من نافلة القول التأكيد جمالية هذه القصة القصيرة، واجتراحها لطريقة خاصة في بناء عالمها الخاص إن على مستوى الحدث أو على مستوى تقنيات السرد وخصائص فن القصة القصيرة....
هذه قراءة أخرى ربما تختلف عن القراءات التي قدمت لهذه القصة الجميلة، قراءتي ستنصت للقصة القصيرة وهي تفكر في ذاتها، من خلال الوقوف على الخطاب النقدي الوارد في هذه القصة القصيرة جنبا إلى جنب مع خطابها السردي الإبداعي. ربما يقول قائل وما علاقة هذه القصة القصيرة التي تتحدث عن جريمة بالخطاب النظري النقدي؟
أقول جوابا عن هذا السؤال لا نختلف فنحن أمام قصة قصيرة توفرت فيها معظم مقومات القص القصير... لكن النص الإبداعي المميز لا يقدم نفسه على مستوى واحد، بل هو كيان تراكمي تقدم فيه الدلالة على أكثر من مستوى، تمكن المتلقي من قراءات على محورين:
- أفقي يشكل دلالات واضحة تسمح بها علاماته المتواشجة في شكل أنساق دالة تقدم نفسها انطلاقا من عمليات تأويلية تراعي سياقات النص ومقصدياته.
- عمودي يمكن من الغوص في غور النص بملء بياضاته وكشف المسكوت عنه وإضاءة مناطقه المعتمة دائما يكون المنطلق من العلامات اللغوية والنصية وما تشكله من أنساق دالة تؤول انطلاقا من سياق ومقصدية النص المقصود...
*القصة القصيرة تفكر في ذاتها:
علامات لغوية تدل على نسق المؤلف في النص:
(غير موقعة- غير منسقة- بخط كبير غير مضغوط مثل خطي- مجهولة النسب...)
علامات لغوية تدل على نسق القصة في النص:
(مخطوطة- غير منسقة - مجهولة النسب - بخط كبير غير مضغوط مثل خطي - قصيرة – صفحتين- )
علامات لغوية دالة على نسق المتلقي في النص:
(فضولي- السأم والقنوط- قراءتها- هزتني الجريمة- تعاطفت مع الضحية...)
القراءة التأويلية للأنساق أعلاه:
1- المؤلِّف\ منتج النص:
غير معروف، وجوده ليس ذا أهمية تذكر... عدم توقيعه للنص لم يؤثر على عملية التلقي...
غياب المؤلف أو تغييبه يحيل إلى النظرية النقدية البنيوية التي رأت أهمية النص في شكله باعتباره بناء لغويا مكتفيا بذاته، لا يضيره في شيء أن يكون مجهول النسب. وهذا ما جعل أحد رواد البنيوية الكبار (رولان بارت) يعلن بلا مواربة عن موت المؤلف.
2- المُؤلَّف\ النص:
قصة قصيرة من صفحتين، مخطوطة غير منسقة... في نظريات ما بعد الحداثة انحسرت الأهمية التي أعطتها البنيوية للنص على حساب مكونات الإبداع الأخرى (المؤلف والمتلقي) من خلال شعارها (النص ولا شيء عير النص). نلاحظ أن النص "مخطوطة" "غير منسقة"... النص غير مكتمل فيه بياضات ومناطق مظلمة ومسكوت عنه... قيمته لا تكمن في ذاته بل يحتاج إلى عنصر خارجي ينطلق من "المخطوطة غير المنسجمة" للوصول إلى بناء نص جديد ينطلق من (نص المؤلف) للوصول إلى نص المتلقي...
3- المتلقي\ مستهلك النص:
هو العنصر الأهم مقارنة بالعنصرين السابقين، لأنه هو من يخرج النص من حالة الكمون إلى حالة التحقق. حالته النفسية " السأم والقنوط" تتحكم في تأويله للنص يتماهى مع الشخصية الرئيسة ويعيد "للمخطوطة غير المنسجمة" توازنها عن طريق إضفاء خاصتي الانسجام والاتساق بملء البياضات، وتجسير الفراغات. وإضاءة العتمات. ومن هنا فالدلالة ليست معطى واحدا كامنا في النص، بل يحتاج إلى متلق (عثرتَ على نفسك متشظيا بين حروفها، ووجدت تجربتك مقطرة ترشح من ثناياها، حاملة أفكارك ومشاعرك وأحلامك وهلاوسك...). ومن هنا فدلالات النص تعدد بعدد متلقيه الذي تحكم قراءته وتأويله حالته النفسية والوجدانية. وحتى المتلقي نفسه ستتعدد تأويلاته بتجدد قراءاته للنص. وهنا إحالة إلى نظرية التلقي...
النص الإبداعي الذي يحظى بالأولوية، كما عبر على ذلك هذا النص، هو الذي يجد فيه المتلقي ذاته، وقد يصل ذلك إلى حد التماهي (ومع كل قراءة، يترسخ لدي الشعور بأنني بصدد مشاهدة إعادة تمثيل جريمة أنا ضحيتها!)
هذه محاولته لقراءة قصة قصيرة نالت استحسان قراء الواحة، وكل قارئ له زاوية خاصة أطل منها على النص وتحققت له معها المتعة...
أرجو ألا أكون قد شط بي الحماس وركبت مركبا تجنى على نص جميل...
تحياتي وتقديري لأستاذنا المبدع علي بنساعود.
-----------------القصة: ذات وجـــــــع...-----------------
اليوم، وأنا أفتش ضمن أغراضي، عثرت على "مخطوطة" غير موقعة، مكتوبة بطريقة غير منسقة، بخط كبير غير مضغوط مثل خطي.
واستجابة لفضولي، ورغبة في الخروج من حالة السأم والقنوط التي كنت فيها، سارعت إلى قراءتها، وكانت قصيرة، لا تتجاوز صفحتين، وقد جاء فيها:
"ذات مساء من مساءات آخر سنواتي الجامعية، وأنا عائدة إلى الحي الجامعي، ركبت سيارة أجرة. بعدي، ركب شخصان آخران، نزل الأول في الطريق، استأذنني السائق في أن يوصل الآخر قبلي، فقبلت دون تردد...
سارت السيارة في طريق مقفر، خفق قلبي، وانتابتني المخاوف...
_لماذا تتجه من هذا الطريق؟ سألته...
_لقد أخذتُ إذنك سيدتي، وإن لم تثقي فيَّ، يمكنك النزول! قال مقهقها... وكانت قهقهته أبلغ جواب!
شرعت أبكي وأصرخ، ودون أن يلتفت إلي، قال:
_ كوني عاقلة، وسيمر كل شيء بخير...
ارتعبتُ، تبين لي أنني وقعت بين يدي مجرم. توقفت السيارة، بين الأشجار، في مكان مهجور... شرعت أبكي، أستعطف السائق، أتوسل إليه وإلى الشخص الثاني، لأكتشف، بعد فوات الأوان، أن هذا الأخير شريكه، وأن صمته كان تواطؤا!
... فتح السائق صندوق السيارة، تكلف الثاني بجذبي من داخلها. حاولتُ المقاومة، لكن صفعة منه شلت حركتي... شد ضفيرتي، جذبني خارج السيارة. جثوت أصرخ، دفعني بقدمه، وقعت على قفاي، مزق فستاني، كتم أنفاسي، وغرز خنجره فيَّ..."
هزتني هذه الجريمة، أحسست بالخوف والفزع، تسارعت دقات قلبي، وما همَّني أن تكون أحداثها حقيقية أو خيالية، تعاطفت مع الضحية، ارتعبت لمحنتها، شعرت بمعاناتها، وما كابدته من جراء وقوعها بين مخالب ذئاب بشرية، تألمت لما مورس عليها من عنف، شعرت بما غمرها من رعب وقهر. أحسست أنني أنا من أعيش التجربة، وأتجرع مرارتها... ولعنت قدرا جعلني عاجزة عن مساعدتها، وتخفيف آلامها. بكيت بكاء طفل سمع طفلا آخر يبكي فتعاطف معه...
آلمني الخنجر، أحسست أنني أنا من طعنت به، رأيته ينغرز في أحشائي... وفي غمرة حزني وآلامي، اختلطت علي الأمور، فتساءلت:
_أأنا أقرأ مخطوطة مجهولة النسب أم أتذكر أحداث فيلم تراجيدي بنهاية كارثية مؤلمة؟
لم أعرف الجواب، غير أنني كنت موقنة أنني اندمجت في الجريمة فأثرت فيَّ أحداثها، وما زلت أعاني من جرائها...
»أستفيق... تحيط بي كلاب، تتشممني، قلبي يكاد ينفطر... أغمض عيني، أفتحهما ثانية، أجد الكلاب اختفت كما اختفى الوحشان وتركاني أنزف... كانت ثيابي ملطخة...«
يا إلهي، قلت في سري، أي كتابة هذه التي متى قرأتَها، عثرتَ على نفسك متشظيا بين حروفها، ووجدت تجربتك مقطرة ترشح من ثناياها، حاملة أفكارك ومشاعرك وأحلامك وهلاوسك...
ورغم الألم والإحباط، دأبت على إعادة قراءة المخطوطة، ومع كل قراءة، يترسخ لدي الشعور بأنني بصدد مشاهدة إعادة تمثيل جريمة أنا ضحيتها!
هذه قراءة أخرى ربما تختلف عن القراءات التي قدمت لهذه القصة الجميلة، قراءتي ستنصت للقصة القصيرة وهي تفكر في ذاتها، من خلال الوقوف على الخطاب النقدي الوارد في هذه القصة القصيرة جنبا إلى جنب مع خطابها السردي الإبداعي. ربما يقول قائل وما علاقة هذه القصة القصيرة التي تتحدث عن جريمة بالخطاب النظري النقدي؟
أقول جوابا عن هذا السؤال لا نختلف فنحن أمام قصة قصيرة توفرت فيها معظم مقومات القص القصير... لكن النص الإبداعي المميز لا يقدم نفسه على مستوى واحد، بل هو كيان تراكمي تقدم فيه الدلالة على أكثر من مستوى، تمكن المتلقي من قراءات على محورين:
- أفقي يشكل دلالات واضحة تسمح بها علاماته المتواشجة في شكل أنساق دالة تقدم نفسها انطلاقا من عمليات تأويلية تراعي سياقات النص ومقصدياته.
- عمودي يمكن من الغوص في غور النص بملء بياضاته وكشف المسكوت عنه وإضاءة مناطقه المعتمة دائما يكون المنطلق من العلامات اللغوية والنصية وما تشكله من أنساق دالة تؤول انطلاقا من سياق ومقصدية النص المقصود...
*القصة القصيرة تفكر في ذاتها:
علامات لغوية تدل على نسق المؤلف في النص:
(غير موقعة- غير منسقة- بخط كبير غير مضغوط مثل خطي- مجهولة النسب...)
علامات لغوية تدل على نسق القصة في النص:
(مخطوطة- غير منسقة - مجهولة النسب - بخط كبير غير مضغوط مثل خطي - قصيرة – صفحتين- )
علامات لغوية دالة على نسق المتلقي في النص:
(فضولي- السأم والقنوط- قراءتها- هزتني الجريمة- تعاطفت مع الضحية...)
القراءة التأويلية للأنساق أعلاه:
1- المؤلِّف\ منتج النص:
غير معروف، وجوده ليس ذا أهمية تذكر... عدم توقيعه للنص لم يؤثر على عملية التلقي...
غياب المؤلف أو تغييبه يحيل إلى النظرية النقدية البنيوية التي رأت أهمية النص في شكله باعتباره بناء لغويا مكتفيا بذاته، لا يضيره في شيء أن يكون مجهول النسب. وهذا ما جعل أحد رواد البنيوية الكبار (رولان بارت) يعلن بلا مواربة عن موت المؤلف.
2- المُؤلَّف\ النص:
قصة قصيرة من صفحتين، مخطوطة غير منسقة... في نظريات ما بعد الحداثة انحسرت الأهمية التي أعطتها البنيوية للنص على حساب مكونات الإبداع الأخرى (المؤلف والمتلقي) من خلال شعارها (النص ولا شيء عير النص). نلاحظ أن النص "مخطوطة" "غير منسقة"... النص غير مكتمل فيه بياضات ومناطق مظلمة ومسكوت عنه... قيمته لا تكمن في ذاته بل يحتاج إلى عنصر خارجي ينطلق من "المخطوطة غير المنسجمة" للوصول إلى بناء نص جديد ينطلق من (نص المؤلف) للوصول إلى نص المتلقي...
3- المتلقي\ مستهلك النص:
هو العنصر الأهم مقارنة بالعنصرين السابقين، لأنه هو من يخرج النص من حالة الكمون إلى حالة التحقق. حالته النفسية " السأم والقنوط" تتحكم في تأويله للنص يتماهى مع الشخصية الرئيسة ويعيد "للمخطوطة غير المنسجمة" توازنها عن طريق إضفاء خاصتي الانسجام والاتساق بملء البياضات، وتجسير الفراغات. وإضاءة العتمات. ومن هنا فالدلالة ليست معطى واحدا كامنا في النص، بل يحتاج إلى متلق (عثرتَ على نفسك متشظيا بين حروفها، ووجدت تجربتك مقطرة ترشح من ثناياها، حاملة أفكارك ومشاعرك وأحلامك وهلاوسك...). ومن هنا فدلالات النص تعدد بعدد متلقيه الذي تحكم قراءته وتأويله حالته النفسية والوجدانية. وحتى المتلقي نفسه ستتعدد تأويلاته بتجدد قراءاته للنص. وهنا إحالة إلى نظرية التلقي...
النص الإبداعي الذي يحظى بالأولوية، كما عبر على ذلك هذا النص، هو الذي يجد فيه المتلقي ذاته، وقد يصل ذلك إلى حد التماهي (ومع كل قراءة، يترسخ لدي الشعور بأنني بصدد مشاهدة إعادة تمثيل جريمة أنا ضحيتها!)
هذه محاولته لقراءة قصة قصيرة نالت استحسان قراء الواحة، وكل قارئ له زاوية خاصة أطل منها على النص وتحققت له معها المتعة...
أرجو ألا أكون قد شط بي الحماس وركبت مركبا تجنى على نص جميل...
تحياتي وتقديري لأستاذنا المبدع علي بنساعود.
-----------------القصة: ذات وجـــــــع...-----------------
اليوم، وأنا أفتش ضمن أغراضي، عثرت على "مخطوطة" غير موقعة، مكتوبة بطريقة غير منسقة، بخط كبير غير مضغوط مثل خطي.
واستجابة لفضولي، ورغبة في الخروج من حالة السأم والقنوط التي كنت فيها، سارعت إلى قراءتها، وكانت قصيرة، لا تتجاوز صفحتين، وقد جاء فيها:
"ذات مساء من مساءات آخر سنواتي الجامعية، وأنا عائدة إلى الحي الجامعي، ركبت سيارة أجرة. بعدي، ركب شخصان آخران، نزل الأول في الطريق، استأذنني السائق في أن يوصل الآخر قبلي، فقبلت دون تردد...
سارت السيارة في طريق مقفر، خفق قلبي، وانتابتني المخاوف...
_لماذا تتجه من هذا الطريق؟ سألته...
_لقد أخذتُ إذنك سيدتي، وإن لم تثقي فيَّ، يمكنك النزول! قال مقهقها... وكانت قهقهته أبلغ جواب!
شرعت أبكي وأصرخ، ودون أن يلتفت إلي، قال:
_ كوني عاقلة، وسيمر كل شيء بخير...
ارتعبتُ، تبين لي أنني وقعت بين يدي مجرم. توقفت السيارة، بين الأشجار، في مكان مهجور... شرعت أبكي، أستعطف السائق، أتوسل إليه وإلى الشخص الثاني، لأكتشف، بعد فوات الأوان، أن هذا الأخير شريكه، وأن صمته كان تواطؤا!
... فتح السائق صندوق السيارة، تكلف الثاني بجذبي من داخلها. حاولتُ المقاومة، لكن صفعة منه شلت حركتي... شد ضفيرتي، جذبني خارج السيارة. جثوت أصرخ، دفعني بقدمه، وقعت على قفاي، مزق فستاني، كتم أنفاسي، وغرز خنجره فيَّ..."
هزتني هذه الجريمة، أحسست بالخوف والفزع، تسارعت دقات قلبي، وما همَّني أن تكون أحداثها حقيقية أو خيالية، تعاطفت مع الضحية، ارتعبت لمحنتها، شعرت بمعاناتها، وما كابدته من جراء وقوعها بين مخالب ذئاب بشرية، تألمت لما مورس عليها من عنف، شعرت بما غمرها من رعب وقهر. أحسست أنني أنا من أعيش التجربة، وأتجرع مرارتها... ولعنت قدرا جعلني عاجزة عن مساعدتها، وتخفيف آلامها. بكيت بكاء طفل سمع طفلا آخر يبكي فتعاطف معه...
آلمني الخنجر، أحسست أنني أنا من طعنت به، رأيته ينغرز في أحشائي... وفي غمرة حزني وآلامي، اختلطت علي الأمور، فتساءلت:
_أأنا أقرأ مخطوطة مجهولة النسب أم أتذكر أحداث فيلم تراجيدي بنهاية كارثية مؤلمة؟
لم أعرف الجواب، غير أنني كنت موقنة أنني اندمجت في الجريمة فأثرت فيَّ أحداثها، وما زلت أعاني من جرائها...
»أستفيق... تحيط بي كلاب، تتشممني، قلبي يكاد ينفطر... أغمض عيني، أفتحهما ثانية، أجد الكلاب اختفت كما اختفى الوحشان وتركاني أنزف... كانت ثيابي ملطخة...«
يا إلهي، قلت في سري، أي كتابة هذه التي متى قرأتَها، عثرتَ على نفسك متشظيا بين حروفها، ووجدت تجربتك مقطرة ترشح من ثناياها، حاملة أفكارك ومشاعرك وأحلامك وهلاوسك...
ورغم الألم والإحباط، دأبت على إعادة قراءة المخطوطة، ومع كل قراءة، يترسخ لدي الشعور بأنني بصدد مشاهدة إعادة تمثيل جريمة أنا ضحيتها!