اثنا عشر عاملا، تقلّصت أجسامنا محشورة في الفولكس فاجن الصالون، والتي بدا لي أنّ الألمان أخذوا احتياجاتنا بالحسبان عندما صمّموا تلك المركبات. انطلقنا مع المنطلقين قبل الفجر إلى حاجز الطيبة بالقرب من طولكرم، في ذلك الوقت وذلك المكان نوع آخر من سباق الزمن والمسافات، سباق مراقَبٌ بآلات أمنية شتى.
وصلنا إلى بساتين المعلم يودا في أرض المراح قبل طلوع الشمس، ونزلنا من المركبة بكثير من التكاسُل، مع كثير من الأمل والتفاؤل بحضور فرقة مريم، وهؤلاء عاملات عند يودا، يعملن معنا في بعض الأحيان في ذات البستان، مجموعة منهن يشاركننا في قطف ثمار الزّلّيق المتعارف عليه بالدّرّاق عربيا والمعروف باسم النكترينا عبريا، ومجموعة أخرى يعبّئنه في الأوعية الكرتونية. ونحن عُمال صالح العبد نشجّع وبكل إصرار على المساواة بين الرجل العامل والمرأة العاملة، ولا سيّما في أعمال الزراعة في ذات الحقل وذات الشجرة أيضا، ولا بأس أيضا أن يقطف كل اثنين في سلة واحدة، فهذه نعمة كبيرة من الله، ومِنّة منه، يتوجب شكره عليها.
ما إن نزلنا من المركبة، حتى بادر مسؤول الفرقة صالح العبد بإصدار تعليماته وتوجيهاته المعهودة، ووزّع الأدوار والمهمات علينا باستعجال، وبادَرْنا نحن إلى ارتداء القبّعات على رؤوسنا، وعلّقنا الحقائب وزوّادة الطعام على أغصان شجرة البرتقال الوحيدة هناك في المكان، واستلم كل عامل سلة قطاف صغيرة وهي عبارة عن جَيْب من القماش والكرتون المقوّى، لها قشاط يُعَلّق بالكتف.
باشرنا العملَ بِصمْت، مع زقزقة الدوري، ونسائم باردة منبعثة من المكان، مختلطة بباكورة نسائم البحر العابرة فوق جسر الزرقاء والفريديس وزمّارين التي صارت (زخرون يعقوب). بدأنا نقطف ثمار الزّليق مع ملاطفة ليست مرغوبة من ندى الصباح المتراكم على أوراق الشجر، والممزوج بمساحيق المبيدات الحشرية، وكلّما سمعنا هدير مركبة قادمة ننصت، تفاؤلا بقدوم العنصر النسوي العمالي، نصفنا الآخر الحلو.
حضرت من القاطع الآخر عاملات الفرز والتعبئة، ودلفْنَ إلى العريشة، المقامة على رأس البستان، وبالعادة تكون مريم وسميرة وعائشة على رأس هؤلاء، وهما عاملات من الفريديس. لم تحضر عاملات القطف هذه المرّة، فالوحيد الذي كان مبتهجا ومتشفّيا بنا هو خليل الملّيص، حيث أن العمل المنوط به هو نقل الصناديق التي نعبّئها نحن في السروب إلى العريشة حيث تتواجد العاملات؛ كنّا نعبّئ السلة ثم نفرغها في صندوق كرتوني يتسع لأربع سلات، والمليص ينقلها بكل ما أعطاه الله من عزيمة وهمّة ونشاط.
والمعلم صالح العبد يتفقد العمل والعمال، ويتردد على العريشة كثيرا، ثم يتجول قليلا في البستان، ثم يعود إلى العريشة، ويمكث هناك طويلا. اللهم لا غيرة ولا حسد ولا سوء تفكير؛ فهو المسؤول الأول عن متابعة العمل، ولا بد أن يشرف بشكل مباشر على عملية الفرز والتغليف، وترتيب الصناديق الكرتونية على القواعد الخشبية، ثم يأتي العامل التايلاندي وينقلها بالجرار إلى الطريق، بانتظار الشاحنة التي تحضر في نهاية كل يوم عمل، لنقل الثمار إلى تل أبيب، ومن هناك يتم تصديرها إلى الخارج، أو تسويقها في الداخل، أما الضفة الغربية وغزة فيتم التعامل معهما بأنهما لا داخل ولا خارج.
أما صاحب البستان يودا فهو كثير الحركة والتنقل من موضع إلى آخر، وليس لديه الوقت الكافي كي يبقى عندنا طيلة ساعات العمل، فلديه أعمال أخرى عديدة يتوجب عليه القيام بها. وسميرة وعائشة يمضين يومهنّ منهمكات بالفرز والتعبئة والتغليف، وتفقُّد الفيسبوك والواتس والمسنجر من أجهزتهن الخلوية بين برهة وأخرى. شبكة النت في دولة الكيان متوفّرة في كل مكان.
في العريشة تُصَنّفُ الثمار إلى فئتين: فئة (A) من أجل التسويق في المدن الإسرائيلية، أو التصدير للخارج، وهذه الفئة تنتقى بدقة حسب المواصفات، ثم تُعلّب في علب بلاستيكية وتُغَلّف بالقماش الشفاف المخرّم، وتوضع في الكراتين. وفئة (B) للنقل والبيع داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي فئة ذات جودة أيضا، لكنها أقل جودة من الفئة الأولى، وتُلقى في الكراتين بلا علب ولا قماش مخرّم.
شيئا فشيئا دبّ الضجيج في المكان، وأخذت أشعة الشمس نصيبها منّا، صفعت أسفل ظهورنا، وَكَوَتْ رقابَنا العارية من الخلف، ورشحَ العَرَق على أجسامنا من فوق ومن تحت، ومما زاد الطين بلّة ذلك المسحوق الأبيض الجافّ المتطاير عن أوراق الشجر، وهو مبيدات حشرية تُخلط بالماء وتُرشّ على الأشجار. يتبخر الماء وتبقى هذه المواد عالقة على الأوراق.
كانت عَيْنا حمدان شريكي في قطف الشجرة جاحظتين مكحّلتين بالبياض، وشريكي هذا كثير الضّجر:
- "عِنَيي انعمو من هالدوا. هاي أرض اسيادنا، ما نالنا منها إلا هَمّ القومة بدري، وعَمى العينين. الولد النشط في حسبة طولكرم بجيب هالمية وخمسين شيقل من شغل العرباية بعد ما يروّح من المدرسة".
- "بتهون يا صديقي، شو مالك صبّحتْ حمقان؟"، قال زميلنا يوسف في التلم المجاور.
- " هظيِّ هظيّ أجت مِريام". قال شريكي.
دلفَتْ إلينا من الطريق الترابي الممطوط قبالة البستان، وشعرها الأشقر ينسدلُ على أكتافها، جميلة الوجه، متناسقة الجسد، ممشوقة القوام، كانت ترتدي نصف بلوزة برتقالية اللون، متحفّزة لمزيد من الارتفاع عن البطن، مُنكَشِفة عن سُرّة غائرة في ذلك البطن الأهيف، لكنْ ما سرّ التناقض في اللون بين بطنها الحِنطي ووجهها الأشقر؟ أنا لا أدري.
بلوزة (حيتسي بيتن) نصفيّة ضيقة، تضرب حصارا مشدّدا على نهدين مكتنزين، يدفعانها من الداخل نحو الأمام بقوة؛ كي يؤمّنا ما يستطيعان تأمينه من مساحة كافية لهما للتّربّع على جسدها النحيف. وأنا يا أحبّتي أمتازُ بنعمة البصر الثاقب من بعيد، فقد استطعتُ أن أقرأ العبارة المطبوعة على بلوزتها ( I LOVE ISRAEL )، كُتبت العبارة بالخط الكبير وباللون الأزرق وبشكل تظاهري، حيث جاءت لفظة الذات تحت العنق مباشرة، مشرئبة إلى أعلى نحو الحلق، ونهايتها تطلّ على موضع الغور النهدي، تثبت في مكانها هناك باطمئنان وهناء، ولفظة الحُبّ امتدّتْ أفقيا على منطقة النهدين، حيث جاءت(L) على النهد الأيمن وتقاسمت (O) و (V) بعدالة مطلقة تلك المنطقة الغورية الفاصلة بين النّهدين، أما (E) فتربعت بكل حرية على النهد الأيسر، أما الكلمة الأخيرة فامتدت باطمئنان وبراحتها الكاملة على مسافة البطن، وكانت السّرة من نصيب الحرفين (A) (R) حيث التقى طرفاهما عليها تماما، وتقاسما الأمر بكل حبّ وهناء.
كان يرافقها شخص تسامَحَ وجهُهُ مع اللونين الأصفر والأحمر، يعلّق قرطا دائري الشكل بأذنه اليسرى، وقد تدلى حولَ رقبته سلسالٌ فضيّ اللون، تنعكس عنه أشعة الشمس، فيبدو له بريق بين الفينة والأخرى. لأول مرة أراه، ولم أكن أعرفه من قبل، كان يتقفّز كالأرعن على جانب الطريق، ويتلفّت إلينا كالأبله أو المخبول.
انبعث صوتٌ منْهَك شبهُ خافتٍ من بين أشجار الزّلّيق:
- "جايبته معها هاظ الهبيلة. بتقفز مثل أرانب أم داهود السّارحات في حاchــورة الحج مصطفى".
- " بوكر توف يا شَماعة ". انطلق صوتها برنّة ومَرَح، وانطلقتْ قلوبنا مَرَحا أيضا.
- "أهلين أهلين ميريام". خمسة أصوات على الأقل، وباختلاط مزعج، انطلقت تُسابق بعضها عبر الأشجار.
- " أهلين عمّو مريم ". ردّ عليها عاملٌ في السّتينات من عمره، كان يتفقّد بضْعَ شجرات في بداية سرب الشجر على الطريق، ويلاحِقُ ما تبقى عليها من حبّات ناضجة.
أرعدَ عامِلٌ فضوليّ بصوت جهوريّ:
- " ما نشماه ميريام؟ = كيف حالك مريام؟ "
- " يوفي، إيفو تسالَخ؟ = جيد، أين صالح؟"
- " أهلا أهلا روني". قال عامل آخر على مقربة من الطريق.
- " هلا هلا ميريام، ما نِشماه ؟ ". تدحرج صوت صالح من عمق البستان.
- " أوووووه صالح!! هسة ببطل يشوف حدا قدّامه". همسَ شريكي حمدان.
- " هههههه، مهو من الصبح عند مريم العربية شايف حاله حدا chـبير".
- " إيفو أتا أبو الآبِد؟ بو بو = أين أنت أبو العبد؟ تعال هنا". قالت بصوت ناعم مرنان مسموع للجميع.
انطلق صالح الذي هو أبو العبد من بين الأشجار نحو الطريق، ومرّ بالقرب منا دون أن يلتفت إلينا، ولم يتكلم معنا أية كلمة، وكانت عيناه متجهتين وبمنتهى المسؤولية نحو الطريق وميريام فقط.
قال حمدان ليوسف المقابل لنا في التلم المجاور:
- " لو يخيروك بين مريام فارس ومريام بنت يودا، مين بتختار؟ ". ضحك يوسف ولم يعقّب على ذلك، وأظنه استغرق في حلم جميل.
- " بوكرتوف مريام، بوكرتوف روني... ما أتي روتسيه؟ = صباح الخير مريام، صباح الخير روني... ماذا تريدين؟" قال ذلك صالح بصوت هادئ.
- " تفيلي شني كرتوناه نكترينوت شل حفير شلي روني = هات لي صندوقين من النكترين لصديقي روني".
- " بسيدر على راسي". أجاب صالح، ونادى: "ملّيييص"، فحضر المليص بسرعة البرق، واستمع للأوامر، وبمنتهى المسؤولية انطلق نحو العريشة المنصوبة في رأس البستان، كي يجلب ما طُلب منه.
دخلت ميريام بين أتلام الشجر تتفقّد العمّال وتصبّح عليهم، أما روني فقد تريّث على مقربة منها على أطراف البستان، يناطرها وينتظر عودتها إليه. سكن ضجيجنا، وهدأت خشخشة الأشجار بُرهة من الوقت، فالمنضمّ إلينا ليس كأي شخص آخر، إنها ميريام بنت يودا، تأتي إلى مزارع والدها بين الفينة والأخرى للنزهة وقضاء بعض الوقت في أيام الإجازة، وأحيانا للإشراف على حسبة المنتوج وتحميل البضاعة. إنها فتاة في أواخر العشرينات من عمرها، مَرِحة تُحادِثُ الجميع وتتقبّل مزاحَهم، وغالبا ما يكون ثقيلا، وتحظى بالقبول والاستحسان من جميع العمّال الذكور، وبالحسد والغيرة والكيد من معظم العاملات، وكثيرا ما كانت تضحك لعباراتٍ دون أن تعرف معناها، تضحك مع الضاحكينَ بسبب وبلا سبب، وخاصة حين تنطلق أنواع مختلفة من القهقهات الفوضوية الصادرة منا نحن العمال.
نشطنا نحن العمال في قطف النكترينا برفقة ميريام الشقراء، مع كراهيتنا لتواجد صالح بيننا في هذا الوقت البهيج، فليذهب إلى العريشة حيث يكثر تواجده هناك. تأخّرَ المليص في جلب الكراتين ونحن نتمنى مزيدا من التأخير، رغم أن صالح العبد يخرب علينا متعة الانشغال مع ميريام التي تتجول بيننا وتشاركنا القطف والحديث والمزاح، ولا بأس أن يظل روني منتظرا على الطريق، ولينشغل بهاتفه ويترك ميريام وشأنها. العامل الستيني ليس مثلنا، كل ما يهمه إنجاز العمل بأمانة وإتقان، يعمل وكأن الحقل ملك له، لا يتخابث في العمل ولا يتلهف إلى فرصة لتضييع الوقت، ولا يأبه بكل ما يجري من أحاديث مختلطة بين العمال، حتى أنه انتقد انشغالنا بالفتاة، ففي هذا مضيعة للوقت وإزعاج لها وتطفّل وفضول غير مبرّر. ترَكَنا صالح وخرج إلى الطريق، وسُرِرنا نحن لهذا التّحوّل الطارئ الذي اتّخذه، إلا أن الرياح لا تجري دوما كما تشتهي السفن، فهذا صالح والمليص يناديان:
- "ميريام ميريام بو . نحنو غمارنو= ميريام ميريام تعالي . انتهينا". قالت لنا:
- " لهيتغؤوت = إلى اللقاء". وانطلقت مع التلم نحو الطريق.
لكن المثير في الأمر أنها توقفت عند زميلنا الستيني، وتحدث معها بصوت خفيض، وكانت هي تهزّ رأسها، وبدا لنا أنها متأثرة بكلامه أو متضامنة معه أو مستهجنة لما قاله لها. وبما أننا فضوليون كما يصفنا هذا الستيني فكان من الطبيعي أن نسأله عما كان بينهما من حديث، فأجابنا والحزن يمسح وجهه، إنه سألها عما إذا كانت تعرف أن هذه الأرض التي يطأ عليها ويعمل فيها هي لوالده هو وليست لوالدها ولا لحكومة إسرائيل ولا ملكا لغائبين. وأكمل عمله ولم يقل شيئا آخر، أما نحن فانخذلنا وشعرنا بالمأساة التي تشملنا جميعا.
انضغط المليص في العمل، فأسرعتُ أنا لأغتنم الفرصة قبل غيري، حيث أسلّم الصناديق الملآى إلى العاملات هناك في العريشة، وأستلم الصناديق الفارغة.
- "صبايا يعطيكن العافية"، قلت أنا.
- " أهلين". قالت سميرة، وتابعت حديثها مع عائشة:
- "بتعرفي إنها جابتلو هدية بعيد ميلاده، بلفون بستة آلاف شيقل".
تدخّلتُ دون مقدمات:
- " أنو هاظ البطل؟ ومين هاي الحبّيبة؟"
ضحكت عائشة، وقالت بصوت لا يخلو من رنين:
- "عقبال ما مرتك تجيبلك هيك هدايا".
وانطلقت ضحكة رعناء من سميرة:
- "وهياتها كمان جايبته عشان تطعميه نكترينا".
تكوّم صالح العبد بكل ثقله على صندوق خشبي فارغ، قبالة العاملات، وقال باتزان ونبرة منخفضة مفخمة، موجّها خطابه لي وللمليص ويوسف الذي انخرط معنا في نقل الصناديق:
- "ديرو بالكم حدا يحكي اشي بالسياسة قدام روني"
- " ليه مالو شو بشتغل هاااظ؟".
- "بشتغل بالجيش، خلص مالنا ومال شغله، المهم ما حدا يغلط بكلمه هيك وللا هيك قدامه".
حضر المعلم يودا، ورائحة معطّر غسيل الثياب تعبق منه:
- " تسالَخ، كام مشتاخ مليه؟ = صالح، كم قاعدة خشبية ممتلئة؟"
- "هون اثنين وبرا سبعة".
- "توف توف عود شلوش وجمارنو هيوم. أولَهيم يعزور لانو = جيد، ثلاثة أخرى، ويكفي لهذا اليوم، الله سيعيننا".
وأنا أنقل الصناديق تلكأت خلف الشجرة، أتنصّت لما يقوله يودا لمريم العربية:
- "ماغيَم، هَمْدُ لله، ميريام إني هي شخاخت حفير شِلا تسيون، إني هي هَيوم أهيفِتْ روني = مَريم، الحمد لله، ميريام نسيت صديقها تسيون، والآن هي تحب روني".
- " إيخ همتساف شلهيم هيوم؟ = كيف وضعهم اليوم؟"
- " هكول بسيدر، هَمْدُ لله = كل شيء على ما يرام، الحمد لله".
بقيت أتحيّن الفرص كي أسأل مريم عن (تسيون) هذا وقصته مع ميريام، إلى أن انتهى يوم العمل فغادرتِ العريشة وذهبتْ نحو مجمّع المياه على الطريق، فبادرتها بالسؤال، فأخبرتني على استعجال ونحن نسير معا نحو مجمّع الماء بما تعرفه من حكاية تسيون مع مريام، إذ كانا عشيقين متيمين ببعضهما، وكان ضابطا في الجيش الإسرائيلي، وقتل في حرب إسرائيل مع حزب الله في الجنوب اللبناني عام 2006، وتأثرت ميريام لموته، وحزنت على عادة اليهوديات أربعين يوما، ولكنها استطاعت أن تتغلب على حزنها بمساعدة روني صديق تسيون، ومؤخرا نسيَتْ عشيقها القديم واستبدلت روني به.
توقفت أنا وانكبّت مريم على ماسورة الماء، وركّزت نظري فيها، حيث شمّرت عن زنودٍ عبلة وبَدَتِ الحمرة بأروع ما يكون على وجهها المتعب عندما رشقتْ عليه الماء البارد، وطرحت قبعتها جانبا فانكشف أمامي شعر أسود غزير، وخدّين يتلاعب فيهما الدم كأبهى ما يكون...
مريم ليست واحدة من بنات أو حفيدات الهاربين الفلسطينيين أصحاب هذه الأرض، إنها فلسطينية من الفريديس تعمل أجيرة في أراضي والد زميلنا الستيني، التي استولى عليها أولئك القادمون من البعيد بحجة أن المالكَ غائب. كانت تمازح الخواجا ربّ العمل، وتضحك له أكثر مما تضحك لنا، وتعرف اللغة العبرية المهجنة بالعربية جيدا، وتعرف أسماء جميع المستوطنات اليهودية القريبة، ولكنها لا تعرف إلا القليل عن القرى العربية المهجرة...
قلت في نفسي:
"رغم كل شيء وكل التحوّلات فهي مريم العربية الفلسطينية، وسيظل وجهها القمحي فلسطيني كتراب الأرض التي تعمل فيها".
جاء العامل الستيني إلى الماء، ونظر قليلا، ابتسم وقال:
- " روّحت مِريام الشقرا ومعها النكترينا الحمرا، وظلت مريم الحنطية عند الدّرّاق والميّة".
وصلنا إلى بساتين المعلم يودا في أرض المراح قبل طلوع الشمس، ونزلنا من المركبة بكثير من التكاسُل، مع كثير من الأمل والتفاؤل بحضور فرقة مريم، وهؤلاء عاملات عند يودا، يعملن معنا في بعض الأحيان في ذات البستان، مجموعة منهن يشاركننا في قطف ثمار الزّلّيق المتعارف عليه بالدّرّاق عربيا والمعروف باسم النكترينا عبريا، ومجموعة أخرى يعبّئنه في الأوعية الكرتونية. ونحن عُمال صالح العبد نشجّع وبكل إصرار على المساواة بين الرجل العامل والمرأة العاملة، ولا سيّما في أعمال الزراعة في ذات الحقل وذات الشجرة أيضا، ولا بأس أيضا أن يقطف كل اثنين في سلة واحدة، فهذه نعمة كبيرة من الله، ومِنّة منه، يتوجب شكره عليها.
ما إن نزلنا من المركبة، حتى بادر مسؤول الفرقة صالح العبد بإصدار تعليماته وتوجيهاته المعهودة، ووزّع الأدوار والمهمات علينا باستعجال، وبادَرْنا نحن إلى ارتداء القبّعات على رؤوسنا، وعلّقنا الحقائب وزوّادة الطعام على أغصان شجرة البرتقال الوحيدة هناك في المكان، واستلم كل عامل سلة قطاف صغيرة وهي عبارة عن جَيْب من القماش والكرتون المقوّى، لها قشاط يُعَلّق بالكتف.
باشرنا العملَ بِصمْت، مع زقزقة الدوري، ونسائم باردة منبعثة من المكان، مختلطة بباكورة نسائم البحر العابرة فوق جسر الزرقاء والفريديس وزمّارين التي صارت (زخرون يعقوب). بدأنا نقطف ثمار الزّليق مع ملاطفة ليست مرغوبة من ندى الصباح المتراكم على أوراق الشجر، والممزوج بمساحيق المبيدات الحشرية، وكلّما سمعنا هدير مركبة قادمة ننصت، تفاؤلا بقدوم العنصر النسوي العمالي، نصفنا الآخر الحلو.
حضرت من القاطع الآخر عاملات الفرز والتعبئة، ودلفْنَ إلى العريشة، المقامة على رأس البستان، وبالعادة تكون مريم وسميرة وعائشة على رأس هؤلاء، وهما عاملات من الفريديس. لم تحضر عاملات القطف هذه المرّة، فالوحيد الذي كان مبتهجا ومتشفّيا بنا هو خليل الملّيص، حيث أن العمل المنوط به هو نقل الصناديق التي نعبّئها نحن في السروب إلى العريشة حيث تتواجد العاملات؛ كنّا نعبّئ السلة ثم نفرغها في صندوق كرتوني يتسع لأربع سلات، والمليص ينقلها بكل ما أعطاه الله من عزيمة وهمّة ونشاط.
والمعلم صالح العبد يتفقد العمل والعمال، ويتردد على العريشة كثيرا، ثم يتجول قليلا في البستان، ثم يعود إلى العريشة، ويمكث هناك طويلا. اللهم لا غيرة ولا حسد ولا سوء تفكير؛ فهو المسؤول الأول عن متابعة العمل، ولا بد أن يشرف بشكل مباشر على عملية الفرز والتغليف، وترتيب الصناديق الكرتونية على القواعد الخشبية، ثم يأتي العامل التايلاندي وينقلها بالجرار إلى الطريق، بانتظار الشاحنة التي تحضر في نهاية كل يوم عمل، لنقل الثمار إلى تل أبيب، ومن هناك يتم تصديرها إلى الخارج، أو تسويقها في الداخل، أما الضفة الغربية وغزة فيتم التعامل معهما بأنهما لا داخل ولا خارج.
أما صاحب البستان يودا فهو كثير الحركة والتنقل من موضع إلى آخر، وليس لديه الوقت الكافي كي يبقى عندنا طيلة ساعات العمل، فلديه أعمال أخرى عديدة يتوجب عليه القيام بها. وسميرة وعائشة يمضين يومهنّ منهمكات بالفرز والتعبئة والتغليف، وتفقُّد الفيسبوك والواتس والمسنجر من أجهزتهن الخلوية بين برهة وأخرى. شبكة النت في دولة الكيان متوفّرة في كل مكان.
في العريشة تُصَنّفُ الثمار إلى فئتين: فئة (A) من أجل التسويق في المدن الإسرائيلية، أو التصدير للخارج، وهذه الفئة تنتقى بدقة حسب المواصفات، ثم تُعلّب في علب بلاستيكية وتُغَلّف بالقماش الشفاف المخرّم، وتوضع في الكراتين. وفئة (B) للنقل والبيع داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي فئة ذات جودة أيضا، لكنها أقل جودة من الفئة الأولى، وتُلقى في الكراتين بلا علب ولا قماش مخرّم.
شيئا فشيئا دبّ الضجيج في المكان، وأخذت أشعة الشمس نصيبها منّا، صفعت أسفل ظهورنا، وَكَوَتْ رقابَنا العارية من الخلف، ورشحَ العَرَق على أجسامنا من فوق ومن تحت، ومما زاد الطين بلّة ذلك المسحوق الأبيض الجافّ المتطاير عن أوراق الشجر، وهو مبيدات حشرية تُخلط بالماء وتُرشّ على الأشجار. يتبخر الماء وتبقى هذه المواد عالقة على الأوراق.
كانت عَيْنا حمدان شريكي في قطف الشجرة جاحظتين مكحّلتين بالبياض، وشريكي هذا كثير الضّجر:
- "عِنَيي انعمو من هالدوا. هاي أرض اسيادنا، ما نالنا منها إلا هَمّ القومة بدري، وعَمى العينين. الولد النشط في حسبة طولكرم بجيب هالمية وخمسين شيقل من شغل العرباية بعد ما يروّح من المدرسة".
- "بتهون يا صديقي، شو مالك صبّحتْ حمقان؟"، قال زميلنا يوسف في التلم المجاور.
- " هظيِّ هظيّ أجت مِريام". قال شريكي.
دلفَتْ إلينا من الطريق الترابي الممطوط قبالة البستان، وشعرها الأشقر ينسدلُ على أكتافها، جميلة الوجه، متناسقة الجسد، ممشوقة القوام، كانت ترتدي نصف بلوزة برتقالية اللون، متحفّزة لمزيد من الارتفاع عن البطن، مُنكَشِفة عن سُرّة غائرة في ذلك البطن الأهيف، لكنْ ما سرّ التناقض في اللون بين بطنها الحِنطي ووجهها الأشقر؟ أنا لا أدري.
بلوزة (حيتسي بيتن) نصفيّة ضيقة، تضرب حصارا مشدّدا على نهدين مكتنزين، يدفعانها من الداخل نحو الأمام بقوة؛ كي يؤمّنا ما يستطيعان تأمينه من مساحة كافية لهما للتّربّع على جسدها النحيف. وأنا يا أحبّتي أمتازُ بنعمة البصر الثاقب من بعيد، فقد استطعتُ أن أقرأ العبارة المطبوعة على بلوزتها ( I LOVE ISRAEL )، كُتبت العبارة بالخط الكبير وباللون الأزرق وبشكل تظاهري، حيث جاءت لفظة الذات تحت العنق مباشرة، مشرئبة إلى أعلى نحو الحلق، ونهايتها تطلّ على موضع الغور النهدي، تثبت في مكانها هناك باطمئنان وهناء، ولفظة الحُبّ امتدّتْ أفقيا على منطقة النهدين، حيث جاءت(L) على النهد الأيمن وتقاسمت (O) و (V) بعدالة مطلقة تلك المنطقة الغورية الفاصلة بين النّهدين، أما (E) فتربعت بكل حرية على النهد الأيسر، أما الكلمة الأخيرة فامتدت باطمئنان وبراحتها الكاملة على مسافة البطن، وكانت السّرة من نصيب الحرفين (A) (R) حيث التقى طرفاهما عليها تماما، وتقاسما الأمر بكل حبّ وهناء.
كان يرافقها شخص تسامَحَ وجهُهُ مع اللونين الأصفر والأحمر، يعلّق قرطا دائري الشكل بأذنه اليسرى، وقد تدلى حولَ رقبته سلسالٌ فضيّ اللون، تنعكس عنه أشعة الشمس، فيبدو له بريق بين الفينة والأخرى. لأول مرة أراه، ولم أكن أعرفه من قبل، كان يتقفّز كالأرعن على جانب الطريق، ويتلفّت إلينا كالأبله أو المخبول.
انبعث صوتٌ منْهَك شبهُ خافتٍ من بين أشجار الزّلّيق:
- "جايبته معها هاظ الهبيلة. بتقفز مثل أرانب أم داهود السّارحات في حاchــورة الحج مصطفى".
- " بوكر توف يا شَماعة ". انطلق صوتها برنّة ومَرَح، وانطلقتْ قلوبنا مَرَحا أيضا.
- "أهلين أهلين ميريام". خمسة أصوات على الأقل، وباختلاط مزعج، انطلقت تُسابق بعضها عبر الأشجار.
- " أهلين عمّو مريم ". ردّ عليها عاملٌ في السّتينات من عمره، كان يتفقّد بضْعَ شجرات في بداية سرب الشجر على الطريق، ويلاحِقُ ما تبقى عليها من حبّات ناضجة.
أرعدَ عامِلٌ فضوليّ بصوت جهوريّ:
- " ما نشماه ميريام؟ = كيف حالك مريام؟ "
- " يوفي، إيفو تسالَخ؟ = جيد، أين صالح؟"
- " أهلا أهلا روني". قال عامل آخر على مقربة من الطريق.
- " هلا هلا ميريام، ما نِشماه ؟ ". تدحرج صوت صالح من عمق البستان.
- " أوووووه صالح!! هسة ببطل يشوف حدا قدّامه". همسَ شريكي حمدان.
- " هههههه، مهو من الصبح عند مريم العربية شايف حاله حدا chـبير".
- " إيفو أتا أبو الآبِد؟ بو بو = أين أنت أبو العبد؟ تعال هنا". قالت بصوت ناعم مرنان مسموع للجميع.
انطلق صالح الذي هو أبو العبد من بين الأشجار نحو الطريق، ومرّ بالقرب منا دون أن يلتفت إلينا، ولم يتكلم معنا أية كلمة، وكانت عيناه متجهتين وبمنتهى المسؤولية نحو الطريق وميريام فقط.
قال حمدان ليوسف المقابل لنا في التلم المجاور:
- " لو يخيروك بين مريام فارس ومريام بنت يودا، مين بتختار؟ ". ضحك يوسف ولم يعقّب على ذلك، وأظنه استغرق في حلم جميل.
- " بوكرتوف مريام، بوكرتوف روني... ما أتي روتسيه؟ = صباح الخير مريام، صباح الخير روني... ماذا تريدين؟" قال ذلك صالح بصوت هادئ.
- " تفيلي شني كرتوناه نكترينوت شل حفير شلي روني = هات لي صندوقين من النكترين لصديقي روني".
- " بسيدر على راسي". أجاب صالح، ونادى: "ملّيييص"، فحضر المليص بسرعة البرق، واستمع للأوامر، وبمنتهى المسؤولية انطلق نحو العريشة المنصوبة في رأس البستان، كي يجلب ما طُلب منه.
دخلت ميريام بين أتلام الشجر تتفقّد العمّال وتصبّح عليهم، أما روني فقد تريّث على مقربة منها على أطراف البستان، يناطرها وينتظر عودتها إليه. سكن ضجيجنا، وهدأت خشخشة الأشجار بُرهة من الوقت، فالمنضمّ إلينا ليس كأي شخص آخر، إنها ميريام بنت يودا، تأتي إلى مزارع والدها بين الفينة والأخرى للنزهة وقضاء بعض الوقت في أيام الإجازة، وأحيانا للإشراف على حسبة المنتوج وتحميل البضاعة. إنها فتاة في أواخر العشرينات من عمرها، مَرِحة تُحادِثُ الجميع وتتقبّل مزاحَهم، وغالبا ما يكون ثقيلا، وتحظى بالقبول والاستحسان من جميع العمّال الذكور، وبالحسد والغيرة والكيد من معظم العاملات، وكثيرا ما كانت تضحك لعباراتٍ دون أن تعرف معناها، تضحك مع الضاحكينَ بسبب وبلا سبب، وخاصة حين تنطلق أنواع مختلفة من القهقهات الفوضوية الصادرة منا نحن العمال.
نشطنا نحن العمال في قطف النكترينا برفقة ميريام الشقراء، مع كراهيتنا لتواجد صالح بيننا في هذا الوقت البهيج، فليذهب إلى العريشة حيث يكثر تواجده هناك. تأخّرَ المليص في جلب الكراتين ونحن نتمنى مزيدا من التأخير، رغم أن صالح العبد يخرب علينا متعة الانشغال مع ميريام التي تتجول بيننا وتشاركنا القطف والحديث والمزاح، ولا بأس أن يظل روني منتظرا على الطريق، ولينشغل بهاتفه ويترك ميريام وشأنها. العامل الستيني ليس مثلنا، كل ما يهمه إنجاز العمل بأمانة وإتقان، يعمل وكأن الحقل ملك له، لا يتخابث في العمل ولا يتلهف إلى فرصة لتضييع الوقت، ولا يأبه بكل ما يجري من أحاديث مختلطة بين العمال، حتى أنه انتقد انشغالنا بالفتاة، ففي هذا مضيعة للوقت وإزعاج لها وتطفّل وفضول غير مبرّر. ترَكَنا صالح وخرج إلى الطريق، وسُرِرنا نحن لهذا التّحوّل الطارئ الذي اتّخذه، إلا أن الرياح لا تجري دوما كما تشتهي السفن، فهذا صالح والمليص يناديان:
- "ميريام ميريام بو . نحنو غمارنو= ميريام ميريام تعالي . انتهينا". قالت لنا:
- " لهيتغؤوت = إلى اللقاء". وانطلقت مع التلم نحو الطريق.
لكن المثير في الأمر أنها توقفت عند زميلنا الستيني، وتحدث معها بصوت خفيض، وكانت هي تهزّ رأسها، وبدا لنا أنها متأثرة بكلامه أو متضامنة معه أو مستهجنة لما قاله لها. وبما أننا فضوليون كما يصفنا هذا الستيني فكان من الطبيعي أن نسأله عما كان بينهما من حديث، فأجابنا والحزن يمسح وجهه، إنه سألها عما إذا كانت تعرف أن هذه الأرض التي يطأ عليها ويعمل فيها هي لوالده هو وليست لوالدها ولا لحكومة إسرائيل ولا ملكا لغائبين. وأكمل عمله ولم يقل شيئا آخر، أما نحن فانخذلنا وشعرنا بالمأساة التي تشملنا جميعا.
انضغط المليص في العمل، فأسرعتُ أنا لأغتنم الفرصة قبل غيري، حيث أسلّم الصناديق الملآى إلى العاملات هناك في العريشة، وأستلم الصناديق الفارغة.
- "صبايا يعطيكن العافية"، قلت أنا.
- " أهلين". قالت سميرة، وتابعت حديثها مع عائشة:
- "بتعرفي إنها جابتلو هدية بعيد ميلاده، بلفون بستة آلاف شيقل".
تدخّلتُ دون مقدمات:
- " أنو هاظ البطل؟ ومين هاي الحبّيبة؟"
ضحكت عائشة، وقالت بصوت لا يخلو من رنين:
- "عقبال ما مرتك تجيبلك هيك هدايا".
وانطلقت ضحكة رعناء من سميرة:
- "وهياتها كمان جايبته عشان تطعميه نكترينا".
تكوّم صالح العبد بكل ثقله على صندوق خشبي فارغ، قبالة العاملات، وقال باتزان ونبرة منخفضة مفخمة، موجّها خطابه لي وللمليص ويوسف الذي انخرط معنا في نقل الصناديق:
- "ديرو بالكم حدا يحكي اشي بالسياسة قدام روني"
- " ليه مالو شو بشتغل هاااظ؟".
- "بشتغل بالجيش، خلص مالنا ومال شغله، المهم ما حدا يغلط بكلمه هيك وللا هيك قدامه".
حضر المعلم يودا، ورائحة معطّر غسيل الثياب تعبق منه:
- " تسالَخ، كام مشتاخ مليه؟ = صالح، كم قاعدة خشبية ممتلئة؟"
- "هون اثنين وبرا سبعة".
- "توف توف عود شلوش وجمارنو هيوم. أولَهيم يعزور لانو = جيد، ثلاثة أخرى، ويكفي لهذا اليوم، الله سيعيننا".
وأنا أنقل الصناديق تلكأت خلف الشجرة، أتنصّت لما يقوله يودا لمريم العربية:
- "ماغيَم، هَمْدُ لله، ميريام إني هي شخاخت حفير شِلا تسيون، إني هي هَيوم أهيفِتْ روني = مَريم، الحمد لله، ميريام نسيت صديقها تسيون، والآن هي تحب روني".
- " إيخ همتساف شلهيم هيوم؟ = كيف وضعهم اليوم؟"
- " هكول بسيدر، هَمْدُ لله = كل شيء على ما يرام، الحمد لله".
بقيت أتحيّن الفرص كي أسأل مريم عن (تسيون) هذا وقصته مع ميريام، إلى أن انتهى يوم العمل فغادرتِ العريشة وذهبتْ نحو مجمّع المياه على الطريق، فبادرتها بالسؤال، فأخبرتني على استعجال ونحن نسير معا نحو مجمّع الماء بما تعرفه من حكاية تسيون مع مريام، إذ كانا عشيقين متيمين ببعضهما، وكان ضابطا في الجيش الإسرائيلي، وقتل في حرب إسرائيل مع حزب الله في الجنوب اللبناني عام 2006، وتأثرت ميريام لموته، وحزنت على عادة اليهوديات أربعين يوما، ولكنها استطاعت أن تتغلب على حزنها بمساعدة روني صديق تسيون، ومؤخرا نسيَتْ عشيقها القديم واستبدلت روني به.
توقفت أنا وانكبّت مريم على ماسورة الماء، وركّزت نظري فيها، حيث شمّرت عن زنودٍ عبلة وبَدَتِ الحمرة بأروع ما يكون على وجهها المتعب عندما رشقتْ عليه الماء البارد، وطرحت قبعتها جانبا فانكشف أمامي شعر أسود غزير، وخدّين يتلاعب فيهما الدم كأبهى ما يكون...
مريم ليست واحدة من بنات أو حفيدات الهاربين الفلسطينيين أصحاب هذه الأرض، إنها فلسطينية من الفريديس تعمل أجيرة في أراضي والد زميلنا الستيني، التي استولى عليها أولئك القادمون من البعيد بحجة أن المالكَ غائب. كانت تمازح الخواجا ربّ العمل، وتضحك له أكثر مما تضحك لنا، وتعرف اللغة العبرية المهجنة بالعربية جيدا، وتعرف أسماء جميع المستوطنات اليهودية القريبة، ولكنها لا تعرف إلا القليل عن القرى العربية المهجرة...
قلت في نفسي:
"رغم كل شيء وكل التحوّلات فهي مريم العربية الفلسطينية، وسيظل وجهها القمحي فلسطيني كتراب الأرض التي تعمل فيها".
جاء العامل الستيني إلى الماء، ونظر قليلا، ابتسم وقال:
- " روّحت مِريام الشقرا ومعها النكترينا الحمرا، وظلت مريم الحنطية عند الدّرّاق والميّة".