قراءة شاملة لسعيد وزبيدة

قراءة شاملة لسعيد وزبيدة

يقوم الناقد رائد الحواري بقراءة شاملة لرواية سعيد وزبيدة ويقارن بعض وقائعها بأساطير الجنس المقدس في الميثولوجيا الكنعانية.

رواية سعيد وزبيدة

رائد سلمان

قبل زمن قرأت رواية كانت في الأصل قصة، فلم أجد فيها إلا بالوناً فارغاً ولم أستطع الاستمرار في قراءتها، وبعد أن عدت إليها مرة ثانية ـ كما هو الحال مع الأعمال التي تستعصي علي ـ لم استطع تكملتها أيضاً، وهذا جعلني أسأل: هل يستطيع الكاتب أن يحوًل قصة إلى رواية؟، فالقصة قصة والرواية رواية، وخرجت باستنتاج: يجب على الكاتب أن يرضى بمولوده، مهما كان، فليس المهم أن يكون العمل الأدبي رواية أو قصة، إلا بقدر ما يكون مقنعاً وممتعاً للمتلقي.

في أخر زيارة لي إلى الأردن أخبرني الأديب "محمود شاهين" أنه يعكف على تحويل قصة "العبد سعيد" إلى رواية، وأن هذه القصة كانت في الأساس رواية، لكن في العقد السابع من القرن الماضي لم تتح الفرص أمامه ليصدر رواية، فاختزل أحداثها وقدمها في مجموعة قصصية "الخطار" باسم "العبد سعيد" وها هو بعد مضي ما يقارب الخمسين سنة يعيدها إلى سيرتها الأولى، ويقدمها بشكلها الصحيح والكامل رواية "سعيد وزبيدة".

الرواية تتناول قصة العبد "قعدان" وزوجته"سجاح" التي تخبرها عرافة حوران أن "سجاح" ستلد ولداً ليس له مثيل، لكنه سيتم خصيه ثم سيفقد قدرته على العزف، وهنا تفكر في الخروج من حوران إلى مكان آخر، يوافق السيد على بيعهما إلى تاجر عبيد والذي بدوره يبيعهما في القدس "للشيخ عاقب" شيخ قبيلة العقايبة .. يولد "سعيد" وفي ذات اليوم تولد زبيدة بنت "الشيخ عاقب" يربيان معا، ويلعبان معا، وتنشأ بينهما علاقة حب، إلى أن يأتي اليوم الذي يشاهد فيه "الشيخ عاقب" سعيد وهو يصرع كل الأولاد، فيقرر أن يخصيه مبرراً هذا الأمر بقوله: "إذا ما كبر هذا الطفل فلن تبقى امرأة في القبيلة إلا وتنزع ثيابها له، أذهب وأتني به سأقطع خصيتيه" ص49، وهنا تحدث أول عملية قتل المبدع/المتألق "سعيد" الذي تجاوز مجتمعه وعصره، بعدها تعلم العزف الذي أبدع فيه وتألق، يبدأ جسمه بالنمو، حتى أنه تفوق على فرسان القبيلة في ركوب الخيل والمبارزة، وهنا يختاره الشيخ ليكون أحد فرسان القبيلة، يتم غزو قبيلة الشيخ، وتسلب الأغنام، يخرج "سعيد" مع جيش ليسترد الأغنام ويعاقب الغزاة، وفعلا يحقق الانتصار ويعيد القطيع مع أسر قائد القبيلة الغازية، وهنا يتم ترقيته ليكون القائد لجيش القبيلة، حتى أن أولاد الشيخ عاقب أصبحوا تحت إمرته، تتطور الأحداث وأثناء تجوال "سعيد" بجيشه في فلسطين يأتيه فارس من "أريحا" مستنجداً ليخلّصوا المدينة من قبيلة احتلتها واستباحت النساء فيها، تحصل المعركة بين المحتلين وجيش "سعيد" الذي أمده "الشيخ عاقب" بجنود وفرسان، ينتصر أيضاً على المحتلين ويحرر المدينة، ترتفع أسهم "سعيد" في القبيلة وعند الشيخ، وهنا يتدخل أولاد الشيخ الذين وجدوا "سيعد" يتفوق عليهم، والذي يشكل خطرا على مستقبلهم في القبيلة، خاصة بعد أن وصل عمر الشيخ عاقب الثمانين سنة.

يتدخل الشيخ بذكاء ويطلب من "سعيد" أن يحمي المواشي من الذئاب، وبهذا تتم تراجع مكانة " سيعد" من قائد لجيش القبيلة إلى راعي مواشي، وهنا تكون الضربة الثانية لسعيد، لكنه أيضاً في الرعي كان متألقاً، بعد أن استطاع أن يحمي القطيع من الذئاب، وأن يسيطر عليه لوحده، بعد أن كان يحتاج إلى أربعة رعيان ومساعدين آخرين. يأخذ بالعزف على أرغول فتتعرى كل النساء اللواتي يسمعن العزف، ويعزف لحناً آخر فيجتمع القطيع، يمر مجموعة الفرسان الأتراك ممن يجبوا الضرائب، وعدما يرون القطيع الكبير يقوده "سعيد" منفردا، يستغربون ويتعجبون من هذا الراعي الذي يستطيع السيطرة على هذا الكم من المواشي. يسأله مأمور الفرسان عن عدد القطيع، يجيبه "سعيد" :سبعة آلاف وخمسمائة شاة" ص150، لكن المأمور يطلب من سعيد أن يريه كيف يتم جمع القطيع وعده، يطلب سعيد الأمان من المأمور إذا ما جمع القطيع وعده أمامه، المأمور يعطيه الأمان، وهنا يأخذ بالعزف: "...أخذت الأغنام تهرع من كل صوب وتقف في طوابير منتظمة أمام سعيد حيث تمتد مساحة كبيرة من الأرض المستوية...انتظمت النعاج في طابور والمعز في طابور آخر.. لتصل كلفة الأغنام وتنضم إلى الطابورين" ص150، وهنا يقرر المأمور أن يتخذ أمراً بحق "سيعد" بأن يقطع أصابع يديه بحجة: "إذا كان هذا فعل العبد بالأغنام، فما بالك بالنساء بالله عليك؟!" ص151، يتم القبض على سعيد وتقطع أصابع يديه، بعدها يفقد صحته وعافيته ثم يموت. تعلم "زبيدة" بموت سعيد فتقوم "أخذت سيفه وسحبته من غمده، وضعت عقبه على الأرض ورأسه بين نهديها، وانحنت عليه بقوه ليخرج من ظهرها، وليتهاوى جسدها إلى جانب فراش سعيد" ص156، بهذه الموت انتهت الرواية.

العبيد

تعتبر رواية "سعيد وزبيدة" من الروايات النادرة التي تناولت حالة العبودية في المنطقة العربية، وتحديداً في العهد التركي، فقد صور لنا السارد طريقة تعامل الأسياد مع العبيد، بحث نجدهم يباعون ويشترون كالأنعام، أما عن مصدر هؤلاء العبيد وكيف يتم استجلابهم، يتحدث السارد عن المكان الذي جلب منه "قعدان" قائلا : "...كان طفلا يلهو مع الأطفال على شواطئ النيل شمال السودان وأسره مع مجموعة منهم ليحشر في سفينة مع مجموعة من العبيد والأطفال مقدين بالأغلال، ليباع في مرفأ إلى تاجر ومنه إلى سيد من الأسياد" ص 6، فتجارة العبيد كانت رائجة في ذلك الزمن حتى أن المنطقة العربية كانت مصدر من مصادر توريد العبيد إلى أوروبا وأمريكا: "..باتا بحاجة إلى ملايين العبيد للعمل، والتصدير إلى مناطقنا قد يقل كثيرا.. الأوروبيون والأمريكان يستولون على مئات الآلاف منهم شهريا" ص8.

أما عن طريقة اقتياد العبيد بعد أن يتم شراؤم من الأسياد: "لم يكن لدى هذا التاجر سلاسل من حديد، بل سلسة طويلة من الحبال ذات رباق، توضع حول عنق العبد، يفصل بين الربقة والربقة قرابة متر، وكانت رباق الإناث منفصلة ع رباق الذكور، ويحرس الجميع مجموعة من عبيد التاجر مسلحين ببنادق بدائية وكرابيج وسيوف" ص12، وعن المكان الذي يوضع فيه العبيد يقول السارد: "مر النهار الذي بدا لسجاح أطول نهار عرفته في حياتها لشعورها بالجوع والعرق يتصبب من جسدها لحرارة الجو.. فالحظيرة غير مسقوفة والعبيد يبقون في العراء وسط حر رهيب" ص13، بهذا الوصف يتماثل حال العبيد بحال البهائم، وبما أنهم بشر وليسوا دواباً، ويمكنهم استخدام العقل ليفكروا في الهرب، فقد كانوا قبل النوم يخضعون ل: "تقييد أيديهم خلف ظهورهم، حتى لا ينزعوا الرباق من أعناقهم ويقدموا على ما لا تحمد عقباه" ص14، إذن العبيد يعاملون بطريقة أقسى من معاملة الحيوان،

وهنا تكمن القيمة المعرفية لرواية "سعيد وزبيدة" فهي تتناول كافة التفاصيل عن العبيد، من هنا نجدها تعرّفنا أكثر على حياتهم وكيف يتم التعامل معهم أثناء خدمة الأسياد: "

الجواري

هذا بالنسبة للعبيد، أما عن الجواري ولماذا يشتروهن الأسياد وكيف كانت تتم معاينة الجارية: "ـ هل أعجبتك، هذه صغيرة لم تتجاوز الرابعة عشرة، ستتمتع بها كثير"... وأشار إلى الطفلة أن تنهض وتتعرى..." أرفعي رأسك وانظري نحونا، وافتحي رجليك" ص9، السارد يحدثنا اكثر عن حال الجواري وكيف تعامل الطفلة من قبل سيدها: "سامحك الله يا جعفر، هل تبقى جارية عذراء عند سيد؟ ابتعتها ثيبا، أخبرني سيدها الأول أنه افتضها وهي في الثامنة من عمرها، أسرت بعد أن قتل أبواها في حرب" ص10.

وعندما تكون الجارية متزوجة فقد كان السيد يطلقها من زوجها العبد ليبرر (شرعاً) الاختلاء بها، هذا ما حصل مع "سجاح" زوجة "قعدان": "...الشيخ طلقني من قعدان واتخذني حليلة!" ص43، فالجارية تقتنى لعدة أسباب منها ممارسة الجنس، لهذا كان الأسياد يفضلون الصغيرات: "كما أن الشيخ يصب جل اهتمامه على الصغيرات، فلم يمرعامان على ابتياع الجارية الصغيرة حتى ابتاع الشيخ جارية أصغر لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها" ص57، وبما أن الحديث يدورعن ( طفلات) لا يعرفن الكثير عن ممارسة الجنس، فقد كلف السيد/الشيخ الجارية "سجاح" لتقوم بتعليم الطفلة كيف ترضي سيدها: "البنية هيذي أقصد الجارية الجديدة الصغيرة ما تفهم شي في أمور الغرام وأريدك تعلمينها الأصول وتعلمينها وش إلي يعجبني ولي ما يعجبني" ص58، السارد لا يقدم الأحداث بصورة محايدة، لهذا يدفع القارئ ليتعاطف مع الجواري والعبيد، فالحوار الذي دار بين "سجاح" والطفلة وعد" يشير إلى انحياز السارد للجواري والعبيد:

"ـ كم عمرك؟

ـ 14 سنة!

ـ من أي بلد أنت؟

ـ من حلب!

ـ كيف أصبحت جارية ومتى؟

ـ أسرتي فقيرة وباعني أبي إلى تاجر عبيد ليعول أمي وأخوتي الأصغر،

ـ هل تقبلت الأمر راضية؟

ـ لا لم أكن راضية لكني لم أصر على الرفض، لم يكن أمامي خيار آخر

ـ كم كان عمرك؟

ـ 12 سنة!

يفترض أن لديك بعض الخبرة في أمور الغرام لما مررت به قبله، فلماذا يعتبر الشيخ أنك تجهلين ذلك؟

ـ لا أعرف يا سيدتي إن كنت جاهلة في هذه الأمور، ما أعرفه أن الأسياد يطلبون أشياء لا قدرة لي عليها فأرفضها أو أتقبلها بقرف وأنا أتألم وأبكي حين يرغمونني على ذلك" ص59و60، اللافت في هذا الحوار أن السارد جعل الجارية تتحدث بصوتها هي، ولم يتدخل في الحوار، فهو يريد من القارئ الاستماع مباشرة إلى صوت الضحية، والتعرف على ما تعانيه من ألم لطريقة تعامل الأسياد الذي يطالبونها بأوضاع شاذة ولا تليق بالبشر أن يفعلوها: "ممارسات بعض الأسياد جعلتني أكره الجنس أحياناً وأفضل العادة السرية على ممارسته مع رجل" ص62، وهذا الاعتراف يأخذنا إلى الأثر النفسي الذي يتركه الأسياد على الجواري، وإلى أنهم يقومون بأفعال شاذة وأوضاع مقرفة ويتعاملون مع الجارية بطريقة سادية: "...يقيدني بالحبال ويضربني بسوط على مؤخرتي ويتوجب علي أن أصرخ بالكلمات المحببة إليه، كأن أرجوه أن يلجني حتى أموت! وأن روحي فداه" ص92، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن فارق العمر بين الجارية الطفلة وبين السيد العجوز له أثر سلبي يضاف إلى الضحية: "...حظي مع الأسياد كبار السن معظمهم لا أحتمل مجرد مجالستهم" ص92، بهذا يكون السارد قد كشف حقيقة المعاناة التي مرت بها الجواري، وكأنه بهذا الأمر أراد القول أن فكرة الجواري/السبايا فكرة لا تتناسب وطبيعة البشر، وأن فيها ظلم هائل يقع على الضحية، فعندما ركز على الجواري الطفلات وما يتعرضن له من خلال اعترافهن، أكد على انحيازه لهن، وعلى رفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا، وإن كل من يدعوإلى العودة إلى فكرة الجواري والعبيد هو مجرم بحق الإنسانية.

وبما أن الرواية كتبت في عام 2022 ، أي بعد تفشي فكر الدواعش والنصرة وبقية الجماعات المتطرفة التي تدعي العمل بمنهج الدين، وتدعو إلى العودة إلى أصول الشرع الذي يبيح ويحلل امتلاك الجواري والعبيد، فإن طرح رواية "سعيد وزبيدة" يمثل أفضل رد على هؤلاء المجرمين المتخلفين، فالعودة إلى الجواري والعبيد يعني العودة إلى تحمل البشر مزيداً من الألم والقسوة، وهذا يتناقض مع طبيعتهم، فهم يسعون إلى حياة هانئة وهادئة وليس إلى حياة أسياد وعبيد.

الأسياد

مقابل العبيد فهناك الطرف الثاني، الأسياد، الذين كانوا متوحشين وشرسين في تعاملهم مع العبيد والجواري، "نعمة" ابنة الشيخ يتغزل بها احد العبيد، فعوقب ب: "جلده مائة جلده وخصيه إذا لم يمت ...أحني العبد على قاطع خشبي وقيدت يداه ورأسه إلى القاطع، وشرع جلاد الشيخ في جلده بسوط سميك على ظهره،...قضى العبد نحبه قبل أن يكمل الجلاد المائة جلدة، فأمر الشيخ بإكمالها وهو ميت ليدب الرعب والهلع في نفوس المتفرجين...وما أن أكمل الجلاد حتى أمر الشيخ بعض العبيد بنقل جثمان العبد إلى واد بعيد عن الحي وقذفه فيه، وترك الجثة في العراء لتنهشها الضباع ليلا، وحذر العبيد من الإقدام على دفنه" ص72، هذه إحدى الصور التي تعامل بها الأسياد مع العبيد.

لكنهم مع الجواري يختارون الصغيرات منهن، ويتركون ويهجرون الكبيرات: "الشيخ مغرم بالصغيرات وكل جارية أو امرأة تتجاوز الأربعين يتخلى عن معاشرتها" ص87، من هنا كانت نساء الأسياد لا يأخذن حاجتهن الجسدية منهم، وبما أنهن كن يسمعن آهات الغرام في الليل بعد أن يختلي الشيخ بالجواري، فإن وضعهن كان بائساً، فيخترن طرقاً غير (شرعية) ليحصلن على حاجتهن الجسدية: "زوجات الشيخ يضاجعن الرعاة وبعض العبيد!.. العجوز وطفاء ضاجعت الرعاة الأربعة! سالم وعمر ومطلق ومنير! وحليمة ضاجعت سالم وعمر، ثريا تضاجع مزيود مرافق الشيخ وحامد خادم المضيفة!... الرعاة يكشفون أسرارهم لبعضهم وللجواري، إنهم يكرهون مضاجعة العجوز لكنها ترغمهم وإلا... مهووسة وممحونة! تريد أن تودع الحياة بأكبر قدر من النكاح!" ص88 و89، من هنا نستنتج أن أي خلل اجتماعي يرافقه ويترتب عليه خلل آخر، فالشيخ الذي كان يحصل على ما يريد ويلبي شهواته ورغباته الشاذة، أوجد فراغاً عند نسائه وبناته، فقمن بأخذ حاجتهن الجسدية بواسطة العبيد والخدم، وكما كان الشيخ يجبر الجواري على الخضوع لأوامره الشاذة، فعلت النساء، فقمن بتهديد كل من يرفض تلبية رغباتهن.

إذن ما دام هناك أسياد وعبيد فإن المجتمع لن يكون سوياً، وسيترتب على هذا التقسيم سلوكيات وأفعال لا تتناسب وتطور المجتمع المدني، وإذا أخذنا ما تعرض له "سعيد" من خصي، وثم إزاحته من مراكز القيادة، رغم قدرته وإبداعه وتحقيق النصر أكثر من مرة، ثم تقطيع أصابعه من قبل الحامية التركية، نصل إلى فكرة أن مجتمع الأسياد والعبيد يقتل المبدعين والإبداع فيه، لهذا يبقى مجتمع متخلف ولا يستطيع أن يتقدم لو خطوة إلى الأمام.

سعيد :

بطل الرواية ومركزها، فلو لم تحمل به "سجاح" لما هاجرت وزوجها "قعدان" من حوران، ومن ثم تعرفنا على حياة العبيد والظروف التي يمرون بها، يقدم السارد "سعيد" بصورة أسطورية، فمنذ مولده كان متميزا: "...حجم المولود غير العادي وقد تنبهت إلى النور الذي غمر الكوخ فأعلنت أن المولود مبارك" ص39، مثل هذه الولادة بالتأكيد ستأخذ القارئ إلى الأسطورة أو إلى الحكاية الشعبية وما فيها من فضاء مفتوح يتجاوز ما هو سائد/عادي/موجود.

بدأ نبوغه في الظهور عندما تعلم العزف، والمصارعة مع أقرانه الأطفال الذين تفوق عليهم جميعاً وبسرعة: "...اقترب طفل من سعيد مشمراً ساعديه، تلقاه سعيد بيديه ليطرحه أرضا من أول محاولة، ..هجم طفل ثان على سيعد فطرحه أرضاً بسرعة فائقة، وهجم ثالث فطرحه ورابع وخامس إلى أن طرح عشرة أطفال معظمهم من أطفال الأسياد...كان الشيخ يراقب المشهد بدهشة بالغة لجمال الطفل وقوته الخارقة ومهارته...خاطب مرافقه بصوت خفيض: إذا ما كبر هذا الطفل فلن تبقى امرأة في القبيلة إلا وتنزع ثيابها له" ص49، إذن قدرات سعيد لم تقتصر على الجسم والقوة فحسب، بل طالت أيضا الفنون، والقدرة على جذب أنظار الآخرين له، فهو صاحب هيئة تسر الناظرين.

عزف "سعيد" يتجاوز المألوف، فهو يحمل بين ثناياه قدرة على إغواء النساء بحيث يثير فيهن الغريزة الجنسية: " فإن بعض النساء اللواتي كن يحتطبن في وادٍ أو أخدود أو سفح أو حتى ترعة ماء، فكن ما أن يسمعن العزف حتى ينزعن ثيابهن ويجلسن عاريات خاشعات" ص103، بهذا يمكننا القول إن "سعيد" بطل مطلق، يحمل كل الصفات التي يمكن تخيلها في الشخصية المثالية، جسد قوي وبنية صحية، قوة على مصارعة الآخرين والتغلب عليهم، يمتلك مواهب فنية بحيث أن عزفه قادر على جعل النساء يخضعن له ويكشفن مفاتنهن.

يستوقفنا هذا الأمر، فهناك قوة جسدية غير عادية، جسم يسر الناظرين ـ رجالا ونساء ـ مواهب قادرة على جعل النساء يخلعن ثيابهن، فالبداية بالجسد القوي الذي يغري النساء، ثم القوة الخفية التي يحملها بحيث يجعل الآخرين ينظرون إليه بإعجاب متوقفين على ما فيه من هالة قدسية، وهذا التوقف هو نقطة الارتكاز، بمعنى أن الناظر "لسعيد" ينجذب إليه بما فيه من جمال ولما فيه من قوة، وهذا يثير الناظرين خاصة النساء، اللواتي يفتتن بالجسد القوي والهيئة البهية، وبإضافة العزف المثير يكتمل التلاقي بين "سعيد" والنساء، فتبدأ العلاقة بطريقة متسلسلة ومرتبة، وما خلع الثياب إلا دعوة منهن ليتقدم سعيد منهن، فهن راغبات ومشتهيات له، وشهوتهن ليست جنسية فحسب، بل أيضا هناك اندفاع جمالي/روحي/عاطفي جاء من خلال هيئة وجسد "سعيد" وكذلك من خلال عذوبة عزفه.

ولم تقتصر مواهب "سعيد" على الشكل فحسب، بل طالت أيضا الحكمة والقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، فبعد أن يهدي"الشيخ مناور" جواريَ لسعيد ونائبيه في قيادة جيش قبيلة العقايبة " ويريد "مقبل" أن ينزوي بجارية" يبلغه "سعيد" بعدم الاقتراب منها حتى يعودوا إلى القبلية وذلك لسبب: " لا يعقل أن تنعم وحدك بالمتعة مع جاريتك يا مقبل، بينما الجيش كله دون جوار يتمتع معهن، حين نعود إلى الديار تمتع بجاريتك كما تشاء، أما خلال الحملة فما ينطبق على فرسان الحملة ينطبق عليك، لا أريد لأي فارس أن يشعر بالغبن" ص111، بهذه الحكمة استطاع "سعيد" أن يضبط سلوك قادة الجيش ويحافظ على الانضباط العسكري أثناء الحملة العسكرية.

كما نجد كرم ونبل وإنسانية "سعيد" في التعامل مع الجواري، فهو يرفض فكرة الأسياد والعبيد وبصورة مطلقة، وينظر إلى التعامل بين الناس بطريقة إنسانية، يتساوى فيها الجميع، يتحاور مع "ليئة" الجارية التي أهداه إياها "الشيخ مناور":

" ـ هل أعجبك اللحن يا لينة؟

ـ كثيرا يا سيدي ويا ليتني أستطيع أن أتعلم العزف.

ـ ولماذا لا يمكنك أن تبدأي من اليوم

ـ هل تسمح لي يا سيدي؟

ـ هذا حقك ولست في حاجة لأن أسمح لك، ويا ليتك تخاطبيني ياسمي دون سيادة عليك

ـ باسمك يا سيدي؟

نعم باسمي

ـ أنا جاريتك وهذا أمر صعب علي لم أعتده

ـ أنت لست جاريتي ولست جارية أيضا أنت فتاة حرة ويمكنك أن تعيشي حريتك حسب أعراف وعادات القبيلة.

ـ هل يعني هذا أنك تعتقني يا سيدي؟

ـ أنا لم أتملكك يوما لأعتقكك فأنت حرة منذ أن رافقتني وشاركتني حياتي، وإذا كنت تعتبرين نفسك جارية فأنا أعتقك." ص124و125.

لن نتوقف عند الحوار ففكرته واضحة، لكن سنتوقف عند عدم (خلع ليئة ثيابها) كما فعلت نساء القبيلة عندما سمعن العزف، وهذا يشير إلى أن "سعيد" يقدرعلى العزف بأكثر من لحن، وإنه قادر على إيصال الفكرة/الهدف/الغاية من اللحن للآخرين، وأن لحنة يتأثر به الآخرون حسب وضعهم الاجتماعي، فنساء الأسياد يتأثرن به جنسياً، بينما الجواري والعبيد يتأثرون به فنياً، بحيث يستمتعون نفسياً/روحياً.

وما يميز شخصية "سعيد" تطوير إنسانيته ونموها بشكل متصاعد، فبعد أن يصطاد غزال ل"زبيدة" كان هذا الموقف: "...وحين أصطاد غزالا ذات يوم فكر في زبيدة فلم يطلق سبيله، وقاده بحبل إلى أن بلغ المضارب لتستقبله زبيدة وليئة، تأملت زبيدة جمال الغزال وبدت معجبه به.. وفضلت إطلاق سبيله على ذبحه، وشاركتها ليئة الرأي فأطلق سبيله دون أن يسمه، وبعد ذلك اليوم لم تأكل زبيدة من لحم الغزال قط، كما لم يعد سعيد يصطاده، وقد روى بعض الرعاة أن الغزلان كانت ترعى على مقربة من سعيد وهو يعزف في البرية" ص131، الفكرة في هذا المشهد أن المرأة تؤنسن الإنسان وتزيده إنسانية، فكما فعلت (البغي) بانكيدو عندما حولت الوحش فيه إلى إنسان، فعلت "زبيدة بسعيد" فرغم ما يتمتع به من سلوك أخلاقي وجمال، إلا أن موقف "زبيدة" تجاه الغزال جعله يتقدم خطوة أخرى متعلماً من رحمتها في التعامل مع الكائنات الأخرى، وهنا تتلاقي رواية سعيد مع ملحمة جلجامش، فالأماكن متشابهة، البريّة، والأنسنة حاضرة في كليهما.

أثر "سعيد" لم يقتصر على الناس فحسب، بل على الطبيعة أيضا، فعندما يعزف: " على أرغوله والأغنام تتبعه بانتظام عائدة إلى حظائرها بعد يوم رعي.. تقف " نساء وفتيات وشباب ورجال ينظرون إلى سعيد من شرفات منازلهم كيف يعود بقطعانه بانتظام إلى الحي والمهاجع، مستمتعين بعزفه، وغدا خروج سعيد بالأغنام من مراحها والعودة بها إليها، مشهداً يطيب لكثيرين التمتع بمشاهدته والإستماع إلى الألحان الفريدة" ص141، هذا المشهد يأخذنا إلى "البعل السوري" وأثره في حدوث الخصب المادي والجمالي في الطبيعة وفي الناس، فبدا "سعيد" وكأنه (إله) يعيد رونق الطبيعة وما فيها من هدوء وانسجام.

وكما تغزلت النساء بالبعل وخضعن له، تغزلت نساء القبيلة "بسعيد" وخضعن للحنه: "... وذات يوم حين كان يعزف جالسا على تلة والأغنام تنتشر من حوله، وبعض الطيور تحط على مقربة منه، فوجئ بزبيدة تقف أمامه وتشرع في نزع ثيابها، وتجلس عارية خاشعة أمامه، لم يتوقف عن العزف، وخلال لحظات كانت نسوة وفتيات كثيرات يظهرن فجأة ويتعرين ويجلسن أمامه خاشعات بين الحجارة والصخور، فيما كانت مئات النساء والفتيات يتعرين داخل خدورهن ويجلسن صامتات مصغيات وهن يستمعن إلى صدى الألحان يتردد من الأودية والسفوح، وكأنهن يؤدين واجبهن في طقس صلاة سري يتطلب أن تكون بجسد عار من كل شيء" ص142و143. دون أدنى شك نحن أمام طقوس الخصب التي أقامها السوري القديم احتفاء بعودة البعل، فالنساء وهن يتعرين يأخذنا إلى كاهنات المعبد وهن ينتظرن قدوم الملك ليمارسن الحب معه، وإذا علمنا أن هذه الطقوس كانت مقدسة، رغم ما فيها من عري نصل إلى التلاقي بين الرواية والأسطورة/الملحمة السورية.

ومن سمات "سعيد" مواجهة القدر بصلابة وإيمان، فهو لم يجزع مما حل به بعد أن قطع مأمور المحمية التركية أصابعه، فنجده يحاول قدر استطاعته أن يعطي المعنوية "لزبيدة" لتأكل وتستعيد عافيتها، مبدياّ شجاعة وعافية رغم ما فيه من الم وتعب وهزل:

"ـ كيف حالك؟

ـ من حالك يا حبيبي

ـ سمعت أنك محجمة عن الطعام!

ـ وكيف أستطيع أن آكل وأنت لم تعد قادراً على تناول الطعام وتحتاج إلى من يطعمك!

ـ بل أستطيع لكن ليئة وأمي تصران على مساعدتي وقريباً سأحاول أن أتناول الطعام وحدي، يجب أن نواجه قدرنا بشجاعة ولا نجعله يهزمنا" ص154، الجلد وكتمان ما في النفس من ألم وما في الجسد من وجع، وإظهار القوة رغم الضعف، ومساعدة الآخرين رغم ضيق الحال، كل هذا يؤكد على أننا أمام شخصية متميزة، شخصية خارقة، قادرة على المحافظة على سلوكها وأفعالها رغم ما فيها من ضعف ووهن.

بعد موت "سعيد" تنتحر "زبيدة" ويتبعها فتيات القبيلة حزنا على موت "سعيد" وغيابه: " ...بعد أن عرف معظم الناس أن سعيداً مات وانتحرت زبيدة إلى جانبه، وحين طلع النهار كانت عشر فتيات وامرأتان قد انتحرن حزناً على سعيد وزبيدة" ص156، هكذا كانت طقوس الندب التي واكبت غياب (البعل/تموز) فقد كان موكب التشيع لائقا بالإله الميت: "...سعيد وزبيدة في نعش واحد إلى جوار بعضهما، وسيدفنان في قبر واحد، وأن تشيع خلف نعشهما نعوش الفتيات والنساء المنتحرات... تقدم موكب التشييع شباب وشابات يحملون أكاليل الورد، كما وضعت فوق النعوش أكاليل أخرى، وحمله ستة من فرسان القبيلة ساروا وسط صفين من خمسين فارساًعلى ظهر خيولهم، منكسي السيوف وأعلام القبيلة، ..ومئات الرجال، ثم موكب النساء تتقدمه سجاح وزوجات الشيخ وبعض نساء القبيلة وبعض جواري الشيخ ثم مئات النساء والفتيات وهن يندبن الراحلين، ويشقق بعضهن ثيابهن على صدورهن ويلطمن خدودهن وينتفن شعورهن، وقد خيم الحزن على كافة أحياء القبيلة وبعض القرى المجاورة وحارات المدينة المقدسة" ص157، لو أخذنا طقوس موت الملك في حضارة المنطقة سنجد عين الطقوس، فهذا موكب ملكي وليس موكب عادي، فطريقة التشييع واصطفاف الشباب والشابات ومرور الفرسان وندب النساء كلها تتماثل تماماً مع تلك التي أقامها السوري القديم على موت الملك/الإله.

السرد

من هنا نقول أن السارد استطاع أن يجمع ما بين الحكاية الشعبية والأسطورة، فطريقة السرد التي كانت تمهد القارئ لما سيكون عليه حال "سعيد" وما سيحل به من بؤس من خلال ما قالته عرافة حوران، وما كان قد قاله هو عما سيكون عليه حال "سعيد""...بعد أن رسخ لديها( سجاح) اعتقاد أن الخصي هو أول وأخر المصائب، ويا ليت الأمر كان كذلك، فقادم السنين قد يحمل ما هو أسوأ! وربما أسوأ بكثير" ص103، بهذا الشكل أقنعنا السارد أن الحكاية الشعبية ما هي إلا امتداد للأسطورة، من هنا جاء توافق/التماثل بين موكب تشييع "سعيد وزبيدة" بموكب تشييع الملك/البعل/عشتار.

الرواية من منشورات مكتبة كل شيء في حيفا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...