المعنى يقدم هؤلاء تعريفاً جديداً للانتماء الوطني. هكذا تنكسر اللغة التي يحاول اليمين العنصري فرضها، حول المهاجرين سواء أكانوا عرباً أم أفارقة أم مسلمين.
لا تقتصر هذه الظاهرة على المنتخب الفرنسي، بل نجدها في كثير من الفرق الأوروبية، التي طعّمها المهاجرون بلاعبين مدهشين، رفعوا كؤوس النصر، وأدخلوا نكهة التنوع.
لا أدري ما هي مشاعر اليمينيين المتطرفين وأضرابهم من العنصريين الفرنسيين أمام هذا المشهد، هل يشعرون بالانتماء إلى هذا المنتخب؟ أم سيتابعون نهجهم الداعي إلى الحفاظ على النقاء العرقي والديني عبر طرد المهاجرين، ومتابعة مسلسل الإسلاموفوبيا المقيت؟
سبق للدول الاستعمارية أن اعتبرت رعايا الدول المستعمَرة مادة أولية يمكن استغلالها في شتى المجالات، ولعل قمة هذا الاستغلال تكمن في الفرقة الأجنبية في الجيش الفرنسي، التي كانت مؤلفة من رجال فقدوا حيلتهم، فساقهم القدر الاستعماري إلى تجربة الموت في أرض غريبة. أعرف أحد رجال هذه الفرقة وهو لبناني هاجر بشكل غير شرعي إلى فرنسا في أربعينيات القرن الماضي، وعندما اعتقل خُيِّر بين أمرين: الطرد إلى لبنان أو الفرقة الأجنبية. وجد الرجل نفسه في مغامرة موت غريبة في فيتنام نجا منها بأعجوبة، وعاد إلى فرنسا بجنسية فرنسية استخلصها من جحيم الهند الصينية.
المسألة الآن مختلفة، فاللاعبون نجوم وليسوا ضحايا. صحيح أن ضواحي المهاجرين في المدن الفرنسية والأوروبية لا تزال تعيش في البؤس، وصحيح أيضاً أن سكانها من ذوي الأصول العربية والإفريقية يتعرضون لضغوط هائلة، ويعيشون أزمة هوية يزيد من تعقيدها الخطاب العنصري الرائج، لكن الصحيح أيضاً هو بروز حقيقة جديدة لم يعد تجاهلها ممكناً.
كرة القدم هي المرآة الأكثر وضوحاً التي عكست هذا التغير الذي نجده على مستويات متعددة، وخصوصاً على المستوى الثقافي: في الأدب والمسرح والموسيقى والغناء… أي أننا أمام بداية مرحلة اجتماعية وثقافية تولد رغم أنف العنصرية، وتتميز بتعدديتها وتنوع أصولها وخلاسيتها.
هذه الظاهرة التي كانت موجودة عبر التاريخ حجبها صعود الدولة القومية بخطابها الكولونيالي. فالهجرة والانتقال من مكان إلى مكان هي إحدى سمات التاريخ الإنساني، لكنها اتخذت مع الكولونيالية شكلاً مقيتاً، حولها من مصدر غنى إلى مشكلة. ليس غريباً أن تكون شعارات الشعبويين في زمن الرأسمالية المتوحشة مليئة بالكراهية ضد المهاجرين. جنون هذه اللغة ناجم عن عجزها عن إيقاف تحول موضوعي شق طريقه وسط غابة التناقضات التي يعيشها العالم.
الفريق الفرنسي الملوّن يشير إلى عالم صار ملوّناً، وإلى ضرورة الاعتراف بالآخر، وبحقوقه الثقافية وهويته. وهو يقدّم درساً أخلاقياً بليغاً للعنصريين الفرنسيين وغيرهم من دعاة اليمبن الفاشي. وإذا كان للمونديال من فضيلة، رغم كل شيء، فإنه أكد هذه الظاهرة التي على الجميع أن يعي دلالاتها.
هل يعرف اللاعبون أنهم ركلوا العنصرية بأقدامهم؟ أم أنهم سينسون أقدامهم أمام مغريات خدعة الاستهلاك والشهرة؟
أعرف أن سؤالي ليس مطروحاً على اللاعبين وحدهم، إنه سؤال مطروح على المجتمعات ودينامياتها السياسية والثقافية. هنا تدور إحدى أهم معارك عصرنا، في مواجهة الرأسمالية المتوحشة والكولونيالية.
أعتقد أن المنتخب الفرنسي قدم الدرس الأكثر بلاغة في هذه الموقعة الكروية. وأنا هنا لا أحلل مهارات اللاعبين أو بنية المنتخب، أو دور النجوم والمدرب، فهذه أمور تُترك للخبراء والمتابعين، وأنا لست واحداً منهم.
كما أن تركيزي على الدرس الفرنسي لا يقلل من أهمية لحظات الفرح التي أهداها المنتخب المغربي لملايين العرب والأفارقة، بتلك الصورة الناصعة للعب الجميل والتفاني والوعي الذي دفعهم إلى رفع علم فلسطين إلى جانب العلم المغربي. لكن الدرس المغربي ليس جديداً سوى في عنوانه، لأن أغلبية اللاعبين المغاربة أتوا من فرق أوروبية، وهم بذلك جزء من بنية كروية تعم أوروبا بصفتها السوق الأساسية لتبادل اللاعبين المحترفين.
غير أن الدرس الفرنسي بما يحمله من مؤشرات ثقافية وسياسية، في زمن صعود الفاشيات والتيارات اليمينية يحمل الكثير من الدلالات.
ما معنى أن يتشكل فريق يقف تحت العلم الفرنسي، وينشد «المارسييز» مع بداية كل مباراة، من هذه النخبة الممتازة من اللاعبين المهاجرين؟ وما معنى أن نرى منتخباً فرنسياً ملوناً يتحرك على بساط الملعب الأخضر؟
هل هذه إحدى المصادفات الجميلة التي تهبها لنا كرة القدم؟ أم نحن أمام ظاهرة تتعدى المستوى الكروي، وتفرض ظلالها على مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية؟
قبل أن نحلل تعالوا نقرأ الوقائع، فالمنتخب الفرنسي يضم إلى جانب اللاعبين القلائل من ذوي الآصول الفرنسية، أكثرية من اللاعبين من أصول شتى: الكامرون وغينيا والكونغو والجزائر والمغرب ومالي والسنغال وأنغولا وتوجو وغوادولوب.
هؤلاء اللاعبون ولدوا في فرنسا، وصاروا جزءاً من نسيجها الاجتماعي، لكنهم في المقابل يحملون هوية مزدوجة. الهوية المزدوجة هي إحدى سمات زمننا، لذا تستطيع أن تكون فرنسياً وعربياً في الوقت نفسه، بهذا المعنى يقدم هؤلاء تعريفاً جديداً للانتماء الوطني. هكذا تنكسر اللغة التي يحاول اليمين العنصري فرضها، حول المهاجرين سواء أكانوا عرباً أم أفارقة أم مسلمين.
لا تقتصر هذه الظاهرة على المنتخب الفرنسي، بل نجدها في كثير من الفرق الأوروبية، التي طعّمها المهاجرون بلاعبين مدهشين، رفعوا كؤوس النصر، وأدخلوا نكهة التنوع.
لا أدري ما هي مشاعر اليمينيين المتطرفين وأضرابهم من العنصريين الفرنسيين أمام هذا المشهد، هل يشعرون بالانتماء إلى هذا المنتخب؟ أم سيتابعون نهجهم الداعي إلى الحفاظ على النقاء العرقي والديني عبر طرد المهاجرين، ومتابعة مسلسل الإسلاموفوبيا المقيت؟
سبق للدول الاستعمارية أن اعتبرت رعايا الدول المستعمَرة مادة أولية يمكن استغلالها في شتى المجالات، ولعل قمة هذا الاستغلال تكمن في الفرقة الأجنبية في الجيش الفرنسي، التي كانت مؤلفة من رجال فقدوا حيلتهم، فساقهم القدر الاستعماري إلى تجربة الموت في أرض غريبة. أعرف أحد رجال هذه الفرقة وهو لبناني هاجر بشكل غير شرعي إلى فرنسا في أربعينيات القرن الماضي، وعندما اعتقل خُيِّر بين أمرين: الطرد إلى لبنان أو الفرقة الأجنبية. وجد الرجل نفسه في مغامرة موت غريبة في فيتنام نجا منها بأعجوبة، وعاد إلى فرنسا بجنسية فرنسية استخلصها من جحيم الهند الصينية.
المسألة الآن مختلفة، فاللاعبون نجوم وليسوا ضحايا. صحيح أن ضواحي المهاجرين في المدن الفرنسية والأوروبية لا تزال تعيش في البؤس، وصحيح أيضاً أن سكانها من ذوي الأصول العربية والإفريقية يتعرضون لضغوط هائلة، ويعيشون أزمة هوية يزيد من تعقيدها الخطاب العنصري الرائج، لكن الصحيح أيضاً هو بروز حقيقة جديدة لم يعد تجاهلها ممكناً.
كرة القدم هي المرآة الأكثر وضوحاً التي عكست هذا التغير الذي نجده على مستويات متعددة، وخصوصاً على المستوى الثقافي: في الأدب والمسرح والموسيقى والغناء… أي أننا أمام بداية مرحلة اجتماعية وثقافية تولد رغم أنف العنصرية، وتتميز بتعدديتها وتنوع أصولها وخلاسيتها.
هذه الظاهرة التي كانت موجودة عبر التاريخ حجبها صعود الدولة القومية بخطابها الكولونيالي. فالهجرة والانتقال من مكان إلى مكان هي إحدى سمات التاريخ الإنساني، لكنها اتخذت مع الكولونيالية شكلاً مقيتاً، حولها من مصدر غنى إلى مشكلة. ليس غريباً أن تكون شعارات الشعبويين في زمن الرأسمالية المتوحشة مليئة بالكراهية ضد المهاجرين. جنون هذه اللغة ناجم عن عجزها عن إيقاف تحول موضوعي شق طريقه وسط غابة التناقضات التي يعيشها العالم.
الفريق الفرنسي الملوّن يشير إلى عالم صار ملوّناً، وإلى ضرورة الاعتراف بالآخر، وبحقوقه الثقافية وهويته. وهو يقدّم درساً أخلاقياً بليغاً للعنصريين الفرنسيين وغيرهم من دعاة اليمبن الفاشي. وإذا كان للمونديال من فضيلة، رغم كل شيء، فإنه أكد هذه الظاهرة التي على الجميع أن يعي دلالاتها.
هل يعرف اللاعبون أنهم ركلوا العنصرية بأقدامهم؟ أم أنهم سينسون أقدامهم أمام مغريات خدعة الاستهلاك والشهرة؟
أعرف أن سؤالي ليس مطروحاً على اللاعبين وحدهم، إنه سؤال مطروح على المجتمعات ودينامياتها السياسية والثقافية. هنا تدور إحدى أهم معارك عصرنا، في مواجهة الرأسمالية المتوحشة والكولونيالية.