الطبيعة بدون الإنسان
عالمُ الأحياء، قبل ظهور الإنسانِ على وجه الأرض، عرف تطوُّراتٍ مكَّنته من بلوغ مستوى مهم من النمو و التَّنوُّع. وحتى العالمُ المادي، أي غير الحي، مرَّ، هو الآخر، من تحوُّلاتٍ ضخمة (تراجع البحر، غزوه للأراضي البرية، العصور الجليدية، الكوارث، الاحترار، تَزَحزُح القارات، سوء أحوال الطقس، تكوين الجبال والتَّضاريس، النشاط البركاني…) تكيَّفت أو لم تتكيَّف معها الكائنات الحية.
كل ما كان ضروريا لاستمرار الحياة كان موجوداً (التَّمثيل الضوئي photosynthèse، تنفُّس، اختمار، تناسُل/تكاثُر، دورة الماء، دورات المادة، تفاعلات كيميائية، احتراق، تفكُّك، تركيب، طاقة، علاقات غذائية، طفرات…). الطبيعة لم تنتظر الإنسانَ لتتطوَّر، لتتحوَّل، لتُعبِّرَ عن وجودِها، لتتجدَّد… والدليلُ على ذلك، كثيرةٌ و متنوِّعة هي الأنواع الحية التي تعاقبت على وجه الأرض منذ ملايين السنين. منها أنواع انقرضت، كما يوضِّح ذلك علمُ الحفريات paléontologie، ومنها أنواع جديدة ظهرت.
الطبيعة، بدون الإنسان، كان لها ما يكفي من القُدرة لتجاوز كل التَّقلُّبات و التَّحوُّلات التي، كان من الممكن أن تؤدّْيَ إلى اختفاء الحياة. غير أن الحياةَ لا تزال قائمةً. هل هذا سِرٌّ من أسرار الطبيعة أم هناك تفسير يفرضه المنطقُ؟
التَّفسيرُ المنطقي بيَّنَه أو وضَّحه الِعِلمُ، وبصفة خاصة، بيَّنه عِلمُ البيئة écologie. ما بيَّته هذا الأخيرُ هو أن الطبيعةَ، كما سبق أن أشرتُ لذلك في مقالةٍ سابقة، قادرة على تنظيم نفسِها بنفسِها من خلال خاصِّية التَّنظيم الذاتي autorégulation للحِفاظ على توازُنِها. وبعبارة أخرى، الطبيعةُ قادرةٌ على امتصاصِ الاختلالات ذات المصدر الطبيعي لتُعيدَ هذا التَّوازن. فإذا تمكَّنت الطبيعةُ من الحِفاظ على التَّوازن لتستمرَّ الحياةُ، فهذا معناه أن التَّنظيمَ الذاتي، رغم ما حدث من تقلُّبات خلال الفترات التي سبقت ظهورَ الإنسان على سطح الأرض، اشتغل بكيفية جيِّدة.
ظهورُ الإنسان في الطبيعة
مجيء الإنسان فوق الأرض يُعتبَرُ، في الحقيقة، إدخالٌ لنوعٍ حي جديد في الطبيعة introduction d'une nouvelle espèce vivante dans la nature نوعٌ حي يختلف عن الكائنات الحية الأخرى بقدرته على التَّفكير والصُّنعِ والاختراع والإنشاء و التَّحويل… بفضل هذه القدرة، يتعلَّق الأمرُ، من أول وهلةٍ، بنوع حي الذي، من أجل سدِّ مختلف حاجياتِه، يستطيع أن يُصمِّمَ الأعمال ويُنفِّذها داخلَ الوسط الذي يعيش فيه. مع مرور الوقت، تفاقمت هذه الحاجيات من جراء النمو الديمغرافي وتشكيل المجتمعات، الشيء الذي كان ولا يزال سببا في ممارسة ضغطٍ كبير على ألموارد الطبيعية، المادية منها والحية.
غير أن ما تجب الإشارةُ إليه هو أن الإنسانَ، عندما يمارس ضغطاً على الطبيعة، فإنه لا يمارس هذا الضغطَ فقط لسدِّ حاجياته البيولوجية والاجتماعية. بل يمكن للآنسانِ أن يتعاملَ مع الطبيعة مدفوعا بالإغراء، بأهوائه، بشغفه، برغباته، بتعطُّشه للمعرفة، للسيطرة، للامتلاك… أو بحثا عن المجد والهيمنة والسلطة والتَّقدير والسمعة…
و كيفنا كان الحال، سواءً تعلَّق الأمرُ بسدِّ الحاجات أو بالإغراء…، كل الأعمال التي يقوم بها الإنسانُ داخلَ الطبيعة، لها وقعٌ إيجابي أو سلبي على عالم الأحياء بما في ذلك الإنسان والعالم المادي. هذه المجموعات الثلاثة (عالم الأحياء، الإنسان بثقافتِه واقتصاده وتكنولوجياتِه وحضارتِه وتربيتِه… والعالم المادي) تشكِّل ما يُسمى اليوم البيئة environnement. هذه الأخيرة، منذ حلول ما سُمِّيَ بالثورة الصناعية على الخصوص، كانت عُرضةً لاختلالات ضخمة من مصدر بشري.
لكن، رغم هذه الاختلالات، لا تزال الحياةُ قائمةً إلى يومنا هذا. فإذا استطاعت الطبيعةُ الحِفاظَ على توازنِها لضمان استمرار الحياة مستفيدةً من ظاهرة التَّنظيم الذاتي، فإن البيئةَ، من جراء تدخُّلات الإنسان اللامحدودة، أصبح توازنها مختلا، وفي غالب الأحيان، بكيفيةٍ لا رِجعةَ فيها. وهذا معناه أن التَّنظيم الذاتي لم يعُد يشتغل بكيفيةٍ طبيعة. بكل بساطةٍ، حينما حلَّ الإنسانُ بالطبيعة، أدخلَ فيها اختلالات كانت ولا تزال سببا في تصدُّعِ التَّنظيم الذاتي.
الإنسانُ اعتدى ويعتدي على التَّنظيم الذاتي
التَّنظيم الذاتي، كما سبق الذكرُ، هو قدرة منظومةٍ ما على تنظيم نفسِها بنفسِها للحِفاظ على توازنِها الذي يمكِّنها من الاشتغال على الدوام. وبعبارة أخرى، هذا التَّوازنُ يضمن استمرارَ المنظومة وتجدُّدَها بفضل الظواهر الطبيعية المتمثلة في الإنتاج والاستهلاك والتكاثُر والتَّفكُّك والتَّدوير recyclage، التي هي مرتبطةٌ فيما بينها، أو بعبارة أخرى، بفضل تعاقب الحياة والموت. وهذا يعني أن المنظومة الذاتيةَ التَّنظيم تشتغل وكأنها وحدةٌ مُكوِّناتُها مرتبطةٌ فيما بينها.
عندما يتعلَّق الأمرُ بالطبيعةِ بدون إنسانٍ، كل الأنشطة الهادفة إلى التَّنظيم الذاتي تسير من أجل تحقيق وحدة الطبيعة. وحتى إن حدثت أختلالاتٌ طبيعية من شأنها زعزعةُ توازن الطبيعة، فإنه يتمُّ امتصاصُها، في نهاية المطاف، من خلال الأنشطة السالفة الذكر.
والإنسانُ نفسُه، عوض أن يتماثلَ مع الطبيعة s'identifier à la nature، أن يُقلِّدَها، اخترع مفهومَ "البيئة" الذي يتصوَّرُه كنِتاجٍ لتساكن ما هو طبيعي و ما هو مُحدَثٌ من طرفِه (ثقافة، اعتقادات، رؤيات، تصوُّرات، تمثُّلات، تقدم، نمو، اقتصاد، تنمية، اختراعات، تكنولوجيات، صناعات، بنيات تحتية، سكنٌ، مستوطنات بشرية…). تساكنٌ أعطى الإنسانُ لنفسِه فيه مكاناً مُمَيَّزاً بالنسبة لمكوِّنات الطبيعة الأخرى.
إن الآنسانَ، في الحقيقة، أحدثَ وتخيَّل وصنَعَ، على نِطاقٍ واسعٍ، سيروراتٍ processus و وسائلَ وأساليبَ ومّنتجاتٍ وأعمالاً وممارساتٍ وأنشطةً… لا يتلاءم أغلبُها مع الاشتغال الطبيعي للمنظومات الطبيعية، وبالتالي، لا تسمح بالتساكن المتناغم لما هو طبيعي و مختلف إنتاجاتِه الفكرية والمادية.
بكل بساطةٍ، الآنسانُ اعتدى ويعتدي على التَّنظيم الذاتي للطبيعة، الذي، بدون وجود هذا الإنسان على سطح الأرض، أحدثَ، بطريقة أو أخرى، تناسُقاً وتناغُماً بين عالم الأحياء والعالم المادي.
الإنسان يحصد ما زرع ويزرع
منذ عدة عقود، نأى الآنسان بنفسِه عن الطبيعة فكريا وعملياً، وبالأخص، عندما اخترع مفهومَ البيئة. هذه الأخيرة يتصورها الإنسانُ، على المستوى الفكري، كعنصرٍ يوجد خارج نِطاقِ عيشه، وفي أحسن الأحوال، كمجموعة الأشياء (حية أو غير حية) التي تّحيطُ به. وكيفما كان الحالُ، الإنسانُ يعتبر نفسَه كعنصرٍ مركزي في تصوُّره الفكري للبيئة. إنها رؤيةٌ أو نظرةٌ تضع الإنسانَ كعنصر مميَّز في الطبيعة/البيئة أو كعنصر مركزي في الطبيعة/البيئة. إنها نظرة تتمركز أو مُمَركََزةٌ حول الآنسان anthropocentrique، إن لم نقل أنانية لها وقع ضخمٌ على هذا الآنسان وعلى سلوكِه وتصرُّفه داخل البيئة. في الحقيقة، الإنسانُ ذهب ضحيةَ نمطه الفكري الذي، بكل تأكيد، يُملي عليه كيفيةَ تصرُّفه داخلَ البيئة. يبدو أن الإنسانَ، بإصرارِه على التَّموقع في هذه النظرة، نسيَ أو تناسى أن الطبيعةَ كانت تشتغل جيدا حين كان غير موجودٍ على سطح الأرض. إنه من المفاجئ اليوم أن هذا الإنسانَ الذي راكَمَ تراثاً هائلا وغير مسبوق من المعارف حول عالم الأحياء والعالم المادي، لم يستطِع أن يُصالحَ بين اختراعاتِه وإنتاجاتِه الفكرية والمادية وبين ظاهرة التَّنظيم الذاتي الذي، بالأحرى، هو ضروري لاستمرار بقاله.
عن ماذا يبحث الإنسانُ علما أنه يعرف، عن جدارةٍ و وعيٍ، أن نمطَ تفكيرِه وعملِه، داخلَ البيئة، أسلِحة ذات حدَّين؟ هل هو سائرٌ نحو التَّضحية ببقائه الذاتي sa propre survie جرياً بدون تبصُّرٍ وراء التنمية، وراء النمو الاقتصادي و وراء التقدم، الأشياء التي تُلحِق أضراراً بالمنظومات الطبيعية؟
ما يمكن قولُه هو أن الإنسانَ، بصفته كائن يفكِّر وينشطُ، لا يحصد إلا ما زرَعَ.
الممارسات البيئية البشرية، أسلحة ذات حدَّين
من الواضح أن الممارسةَ لا تنشأ من فراغ. وراء هذه الممارسة، يوجد الفكرُ، أو بعبارة أخرى، الممارسة يُفرِزها الفكر علما أن تلك التي يقوم بها الإنسانُ تسيء للبيئة وتأخذ بعين الاعتبار فقط مصلَحَتَه الشخصية.
من الأكيد أن هذه الممارسات لها انعكاسات إيجابية التي لا يمكن نُكرانُها ونُكرانُها يُعدُّ نفاق.
لكن، يجب الاعترافُ أن الأنشطة التي تدور داخلَ البيئة، كلما كانت مفيدةً للبشرية، فإنها تسيء ليس فقط لهذه الأخيرة، لكن كذلك لعالم الأحياء في شموليتِه. والأمثلة التي تبيِّن هذه الازدواجية كثيرة. وهذه بعض الأمثلة.
التَّبريد والبخاخات Réfrigération et aérosols
لا يخفى على أحد أهميةُ هذين العنصرين في الحياة اليومية والعملية للناس. إنهما يُستعملان في الصناعات الغذائية للحِفاظ على جودة الأغذية، وتخزينها ونقلها. يُستعملان كذلك في البيوت، في الطب، في البحث، في التَّجميل… لكن، من أجل القيام بالتَّبريد وصُنع البخاخات، لجأ الإنسانُ إلى استعمال نوع من الغازات المعروفة ب chlorofluorocarbones والمًشار إليها عادةً بأحرف CFC. هذه الغازات، عندما تنتشر في الجو، فإنها تسيء للطبقة العليا من هذا الجو التي تحتوي على جزء كبير من حجم الأوزون ozone O3. الأوزون يُشكِّل طبقةً واقيةً تمتصُّ الأشعة الفوقبنفسجية ultraviolets التي هي مُضِرَّة للحياة البرية بصفة عامة ولصحة الآنسان بصفة خاصة. فعندما تصل غازات CFC إلى الطبقة العليا من الجو، فإنها تُفكِّك الأوزون متسبِّبةً، في نفس الوقت، في تراجع حجمه. ويزداد الوضعُ تأزُّما عندما تكون سرعةُ تفكُّك الأوزون أكبر من إيقاع تجديده. وهو الشيء الذي يؤدي إلى عجزٍ في حجم الأوزون، وبالتالي، إلى حدوث ما يسمى "ثُقبً طبقة الأوزون "trou de la couche d’ozone".
الصناعة الكيميائية Chimie industrielle
الصناعة الكيميائية نشاطٌ بشري عرف ويعرف نموا لامحدودا نظرا لتنوُّعِه واستعمالاته وجوانبه الإيجابية وانعكاساته الواضحة على الاقتصاد. حسب ما تنشره المؤسسات الدولية المهتمة بالبيئة، صَنَعَ الإنسانُ ما يزيد عن 60000 مادة كيميائية جلُّها لا يتلاءم مع اشتغال المنظومات البيئية الطبيعية. و هذه المواد توجد في جميع الأوساط وحتى في تلك التي لا يتردَّد عليها، عادةً، الكائن البشري. وأول خطر مترتِّبٍ عن هذا الوجود هو أنها لا تُمتصُّ من طرف الأنظمة الطبيعة لتَّدوير المادة، وبالتالي، فإنها تستقر في الطبيعة طيلةَ عدة عقود. الخطر الثاني هو أن البعضَ منها يحتوي على معادن ثقيلة métaux lourds التي قد تُلوِّث الماءَ والتغذية والهواءَ والتُّربة…، وبالتالي، تُشكِّل تهديدا للحياة البشرية، الحيوانية والنباتية (تشوُّهات، سرطانات، اختلالات حركية، أضرار جلدية، أضرار الإنجاب، عجز كَلَوي، قُرحات، التهابات، فقر الدم… )
الإطعامُ السريع Restauration rapide
يتعلَّق الأمرُ بإطعامٍ يًنتِج أو يُصنِّع وجبات غذائية بكثرة وبسرعة. يقوم بهذا الآطعام، في غالب الأحيان، شركات متعدِّدة الجنسيات multinationales التي احتلَّت جميع مناطق العالم والتي تجذب زبناءَ يزداد عددًهم يوما بعد يوم. دون الحديث عن جودة الوجبات، الإطعامُ السريع يستجيبُ لحاجات شريحة عريضة من الناس الذين يرغبون في الأكل بسرعة لربح الوقت. اليوم، الاكلُ بسرعة أصبح مكوِّنا من مكوِّنات الحياة اليومية. إنه، بكل بساطة، ضغطٌ stress يُضاف لضغوط العمل. إنه كذلك ضريبةٌ يُؤديها الناسُ مقابل الحداثة مع ما له من انعكاسات على الصحة قد تؤدي إلى السُّمنة.
غير أن هذه الأضرار النفسية ليست وحيدة. الإطعامُ السريع يسيء كذلك للبيئة. بالفعل، الإطعام السريع يعتمد، بالخصوص، على لحم البقر ويلزمه كمياتٌ كبيرة وضخمة من هذا اللحم للاستجابة لطلبات الزبناء. من أجل توفير هذه الكميات الهائلة من اللحم، يجب ممارسةُ تربية الأبقار على نِطاقٍ واسع، الشيء الذي يترتَّب عنه أضرار بيئية ضخمة : الرعي المفرِط surpâturage واجتتاث الغابات déforestation الذي يتمثَّل في قطع الأشجار وتعويضها بمراعي، استعمال مفرطٌ للأسمدة الكيميائية، تخريب الأوساط،…يُضافً إلى هذه الأضرار الكٍمِّيأت الهائلة من الفضلات التي يُفرزها الإطعامُ السريع (ورق، بلاستيك، أوعية المشروبات من الاليمنيوم) دون الإشارة لتبذير الأطعمة الذي ينتهي في سلَّة المهملات. ومن جهة أخرى، إن تربيةَ الأبقار يخلِّف غازَ الميثان méthane الذي يساهم في تفاقم الاحتباس الحراري.
النقل بجميع أشكاله
يلعب النقل بأشكاله المختلفة (برا، بحرا، جوا) دورا حاسما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للإنسان (تنقُّل الاشخاص، تجارة، سياحة، السلسلة اللوجستية، شراء، إنتاج، توزيع…). بالإضافة إلى تسهيل تنقُّل الأشخاص والبضائع، يمكِّن النقلُ من اختلاط أو امتزاج السكان والثقافات فضلا عن كونه محرِّكا قويا للتنمية. يُسهِّل كذلك التَّحضُّر urbanisation ويفك العُزلةَ عن العالم القروي. باستثناء بعض أشكال النقل التي تعتمد على الكهرباء. على الطاقة الشمسية و على المحروقات الحيوية biocarburants، إن الحظِيرة العالمية لوسائل النقل تعتمد على تحويل النفط (محروق أُحفوري) إلى بنزين essence ومازوت gasoil وفيول fioul وكيروزين kérosène…
من غير المشكوك فيه أن النفطَ، من خلال استعمالاته المتنوِّعة من طرف الإنسان، أتاح لهذا الأخير تنميةً اقتصادية واجتماعية مبهِرة منذ أن تمَّ حفرُ أول بئرٍ بولاية بنسيلفانيا pennsylvanie سنة 1859. اليوم، النفط (مع الفحم)، كمصدر للطاقة، منتشر في جميع أنحاء العالم. كل الدول مرتبطةٌ به كمُحرِّكٍ للاقتصاد وكذلك كمصدر أساسي للكهرباء وكمصدر لتسخين البيوت ومكننة الفلاحة... باختصار، النفط مُحفِّز قوي واستراتيجي للاقتصاد والنمو. البلدان التي لا تتوفَّر عليه تُنفِق جزأً مهما من ميزانيتها للحصول عليه. يمكن القول بأن النفطَ (عندما تكون أسعارُه مرتفعة) من الممكن أن يُساهمَ في الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلد الذي ينتِجه في حالة استعمال موارده المالية لتحسين مستوى عيش المواطنين.
لكن النقلَ، رغم ما جلبه ويجلبه من منافع للإنسان وبحكم استعماله على نِطاق واسع، يُعدُّ واحد من أقوى العوامل التي أدخلت وتُدخِل اختلالات ضخمة على البيئة. تتجلَّى هذه الاختلالات، على الخصوص، في إطلاق الغازات السامة التي تُلوِّثُ الجوَّ وفي تدفُّق النفط في البحار والمحيطات، (غرق حاملات النفط وغَسلُها في أعالي البحار).
وعلى ذكرِ غرق حاملات النفط، من المهم التَّذكيرُ بكارثتي حاملاتي النفط الضخمة، الأموكوكاديس Amoco Cadiz والطُّري كانيون Torrey Canyon (بالإضافة إلى كوارث أخرى) اللتان خلفت خسائر فادحة بيئياً، اجتماعياً واقتصادياً.
ومن جهة أخرى، إذا كان للدول حدودٌ، فالجو يًغطِّي كل القارات. فكل اختلال يطال توازنَ هذا الجوَّ قد يخترق هذه الحدودَ متسبِّبا في وقوع أضرار صحية، اجتماعية واقتصادية. وخير مثال يمكن سياقُه في هذا الصدد يتعلَّق بغاز ثاني أكسيد الكاربون CO2.
من المعروف أن نسبةَ هذا الغاز في الجو تتراوح بين 380 و 480 جزء في المليون Parties Par Million ou ppm. غير أن هذه النسبة يمكن أن تزدادَ، خصوصا، في المناطق الصناعية وفي المناطق التي تكثر فيها وسائلُ النقل بمختلف أشكالها وأحجامها. ولا داعيَ للقول، حاليا، أن ازديادُ نسبة ثاني أكسيد الكاربون في الجو واقعُ بيَّنته الدراساتُ والأبحاثُ. فخلال العشرية الأولى من الألفية الثانية، قُدِّرت هذه الزيادةُ ب10%. فبدون اتخاذ الاحتياطات اللازمة، وبالأخص، بدون إرادة دولية، قد يصل ازديادُ نسبة ثاني أكسيد الكاربون في الجو إلى 25%. وما قد يزيد في الطين بلَّةً هو التَّراجعُ الذي تعرفه الغابات الاستوائية التي، عادةً، تمتصُّ طبيعيا ثاني أكسيد الكاربون الموجود في الجو. فإذا استمرَّت هذه الزيادة وإذا استمرَّ تراجع الغابات الاستوائية، فإن ثاني أكسيد الكاربون يتراكم في الجو مُشكِّلاً دِرعا يحول دون تشَتُّتِ الحرارة المُنبعثة من سطح الأرض. حينها، يحدثُ ما يُسمَّى بالاحتباس الحراري effet de serre. بمعنى أن الحرارة المنبعثة من سطح الأرض تبقى سجينةَ الجو، وبالتالي، تتسبَّبُ في ارتفاع معدَّل حرارة الأرض، وهو الشيء الذي له عواقب وخيمة على الطبيعة وعلى البيئة البشرية. من بين هذه العواقب، أذكرُعلى سبيل المثال، ذوبان الجليديات القُطبية، الشيء الذي قد يؤدي إلى غَمرِ مساحات شاطئية كبيرة.
إلى أين يسيرُ الإنسانُ؟
الملاحظ أن فكرَ وتصرُّفَ الإنسان داخل البيئة/الطبيعة، رغم ما لهما، بدون منازع، من انعكاسات إيجابية من حيث تقدُّم البشرية، تسيء للدعامة الأساسية للحياة أو لقِوام هذه الحياة المتمثلة في المنظومات البيئية الطبيعية. وبعبارة أخرى، إن العِلمَ والتَّكنولوجيا اللذان يتفاخر بهما الإنسانُ واللذان يستجيبان لطموحاته التَّنموية ولسعيه للتَّقدُّم والازدهار والرفاه والنمو وتراكم الثروات…، ينقلبان، بكيفية أو أخرى، على هذا الإنسان علماً أنه يعرف، عن وعيٍ، أن نمط تفكيرِه وعملِه يُسيئان لقِوأم الحياة ولوجوده هو نفسه!
إذا كان الإنسانُ يبحث عن النمو، لقد قيلَ في عدة مناسبات، رسميا وبشكل غير رسمي (منظمات دولية، منظمات غير حكومية، علماء، منظمات بيئية، مجتمع مدني، هيئات مناضلة…)، أن الأنماطَ الحالية للتنمية والنمو هي أسوأ أعداء المنظومات البيئية الطبيعية. تُفرِز هذه الأنماط استهلاكاً فاحشاً الذي، بدوره، يُفرِز تبذير هائلا للموارد إذ، من أجل دفعِ النمو، يجب كذلك الرفعُ من مستوى استغلال الموارد الطبيعية الذي، بدوره، يُؤدي إلى استغلال مفرطٍ لهذه الموارد، الكل يًكلَّل بعجز بيئي déficit environnemental الذي يقتل ظاهرةَ التَّنظيم الذاتي autorégulation. وعندما تضعف هذه الظاهرة، فهذا معناه إِنهَاكٌ لأساس الحياة (إِنهَاكٌ أحيانا لا رجعةَ فيه irréversible). النتيجة الحتمية، إن عاجلا أو آجلا، تتمثَّلُ في تراجع التَّنوُّع البيولوجي biodiversité، إضعاف المنظومات البيئية الطبيعية، الاحترار المناخي، التَّصحُّر، التلوث بجميع أشكاله…
إذا كان الإنسانُ يبحث عن التنمية، لقد فطِنَ هذا الإنسانُ، منذ السبعينيات ومع صدور تقرير نادي روما rapport du Club de Rome، أن النموذج الذي تبناه من أجل تحقيق هذه التنمية، مُعَادٍ للبيئة ولمكوِّناتها الطبيعية وللإنسان نفسه. خلال الثمانينيات ومع صدور تقرير Brundtland تحت عنوان "مستقبلنا المشترك" Notre avenir à tous، أراد الإنسانُ تبني مفهوما جديدا للتنمية تحت مُسمَّى "التنمية المستدامة" développement durable الذي هو، مبدئياً، مبني على احترام البيئة لضمان استدامة مواردها للأجيال الحاضرة والمقبلة. بعد Brundtland، تواصلت قِممُ الأرض sommets de la terre ومؤتمرات المناخ COPs حيث كانت فكرةُ "التنمية المستدامة" حاضرة بقوة. ومع ذلك، لا تزال المشكلات البيئية قائمةً وعلى رأسِها الاحترار المناخي الذي هو تهديد جِدِّي لاستمرار الحياة على وجه الأرض.
إذا كان الإنسانُ يبحث عن التَّقدُّم والرفاه وخلق الثروة…، عليه أن يَعِيَ أن البيئةَ البشريةَ تُعاني من مشكلات أخرى كالتَّخلُّفَ والفقرَ والهشاشة والإقصاء والأمية وتهديد المجاعة… التي لا تزال قائمةً إلى يومنا هذا.
ماذا يجب استخلاصُه من ما سبق؟
ما يمكن استخلاصُه هو أن الإنسانَ، إلى حد الآن، لم ينجح في إيجاد تساكن متناغم بين ما هو طبيعي وبين ما أحدثه من منشآت. وبعبارة أخرى، لم ينجح في إيجاد تساكن متناغم بين البيئة الطبيعية وبين البيئة البشرية التي أنشأها، مع مرور الوقت، داخل الطبيعة. وهاتان البيئتان غالبا ما تشتغلان حسب سياقات متضادة. الأولى (البيئة الطبيعية)، بفضل ظاهرة التَّنظيم الذاتي، تضمن استمرارَ الحياة بينما الثانية، بلجوئها إلى أساليب غالبا ما تكون متنافية مع كل ما هو طبيعي، تُدخِل اختلالات على التَّنظيم الذاتي، وبالتالي، تُهدِّد استمرارَ الحياة، وأحيانا، تتسبَّب في انقراضِها بدون رِجعة.
وباختصار، لا يزال الإنسانُ يتصرَّف في البيئة وكأن عطاءَها غير محدود. وبعبارة أخرى، وكأن مواردًها وَفِيرة، لا تنفذ، و كأن تجدُّدَها مضمون لا محالة. الأمر الواقع هو أن الموارد التي تتجدَّد طبيعيا قد تفقد قدرةَ التَّجدُّدِ إذا اعتدى الإنسانُ على هذه القدرة.
أكثر من أي وقتٍ مضى، من الضروري ومن الواجب أن يُعِيدَ الأنسانُ النظر في علاقاته مع الطبيعة. إلى حدِّ الآن، إن هذه العلاقات كارثية إذ تُلحِق أضرارا ليس فقط بالطبيعة، لكن كذلك تشكِّل تهديدات لوجوده.
ما هي منفعة الأنسان من تبنِّيه فكرةَ "التنمية المستدامة" وتفكيرُه البيئي لا يزال متمركزاً حوله هو وحده وحول سدِّ حاجياته هو وحده. تفكير يجعل من وجوده مركزَ العالم ويندرج في التيار الفكري المسمى anthropocentrisme. ومن جهة أخرى وفي العديد من الحالات، فإن فكرةَ "التنمية المستدامة" بقيت شعارا تستغلُّه السياسة لتحقيق أهدافٍ حزبية ضيقة.
في الواقع، هناك تفاوتُ كبير بين فكرة "التنمية المستدامة" وما يُمارسه الإنسانُ من أعمالٍ داخل البيئة. ورغم المحاولات المحمودة التي يقوم بها الإنسانُ هنا وهناك، النظرة المُتمركزة، فكريا، حول هذا الإنسان anthropocentrique لا تزال قائمةً.
اليوم، تُلصَق صفة "مستدام" لكل الأشياء إلى درجة أن استعمالَها أصبح "موضَةً" عوض أن يكونَ تعبيراً عن تغييرٍ في نمط التَّفكير أو في النظرة/الرؤية…
"الاستدامة"، كمفهومٍ، يتطلَّب تكريسُها على أرض الواقع مُنعرجاً (تغييراً) ب180 درجة في نمط التفكير البيئي الذي، بواسطته، يتعامل الإنسان مع البيئة بشقيها الطبيعي والمُحدث من طرف هذا الأنسان. فحدوثُ هذا المنعرج هو الذي سيُمكِّن هذا الأخير من إيجاد حلول بديلة للأزمة التي تتخبَّطان فيها البيئة والتنمية. الأزمة التي اختلقها من جراء أنانيته المُفرطة.
بإمكان الإنسان أن يستمرَّ في سدِّ حاجياته آخِذاً بعين الاعتبار ضرورةَ الحِفاظ على أساس الحياة. من أجل هذا الحِفاظ، عليه أن يُعمِّقَ معرفتَه للطبيعة علما أنه، مهما تعاظمت وتراكمت هذه المعرفة، فإنها تبقى محدودةً أمام شساعة وتعقيد التَّداخُلات والتَّرابُطات والعلاقات البينية القائمة بين مكوِّنات عالم الأحياء بما فيها الأنسان نفسُه وبين مكونات البيئة المادية.
عالمُ الأحياء، قبل ظهور الإنسانِ على وجه الأرض، عرف تطوُّراتٍ مكَّنته من بلوغ مستوى مهم من النمو و التَّنوُّع. وحتى العالمُ المادي، أي غير الحي، مرَّ، هو الآخر، من تحوُّلاتٍ ضخمة (تراجع البحر، غزوه للأراضي البرية، العصور الجليدية، الكوارث، الاحترار، تَزَحزُح القارات، سوء أحوال الطقس، تكوين الجبال والتَّضاريس، النشاط البركاني…) تكيَّفت أو لم تتكيَّف معها الكائنات الحية.
كل ما كان ضروريا لاستمرار الحياة كان موجوداً (التَّمثيل الضوئي photosynthèse، تنفُّس، اختمار، تناسُل/تكاثُر، دورة الماء، دورات المادة، تفاعلات كيميائية، احتراق، تفكُّك، تركيب، طاقة، علاقات غذائية، طفرات…). الطبيعة لم تنتظر الإنسانَ لتتطوَّر، لتتحوَّل، لتُعبِّرَ عن وجودِها، لتتجدَّد… والدليلُ على ذلك، كثيرةٌ و متنوِّعة هي الأنواع الحية التي تعاقبت على وجه الأرض منذ ملايين السنين. منها أنواع انقرضت، كما يوضِّح ذلك علمُ الحفريات paléontologie، ومنها أنواع جديدة ظهرت.
الطبيعة، بدون الإنسان، كان لها ما يكفي من القُدرة لتجاوز كل التَّقلُّبات و التَّحوُّلات التي، كان من الممكن أن تؤدّْيَ إلى اختفاء الحياة. غير أن الحياةَ لا تزال قائمةً. هل هذا سِرٌّ من أسرار الطبيعة أم هناك تفسير يفرضه المنطقُ؟
التَّفسيرُ المنطقي بيَّنَه أو وضَّحه الِعِلمُ، وبصفة خاصة، بيَّنه عِلمُ البيئة écologie. ما بيَّته هذا الأخيرُ هو أن الطبيعةَ، كما سبق أن أشرتُ لذلك في مقالةٍ سابقة، قادرة على تنظيم نفسِها بنفسِها من خلال خاصِّية التَّنظيم الذاتي autorégulation للحِفاظ على توازُنِها. وبعبارة أخرى، الطبيعةُ قادرةٌ على امتصاصِ الاختلالات ذات المصدر الطبيعي لتُعيدَ هذا التَّوازن. فإذا تمكَّنت الطبيعةُ من الحِفاظ على التَّوازن لتستمرَّ الحياةُ، فهذا معناه أن التَّنظيمَ الذاتي، رغم ما حدث من تقلُّبات خلال الفترات التي سبقت ظهورَ الإنسان على سطح الأرض، اشتغل بكيفية جيِّدة.
ظهورُ الإنسان في الطبيعة
مجيء الإنسان فوق الأرض يُعتبَرُ، في الحقيقة، إدخالٌ لنوعٍ حي جديد في الطبيعة introduction d'une nouvelle espèce vivante dans la nature نوعٌ حي يختلف عن الكائنات الحية الأخرى بقدرته على التَّفكير والصُّنعِ والاختراع والإنشاء و التَّحويل… بفضل هذه القدرة، يتعلَّق الأمرُ، من أول وهلةٍ، بنوع حي الذي، من أجل سدِّ مختلف حاجياتِه، يستطيع أن يُصمِّمَ الأعمال ويُنفِّذها داخلَ الوسط الذي يعيش فيه. مع مرور الوقت، تفاقمت هذه الحاجيات من جراء النمو الديمغرافي وتشكيل المجتمعات، الشيء الذي كان ولا يزال سببا في ممارسة ضغطٍ كبير على ألموارد الطبيعية، المادية منها والحية.
غير أن ما تجب الإشارةُ إليه هو أن الإنسانَ، عندما يمارس ضغطاً على الطبيعة، فإنه لا يمارس هذا الضغطَ فقط لسدِّ حاجياته البيولوجية والاجتماعية. بل يمكن للآنسانِ أن يتعاملَ مع الطبيعة مدفوعا بالإغراء، بأهوائه، بشغفه، برغباته، بتعطُّشه للمعرفة، للسيطرة، للامتلاك… أو بحثا عن المجد والهيمنة والسلطة والتَّقدير والسمعة…
و كيفنا كان الحال، سواءً تعلَّق الأمرُ بسدِّ الحاجات أو بالإغراء…، كل الأعمال التي يقوم بها الإنسانُ داخلَ الطبيعة، لها وقعٌ إيجابي أو سلبي على عالم الأحياء بما في ذلك الإنسان والعالم المادي. هذه المجموعات الثلاثة (عالم الأحياء، الإنسان بثقافتِه واقتصاده وتكنولوجياتِه وحضارتِه وتربيتِه… والعالم المادي) تشكِّل ما يُسمى اليوم البيئة environnement. هذه الأخيرة، منذ حلول ما سُمِّيَ بالثورة الصناعية على الخصوص، كانت عُرضةً لاختلالات ضخمة من مصدر بشري.
لكن، رغم هذه الاختلالات، لا تزال الحياةُ قائمةً إلى يومنا هذا. فإذا استطاعت الطبيعةُ الحِفاظَ على توازنِها لضمان استمرار الحياة مستفيدةً من ظاهرة التَّنظيم الذاتي، فإن البيئةَ، من جراء تدخُّلات الإنسان اللامحدودة، أصبح توازنها مختلا، وفي غالب الأحيان، بكيفيةٍ لا رِجعةَ فيها. وهذا معناه أن التَّنظيم الذاتي لم يعُد يشتغل بكيفيةٍ طبيعة. بكل بساطةٍ، حينما حلَّ الإنسانُ بالطبيعة، أدخلَ فيها اختلالات كانت ولا تزال سببا في تصدُّعِ التَّنظيم الذاتي.
الإنسانُ اعتدى ويعتدي على التَّنظيم الذاتي
التَّنظيم الذاتي، كما سبق الذكرُ، هو قدرة منظومةٍ ما على تنظيم نفسِها بنفسِها للحِفاظ على توازنِها الذي يمكِّنها من الاشتغال على الدوام. وبعبارة أخرى، هذا التَّوازنُ يضمن استمرارَ المنظومة وتجدُّدَها بفضل الظواهر الطبيعية المتمثلة في الإنتاج والاستهلاك والتكاثُر والتَّفكُّك والتَّدوير recyclage، التي هي مرتبطةٌ فيما بينها، أو بعبارة أخرى، بفضل تعاقب الحياة والموت. وهذا يعني أن المنظومة الذاتيةَ التَّنظيم تشتغل وكأنها وحدةٌ مُكوِّناتُها مرتبطةٌ فيما بينها.
عندما يتعلَّق الأمرُ بالطبيعةِ بدون إنسانٍ، كل الأنشطة الهادفة إلى التَّنظيم الذاتي تسير من أجل تحقيق وحدة الطبيعة. وحتى إن حدثت أختلالاتٌ طبيعية من شأنها زعزعةُ توازن الطبيعة، فإنه يتمُّ امتصاصُها، في نهاية المطاف، من خلال الأنشطة السالفة الذكر.
والإنسانُ نفسُه، عوض أن يتماثلَ مع الطبيعة s'identifier à la nature، أن يُقلِّدَها، اخترع مفهومَ "البيئة" الذي يتصوَّرُه كنِتاجٍ لتساكن ما هو طبيعي و ما هو مُحدَثٌ من طرفِه (ثقافة، اعتقادات، رؤيات، تصوُّرات، تمثُّلات، تقدم، نمو، اقتصاد، تنمية، اختراعات، تكنولوجيات، صناعات، بنيات تحتية، سكنٌ، مستوطنات بشرية…). تساكنٌ أعطى الإنسانُ لنفسِه فيه مكاناً مُمَيَّزاً بالنسبة لمكوِّنات الطبيعة الأخرى.
إن الآنسانَ، في الحقيقة، أحدثَ وتخيَّل وصنَعَ، على نِطاقٍ واسعٍ، سيروراتٍ processus و وسائلَ وأساليبَ ومّنتجاتٍ وأعمالاً وممارساتٍ وأنشطةً… لا يتلاءم أغلبُها مع الاشتغال الطبيعي للمنظومات الطبيعية، وبالتالي، لا تسمح بالتساكن المتناغم لما هو طبيعي و مختلف إنتاجاتِه الفكرية والمادية.
بكل بساطةٍ، الآنسانُ اعتدى ويعتدي على التَّنظيم الذاتي للطبيعة، الذي، بدون وجود هذا الإنسان على سطح الأرض، أحدثَ، بطريقة أو أخرى، تناسُقاً وتناغُماً بين عالم الأحياء والعالم المادي.
الإنسان يحصد ما زرع ويزرع
منذ عدة عقود، نأى الآنسان بنفسِه عن الطبيعة فكريا وعملياً، وبالأخص، عندما اخترع مفهومَ البيئة. هذه الأخيرة يتصورها الإنسانُ، على المستوى الفكري، كعنصرٍ يوجد خارج نِطاقِ عيشه، وفي أحسن الأحوال، كمجموعة الأشياء (حية أو غير حية) التي تّحيطُ به. وكيفما كان الحالُ، الإنسانُ يعتبر نفسَه كعنصرٍ مركزي في تصوُّره الفكري للبيئة. إنها رؤيةٌ أو نظرةٌ تضع الإنسانَ كعنصر مميَّز في الطبيعة/البيئة أو كعنصر مركزي في الطبيعة/البيئة. إنها نظرة تتمركز أو مُمَركََزةٌ حول الآنسان anthropocentrique، إن لم نقل أنانية لها وقع ضخمٌ على هذا الآنسان وعلى سلوكِه وتصرُّفه داخل البيئة. في الحقيقة، الإنسانُ ذهب ضحيةَ نمطه الفكري الذي، بكل تأكيد، يُملي عليه كيفيةَ تصرُّفه داخلَ البيئة. يبدو أن الإنسانَ، بإصرارِه على التَّموقع في هذه النظرة، نسيَ أو تناسى أن الطبيعةَ كانت تشتغل جيدا حين كان غير موجودٍ على سطح الأرض. إنه من المفاجئ اليوم أن هذا الإنسانَ الذي راكَمَ تراثاً هائلا وغير مسبوق من المعارف حول عالم الأحياء والعالم المادي، لم يستطِع أن يُصالحَ بين اختراعاتِه وإنتاجاتِه الفكرية والمادية وبين ظاهرة التَّنظيم الذاتي الذي، بالأحرى، هو ضروري لاستمرار بقاله.
عن ماذا يبحث الإنسانُ علما أنه يعرف، عن جدارةٍ و وعيٍ، أن نمطَ تفكيرِه وعملِه، داخلَ البيئة، أسلِحة ذات حدَّين؟ هل هو سائرٌ نحو التَّضحية ببقائه الذاتي sa propre survie جرياً بدون تبصُّرٍ وراء التنمية، وراء النمو الاقتصادي و وراء التقدم، الأشياء التي تُلحِق أضراراً بالمنظومات الطبيعية؟
ما يمكن قولُه هو أن الإنسانَ، بصفته كائن يفكِّر وينشطُ، لا يحصد إلا ما زرَعَ.
الممارسات البيئية البشرية، أسلحة ذات حدَّين
من الواضح أن الممارسةَ لا تنشأ من فراغ. وراء هذه الممارسة، يوجد الفكرُ، أو بعبارة أخرى، الممارسة يُفرِزها الفكر علما أن تلك التي يقوم بها الإنسانُ تسيء للبيئة وتأخذ بعين الاعتبار فقط مصلَحَتَه الشخصية.
من الأكيد أن هذه الممارسات لها انعكاسات إيجابية التي لا يمكن نُكرانُها ونُكرانُها يُعدُّ نفاق.
لكن، يجب الاعترافُ أن الأنشطة التي تدور داخلَ البيئة، كلما كانت مفيدةً للبشرية، فإنها تسيء ليس فقط لهذه الأخيرة، لكن كذلك لعالم الأحياء في شموليتِه. والأمثلة التي تبيِّن هذه الازدواجية كثيرة. وهذه بعض الأمثلة.
التَّبريد والبخاخات Réfrigération et aérosols
لا يخفى على أحد أهميةُ هذين العنصرين في الحياة اليومية والعملية للناس. إنهما يُستعملان في الصناعات الغذائية للحِفاظ على جودة الأغذية، وتخزينها ونقلها. يُستعملان كذلك في البيوت، في الطب، في البحث، في التَّجميل… لكن، من أجل القيام بالتَّبريد وصُنع البخاخات، لجأ الإنسانُ إلى استعمال نوع من الغازات المعروفة ب chlorofluorocarbones والمًشار إليها عادةً بأحرف CFC. هذه الغازات، عندما تنتشر في الجو، فإنها تسيء للطبقة العليا من هذا الجو التي تحتوي على جزء كبير من حجم الأوزون ozone O3. الأوزون يُشكِّل طبقةً واقيةً تمتصُّ الأشعة الفوقبنفسجية ultraviolets التي هي مُضِرَّة للحياة البرية بصفة عامة ولصحة الآنسان بصفة خاصة. فعندما تصل غازات CFC إلى الطبقة العليا من الجو، فإنها تُفكِّك الأوزون متسبِّبةً، في نفس الوقت، في تراجع حجمه. ويزداد الوضعُ تأزُّما عندما تكون سرعةُ تفكُّك الأوزون أكبر من إيقاع تجديده. وهو الشيء الذي يؤدي إلى عجزٍ في حجم الأوزون، وبالتالي، إلى حدوث ما يسمى "ثُقبً طبقة الأوزون "trou de la couche d’ozone".
الصناعة الكيميائية Chimie industrielle
الصناعة الكيميائية نشاطٌ بشري عرف ويعرف نموا لامحدودا نظرا لتنوُّعِه واستعمالاته وجوانبه الإيجابية وانعكاساته الواضحة على الاقتصاد. حسب ما تنشره المؤسسات الدولية المهتمة بالبيئة، صَنَعَ الإنسانُ ما يزيد عن 60000 مادة كيميائية جلُّها لا يتلاءم مع اشتغال المنظومات البيئية الطبيعية. و هذه المواد توجد في جميع الأوساط وحتى في تلك التي لا يتردَّد عليها، عادةً، الكائن البشري. وأول خطر مترتِّبٍ عن هذا الوجود هو أنها لا تُمتصُّ من طرف الأنظمة الطبيعة لتَّدوير المادة، وبالتالي، فإنها تستقر في الطبيعة طيلةَ عدة عقود. الخطر الثاني هو أن البعضَ منها يحتوي على معادن ثقيلة métaux lourds التي قد تُلوِّث الماءَ والتغذية والهواءَ والتُّربة…، وبالتالي، تُشكِّل تهديدا للحياة البشرية، الحيوانية والنباتية (تشوُّهات، سرطانات، اختلالات حركية، أضرار جلدية، أضرار الإنجاب، عجز كَلَوي، قُرحات، التهابات، فقر الدم… )
الإطعامُ السريع Restauration rapide
يتعلَّق الأمرُ بإطعامٍ يًنتِج أو يُصنِّع وجبات غذائية بكثرة وبسرعة. يقوم بهذا الآطعام، في غالب الأحيان، شركات متعدِّدة الجنسيات multinationales التي احتلَّت جميع مناطق العالم والتي تجذب زبناءَ يزداد عددًهم يوما بعد يوم. دون الحديث عن جودة الوجبات، الإطعامُ السريع يستجيبُ لحاجات شريحة عريضة من الناس الذين يرغبون في الأكل بسرعة لربح الوقت. اليوم، الاكلُ بسرعة أصبح مكوِّنا من مكوِّنات الحياة اليومية. إنه، بكل بساطة، ضغطٌ stress يُضاف لضغوط العمل. إنه كذلك ضريبةٌ يُؤديها الناسُ مقابل الحداثة مع ما له من انعكاسات على الصحة قد تؤدي إلى السُّمنة.
غير أن هذه الأضرار النفسية ليست وحيدة. الإطعامُ السريع يسيء كذلك للبيئة. بالفعل، الإطعام السريع يعتمد، بالخصوص، على لحم البقر ويلزمه كمياتٌ كبيرة وضخمة من هذا اللحم للاستجابة لطلبات الزبناء. من أجل توفير هذه الكميات الهائلة من اللحم، يجب ممارسةُ تربية الأبقار على نِطاقٍ واسع، الشيء الذي يترتَّب عنه أضرار بيئية ضخمة : الرعي المفرِط surpâturage واجتتاث الغابات déforestation الذي يتمثَّل في قطع الأشجار وتعويضها بمراعي، استعمال مفرطٌ للأسمدة الكيميائية، تخريب الأوساط،…يُضافً إلى هذه الأضرار الكٍمِّيأت الهائلة من الفضلات التي يُفرزها الإطعامُ السريع (ورق، بلاستيك، أوعية المشروبات من الاليمنيوم) دون الإشارة لتبذير الأطعمة الذي ينتهي في سلَّة المهملات. ومن جهة أخرى، إن تربيةَ الأبقار يخلِّف غازَ الميثان méthane الذي يساهم في تفاقم الاحتباس الحراري.
النقل بجميع أشكاله
يلعب النقل بأشكاله المختلفة (برا، بحرا، جوا) دورا حاسما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للإنسان (تنقُّل الاشخاص، تجارة، سياحة، السلسلة اللوجستية، شراء، إنتاج، توزيع…). بالإضافة إلى تسهيل تنقُّل الأشخاص والبضائع، يمكِّن النقلُ من اختلاط أو امتزاج السكان والثقافات فضلا عن كونه محرِّكا قويا للتنمية. يُسهِّل كذلك التَّحضُّر urbanisation ويفك العُزلةَ عن العالم القروي. باستثناء بعض أشكال النقل التي تعتمد على الكهرباء. على الطاقة الشمسية و على المحروقات الحيوية biocarburants، إن الحظِيرة العالمية لوسائل النقل تعتمد على تحويل النفط (محروق أُحفوري) إلى بنزين essence ومازوت gasoil وفيول fioul وكيروزين kérosène…
من غير المشكوك فيه أن النفطَ، من خلال استعمالاته المتنوِّعة من طرف الإنسان، أتاح لهذا الأخير تنميةً اقتصادية واجتماعية مبهِرة منذ أن تمَّ حفرُ أول بئرٍ بولاية بنسيلفانيا pennsylvanie سنة 1859. اليوم، النفط (مع الفحم)، كمصدر للطاقة، منتشر في جميع أنحاء العالم. كل الدول مرتبطةٌ به كمُحرِّكٍ للاقتصاد وكذلك كمصدر أساسي للكهرباء وكمصدر لتسخين البيوت ومكننة الفلاحة... باختصار، النفط مُحفِّز قوي واستراتيجي للاقتصاد والنمو. البلدان التي لا تتوفَّر عليه تُنفِق جزأً مهما من ميزانيتها للحصول عليه. يمكن القول بأن النفطَ (عندما تكون أسعارُه مرتفعة) من الممكن أن يُساهمَ في الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلد الذي ينتِجه في حالة استعمال موارده المالية لتحسين مستوى عيش المواطنين.
لكن النقلَ، رغم ما جلبه ويجلبه من منافع للإنسان وبحكم استعماله على نِطاق واسع، يُعدُّ واحد من أقوى العوامل التي أدخلت وتُدخِل اختلالات ضخمة على البيئة. تتجلَّى هذه الاختلالات، على الخصوص، في إطلاق الغازات السامة التي تُلوِّثُ الجوَّ وفي تدفُّق النفط في البحار والمحيطات، (غرق حاملات النفط وغَسلُها في أعالي البحار).
وعلى ذكرِ غرق حاملات النفط، من المهم التَّذكيرُ بكارثتي حاملاتي النفط الضخمة، الأموكوكاديس Amoco Cadiz والطُّري كانيون Torrey Canyon (بالإضافة إلى كوارث أخرى) اللتان خلفت خسائر فادحة بيئياً، اجتماعياً واقتصادياً.
ومن جهة أخرى، إذا كان للدول حدودٌ، فالجو يًغطِّي كل القارات. فكل اختلال يطال توازنَ هذا الجوَّ قد يخترق هذه الحدودَ متسبِّبا في وقوع أضرار صحية، اجتماعية واقتصادية. وخير مثال يمكن سياقُه في هذا الصدد يتعلَّق بغاز ثاني أكسيد الكاربون CO2.
من المعروف أن نسبةَ هذا الغاز في الجو تتراوح بين 380 و 480 جزء في المليون Parties Par Million ou ppm. غير أن هذه النسبة يمكن أن تزدادَ، خصوصا، في المناطق الصناعية وفي المناطق التي تكثر فيها وسائلُ النقل بمختلف أشكالها وأحجامها. ولا داعيَ للقول، حاليا، أن ازديادُ نسبة ثاني أكسيد الكاربون في الجو واقعُ بيَّنته الدراساتُ والأبحاثُ. فخلال العشرية الأولى من الألفية الثانية، قُدِّرت هذه الزيادةُ ب10%. فبدون اتخاذ الاحتياطات اللازمة، وبالأخص، بدون إرادة دولية، قد يصل ازديادُ نسبة ثاني أكسيد الكاربون في الجو إلى 25%. وما قد يزيد في الطين بلَّةً هو التَّراجعُ الذي تعرفه الغابات الاستوائية التي، عادةً، تمتصُّ طبيعيا ثاني أكسيد الكاربون الموجود في الجو. فإذا استمرَّت هذه الزيادة وإذا استمرَّ تراجع الغابات الاستوائية، فإن ثاني أكسيد الكاربون يتراكم في الجو مُشكِّلاً دِرعا يحول دون تشَتُّتِ الحرارة المُنبعثة من سطح الأرض. حينها، يحدثُ ما يُسمَّى بالاحتباس الحراري effet de serre. بمعنى أن الحرارة المنبعثة من سطح الأرض تبقى سجينةَ الجو، وبالتالي، تتسبَّبُ في ارتفاع معدَّل حرارة الأرض، وهو الشيء الذي له عواقب وخيمة على الطبيعة وعلى البيئة البشرية. من بين هذه العواقب، أذكرُعلى سبيل المثال، ذوبان الجليديات القُطبية، الشيء الذي قد يؤدي إلى غَمرِ مساحات شاطئية كبيرة.
إلى أين يسيرُ الإنسانُ؟
الملاحظ أن فكرَ وتصرُّفَ الإنسان داخل البيئة/الطبيعة، رغم ما لهما، بدون منازع، من انعكاسات إيجابية من حيث تقدُّم البشرية، تسيء للدعامة الأساسية للحياة أو لقِوام هذه الحياة المتمثلة في المنظومات البيئية الطبيعية. وبعبارة أخرى، إن العِلمَ والتَّكنولوجيا اللذان يتفاخر بهما الإنسانُ واللذان يستجيبان لطموحاته التَّنموية ولسعيه للتَّقدُّم والازدهار والرفاه والنمو وتراكم الثروات…، ينقلبان، بكيفية أو أخرى، على هذا الإنسان علماً أنه يعرف، عن وعيٍ، أن نمط تفكيرِه وعملِه يُسيئان لقِوأم الحياة ولوجوده هو نفسه!
إذا كان الإنسانُ يبحث عن النمو، لقد قيلَ في عدة مناسبات، رسميا وبشكل غير رسمي (منظمات دولية، منظمات غير حكومية، علماء، منظمات بيئية، مجتمع مدني، هيئات مناضلة…)، أن الأنماطَ الحالية للتنمية والنمو هي أسوأ أعداء المنظومات البيئية الطبيعية. تُفرِز هذه الأنماط استهلاكاً فاحشاً الذي، بدوره، يُفرِز تبذير هائلا للموارد إذ، من أجل دفعِ النمو، يجب كذلك الرفعُ من مستوى استغلال الموارد الطبيعية الذي، بدوره، يُؤدي إلى استغلال مفرطٍ لهذه الموارد، الكل يًكلَّل بعجز بيئي déficit environnemental الذي يقتل ظاهرةَ التَّنظيم الذاتي autorégulation. وعندما تضعف هذه الظاهرة، فهذا معناه إِنهَاكٌ لأساس الحياة (إِنهَاكٌ أحيانا لا رجعةَ فيه irréversible). النتيجة الحتمية، إن عاجلا أو آجلا، تتمثَّلُ في تراجع التَّنوُّع البيولوجي biodiversité، إضعاف المنظومات البيئية الطبيعية، الاحترار المناخي، التَّصحُّر، التلوث بجميع أشكاله…
إذا كان الإنسانُ يبحث عن التنمية، لقد فطِنَ هذا الإنسانُ، منذ السبعينيات ومع صدور تقرير نادي روما rapport du Club de Rome، أن النموذج الذي تبناه من أجل تحقيق هذه التنمية، مُعَادٍ للبيئة ولمكوِّناتها الطبيعية وللإنسان نفسه. خلال الثمانينيات ومع صدور تقرير Brundtland تحت عنوان "مستقبلنا المشترك" Notre avenir à tous، أراد الإنسانُ تبني مفهوما جديدا للتنمية تحت مُسمَّى "التنمية المستدامة" développement durable الذي هو، مبدئياً، مبني على احترام البيئة لضمان استدامة مواردها للأجيال الحاضرة والمقبلة. بعد Brundtland، تواصلت قِممُ الأرض sommets de la terre ومؤتمرات المناخ COPs حيث كانت فكرةُ "التنمية المستدامة" حاضرة بقوة. ومع ذلك، لا تزال المشكلات البيئية قائمةً وعلى رأسِها الاحترار المناخي الذي هو تهديد جِدِّي لاستمرار الحياة على وجه الأرض.
إذا كان الإنسانُ يبحث عن التَّقدُّم والرفاه وخلق الثروة…، عليه أن يَعِيَ أن البيئةَ البشريةَ تُعاني من مشكلات أخرى كالتَّخلُّفَ والفقرَ والهشاشة والإقصاء والأمية وتهديد المجاعة… التي لا تزال قائمةً إلى يومنا هذا.
ماذا يجب استخلاصُه من ما سبق؟
ما يمكن استخلاصُه هو أن الإنسانَ، إلى حد الآن، لم ينجح في إيجاد تساكن متناغم بين ما هو طبيعي وبين ما أحدثه من منشآت. وبعبارة أخرى، لم ينجح في إيجاد تساكن متناغم بين البيئة الطبيعية وبين البيئة البشرية التي أنشأها، مع مرور الوقت، داخل الطبيعة. وهاتان البيئتان غالبا ما تشتغلان حسب سياقات متضادة. الأولى (البيئة الطبيعية)، بفضل ظاهرة التَّنظيم الذاتي، تضمن استمرارَ الحياة بينما الثانية، بلجوئها إلى أساليب غالبا ما تكون متنافية مع كل ما هو طبيعي، تُدخِل اختلالات على التَّنظيم الذاتي، وبالتالي، تُهدِّد استمرارَ الحياة، وأحيانا، تتسبَّب في انقراضِها بدون رِجعة.
وباختصار، لا يزال الإنسانُ يتصرَّف في البيئة وكأن عطاءَها غير محدود. وبعبارة أخرى، وكأن مواردًها وَفِيرة، لا تنفذ، و كأن تجدُّدَها مضمون لا محالة. الأمر الواقع هو أن الموارد التي تتجدَّد طبيعيا قد تفقد قدرةَ التَّجدُّدِ إذا اعتدى الإنسانُ على هذه القدرة.
أكثر من أي وقتٍ مضى، من الضروري ومن الواجب أن يُعِيدَ الأنسانُ النظر في علاقاته مع الطبيعة. إلى حدِّ الآن، إن هذه العلاقات كارثية إذ تُلحِق أضرارا ليس فقط بالطبيعة، لكن كذلك تشكِّل تهديدات لوجوده.
ما هي منفعة الأنسان من تبنِّيه فكرةَ "التنمية المستدامة" وتفكيرُه البيئي لا يزال متمركزاً حوله هو وحده وحول سدِّ حاجياته هو وحده. تفكير يجعل من وجوده مركزَ العالم ويندرج في التيار الفكري المسمى anthropocentrisme. ومن جهة أخرى وفي العديد من الحالات، فإن فكرةَ "التنمية المستدامة" بقيت شعارا تستغلُّه السياسة لتحقيق أهدافٍ حزبية ضيقة.
في الواقع، هناك تفاوتُ كبير بين فكرة "التنمية المستدامة" وما يُمارسه الإنسانُ من أعمالٍ داخل البيئة. ورغم المحاولات المحمودة التي يقوم بها الإنسانُ هنا وهناك، النظرة المُتمركزة، فكريا، حول هذا الإنسان anthropocentrique لا تزال قائمةً.
اليوم، تُلصَق صفة "مستدام" لكل الأشياء إلى درجة أن استعمالَها أصبح "موضَةً" عوض أن يكونَ تعبيراً عن تغييرٍ في نمط التَّفكير أو في النظرة/الرؤية…
"الاستدامة"، كمفهومٍ، يتطلَّب تكريسُها على أرض الواقع مُنعرجاً (تغييراً) ب180 درجة في نمط التفكير البيئي الذي، بواسطته، يتعامل الإنسان مع البيئة بشقيها الطبيعي والمُحدث من طرف هذا الأنسان. فحدوثُ هذا المنعرج هو الذي سيُمكِّن هذا الأخير من إيجاد حلول بديلة للأزمة التي تتخبَّطان فيها البيئة والتنمية. الأزمة التي اختلقها من جراء أنانيته المُفرطة.
بإمكان الإنسان أن يستمرَّ في سدِّ حاجياته آخِذاً بعين الاعتبار ضرورةَ الحِفاظ على أساس الحياة. من أجل هذا الحِفاظ، عليه أن يُعمِّقَ معرفتَه للطبيعة علما أنه، مهما تعاظمت وتراكمت هذه المعرفة، فإنها تبقى محدودةً أمام شساعة وتعقيد التَّداخُلات والتَّرابُطات والعلاقات البينية القائمة بين مكوِّنات عالم الأحياء بما فيها الأنسان نفسُه وبين مكونات البيئة المادية.