(4)
هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
* محمود الرحبي: الحرب تُشكِّل متابعة شخصية لصيقة
تتعدد العلاقة التأثيرية للحرب بالأدب وتأخذ تجليات عديدة، ومن أهم هذه التجليات التحول أوالانعاطافات التي يمكن أن تحدثها الحرب في الأدب، سواء على المستوى الأنطولوجي أو على مستوى الأنواع، فعلى المستوى الأول يمكن إيراد مجموعة من الأمثلة المباشرة والمضمرة، فمثلا مقولة إدوارد سعيد “لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967” حيث أحدثت الهزيمة في داخله هزة عنيفه، ولكن لحسن حظنا –وحسن حظ العالم- ، وربما هو كذلك نوعا من المقاومة الباسلة أو «الرد بالكتابة»، أن سعيد حولها- أي الهزيمة- إلى وقود ابستمولوجي فعال، حين اندفع مثلا للقراءة ولتعلم اللغة العربية وهو ابن الثقافة الغربية بامتياز، ولم يكتف بذلك إنما اندفع كذلك لتعلم حتى الإيطالية من أجل قراءة جرامشي مباشرة في لغته. وهذا التحول والإصرار ساهم في وجود سعيد جديد ومؤلفات تحولية عظيمة تأثر بها حتى هنود آسيا، ناهيك عن أروقة الجامعات الغربية. وكان من نتيجة ذلك سلسلة من الكتب لم يقطعها سوى الموت، كتب تنتصر للحق الإنساني، كما لخص ذلك ريموند وليامز في عبارة جامعة « إدوارد سعيد هبة الحق في كل مكان».
في جانب مقابل نجد شاعرا مرهفا وهو أحمد المجاطي، ساهمت نفس الهزيمة في ارتكانه إلى الصمت و في انكفائه على ذاته، يلخص ذلك الشعور عبارته الشعرية البليغة» تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة». وعلى مستوى التحول العام للأدب الذي تحدثه الحرب، يكفي أن نستحضر الشعر الجاهلي الذي كان في عمقه نداء إدانة متقطع لهذه الحروب التي مزقت الحياة، وإن تبدى الفخر في كثير من صورها فإن ذلك مرده إلى طبيعة اللحظة ونوع المقاومة الحاصل في وجهها من أجل البقاء، حين لا بقاء إلا للأقوى. وكان بينهم من لخص الحرب في عبارة بليغة تدور معانيها عبر الأزمان، كقول زهير بن أبي سلمى:» وما الحرب إلا ما عرفتم وذقتم، وما هي عنها بالحديث المنجم». لذلك فإن الشعر الجاهلي في عمقه هو نتاج صراع بقاء. كما أن أنفاسه اللافحة هدأت وأخذت مسارات جديدة ما إن تأسست دولة المدينة بدخول الإسلام وإرساء نظم جامعة للحياة.
على مستوى الرواية، فإن الروايات العديدة التي جاءت في هذا السياق أكبر من أن تحصى، عربيا الصراع العربي الإسرائيلي مثلا سواء في فلسطين أم في لبنان أنتج «حديثا منجما» يتمثل في روايات كثيرة، الأمر نفسه في مغرب الوطن العربي، وخاصة مع الرواية الجزائرية حيث نقف على شريحة ضخمة من الروايات ما بعد كولونيالية.
عالميا أتذكر رواية نهر على جسر درينا التي تأثر بها الألباني اسماعيل كادريه في روايته التي حملت عنوان «الجسر» حيث تدور الروايتان حول مفاعيل الوجود التركي في هذه الدول ولكن بطريقة فنية عالية، كما تأثر برواية اندريتش عبدالرحمن منيف في روايته «حين تركنا الجسر»، وهناك الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكي في رائعته «الحرية أو الموت».. والقائمة تطول.
وعلى المستوى الشخصي، فإن الحرب تشكل متابعة شخصية لصيقة، فرغم أنها جغرافيا تكون مموضعة وبعيدة، ولكن المشاعر تقربها وتوحدها، ولا أظن أن أي مثقف عربي، مهما بعدت به المسافات، يمكنه ألا يتفاعل مثلا مع قضية إنسانية عادلة كالقضية الفلسطينية، التي كتب لها أن تعيش حربا طويلة متقطعة، الاستراحة فيها بمثابة ترقب وتوجس. كما أن الحروب المتفرقة في رقعتنا الإنسانية المشتركة، التي لم يكن « تاريخها أنيقا» كما قال محمود درويش في إحدى حواراته، بل هو تاريخ من العنف والوحشية. لذلك فإن الكاتب يتفاعل مع الحروب لحظيا بالمشاهدة والتعليق كما سيتفاعل مع مآلاتها بعد ذلك سواء بالكتابة أو بالقراءة للمنجز المأساوي الذي تفرزه الحروب عادة، كما حدث مثلا مع رواية « فرنكشتاين في بغداد « للكاتب العراقي أحمد سعداوي، التي تصور العبثية الدموية والوجودية التي أفرزتها حرب عنصرية مورست على العراق من قبل القوى الغربية وبدون هوادة أو أي حتى اعتبارات إنسانية دنيا.
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 06/04/2022
هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
* محمود الرحبي: الحرب تُشكِّل متابعة شخصية لصيقة
تتعدد العلاقة التأثيرية للحرب بالأدب وتأخذ تجليات عديدة، ومن أهم هذه التجليات التحول أوالانعاطافات التي يمكن أن تحدثها الحرب في الأدب، سواء على المستوى الأنطولوجي أو على مستوى الأنواع، فعلى المستوى الأول يمكن إيراد مجموعة من الأمثلة المباشرة والمضمرة، فمثلا مقولة إدوارد سعيد “لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967” حيث أحدثت الهزيمة في داخله هزة عنيفه، ولكن لحسن حظنا –وحسن حظ العالم- ، وربما هو كذلك نوعا من المقاومة الباسلة أو «الرد بالكتابة»، أن سعيد حولها- أي الهزيمة- إلى وقود ابستمولوجي فعال، حين اندفع مثلا للقراءة ولتعلم اللغة العربية وهو ابن الثقافة الغربية بامتياز، ولم يكتف بذلك إنما اندفع كذلك لتعلم حتى الإيطالية من أجل قراءة جرامشي مباشرة في لغته. وهذا التحول والإصرار ساهم في وجود سعيد جديد ومؤلفات تحولية عظيمة تأثر بها حتى هنود آسيا، ناهيك عن أروقة الجامعات الغربية. وكان من نتيجة ذلك سلسلة من الكتب لم يقطعها سوى الموت، كتب تنتصر للحق الإنساني، كما لخص ذلك ريموند وليامز في عبارة جامعة « إدوارد سعيد هبة الحق في كل مكان».
في جانب مقابل نجد شاعرا مرهفا وهو أحمد المجاطي، ساهمت نفس الهزيمة في ارتكانه إلى الصمت و في انكفائه على ذاته، يلخص ذلك الشعور عبارته الشعرية البليغة» تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة». وعلى مستوى التحول العام للأدب الذي تحدثه الحرب، يكفي أن نستحضر الشعر الجاهلي الذي كان في عمقه نداء إدانة متقطع لهذه الحروب التي مزقت الحياة، وإن تبدى الفخر في كثير من صورها فإن ذلك مرده إلى طبيعة اللحظة ونوع المقاومة الحاصل في وجهها من أجل البقاء، حين لا بقاء إلا للأقوى. وكان بينهم من لخص الحرب في عبارة بليغة تدور معانيها عبر الأزمان، كقول زهير بن أبي سلمى:» وما الحرب إلا ما عرفتم وذقتم، وما هي عنها بالحديث المنجم». لذلك فإن الشعر الجاهلي في عمقه هو نتاج صراع بقاء. كما أن أنفاسه اللافحة هدأت وأخذت مسارات جديدة ما إن تأسست دولة المدينة بدخول الإسلام وإرساء نظم جامعة للحياة.
على مستوى الرواية، فإن الروايات العديدة التي جاءت في هذا السياق أكبر من أن تحصى، عربيا الصراع العربي الإسرائيلي مثلا سواء في فلسطين أم في لبنان أنتج «حديثا منجما» يتمثل في روايات كثيرة، الأمر نفسه في مغرب الوطن العربي، وخاصة مع الرواية الجزائرية حيث نقف على شريحة ضخمة من الروايات ما بعد كولونيالية.
عالميا أتذكر رواية نهر على جسر درينا التي تأثر بها الألباني اسماعيل كادريه في روايته التي حملت عنوان «الجسر» حيث تدور الروايتان حول مفاعيل الوجود التركي في هذه الدول ولكن بطريقة فنية عالية، كما تأثر برواية اندريتش عبدالرحمن منيف في روايته «حين تركنا الجسر»، وهناك الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكي في رائعته «الحرية أو الموت».. والقائمة تطول.
وعلى المستوى الشخصي، فإن الحرب تشكل متابعة شخصية لصيقة، فرغم أنها جغرافيا تكون مموضعة وبعيدة، ولكن المشاعر تقربها وتوحدها، ولا أظن أن أي مثقف عربي، مهما بعدت به المسافات، يمكنه ألا يتفاعل مثلا مع قضية إنسانية عادلة كالقضية الفلسطينية، التي كتب لها أن تعيش حربا طويلة متقطعة، الاستراحة فيها بمثابة ترقب وتوجس. كما أن الحروب المتفرقة في رقعتنا الإنسانية المشتركة، التي لم يكن « تاريخها أنيقا» كما قال محمود درويش في إحدى حواراته، بل هو تاريخ من العنف والوحشية. لذلك فإن الكاتب يتفاعل مع الحروب لحظيا بالمشاهدة والتعليق كما سيتفاعل مع مآلاتها بعد ذلك سواء بالكتابة أو بالقراءة للمنجز المأساوي الذي تفرزه الحروب عادة، كما حدث مثلا مع رواية « فرنكشتاين في بغداد « للكاتب العراقي أحمد سعداوي، التي تصور العبثية الدموية والوجودية التي أفرزتها حرب عنصرية مورست على العراق من قبل القوى الغربية وبدون هوادة أو أي حتى اعتبارات إنسانية دنيا.
الكاتب : إعداد: سعيد منتسب
بتاريخ : 06/04/2022
وقت مستقطع من الحرب (4) - AL ITIHAD
هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف
alittihad.info