في محبة محمد عيد إبراهيم
1
دم شاعر أى الموضوعي، لا_ ليس كذلك
له عندي حجرة أخرى. و ،
اجتمعت ثلاث ياءات:
تطيعه وأنت عدوه، ياء
ألف الملك تسبق نار المملوك حتى آتيه، ياء
وأنت طريقي إلى الغافلين ، ياء
وكان أن دخلت - فإني عليها جميعا كصلاة الذي ذهب ...
دم شاعر في صفاء سكينه، يحتذيكم
ليستعدني المقبلون وما تبقى.
بعد حوار صاخب حول أهمية كاتب مصري راحل لم أكن متحمسا له بالدرجة القصوى عكس كثيرين، موقنا أنه حصد شهرة أسطورية تفوق كثيرا أهمية نصوصه، وأن ما كتبه لم يتبق منه سوى مختارات من أعماله تكفي كتابا واحدا، وبقية ما كتبه لا يقرأ سوى مرة واحدة لا تستحق الاستعادة مرة أخرى. يومها انفجر محمد عيد إبراهيم غاضبا، فهو من أشد المتحمسين له، يراه كاتبا عظيما، وأنني لا أفقه شيئا في الأدب. قلت له: الوحيد هنا الذي يستحق لقب كاتب عظيم هو نجيب محفوظ، والكاتب التالي له في ظني هو عبد الحكيم قاسم، لكن للأسف هناك من تحصلوا على وضعية أدبية تفوق وضعية ديستويفسكي وفوكنر وكازانتزكيس واندريه جيد وبيو باروخا وخوسيه ساراماجو وماركيز في أوطانهم، عبر إنتاج أدبي عادي جدا، يفتقر إلى أى لمسة عبقرية مدهشة، تضيف إلى التراث الإنساني عملا خالدا.
بالطبع تفرقنا غاضبين، كل متمسك برأيه. لا أدري، أى وجهة نظر، وأى ذائقة هى الأقرب للصحة. ربما كنت متجنيا، ميال إلى الشطط، نتيجة ذائقة راديكالية صعبة.
كانت لقاءات مثمرة، فياضة بالحديث الدائم عن الفن والأدب، وكانت ثقافته راقية، البعد المعرفي لديه كثيف، واسع الإطلاع على التيارات الأدبية على نحو ملفت. توطدت علاقتي به بعد عودته النهائية من الخليج، غربة طويلة أفادته ماديا، لكنها أقصته عن التواجد داخل المتن الثقافي في مصر وخفت إسمه من التداول خلال هذه الفترة.
قبل السفر، كنت أراه قليلا، عندما كان يصدر سلسلة أفاق الترجمة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، مقدما لنا عدد من أهم الأعمال الأدبية. بقروش قليلة وطباعة فاخرة. يؤكد الكثيرون أنها الفترة الذهبية للسلسلة، ويثنون بامتنان على التجربة، لكنا لم نكن اصدقاء وقتها.
أ
2
رن هاتفي
- أين أنت ؟
- بالبيت.
- طيب، تعال حالا ، بانتظارك أنا وفتحي عبدالله.
كان هو المتحدث، ومعه الشاعر فتحي عبدالله الصديق الأبدي، أشار عيد إلى مقهى بعينه لا يؤمه المثقفون، وشدد على بالحضور وحدي: سنجلس ثلاثتنا فقط. قال.
ذهبت إلى هناك، وجدتهما، فتحي صديق عمر، عيد بملامحه المكفهرة، التي لا تعكس مابداخله من رقة ونقاء، إنه يؤمن بالعمل إيمانا عميقا، لا يترك فرصة للزمن كى يخدعه، أو يمر من بين يديه دون إنجاز شىء ما، فلديه عقدة مثمرة اسمها التفوق، ربما كانت وراء تشكيل ملامحه واعطاءه هذا السمت الصارم.
- هل لديك كتاب جاهز الآن ؟
فاجئني.
- نعم، أوشك على الانتهاء من مجموعة قصصية .
- أعطني إياها، لأدفع بها إلى أى دار نشر تشير إليها، متحملا نفقاتها،
كانت بادرة غير متوقعة، فهذا أمر غير مألوف على الإطلاق في حياتنا الثقافية. لم يكن لدى أزمة نشر ، ولم أصل بعد إلى طبع كتاب على نفقتي، ربما كنت الكاتب الوحيد الذي لايسعى وراء مكافآت النشر لأعماله، تكاسلا ونسيانا، كانت دهشتي واضحة، من يفعل هذا في وقتنا. أوضح لي محمد عيد ما اخجل عن ذكره، عن قيمة ما أكتبه، وعن ضرورة الإلتفاف حول هذه الكتابة بالمساندة حتى لاتضيع فى الزحام، و يسدل عليها ستار الصمت من المجموعات التي تجيد فتح الابواب لأعمال أفرادها، وإغلاقه في وجه الاخرين، كان يخشى على الإهمال، والإقصاء، مسلحا بدور بطولي لرعاية أى كتابة تستحق الاهتمام.
شكرته، وانا أشعر بالمحبة له. فأنا أعلم أنه لا يجيد الإستعراض، وأنه جاد فى عرضه. وان هذه مآثرة لا أستطيع نسيانها، حتى مع عدم حدوثها، لكنها ستظل معي ما بقيت حيا. لم تكن المرة الأولى التي يشملني برعايته، كان دائم المؤازرة والتشجيع. كانت علاقتي بالفضاء الأزرق ضعيفة ، وهو لديه صفحة شخصية ومدونة، يتابعهما معظم أدباء الوطن العربي، يضع نصوصي المتواضعة عليهما مع التنويه، حتى جعل إسمي مترددا، ناقش ندوتين لي. وكتب عني.. فعل الكثير من أجلى بأبوة حانية ظلت أثارها معي حتى هذه اللحظة.
3
ينهب الطريق
من يحمل الكتب
إلى تجويف واد. في جنازة
هو فيها، احتك بالمرأة
( كانت سواك ) . الوقت
يقتل شمسه كاليل، أبطل مفعوله
الألم
الأحد من كل إسبوع، كانت لنا جلسة بأحد مقاهي وسط البلد، رفقة مجموعة أخرى من الأصدقاء، كان يأتي محملا بالكتب داخل حقيبة فوق ظهره. دواوينه وترجماته، واعمال لأخرين، يوزعها علينا بسعادة، يفعل ذلك بشكل مستمر حتى وهن عظمه وظهرت الآلام على الفقرات القطنية. وبدأ يشكو من ظهره، كانت آلام شديدة تحملها بصبر، مضطرا إلى اللجوء إلى عصا يتوكأ عليها، يتحرك بها، متحاملا على نفسه، مشاركا في أمسيات وندوات كثيرة كدور ثقافي لرجل يعرف معنى تواصل الأجيال. وأهمية بقاء شعلة الإبداع موقدة في هذا الوطن. إنه واحد من هؤلاء الذين يحملون المسئولية تجاه المجتمع، يوليه كل انتباهه، مشيرا بكل وضوح إلى عدد كبير من التجارب الناجحة. مظهرا أراءه النقدية الصريحة، حتى وهو منعزل في مكانه، يكتب ويترجم ويعمل على مدونته الشهيرة، العمل هو إغراءه الوحيد حيال خيبات الأمل المتتالية، مخلصا للثقافة العربية بمشروع تنويري جمالي، ناقلا لنا عشرات من الكتب المهمة في اللغات الأخرى، مداريا سخطه و أوجاعه، باسطا ظله على جيل من شباب المبدعين العرب.
أيضا. هو أحد فقهاء اللغة العربية، عارف بأسرارها، ودقائقها، يعمل على قاموس من الكلمات المهملة والصور الغامضة، عندما تقرأ قصائده تجده مخلصا لعنصر الفن و صناعة الشعر، غير مهتم بمجاراة أحد، قد تشعر بالاضطراب و الغموض تجاه نصه المابعد حداثي، المركب على نحو معقد. " اخترت لغة عصية في نوع من التحدي، لأنفتي من اللغة البسيطة العاجزة " هكذا يحدثنا.
ربما تكونت لديه عقدة التفوق منذ البدايات عندنا أستقبلت قصيدته بالرفض، والتهكم أحيانا، لم يرتد منكمشا داخل نفسه، ويتقوقع متحطما، واصل الطريق، معاندا، مصرا على الخروج على المألوف والسائد. لايهمه ان يكون العالم مؤنسنا، ولايهمه اقتناص جوهر الأشياء والعمل على القضايا الكبرى، قصيدته غير مكتملة، ينقصها شىء ما، على القارئ الحصيف سد الفجوات بحذر، في الغالب يريد استنهاضه، إن لم يكن استفزازه، يقترح عليه أن يمارس معه شقاء الكتابة، فهو ليس مسرفا في العاطفة الشعرية، بحكم تكوينه المعرفي، ربما جذبته المدرسة اللبنانية، تجربة مجلة شعر ، ممثلة في فرعها الماروني، أنسي الحاج على وجه الخصوص، وشوقي أبي شقرا على نحو أقل.
ليبتعد بقصيدته عن أقرانه، جيل السبعينيات، الذين انطلقوا بضربة بداية واحدة، لكنهم اختلفوا في عالم الشعر وبناء المعاني، فلكل منهم أداء جمالي مختلف.
4
أفتقد محمد عيد إبراهيم كصديق، راهن على ما أكتب حتى الرمق الأخير، أذكر إنهياري وإصراري على الذهاب لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، رغم يقيني بأنني لن استطيع اللحاق به، لكني عاندت نفسي وذهبت منهكا، دخلت المسجد رغم سكونه التام، وفراغه من المودعين بعد صلاة الجنازة، والذهاب به إلى مثواه الأخير. جلست وحيدا في المصلى الكبير، أستنشق الهواء الذي تنسمه قبل الغياب، تلويحته الأخيرة في عيد النساج وهو يزيل أشواك الماضي عن الطريق، بسماحة تفرض بهاءها على المتأهبين للسفر الأخير، وهم يرصدون هدير الذكريات قبل الرحيل، متذكرا لماحية الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، عندما التقط مقطعا من مسرحية لبول كلوديل، بها التعريف التالي للشعر:
يابني!
عندما كنت شاعرا بين البشر
ابتكرت بيتا لاوزن له ولاقافية
واستوعبت في طيات قلبي وظيفة مزدوجة متبادلة
أستنشق بها الحياة لأردها كلمة مسموعة
في زفير أسمى ..
1
دم شاعر أى الموضوعي، لا_ ليس كذلك
له عندي حجرة أخرى. و ،
اجتمعت ثلاث ياءات:
تطيعه وأنت عدوه، ياء
ألف الملك تسبق نار المملوك حتى آتيه، ياء
وأنت طريقي إلى الغافلين ، ياء
وكان أن دخلت - فإني عليها جميعا كصلاة الذي ذهب ...
دم شاعر في صفاء سكينه، يحتذيكم
ليستعدني المقبلون وما تبقى.
بعد حوار صاخب حول أهمية كاتب مصري راحل لم أكن متحمسا له بالدرجة القصوى عكس كثيرين، موقنا أنه حصد شهرة أسطورية تفوق كثيرا أهمية نصوصه، وأن ما كتبه لم يتبق منه سوى مختارات من أعماله تكفي كتابا واحدا، وبقية ما كتبه لا يقرأ سوى مرة واحدة لا تستحق الاستعادة مرة أخرى. يومها انفجر محمد عيد إبراهيم غاضبا، فهو من أشد المتحمسين له، يراه كاتبا عظيما، وأنني لا أفقه شيئا في الأدب. قلت له: الوحيد هنا الذي يستحق لقب كاتب عظيم هو نجيب محفوظ، والكاتب التالي له في ظني هو عبد الحكيم قاسم، لكن للأسف هناك من تحصلوا على وضعية أدبية تفوق وضعية ديستويفسكي وفوكنر وكازانتزكيس واندريه جيد وبيو باروخا وخوسيه ساراماجو وماركيز في أوطانهم، عبر إنتاج أدبي عادي جدا، يفتقر إلى أى لمسة عبقرية مدهشة، تضيف إلى التراث الإنساني عملا خالدا.
بالطبع تفرقنا غاضبين، كل متمسك برأيه. لا أدري، أى وجهة نظر، وأى ذائقة هى الأقرب للصحة. ربما كنت متجنيا، ميال إلى الشطط، نتيجة ذائقة راديكالية صعبة.
كانت لقاءات مثمرة، فياضة بالحديث الدائم عن الفن والأدب، وكانت ثقافته راقية، البعد المعرفي لديه كثيف، واسع الإطلاع على التيارات الأدبية على نحو ملفت. توطدت علاقتي به بعد عودته النهائية من الخليج، غربة طويلة أفادته ماديا، لكنها أقصته عن التواجد داخل المتن الثقافي في مصر وخفت إسمه من التداول خلال هذه الفترة.
قبل السفر، كنت أراه قليلا، عندما كان يصدر سلسلة أفاق الترجمة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، مقدما لنا عدد من أهم الأعمال الأدبية. بقروش قليلة وطباعة فاخرة. يؤكد الكثيرون أنها الفترة الذهبية للسلسلة، ويثنون بامتنان على التجربة، لكنا لم نكن اصدقاء وقتها.
أ
2
رن هاتفي
- أين أنت ؟
- بالبيت.
- طيب، تعال حالا ، بانتظارك أنا وفتحي عبدالله.
كان هو المتحدث، ومعه الشاعر فتحي عبدالله الصديق الأبدي، أشار عيد إلى مقهى بعينه لا يؤمه المثقفون، وشدد على بالحضور وحدي: سنجلس ثلاثتنا فقط. قال.
ذهبت إلى هناك، وجدتهما، فتحي صديق عمر، عيد بملامحه المكفهرة، التي لا تعكس مابداخله من رقة ونقاء، إنه يؤمن بالعمل إيمانا عميقا، لا يترك فرصة للزمن كى يخدعه، أو يمر من بين يديه دون إنجاز شىء ما، فلديه عقدة مثمرة اسمها التفوق، ربما كانت وراء تشكيل ملامحه واعطاءه هذا السمت الصارم.
- هل لديك كتاب جاهز الآن ؟
فاجئني.
- نعم، أوشك على الانتهاء من مجموعة قصصية .
- أعطني إياها، لأدفع بها إلى أى دار نشر تشير إليها، متحملا نفقاتها،
كانت بادرة غير متوقعة، فهذا أمر غير مألوف على الإطلاق في حياتنا الثقافية. لم يكن لدى أزمة نشر ، ولم أصل بعد إلى طبع كتاب على نفقتي، ربما كنت الكاتب الوحيد الذي لايسعى وراء مكافآت النشر لأعماله، تكاسلا ونسيانا، كانت دهشتي واضحة، من يفعل هذا في وقتنا. أوضح لي محمد عيد ما اخجل عن ذكره، عن قيمة ما أكتبه، وعن ضرورة الإلتفاف حول هذه الكتابة بالمساندة حتى لاتضيع فى الزحام، و يسدل عليها ستار الصمت من المجموعات التي تجيد فتح الابواب لأعمال أفرادها، وإغلاقه في وجه الاخرين، كان يخشى على الإهمال، والإقصاء، مسلحا بدور بطولي لرعاية أى كتابة تستحق الاهتمام.
شكرته، وانا أشعر بالمحبة له. فأنا أعلم أنه لا يجيد الإستعراض، وأنه جاد فى عرضه. وان هذه مآثرة لا أستطيع نسيانها، حتى مع عدم حدوثها، لكنها ستظل معي ما بقيت حيا. لم تكن المرة الأولى التي يشملني برعايته، كان دائم المؤازرة والتشجيع. كانت علاقتي بالفضاء الأزرق ضعيفة ، وهو لديه صفحة شخصية ومدونة، يتابعهما معظم أدباء الوطن العربي، يضع نصوصي المتواضعة عليهما مع التنويه، حتى جعل إسمي مترددا، ناقش ندوتين لي. وكتب عني.. فعل الكثير من أجلى بأبوة حانية ظلت أثارها معي حتى هذه اللحظة.
3
ينهب الطريق
من يحمل الكتب
إلى تجويف واد. في جنازة
هو فيها، احتك بالمرأة
( كانت سواك ) . الوقت
يقتل شمسه كاليل، أبطل مفعوله
الألم
الأحد من كل إسبوع، كانت لنا جلسة بأحد مقاهي وسط البلد، رفقة مجموعة أخرى من الأصدقاء، كان يأتي محملا بالكتب داخل حقيبة فوق ظهره. دواوينه وترجماته، واعمال لأخرين، يوزعها علينا بسعادة، يفعل ذلك بشكل مستمر حتى وهن عظمه وظهرت الآلام على الفقرات القطنية. وبدأ يشكو من ظهره، كانت آلام شديدة تحملها بصبر، مضطرا إلى اللجوء إلى عصا يتوكأ عليها، يتحرك بها، متحاملا على نفسه، مشاركا في أمسيات وندوات كثيرة كدور ثقافي لرجل يعرف معنى تواصل الأجيال. وأهمية بقاء شعلة الإبداع موقدة في هذا الوطن. إنه واحد من هؤلاء الذين يحملون المسئولية تجاه المجتمع، يوليه كل انتباهه، مشيرا بكل وضوح إلى عدد كبير من التجارب الناجحة. مظهرا أراءه النقدية الصريحة، حتى وهو منعزل في مكانه، يكتب ويترجم ويعمل على مدونته الشهيرة، العمل هو إغراءه الوحيد حيال خيبات الأمل المتتالية، مخلصا للثقافة العربية بمشروع تنويري جمالي، ناقلا لنا عشرات من الكتب المهمة في اللغات الأخرى، مداريا سخطه و أوجاعه، باسطا ظله على جيل من شباب المبدعين العرب.
أيضا. هو أحد فقهاء اللغة العربية، عارف بأسرارها، ودقائقها، يعمل على قاموس من الكلمات المهملة والصور الغامضة، عندما تقرأ قصائده تجده مخلصا لعنصر الفن و صناعة الشعر، غير مهتم بمجاراة أحد، قد تشعر بالاضطراب و الغموض تجاه نصه المابعد حداثي، المركب على نحو معقد. " اخترت لغة عصية في نوع من التحدي، لأنفتي من اللغة البسيطة العاجزة " هكذا يحدثنا.
ربما تكونت لديه عقدة التفوق منذ البدايات عندنا أستقبلت قصيدته بالرفض، والتهكم أحيانا، لم يرتد منكمشا داخل نفسه، ويتقوقع متحطما، واصل الطريق، معاندا، مصرا على الخروج على المألوف والسائد. لايهمه ان يكون العالم مؤنسنا، ولايهمه اقتناص جوهر الأشياء والعمل على القضايا الكبرى، قصيدته غير مكتملة، ينقصها شىء ما، على القارئ الحصيف سد الفجوات بحذر، في الغالب يريد استنهاضه، إن لم يكن استفزازه، يقترح عليه أن يمارس معه شقاء الكتابة، فهو ليس مسرفا في العاطفة الشعرية، بحكم تكوينه المعرفي، ربما جذبته المدرسة اللبنانية، تجربة مجلة شعر ، ممثلة في فرعها الماروني، أنسي الحاج على وجه الخصوص، وشوقي أبي شقرا على نحو أقل.
ليبتعد بقصيدته عن أقرانه، جيل السبعينيات، الذين انطلقوا بضربة بداية واحدة، لكنهم اختلفوا في عالم الشعر وبناء المعاني، فلكل منهم أداء جمالي مختلف.
4
أفتقد محمد عيد إبراهيم كصديق، راهن على ما أكتب حتى الرمق الأخير، أذكر إنهياري وإصراري على الذهاب لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، رغم يقيني بأنني لن استطيع اللحاق به، لكني عاندت نفسي وذهبت منهكا، دخلت المسجد رغم سكونه التام، وفراغه من المودعين بعد صلاة الجنازة، والذهاب به إلى مثواه الأخير. جلست وحيدا في المصلى الكبير، أستنشق الهواء الذي تنسمه قبل الغياب، تلويحته الأخيرة في عيد النساج وهو يزيل أشواك الماضي عن الطريق، بسماحة تفرض بهاءها على المتأهبين للسفر الأخير، وهم يرصدون هدير الذكريات قبل الرحيل، متذكرا لماحية الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، عندما التقط مقطعا من مسرحية لبول كلوديل، بها التعريف التالي للشعر:
يابني!
عندما كنت شاعرا بين البشر
ابتكرت بيتا لاوزن له ولاقافية
واستوعبت في طيات قلبي وظيفة مزدوجة متبادلة
أستنشق بها الحياة لأردها كلمة مسموعة
في زفير أسمى ..