أ. د. عادل الأسطة - ايلان بابيه

( نص المداخلة التي القيت في نابلس بحضور ايلان بابيه في 18/ 12 / 2018 )



1- لا بد من شاهد يهودي :
حول " التطهير العرقي في فلسطين "
وأنا أقرأ كتاب المؤرخ الإسرائيلي ( ايلان بابيه ) " التطهير العرقي في فلسطين " ( الترجمة العربية أنجزها أحمد خليفة 2007 ) تذكرت رسالة محمود درويش إلى سميح القاسم " هناك...شجرة خروب " وفيها يكتب عن لقاء بينه وبين ( دانيال كاتس ) جرى في ( هلسنكي ) في ( فنلندا ) ، ويأتي درويش على سبب مغادرة ( كاتس ) دولة إسرائيل التي كان هاجر إليها .
رأى ( كاتس ) في كيبوتس ( يسعور ) ، - وهو مقام على أرض البروة قرية الشاعر التي سويت في 1948 بالأرض ، - شجرة خروب كبيرة معمرة ، فسأل أحد المهاجرين اليهود عن زارعها، فأجابه : نحن المهاجرون . أدرك ( كاتس ) من عمر الشجرة أن المهاجر يكذب ، فقرر مغادرة البلاد التي أقيمت دولتها على أنقاض شعب شرد .
يكتب درويش عبارته الدالة " أليس هو الشاهد الذي لا يدحض ؟ ونحن الذين نحتاج إليه لنتكلم عبره عما يصيبنا . فهل يحق للعربي أن يتحدث في الغرب بلا شاهد يهودي؟ " ( ص44 ) .
ولقد كتب الفلسطينيون منذ النكبة، بل ومنذ بداية الصراع الفلسطيني - الصهيوني الكثير الكثير ولم يصدقهم الغرب ، أو أنه صدقهم وتعامى وتغافل بسبب مصالحه وأخطائه و ..و ...و
وربما يصدق غربيون الرواية الفلسطينية ولكن صوتهم خافت ضعيف وغير مسموع . أيضا لأسباب .
يعد كتاب " التطهير العرقي ... " أحد أهم الكتب التي تشهد على صحة الرواية الفلسطينية التي لم تحقق انتشارا ، وظلت محدودة التأثير .
والصحيح أنني وأنا أقرأ الكتاب تذكرت أدبيات فلسطينية عديدة سردت الرواية الفلسطينية التي يأتي عليها ( بابيه ) ويؤكدها ، وهو نفسه في مقدمة كتابه يذكر كتاب المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي " كي لا ننسى " ويبين ما ألم به ، فقد حوصر الكتاب في الغرب ، ما حد من إمكانية تأثيره . ( في كتابه " الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي 1948 " 2013 يثمن ( بابيه ) كتابين لنديم روحانا وأسعد غانم تمحورا حول الفلسطينيين الباقين ) .
الأدبيات الفلسطينية التي قرأتها كثيرة وقد ظلت محدودة التأثير عموما ومحصورة ، بل إن قسما منها ضاع أو اختفى وبالكاد يعثر المرء على نسخة منها . من هذه الكتب كتاب المحامي توفيق معمر " مذكرات لاجيء أو حيفا في المعركة " ( 1957 ) ، وهو كتاب مهم كنت قرأته ، وقد بحثت عنه في قائمة كتاب " التطهير العرقي... " فلم أعثر على ذكر له . وسبب بحثي يعود إلى أن ( بابيه ) اعتمد في تأليف كتابه على رواية الكاتب اللبناني إلياس خوري " باب الشمس " ( 1998 ) وشجع على اعتماد الرواية الشفوية لكتابة التاريخ فيما يخص النكبة .
وأنا أقرأ ما كتبه ( بابيه ) عن سقوط حيفا تذكرت كتاب معمر ، وأخذت أبحث ، عبثا ، عن نسخة منه ، فقد بعت نسختي إلى مكتبة جامعة ( Bamberg ) . وكتاب " مذكرات لاجيء... " كتاب يروي سارده فيه ما حدث في ربيع 1948 وكان المؤلف شاهدا على تلك الفترة . إنه كتاب مذكرات كما بان في العنوان يرويها معلم فلسطيني من حيفا شارك في الدفاع عنها وأصبح لاجئا في الأردن .
من من الغربيين - في 50 و 60 و 70 القرن 20 - سيصدق ما كتبه معمر عما جرى في حيفا !!؟! كان علينا أن ننتظر كتاب " التطهير العرقي .." حتى يصدقنا الغرب .
الصهيونية وتسميم المياه لطرد الفلسطينيين :
في كتابهما
"Themen und Motive in der Literature "
تحت لازمة / موضوع :
" Jude "
يأتي المؤلفان
( Horst S. und Ingrid Daemmrich )
على الإشاعات التي انتشرت في بريطانيا وظهرت في الأعمال الأدبية الانجليزية حول تسميم اليهود مياه الآبار ، وهما يكتبان " إشاعات ". ويذكر الدارسان أنه لم يعش في بريطانيا ما بين 1290 و 1556 أي يهودي . ( ص 191 ) .
وأنا أعد رسالة الدكتوراه توقفت أمام هذه اللازمة / الشائعة توقفا عابرا ، ذلك أنها لم تطغ على الأدبيات الفلسطينية ولم تظهر فيها إلا ظهورا عابرا . كانت سحر خليفة في روايتها " عباد الشمس " 1980 أتت على إمرأة نابلسية شعرت بأن طعم الماء " غير شكل " وأنها تخشى من أن المياه مسممة ، فقد شاهد النابلسيون يهوديين قرب نبع ماء في نابلس يفعلان شيئا ما ( ص69 ) . بعد رواية سحر خليفة حدث في مناطق جنين وقلقيلية حالات تسمم غريبة دبت الذعر في نفوس الفلسطينيين ، حيث تسممت طالبات المدارس ، و أشيع يومها أن المستوطنين اليهود رشوا أطراف المدارس والماء بمادة غريبة تسبب العقم ، وقد دونت هذا في قصتي " زمن للصمت " 1983 .
أهو الوهم والخوف والرعب ؟
علق الروائي الفلسطيني محمد الأسعد على ( خربشة / post ) لي تحت عنوان " لا بد من شاهد يهودي " على الموضوع وأشار إلى أن ( نعيم خلصجي / نعيم جلعادي ) وهو يهودي عراقي اعتنق الصهيونية ثم تركها ، أصدر كتابا عنوانه " فضيحة بن غوريون : كيف أبادت الهاغاناه والموساد اليهود " أتى فيه على الحدث - أي تسميم مياه عكا، وأرسل الروائي لي رابطا لسيرة نعيم جلعادي الذاتية يشير فيها إلى حقيقة تسميم مياه عكا وغزة .
( بابيه ) في كتابه " التطهير العرقي ..." يشير أيضا إلى تسميم مياه عكا بعد أن " فشلت القوات اليهودية في قهر المدينة الصليبية " ( ص 111 ) فقد كانت مصادر مياه المدينة مكشوفة - ينابيع الكابري -، وكانت " بمثابة عقب أخيل بالنسبة إليها " . يكتب ( بابيه ) : " ويبدو أنه جرى خلال الحصار تلويث المياه بجراثيم التفوئيد " - لنلاحظ " ويبدو " .
وفي الصفحة اللاحقة يكتب عن تسميم مياه غزة : " جرت محاولة مشابهة لتسميم مصادر مياه غزة في 27 أيار/ مايو، لكنها أحبطت . وقد ألقى المصريون القبض على يهوديين ، دافيد جورن ودافيد مزراحي ، بينما كانا يحاولان تلويث آبار المياه في غزة بجراثيم التفوئيد والديزنطاريا " . ويشير إلى أنه تم إخبار ( بن غوريون ) بالحادثة فدونها في يومياته دون تعليق .
وإذا كان ( بابيه ) كتب " يبدو " فإن ( جلعادي ) يؤكد الحادث . وجلعادي عمل في تلك الفترة مزارعا في المجدل ، وكان صهيونيا منذ كان في العراق في الثامنة عشرة من عمره ، ثم غادر إسرائيل نهائيا واستقر في أميركا وألف كتابه الذي طبعه على نفقته .
في رواية سهيل كيوان " بلد المنحوس " التي ركزت على السنوات 1948 - 1952 يشير إلى الحادثة ، فهل اعتمد على ما رواه العكيون الباقون أم على كتاب " التطهير العرقي ... " ؟
ثمة فصل في رواية محمد الأسعد " أم الزينات : تحت ظلال الخروب " عن آبار أم الزينات قريته ، وآمل أن أقرأ الرواية في قادم الأيام لأتابع الموضوع .
هل أصاب درويش كبد الحقيقة حين كتب " لا بد من شاهد يهودي حتى يصدقنا الغرب " ؟
2 - صوت ضائع في مهرجان :
هل يعد ( ايلان بابيه ) في طروحاته في كتبه العديدة صوتا ضائعا في الأصوات ؟
أشير ابتداء إلى أن عبارة " صوت ضائع في الأصوات " هي عنوان إحدى قصائد محمود درويش من ديوانه " العصافير تموت في الجليل " ( 1969 ) وفيها يكتب الشاعر عن الذين صمتوا ألف عام وظلوا يصغون إلى القصة دون أن يتكلموا وقد آن الأوان ليتكلموا . " فدعونا نتكلم ودعوا حنجرة الأموات فينا تتكلم " .
في متابعاتنا الأدبيات الإسرائيلية غالبا ما كنا نلتفت إلى أسماء أدبية وغير أدبية أعلنت مواقف مغايرة مختلفة للخطاب العام السائد ، وقد لفتت أنظار أدبائنا ونقادنا مثل محمود درويش وسلمان ناطور وانطوان شلحت وآخرين ، فكتبوا عنها في كتبهم ومقالاتهم وجعلوا بعض أسطرها عناوين لمقالاتهم.من هذه الأسماء ( حانوخ ليفين ) و ( أوري أفنيري ) و ( جدعون ليفي ) و ( فيليتسيا لانغر ) و ( ليئة تسيمل ) ، وصار لبعض هذه الأسماء حضور في الأدبيات الفلسطينية بصفتها نصيرة لحقوق الفلسطينيين - تحضر شخصية ( لانغر ) في أعمال روائية عديدة ويحضر ( بابيه ) في روايات إلياس خوري ويعتمد إلياس على كتب المؤرخ كما يعتمد المؤرخ على رواية خوري " باب الشمس " ويرد ذكر ( بابيه ) في رواية عارف الحسيني " كافر سبت " -.
في العام 1990 غادرت المحامية ( فيليتسيا لانغر ) فلسطين إلى ألمانيا لتستقر في ( توبنغن ) وكان دافعها أنها ما عادت قادرة على ممارسة مهنتها بما يرضي ضميرها المهني والأخلاقي والإنساني في دولة إسرائيل . لقد أصغيت شخصيا إليها تعلن هذا في جامعة ( بون ) في شتاء 1990 / 1991 .
في تلك الأعوام تعرفت على قصيدة الشاعر اليهودي النمساوي ( اريك فريد Eric Fried ) التي عنوانها " Hoere Israel " " اسمعي يا اسرائيل " وفيها يخاطب الشاعر دولة إسرائيل قائلا :
" عندما لوحقنا
كنت واحدا منكم
كيف يمكن أن أبقى ( منكم )
عندما ( صرتم ) تلاحقون " .
ما قالته ( لانغر ) ، وما كتبه ( فريد ) شعرا ، يكتبه ( بابيه ) في مقدمة كتابه " الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي 1948 " ( الترجمة العربية 2013 )
" أعتقد أنني لا أغالي إن قلت بأن صلاتي الاجتماعية ، وحتى بدرجة أكبر ، ارتباطاتي الإيديولوجية ، هي غير مألوفة في أوساط المجتمع اليهودي في إسرائيل ، مع أنني لست الوحيد الذي يغرد خارج سربه ، فأنا واحد من القلة النادرة من اليهود الإسرائيليين الذين يشعرون بألفة قوية تجاه الأقلية الفلسطينية في إسرائيل ..... وبأني متضامن مع أفرادها إلى حد أنني أصبحت شخصا منبوذا في طائفتي اليهودية . لم أندم على موقفي هذا إطلاقا . " ( ص28 ) . ويتصرف المؤلف تصرف ( لانغر ) فلمواقفه التي دفعت طائفته لتنبذه قرر العمل في الخارج " وذلك بسبب مراجعتي النقدية الفكرية والعلمية للمجتمع اليهودي " ( ص28 )
يبدو ( بابيه ) أيضا صوتا ضائعا في مهرجان في كتبه ، فهو عدا اختلافه في موقفه مما جرى - يختلف حتى عن المؤرخين الجدد ومنهم ( بني موريس ) حيث يبدي ( بابيه ) رأيه في كتابات ( بني موريس ) تجاه كتابة النكبة الفلسطينية ، ويرى أن نظرة ( موريس ) نظرة جزئية لأن صاحبها " صدق من دون تمحيص ما ورد في التقارير العسكرية الإسرائيلية التي وجدها في الأرشيفات ، بل اعتبره الحقيقة المطلقة . وقاده ذلك إلى تجاهل أعمال وحشية ارتكبها اليهود ، مثل تلويث القناة التي تصل المياه عبرها إلى عكا بجراثيم التفوئيد ، وحالات الاغتصاب المتعددة وعشرات المذابح . كما أنه بقي مصرا ، على الرغم من عدم صحة ذلك ، على أنه لم يحدث قبل 15 أيار / مايو 1948 طرد للسكان بالقوة " ( ص7 )
حجة ( بابيه ) في وجهة نظره إزاء كتابات ( بني موريس ) وغيره من المؤرخين الجدد تقوم على أساس إغفالهم المصادر العربية وعدم التفاتهم إلى التاريخ الشفوي ، ولو كانوا التفتوا إليها - المصادر العربية والتاريخ الشفوي - " لكانوا استطاعوا - ربما - أن ينفذوا على نحو أفضل إلى التخطيط المنهجي وراء طرد الفلسطينيين في سنة 1948 ، وأن يقدموا وصفا أكثر صدقا لفداحة الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون " ( ص6 ) - فهو عدا اختلافه في موقفه مما جرى يختلف عن كثير من المستشرقين في نظرته لكتابات الدارسين العرب .
هناك نظرة استشراقية استعلائية لدى كثير من المستشرقين في نظرتهم للدراسات العربية كلها تتمثل في أنها دراسات غير جديرة بالالتفات إليها، فالعرب دارسون غير جادين وانفعاليون وبلا منهجية و .. و .. وربما ذهب قسم من المستشرقين إلى أن العرب لا يجيدون حتى القراءة بلغتهم .
في كتابه " الفلسطينيون المنسيون " يثمن ( بابيه ) كتابين لنديم روحانا وأسعد غانم ، تمحورا حول الفلسطينيين في مناطق 1948 ، ويعلي من جهود مؤلفيهما ، فقد أحاط " مؤلف كل منهما بالموضوع جيدا ، الأول " مواطنون فلسطينيون في دولة يهودية اثنية : هويات متصارعة " ( 1997 ) .... والثاني " الأقلية العربية - الفلسطينية في إسرائيل " ( 2001 ) .... ولا يزال كلاهما مصدرين قيمين جدا بالنسبة إلى أي شخص يرغب في معرفة وفهم تطور الهوية السياسية لهذه الفئة من الناس وأفكارها ومعتقداتها من منظور تاريخي " ( ص25 ) وكان المؤلف ثمن في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين " جهود المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي .
هذه النظرة للدراسات العربية قلما نقرؤها - كما ذكرت في كتابات الاستشراق الإسرائيلي وبعض الاستشراق الغربي ، ولا ضرورة للإحالة إلى كتاب ادوارد سعيد " الاستشراق " فهو كتاب شائع .
ثمة نقطة مهمة أود الإشارة إليها وهي تتعلق بهدف ( بابيه ) وقصده من وراء تأليف كتابه .
يرى المؤلف أنه جزء من المجتمع المدان ، وهو " يتهم السياسيين الذين خططوا ، والجنرالات الذين نفذوا الخطة ، بارتكاب جريمة تطهير عرقي " وهو يشعر بأنه جزء من الحكاية " وأيضا أتحمل مسؤولية عما جرى " وفوق ما سبق " وأنا ، مثل كثيرين في المجتمع الذي أنتمي إليه ، مقتنع .... بأن مثل هذه الرحلة ضرورية إلى الماضي هو الوسيلة إلى التقدم إلى الأمام إذا أردنا أن نصل إلى مستقبل أفضل لنا جميعا ، فلسطينيين وإسرائيليين على السواء ..." ( ص7 ) .
هل بقي شيء لم أكتبه ؟
من المؤكد أن هناك أشياء وأشياء و آمل أن أعود في مقالة ثالثة للتوقف أمام بعض فصول كتاب " عشر خرافات عن إسرائيل " لأكتب عن دحض الفكر الصهيوني رابطا هذا بكتابات كنفاني وحبيبي ودرويش .
3 - " عشر خرافات عن إسرائيل " خرافة " أرض بلا شعب "
ماذا سيقول القاريء الغربي الذي قرأ الأدب الصهيوني حين يقرأ الأدبيات الفلسطينية الآتية على سبيل المثال :
قصة " دروب جميلة " 2007 لأكرم هنية و" قناديل ملك الجليل " 2011 لابراهيم نصرالله ، و " بردقانة " 2014 لإياد برغوثي و " اورفوار عكا " 2014 لعلاء حليحل و " بلد المنحوس " 2018 لسهيل كيوان ؟
تقول الأعمال السابقة إن فلسطين قبل العام 1948 كانت بلدا حضاريا وبلدا مزدهرا أيضا ، وقد حاول ظاهر العمر تأسيس دولة عصرية ، وكانت يافا وعكا مدينتين حضاريتين عامرتين ، وهو ما عملت الرواية الصهيونية على نفيه ، فقد حاولت أن تصور فلسطين أرضا بلا شعب ، لتسوغ مشروعها بإقامة وطن قومي لليهود بدعوى " أنهم شعب بلا أرض " .
أول الأعمال الأدبية الصهيونية التي صورت فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي رواية الأب المؤسس للحركة الصهيونية ( ثيودور هرتسل )( 1902 ) الذي أظهر لفلسطين ، حين زارها بطل روايته ، صورة مظلمة سوداء : مدن قبيحة وسخة مثل يافا ، بميناء قذر ، ومثل القدس ، وسكان فقراء متسولون ، وطعام يباع يحلق حوله الذباب فلا نظافة ، وأصحاب أراض أتراك مثل رشيد بك يرون في المشروع الصهيوني خلاصا من التخلف ومدخلا لإضاءة المكان وإعماره ، فالمستوطنون اليهود سيجلبون معهم الازدهار لفلسطين .
ويخلص المرء بعد قراءة رواية " أرض قديمة - جديدة " والروايات الصهيونية التي نسجت على منوالها ، مثل رواية ( آرثر كوستلر ) " لصوص في الليل " ، إلى أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب وبلا مظاهر حضارية وعمرانية . كانت أرضا مهجورة تصحرت بعد أن تركها اليهود قبل ألفي سنة وأكثر .
الأعمال الأدبية الفلسطينية منذ رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " ( 1969 ) ورواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ( 1974 ) بدأت تنقض الكثير من الطروحات الصهيونية ، - وهو ما كتبت عنه بالتفصيل في بحثي " الترجمة العربية لرواية ( هرتسل ) " أرض قديمة - جديدة " ونقض الخطاب الأدبي الفلسطيني لها " - ولقد كتب كنفاني عن عائلة يهودية مهاجرة مضللة وصلت إلى حيفا معتقدة بما قرأته عن هجرتها إلى " أرض بلا شعب " ولكنها فوجئت حال وصولها بحرب بين طرفين ، فمن هم الذين يحاربون إذن ؟
يسرد كنفاني في القسم الثالث من " عائد إلى حيفا " عن صورة فلسطين في ذهن اليهود قبل وصولهم إليها ومصادر تشكل تلك الصورة ويظهر الفرق بين ما قرؤوه وما رأواه ويجسد هؤلاء في ( ايفرات كوشين ) :
" ولذلك كانت المعارك التي يسمع أصواتها ثم يقرأ أخبارها في " بالستاين بوست"كل صباح، إنما تجري بين بشر وبين أشباح ، ليس إلا " ( 373 من ا.ك )
الأعمال الأدبية الفلسطينية التي ذكرتها ، ابتداء ، كتبت بالتفصيل عن حياة مزدهرة في عكا ويافا ، كما لو أنها تدحض المقولات الصهيونية التي روجتها الحركة الصهيونية . صحيح أنها كتبت في زمن لاحق ، وأن زمنيها ؛ الكتابي والروائي مختلفان ويفصل بينهما عقود من الزمن ، ولكن مؤلفي الروايات اعتمدوا في كتابتها على مصادر ومراجع عربية وغير عربية منها كتب الرحالة الأجانب ، وهنا أذكر قصة الكاتب الإسرائيلي ( بنيامين تموز ) " منافسة سباحة " ففيها يصف بيارات الفلسطينيين وثراء قسم منهم ومدنيتهم في التعامل .
كنت كتبت في مقدمة مداخلتي تحت عنوان " لا بد من شاهد يهودي " أنه لا بد من مرجعية إسرائيلية لنا حتى يصدقنا الغرب . وهذا الشاهد يكمن هذه المرة في كتاب ( بابيه ) " عشر خرافات عن إسرائيل " ( الترجمة العربية لسارة عبد الحليم / الطبعة الأولى 2018 ) .
أشير ابتداء إلى فكرة مهمة يتوقف الكاتب أمامها وهي فكرة " الالتزام " ثم أوضح ما رميت إليه من حاجتنا إلى الشاهد اليهودي حتى يصدقنا الغرب .
في مقدمة الكتاب يركز المؤلف على قضيتين أساسيتين تخصان الكاتب الملتزم صاحب الرأي يساري التفكير وهما الالتزام في الكتابة وتبسيطها ، فليس كل واضح بسيط ساذجا : " وبإمكان الدارسين والباحثين الاستفادة من هذا الكتاب إذا ما نفضوا عن أنفسهم الداء الأعظم المبتلى به العالم الأكاديمي اليوم ، ألا وهو : الفكرة بأن الالتزام يضعف العمل البحثي " .
والقضية الأساس هي الاتكاء على كتاب " عشر خرافات عن إسرائيل " لكي يصدق الغرب ما ورد في الأدبيات الفلسطينية الوارد ذكرها .
يخصص المؤلف الفصل الأول من كتابه لدحض فكرة أن فلسطين كانت أرضا خالية ، ويرى أن هذه الصورة مفبركة يروج لها موقع رسمي حكومي ، ويذكر أسماء باحثين إسرائيليين تظهر أبحاثهم " أن فلسطين ، على مدى قرون ، لم تكن صحراء بل مجتمعا عربيا مزدهرا ، يشكل المسلمون الغالبية العظمى فيه ، ويغلب عليه الطابع الريفي ، مع وجود مراكز حضرية حيوية " ( 18 ) ومن الباحثين الإسرائيليين الذين نجحوا في تفنيد الرواية الصهيونية ( ديفيد غروسمان ) - الباحث في علم السكان لا الروائي المعروف - ، وامنون كوهين ، ويهوشع بن اريه . ويأتي ( بابيه ) على مشروع ظاهر العمر ( 1690 - 1775 ) الذي تم على يديه " تحديث ثم تنشيط مدن مثل حيفا ، وشفا عمرو ، وطبريا ، وعكا " ( 19 ) ويخلص المؤلف في فصله الأول إلى النتيجة الآتية :
" إذا ، لم تكن فلسطين أرضا خالية ، بل شكلت جزءا من عالم شرق البحر المتوسط الغني والخصب الذي شهد في القرن التاسع عشر عمليات تحديث إلى جانب بروز نزعة قومية فيه . لم تكن فلسطين صحراء تنتظر أن تزدهر ؛ بل كانت بلدا ريفيا على وشك دخول القرن العشرين كمجتمع حديث ، بكل ما ينطوي عليه هذا التحول من إيجابيات وسلبيات . وقد أدى استعمار فلسطين من قبل الحركة الصهيونية إلى تحويل هذه العملية إلى كارثة بالنسبة للسكان الأصليين الذين يعيشون هناك " ( 23 ) .
واذا كان كنفاني كتب عن عدم تصديق المهاجرين اليهود لما قيل لهم بأنهم سيذهبون الى " أرض بلا شعب " فإن حبيبي في " اخطية " 1985 يحن في زمن الدولة الديموقراطية الحضارية / إسرائيل إلى حيفا في زمن العرب - أي قبل نكبة 1948 ويكتب عن الزمن الجميل والعيشة الهنية الرغدة حيث لم يكن يشعر بالاغتراب الذي يشعر به زمن كتابته روايته . ولا يختلف محمود درويش في قصيدته " طللية البروة " التي كتبها في فترة متأخرة من حياته . إنه حين يزور أطلال القرية ويرى ما أقيم على انقاضها من مصانع حديثة ويرى شوارعها المسفلتة يحن إلى بيته البسيط وغزالته خلف الشباك ، فما أقيم لا يحجب الصورة الأولى إطلاقا .
في " دروب جميلة " يستحضر الفلسطيني المهجر من يافا المقيم في الكويت يافا قبل 1948 ويعدد ما كان فيها من مظاهر حضارية تدحض المقولات الصهيونية ، ومثل أكرم هنية إياد البرغوتي وسهيل كيوان . إنهما يستحضران عكا قبل 1948 . يكتب الأول عن فرق رياضية تنافس الفرق العربية ، ويكتب الثاني عن الموسيقى في المدينة واهتمام الناس فيها اهتماما لافتا ، بل إن أهل عكا المغرمين بالفن يستقبلون أشهر المغنين العرب في ذلك الوقت ، ويرسلون أبناءهم لتعلم الموسيقى ، ويبدون شغوفين بالالات الموسيقية .
ابراهيم نصرالله " في " قناديل ملك الجليل " يكتب عن مشروع ظاهر العمر تأسيس دولة عصرية . والكتاب المذكورون يعتمدون ، كما ذكرت ، على مصادر ومراجع عربية وغير عربية .
هل كانت فلسطين حقا أرضا بلا شعب ؟
وهل كانت صحراء قاحلة؟
" إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهما " يرد سعيد . س على زوجته صفية التي انبهرت بما رأت " عائد إلى حيفا " ص360.
وكما تساءلت في بداية الكتابة :
من من الغربيين في 50 و 60 و 70 القرن العشرين سيصدق الكتاب الفلسطينيين لو قرأ نصوصهم ؟
لا بد من شاهد يهودي ، وكتاب " عشر خرافات عن إسرائيل " ومؤلفه هما الشاهدان .
( كتبت هذه المقالات في التواريخ المدرجة أدناه :
الجمعة 7 / 14 / 21 كانون الأول 2018 ، ونشرت في جريدة الأيام بـِ 9 / 16 / 23 من الشهر نفسه ) .


***

لا بد من شاهد يهودي : ( ايلان بابيه ) " التطهير العرقي في فلسطين "
عادل الاسطة
Adel Osta
وأنا أقرأ كتاب المؤرخ الإسرائيلي ( ايلان بابيه ) " التطهير العرقي في فلسطين " ( الترجمة العربية أنجزها أحمد خليفة 2007 ) تذكرت رسالة محمود درويش إلى سميح القاسم " هناك...شجرة خروب " وفيها يكتب عن لقاء بينه وبين ( دانيال كاتس ) جرى في ( هلسنكي ) في ( فنلندا ) ، ويأتي درويش على سبب مغادرة ( كاتس ) دولة إسرائيل التي كان هاجر إليها .
رأى ( كاتس ) في كيبوتس ( يسعور ) - وهو مقام على أرض البروة قرية الشاعر التي سويت في 1948 بالأرض - شجرة خروب كبيرة معمرة ، فسأل أحد المهاجرين اليهود عن زارعها ، فأجابه : نحن المهاجرون .
أدرك ( كاتس ) من عمر الشجرة أن المهاجر يكذب ، فقرر مغادرة البلاد التي أقيمت دولتها على أنقاض شعب شرد .
يكتب درويش عبارته الدالة " أليس هو الشاهد الذي لا يدحض ؟ ونحن الذين نحتاج إليه لنتكلم عبره عما يصيبنا . فهل يحق للعربي أن يتحدث في الغرب بلا شاهد يهودي ؟ " ( ص44 ) .
ولقد كتب الفلسطينيون منذ النكبة ، بل ومنذ بداية الصراع الفلسطيني - الصهيوني الكثير الكثير ولم يصدقهم الغرب ، أو أنه صدقهم وتعامى وتغافل بسبب مصالحه وأخطائه و ..و...و
وربما يصدق غربيون الرواية الفلسطينية ولكن صوتهم خافت ضعيف وغير مسموع . أيضا لأسباب .
يعد كتاب " التطهير العرقي... " أحد أهم الكتب التي تشهد على صحة الرواية الفلسطينية التي لم تحقق انتشارا ، وظلت محدودة التأثير .
والصحيح أنني وأنا أقرأ الكتاب تذكرت أدبيات فلسطينية عديدة سردت الرواية الفلسطينية التي يأتي عليها ( بابيه ) ويؤكدها ، وهو نفسه في مقدمة كتابه يذكر كتاب المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي " كي لا ننسى " ويبين ما ألم به ، فقد حوصر الكتاب في الغرب ، ما حد من إمكانية تأثيره . ( في كتابه " الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي 1948 " 2013 يثمن ( بابيه ) كتابين لنديم روحانا وأسعد غانم تمحورا حول الفلسطينيين الباقين ).
الأدبيات الفلسطينية التي قرأتها كثيرة وقد ظلت محدودة التأثير عموما ومحصورة ، بل إن قسما منها ضاع أو اختفى وبالكاد يعثر المرء على نسخة منها . من هذه الكتب كتاب المحامي توفيق معمر " مذكرات لاجيء أو حيفا في المعركة " ( 1957 ) ، وهو كتاب مهم كنت قرأته ، وقد بحثت عنه في قائمة كتاب " التطهير العرقي..." فلم أعثر على ذكر له . وسبب بحثي يعود إلى أن ( بابيه ) اعتمد في تأليف كتابه على رواية الكاتب اللبناني إلياس خوري " باب الشمس " ( 1998 ) وشجع على اعتماد الرواية الشفوية لكتابة التاريخ فيما يخص النكبة .
وأنا أقرأ ما كتبه ( بابيه ) عن سقوط حيفا تذكرت كتاب معمر ، وأخذت أبحث ، عبثا ، عن نسخة منه ، فقد بعت نسختي إلى مكتبة جامعة ( Bamberg ). وكتاب " مذكرات لاجيء... " كتاب يروي صاحبه فيه ما حدث في ربيع 1948 وكان هو شاهدا عليه.انه كتاب مذكرات كما بان في العنوان .
من من الغربيين -في 50 و 60 و 70 القرن 20 - سيصدق ما كتبه معمر عما جرى في حيفا !!؟! كان علينا أن ننتظر كتاب " التطهير العرقي.." حتى يصدقنا الغرب .
الصهيونية وتسميم المياه لطرد الفلسطينيين :
في كتابهما
"Themen und Motive in der Literature "
تحت لازمة/ موضوع:
" Jude "
يأتي المؤلفان
(Horst S. und Ingrid Daemmrich )
على الإشاعات التي انتشرت في بريطانيا وظهرت في الأعمال الأدبية الانجليزية حول تسميم اليهود مياه الآبار، وهما يكتبان " إشاعات ". ويذكر الدارسان أنه لم يعش في بريطانيا ما بين 1290 و 1556 أي يهودي . (ص 191).
وأنا أعد رسالة الدكتوراه توقفت أمام هذه اللازمة / الشائعة توقفا عابرا، ذلك أنها لم تطغ على الأدبيات الفلسطينية ولم تظهر فيها إلا ظهورا عابرا . كانت سحر خليفة في روايتها " عباد الشمس " 1980 أتت على إمرأة نابلسية شعرت بأن طعم الماء " غير شكل " وأنها تخشى من أن المياه مسممة ، فقد شاهد النابلسيون يهوديين قرب نبع ماء في نابلس يفعلان شيئا ما ( ص69 ) . بعد رواية سحر خليفة حدث في مناطق جنين وقلقيلية حالات تسمم غريبة دبت الذعر في نفوس الفلسطينيين ، حيث تسممت طالبات المدارس ، و أشيع يومها أن المستوطنين اليهود رشوا أطراف المدارس والماء بمادة غريبة تسبب العقمو، وقد دونت هذا في قصتي " زمن للصمت " 1983.
أهو الوهم والخوف والرعب ؟
علق الروائي الفلسطيني محمد الأسعد على ( خربشة / post ) لي تحت عنوان " لا بد من شاهد يهودي " على الموضوع وأشار إلى أن ( نعيم خلصجي/ نعيم جلعادي ) وهو يهودي عراقي اعتنق الصهيونية ثم تركها ،أصدر كتابا عنوانه " فضيحة بن غوريون : كيف أبادت الهاغاناه والموساد اليهود " أتى فيه على الحدث - أي تسميم مياه عكا ، وأرسل الروائي لي رابطا لسيرة نعيم جلعادي الذاتية يشير فيها إلى حقيقة تسميم مياه عكا وغزة .
( بابيه ) في كتابه " التطهير العرقي ..."يشير أيضا إلى تسميم مياه عكا بعد أن " فشلت القوات اليهودية في قهر المدينة الصليبية "(ص 111) فقد كانت مصادر مياه المدينة مكشوفة- ينابيع الكابري - وكانت " بمثابة عقب أخيل بالنسبة إليها " . يكتب ( بابيه ) : " ويبدو أنه جرى خلال الحصار تلويث المياه بجراثيم التفوئيد " - لنلاحظ " ويبدو " .
وفي الصفحة اللاحقة يكتب عن تسميم مياه غزة : " جرت محاولة مشابهة لتسميم مصادر مياه غزة في 27 أيار/ مايو، لكنها أحبطت . وقد ألقى المصريون القبض على يهوديين ، دافيد جورن ودافيد مزراحي ، بينما كانا يحاولان تلويث آبار المياه في غزة بجراثيم التفوئيد والديزنطاريا " . ويشير إلى أنه تم إخبار ( بن غوريون ) بالحادثة فدونها في يومياته دون تعليق .
وإذا كان ( بابيه )كتب " يبدو " فإن ( جلعادي ) يؤكد الحادث . وجلعادي عمل في تلك الفترة مزارعا في المجدل ، وكان صهيونيا منذ كان في العراق في الثامنة عشرة من عمره ، ثم غادر إسرائيل نهائيا واستقر في أميركا وألف كتابه الذي طبعه على نفقته .
في رواية سهيل كيوان " بلد المنحوس " التي ركزت على السنوات 1948 - 1952 يشير إلى الحادثة ، فهل اعتمد على ما رواه العكيون الباقون أم على كتاب " التطهير العرقي... " ؟
ثمة فصل في رواية محمد الأسعد " أم الزينات : تحت ظلال الخروب " عن آبار أم الزينات قريته ، وآمل أن أقرأ الرواية في قادم الأيام لأتابع الموضوع .
هل أصاب درويش كبد الحقيقة حين كتب " لا بد من شاهد يهودي حتى يصدقنا الغرب " ؟
الجمعة 7 كانون الأول 2018


***

( ايلان بابيه ) :
صوت ضائع في مهرجان
عادل الاسطة
هل يعد ( ايلان بابيه ) في طروحاته في كتبه العديدة صوتا ضائعا في الأصوات ؟
أشير ابتداء إلى أن عبارة " صوت ضائع في الأصوات " هي عنوان إحدى قصائد محمود درويش من ديوانه " العصافير تموت في الجليل " ( 1969 ) وفيها يكتب الشاعر عن الذين صمتوا ألف عام وظلوا يصغون إلى القصة دون أن يتكلموا وقد آن الأوان ليتكلموا . " فدعونا نتكلم ودعوا حنجرة الأموات فينا تتكلم " .
في متابعاتنا الأدبيات الإسرائيلية غالبا ما كنا نلتفت إلى أسماء أدبية وغير أدبية أعلنت مواقف مغايرة مختلفة للخطاب العام السائد ، وقد لفتت أنظار أدبائنا ونقادنا مثل محمود درويش وسلمان ناطور وانطوان شلحت وآخرين ، فكتبوا عنها في كتبهم ومقالاتهم وجعلوا بعض أسطرها عناوين لمقالاتهم . من هذه الأسماء ( حانوخ ليفين ) و ( أوري أفنيري ) و ( جدعون ليفي ) و ( فيليتسيا لانغر ) و ( ليئة تسيمل ) ، وصار لبعض هذه الأسماء حضور في الأدبيات الفلسطينية بصفتها نصيرة لحقوق الفلسطينيين - تحضر شخصية ( لانغر ) في أعمال روائية عديدة ويحضر ( بابيه ) في روايات إلياس خوري ويعتمد إلياس على كتب المؤرخ كما يعتمد المؤرخ على رواية خوري " باب الشمس " ويرد ذكر ( بابيه ) في رواية عارف الحسيني " كافر سبت " -.
في العام 1990 غادرت المحامية ( فيليتسيا لانغر ) فلسطين إلى ألمانيا لتستقر في ( توبنغن ) وكان دافعها أنها ما عادت قادرة على ممارسة مهنتها بما يرضي ضميرها المهني والأخلاقي والإنساني في دولة إسرائيل . لقد أصغيت شخصيا إليها تعلن هذا في جامعة ( بون ) في شتاء 1990 / 1991 .
في تلك الأعوام تعرفت على قصيدة الشاعر اليهودي النمساوي ( اريك فريد Eric Fried ) التي عنوانها " Hoere Israel " " اسمعي يا اسرائيل " وفيها يخاطب الشاعر دولة إسرائيل قائلا :
" عندما لوحقنا
كنت واحدا منكم
كيف يمكن أن أبقى ( منكم )
عندما ( صرتم ) تلاحقون " .
ما قالته ( لانغر ) ، وما كتبه ( فريد ) شعرا ، يكتبه ( بابيه )في مقدمة كتابه " الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي 1948 " ( الترجمة العربية 2013 ) :
" أعتقد أنني لا أغالي إن قلت بأن صلاتي الاجتماعية ، وحتى بدرجة أكبر ، ارتباطاتي الإيديولوجية ، هي غير مألوفة في أوساط المجتمع اليهودي في إسرائيل ، مع أنني لست الوحيد الذي يغرد خارج سربه ، فأنا واحد من القلة النادرة من اليهود الإسرائيليين الذين يشعرون بألفة قوية تجاه الأقلية الفلسطينية في إسرائيل ..... وبأني متضامن مع أفرادها إلى حد أنني أصبحت شخصا منبوذا في طائفتي اليهودية . لم أندم على موقفي هذا إطلاقا . " (ص28 ) .
ويتصرف المؤلف تصرف ( لانغر ) فلمواقفه التي دفعت طائفته لتنبذه قرر العمل في الخارج " وذلك بسبب مراجعتي النقدية الفكرية والعلمية للمجتمع اليهودي " ( ص28 ) .
يبدو ( بابيه ) أيضا صوتا ضائعا في مهرجان في كتبه ، فهو عدا اختلافه في موقفه مما جرى - يختلف حتى عن المؤرخين الجدد ومنهم ( بني موريس ) حيث يبدي ( بابيه ) رأيه في كتابات ( بني موريس ) تجاه كتابة النكبة الفلسطينية ، ويرى أن نظرة ( موريس ) نظرة جزئية لأن صاحبها " صدق من دون تمحيص ما ورد في التقارير العسكرية الإسرائيلية التي وجدها في الأرشيفات ، بل اعتبره الحقيقة المطلقة . وقاده ذلك إلى تجاهل أعمال وحشية ارتكبها اليهود ، مثل تلويث القناة التي تصل المياه عبرها إلى عكا بجراثيم التفوئيد ، وحالات الاغتصاب المتعددة وعشرات المذابح . كما أنه بقي مصرا ، على الرغم من عدم صحة ذلك ، على أنه لم يحدث قبل 15 أيار / مايو 1948 طرد للسكان بالقوة " ( ص7 )
حجة ( بابيه ) في وجهة نظره إزاء كتابات ( بني موريس ) وغيره من المؤرخين الجدد تقوم على أساس إغفالهم المصادر العربية وعدم التفاتهم إلى التاريخ الشفوي ، ولو كانوا التفتوا إليها - المصادر العربية والتاريخ الشفوي - " لكانوا استطاعوا - ربما - أن ينفذوا على نحو أفضل إلى التخطيط المنهجي وراء طرد الفلسطينيين في سنة 1948، وأن يقدموا وصفا أكثر صدقا لفداحة الجرائم التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون " ( ص6 ) - فهو عدا اختلافه في موقفه مما جرى يختلف عن كثير من المستشرقين في نظرته لكتابات الدارسين العرب .
هناك نظرة استشراقية استعلائية لدى كثير من المستشرقين في نظرتهم للدراسات العربية كلها تتمثل في أنها دراسات غير جديرة بالالتفات إليها ، فالعرب دارسون غير جادين وانفعاليون وبلا منهجية و .. و .. وربما ذهب قسم من المستشرقين إلى أن العرب لا يجيدون حتى القراءة بلغتهم .
في كتابه " الفلسطينيون المنسيون " يثمن ( بابيه ) كتابين لنديم روحانا وأسعد غانم ، تمحورا حول الفلسطينيين في مناطق 1948 ، ويعلي من جهود مؤلفيهما ، فقد أحاط " مؤلف كل منهما بالموضوع جيدا ، الأول " مواطنون فلسطينيون في دولة يهودية اثنية : هويات متصارعة "( 1997 ) .... والثاني " الأقلية العربية - الفلسطينية في إسرائيل " ( 2001 ) .... ولا يزال كلاهما مصدرين قيمين جدا بالنسبة إلى أي شخص يرغب في معرفة وفهم تطور الهوية السياسية لهذه الفئة من الناس وأفكارها ومعتقداتها من منظور تاريخي " ( ص25 ) وكان المؤلف ثمن في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين " جهود المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي .
هذه النظرة للدراسات العربية قلما نقرؤها - كما ذكرت في كتابات الاستشراق الإسرائيلي وبعض الاستشراق الغربي ، ولا ضرورة للإحالة إلى كتاب ادوارد سعيد " الاستشراق " فهو كتاب شائع .
ثمة نقطة مهمة أود الإشارة إليها وهي تتعلق بهدف ( بابيه ) وقصده من وراء تأليف كتابه .
يرى المؤلف أنه جزء من المجتمع المدان ، وهو " يتهم السياسيين الذين خططوا ، والجنرالات الذين نفذوا الخطة ، بارتكاب جريمة تطهير عرقي " وهو يشعر بأنه جزء من الحكاية " وأيضا أتحمل مسؤولية عما جرى " وفوق ما سبق " وأنا ، مثل كثيرين في المجتمع الذي أنتمي إليه ، مقتنع .... بأن مثل هذه الرحلة ضرورية إلى الماضي هو الوسيلة إلى التقدم إلى الأمام إذا أردنا أن نصل إلى مستقبل أفضل لنا جميعا ، فلسطينيين وإسرائيليين على السواء ..." ( ص7 ) .
هل بقي شيء لم أكتبه ؟
من المؤكد أن هناك أشياء وأشياء و آمل أن أعود في مقالة ثالثة للتوقف أمام بعض فصول كتاب " عشر خرافات عن إسرائيل " لأكتب عن دحض الفكر الصهيوني رابطا هذا بكتابات كنفاني وحبيبي ودرويش .
Adel Osta
الجمعة
14 كانون الأول 2018


***

( ايلان بابيه ) " عشر خرافات عن إسرائيل " .
خرافة " أرض بلا شعب "
عادل الاسطة
ماذا سيقول القاريء الغربي الذي قرأ الأدب الصهيوني حين يقرأ الأدبيات الفلسطينية الآتية على سبيل المثال :
قصة " دروب جميلة " 2007 لأكرم هنية و " قناديل ملك الجليل "2011 لابراهيم نصرالله ، و " بردقانة " 2014 لإياد برغوثي و " اورفوار عكا " 2014 لعلاء حليحل و " بلد المنحوس " 2018 لسهيل كيوان ؟
تقول الأعمال السابقة إن فلسطين قبل العام 1948 كانت بلدا حضاريا وبلدا مزدهرا أيضا ، وقد حاول ظاهر العمر تأسيس دولة عصرية ، وكانت يافا وعكا مدينتين حضاريتين عامرتين ، وهو ما عملت الرواية الصهيونية على نفيه ، فقد حاولت أن تصور فلسطين أرضا بلا شعب ، لتسوغ مشروعها بإقامة وطن قومي لليهود بدعوى " أنهم شعب بلا أرض " .
أول الأعمال الأدبية الصهيونية التي صورت فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي رواية الأب المؤسس للحركة الصهيونية ( ثيودور هرتسل )( 1902 ) الذي أظهر لفلسطين ، حين زارها بطل روايته ، صورة مظلمة سوداء : مدن قبيحة وسخة مثل يافا ، بميناء قذر ، ومثل القدس ، وسكان فقراء متسولون ، وطعام يباع يحلق حوله الذباب فلا نظافة ، وأصحاب أراض أتراك مثل رشيد بك يرون في المشروع الصهيوني خلاصا من التخلف ومدخلا لإضاءة المكان وإعماره ، فالمستوطنون اليهود سيجلبون معهم الازدهار لفلسطين .
ويخلص المرء بعد قراءة رواية " أرض قديمة - جديدة " والروايات الصهيونية التي نسجت على منوالها ،مثل رواية ( آرثر كوستلر ) " لصوص في الليل " ، إلى أن فلسطين كانت أرضا بلا شعب وبلا مظاهر حضارية وعمرانية . كانت أرضا مهجورة تصحرت بعد أن تركها اليهود قبل ألفي سنة وأكثر .
الأعمال الأدبية الفلسطينية منذ رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " ( 1969 ) ورواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ( 1974 ) بدأت تنقض الكثير من الطروحات الصهيونية ،- وهو ما كتبت عنه بالتفصيل في بحثي " الترجمة العربية لرواية ( هرتسل ) " أرض قديمة - جديدة " ونقض الخطاب الأدبي الفلسطيني لها " - ولقد كتب كنفاني عن عائلة يهودية مهاجرة مضللة وصلت إلى حيفا معتقدة بما قرأته عن هجرتها إلى " أرض بلا شعب " ولكنها فوجئت حال وصولها بحرب بين طرفين ، فمن هم الذين يحاربون إذن ؟
يسرد كنفاني في القسم الثالث من " عائد إلى حيفا "عن صورة فلسطين في ذهن اليهود قبل وصولهم إليها ومصادر تشكل تلك الصورة ويظهر الفرق بين ما قرؤوه وما رأواه ويجسد هؤلاء في ( ايفرات كوشين ) : "ولذلك كانت المعارك التي يسمع أصواتها ثم يقرأ أخبارها في " بالستاين بوست " كل صباح ، إنما تجري بين بشر وبين أشباح ، ليس إلا "( 373 من ا.ك ).
الأعمال الأدبية الفلسطينية التي ذكرتها ، ابتداء ، كتبت بالتفصيل عن حياة مزدهرة في عكا ويافا ، كما لو أنها تدحض المقولات الصهيونية التي روجتها الحركة الصهيونية . صحيح أنها كتبت في زمن لاحق ، وأن زمنيها ؛ الكتابي والروائي مختلفان ويفصل بينهما عقود من الزمن ، ولكن مؤلفي الروايات اعتمدوا في كتابتها على مصادر ومراجع عربية وغير عربية منها كتب الرحالة الأجانب ، وهنا أذكر قصة الكاتب الإسرائيلي ( بنيامين تموز ) " منافسة سباحة " ففيها يصف بيارات الفلسطينيين وثراء قسم منهم ومدنيتهم في التعامل .
كنت كتبت في مقدمة مداخلتي تحت عنوان " لا بد من شاهد يهودي " أنه لا بد من مرجعية إسرائيلية لنا حتى يصدقنا الغرب . وهذا الشاهد يكمن هذه المرة في كتاب ( بابيه ) " عشر خرافات عن إسرائيل " ( الترجمة العربية لسارة عبد الحليم / الطبعة الأولى 2018 ) .
أشير ابتداء إلى فكرة مهمة يتوقف الكاتب أمامها وهي فكرة " الالتزام " ثم أوضح ما رميت إليه من حاجتنا إلى الشاهد اليهودي حتى يصدقنا الغرب .
في مقدمة الكتاب يركز المؤلف على قضيتين أساسيتين تخصان الكاتب الملتزم صاحب الرأي يساري التفكير وهما الالتزام في الكتابة وتبسيطها ، فليس كل واضح بسيط ساذجا : " وبإمكان الدارسين والباحثين الاستفادة من هذا الكتاب إذا ما نفضوا عن أنفسهم الداء الأعظم المبتلى به العالم الأكاديمي اليوم ، ألا وهو : الفكرة بأن الالتزام يضعف العمل البحثي ".
والقضية الأساس هي الاتكاء على كتاب " عشر خرافات عن إسرائيل " لكي يصدق الغرب ما ورد في الأدبيات الفلسطينية الوارد ذكرها .
يخصص المؤلف الفصل الأول من كتابه لدحض فكرة أن فلسطين كانت أرضا خالية ، ويرى أن هذه الصورة مفبركة يروج لها موقع رسمي حكومي ، ويذكر أسماء باحثين إسرائيليين تظهر أبحاثهم " أن فلسطين ، على مدى قرون ، لم تكن صحراء بل مجتمعا عربيا مزدهرا ، يشكل المسلمون الغالبية العظمى فيه ، ويغلب عليه الطابع الريفي ، مع وجود مراكز حضرية حيوية "( 18 ) ومن الباحثين الإسرائيليين الذين نجحوا في تفنيد الرواية الصهيونية ( ديفيد غروسمان ) - الباحث في علم السكان لا الروائي المعروف - ، وامنون كوهين ، ويهوشع بن اريه . ويأتي ( بابيه ) على مشروع ظاهر العمر ( 1690 - 1775 ) الذي تم على يديه " تحديث ثم تنشيط مدن مثل حيفا ، وشفا عمرو ، وطبريا ، وعكا " ( 19 ) ويخلص المؤلف في فصله الأول إلى النتيجة الآتية :
" إذا ، لم تكن فلسطين أرضا خالية ، بل شكلت جزءا من عالم شرق البحر المتوسط الغني والخصب الذي شهد في القرن التاسع عشر عمليات تحديث إلى جانب بروز نزعة قومية فيه . لم تكن فلسطين صحراء تنتظر أن تزدهر ؛ بل كانت بلدا ريفيا على وشك دخول القرن العشرين كمجتمع حديث، بكل ما ينطوي عليه هذا التحول من إيجابيات وسلبيات . وقد أدى استعمار فلسطين من قبل الحركة الصهيونية إلى تحويل هذه العملية إلى كارثة بالنسبة للسكان الأصليين الذين يعيشون هناك " ( 23 ) .
واذا كان كنفاني كتب عن عدم تصديق المهاجرين اليهود لما قيل لهم بأنهم سيذهبون الى " أرض بلا شعب " فإن حبيبي في " اخطية " 1985 يحن في زمن الدولة الديموقراطية الحضارية / إسرائيل إلى حيفا في زمن العرب - أي قبل نكبة 1948 ويكتب عن الزمن الجميل والعيشة الهنية الرغدة حيث لم يكن يشعر بالاغتراب الذي يشعر به زمن كتابته روايته . ولا يختلف محمود درويش في قصيدته " طللية البروة " التي كتبها في فترة متأخرة من حياته.إنه حين يزور أطلال القرية ويرى ما أقيم على انقاضها من مصانع حديثة ويرى شوارعها المسفلتة يحن إلى بيته البسيط وغزالته خلف الشباك ، فما أقيم لا يحجب الصورة الأولى إطلاقا .
في " دروب جميلة " يستحضر الفلسطيني المهجر من يافا المقيم في الكويت يافا قبل 1948 ويعدد ما كان فيها من مظاهر حضارية تدحض المقولات الصهيونية ، ومثل أكرم هنية إياد البرغوتي وسهيل كيوان . إنهما يستحضران عكا قبل 1948 . يكتب الأول عن فرق رياضية تنافس الفرق العربية ، ويكتب الثاني عن الموسيقى في المدينة واهتمام الناس فيها اهتماما لافتا ، بل إن أهل عكا المغرمين بالفن يستقبلون أشهر المغنين العرب في ذلك الوقت ، ويرسلون أبناءهم لتعلم الموسيقى ، ويبدون شغوفين بالالات الموسيقية .
ابراهيم نصرالله " في " قناديل ملك الجليل " يكتب عن مشروع ظاهر العمر تأسيس دولة عصرية . والكتاب المذكورون يعتمدون ، كما ذكرت ، على مصادر ومراجع عربية وغير عربية .
هل كانت فلسطين حقا أرضا بلا شعب ؟ وهل كانت صحراء قاحلة ؟ " إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهما " يرد سعيد . س على زوجته صفية التي انبهرت بما رأت " عائد إلى حيفا " ص360 .
وكما تساءلت في بداية الكتابة : من من الغربيين في 50 و 60 و 70 القرن العشرين سيصدق الكتاب الفلسطينيين لو قرا نصوصهم ؟
لا بد من شاهد يهودي ، وكتاب " عشر خرافات عن إسرائيل " ومؤلفه هما الشاهدان .
الجمعة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...