أبدى مؤسس مدرسة التحليل النفسي " سيجموند فرويد " ملاحظة هامة ذات مرة لـ " إريك إريكسون "، أحد مريديه قائلاً: أن تحب وأن تعمل، هما القدرتان التوأمان اللتان تمثلان علامتا النضج الكامل. وإذا كانت هذه هي المسألة، فالنضج إذن محطة بالغة الخطورة في حياة الإنسان.
يُحكى أن يابانياً من محاربين الساموراي، أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار. لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: " أنت تافه ومغفل، أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك ... ".
آهان الراهب شرف الساموراي، الذي اندفع في موجة من غضب فسحب سيفه من غمده وهو يقول " سأقتلك لوقاحتك ... "، أجابه الراهب بهدوء " هذا تماماً هو (الجحيم) ... ". هدأ الساموراي، وقد روعته الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده. وانحى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته، فقال له الراهب: " هذه هي (الجنة)... ".
هكذا كانت يقظة الساموراي المفاجئة، وإدراكه لحالة التوتر التي تملكته. تصور الاختلاف الحاسم بين أن يسيطر عليك شعور ما. وأن تدرك في الوقت نفسه أن هذا الشعور قد جرفك بعيداً عن التعقل. لا شك أن وصية الفيلسوف اليوناني سقراط التي تقول " اعرف نفسك " تتحدث عن حجر الزاوية في الذكاء العاطفي، الذي هو وعي الإنسان بمشاعره وقت حدوثها.
إن أي نظرة للطبيعة الإنسانية تتجاهل قوة تأثير العواطف هي نظرة ضيقة الأفق بشكلٍ مؤسف. والواقع أن اسم " الجنس البشري Homo Sapiens " ذاته أي الجنس المفكر، يعد تعبيراً خادعاً في ضوء الرؤية والفهم الجديدين لموقع العواطف في حياتنا واللذين يطرحهما العلم الآن. وكلما علمتنا خبرات الحياة، فإن مشاعرنا غالباً ما تؤثر في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا بأكثر مما يؤثر تفكيرنا عندما يتعلق الأمر بتشكيل مصائرنا وأفعالنا. ولقد غالينا كثيراً في التأكيد على قيمة وأهمية العقلانية البحتة التي يقيسها معامل الذكاء (IQ) في حياة الإنسان. وسواء كان هذا المقياس إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فلن يحقق الذكاء العقلي شيئاً لو كبح جماح العواطف.
شهدت الأبحاث والدراسات العلمية المتعلقة بعواطف الإنسان نقلة نوعية بما أن العواطف والمشاعر تلعب دوراً كبيراً في التأثير على السلوك الإنساني وإقامة العلاقات والروابط الاجتماعية مع الآخرين، فقد نقوم أحياناً باتخاذ القرارات والإتيان بالتصرفات وتحديد موقفنا من الآخرين بناءً على مشاعرنا أو عواطفنا. لذا سعى علماء النفس إجراء مجموعة من الدراسات والأبحاث لتفسير دور العواطف الإنسانية الإيجابي في الحياة اليومية، وبالأخص فيما يتعلق بالذكاء العاطفي.
تتمثل أهمية الذكاء العاطفي في الصلة بيـن الإحساس والشخصية والاستعدادات الأخلاقية النظرية، وأن المواقف الأخلاقية الأساسية في الحياة إنما تنبع من قدرات الإنسان الانفعالية الأساسية، ذلك أن الانفعال بالنسبة للإنسان هو (واسطة) العاطفة، وهو شعور يتفجر داخل الإنسان للتعبير عن نفسه في فعل ما. وهؤلاء الذين يكونون أسرى الانفعال أي المفتقرون للقدرة على ضبط النفس، إنما يعانون من عجز أخلاقي فالقدرة على السيطرة على الانفعال هـي أساس الإدارة وأساس الشخصية وأساس مشاعر الإيثار إنما يكمن في التعاطف مع الآخرين أي القدرة على قراءة عواطفهم، أما العجز عـن الإحساس باحتياج الآخر أو بشعوره بالإحباط فمعناه عدم الاكتراث به.
كما يعد الذكاء العاطفي صفة أساسية في تكوين شخصية القائد الناجح The personality of the successful leader، وذلك أن القدرة على التأثير في الآخرين هي الصفة الأهم في القيادة، لأن هذه الصفة تحدد فيما إذا كانت الصفات الأخرى ستعمل أم لا، فما قيمة صفة الذكاء والقدرة على التخطيط إذا لم يكن القائد قادراً على التأثير في الآخرين؟
أثبتت الدراسات والأبحـاث المعاصرة أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليها. بناءً على ما سبق يتحتم علينا الإجابة على التساؤلات الرئيسية التالي: ما هو مفهوم الذكاء العاطفي؟ وما هي أسسه؟ وكيف يؤثر في معرفتنا لأنفسنا؟ وما هي الصفات التي يتمتع بها أصحاب الذكاء العاطفي؟
- مفهوم الذكاء العاطفي: تشير تعريفات الباحثين للذكاء العاطفي على أنـه قدرات ومهارات في فهم مشاعر الذات ومشاعر الآخرين، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا المضمون. يعرف سالوفي وماير الذكاء العاطفي بأنه القدرة على معرفة الشخص مشاعره وانفعالاتـه الخاصة كما تحدث بالضبط، ومعرفته بمشاعر الآخرين، وقدرته على ضبط مشاعره، وتعاطفه مع الآخرين والإحساس بهم، وتحفيز ذاته لصنع قرارات ذكية.
ويرى دانييل جولمان مؤلف كتاب " الذكاء العاطفي " الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أن الذكاء العاطفي هو مجموعة من السمات، قد يسميها البعض صفـات شخصية، لها أهميتها البالغـة في مصيرنا كأفراد. بمعنى آخر، أن تكون قادراً على حث نفسك على الاستمرار في مواجهة الإحباطات، والتحكم في النزوات، وتأجيل، إحساسك بإشباع النفس وإرضائها، والقدرة على تنظيم حالتك النفسية، ومنع الأسى أو الألم من شل قدرتك على التفكير، وأن تكون قادراً على التعاطف والشعور بالأمل. ويعرفـه آخرون بأنه القدرة على التعامل مع المعلومات العاطفيـة، من خلال استقبـال هذه العواطف واستيعابهـا وفهمها وإدارتها.
بناءً على ما سبق يمكننا تعريفه بأنه مجموعة من القدرات أو المهارات الشخصية التي تساعد الشخص على معرفة مشاعره وانفعالاته، وسيطرتـه عليها جيداً، وفهم مشاعـر وانفعالات الآخرين، وحسن التعامل معهـم، وقدرته على استثمار طاقته الوجدانية في الأداء الجيد، وعلى إقامـة علاقات طيبة مع المحيطين. باختصـار هو قدرة الإنسـان على التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين، لتحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولمن حوله. ووفقاً لمجلة " Psychology today "، فإن الذكاء العاطفيEmotional Intelligence هو القدرة على تحديد وإدارة عواطفك وعواطف الآخرين، وهذا الأمر عادةً ما ينطوي على:
- الوعي العاطفي، ويتضمن القدرة على تحديد مشاعرك ومشاعر الآخرين.
- القدرة على تسخير المشاعر وتطبيقها عملياً في حل مشاكلك في الحياة اليومية.
- القدرة على إدارة العواطف، مثل التحكم بمشاعر الغضب أو القدرة على الحفاظ على هدوئك عندما تكون مستاءً.
- أسس الذكاء العاطفي: يقوم الذكاء العاطفي على الأسس الآتية:
1- أن يعـرف كل إنسان عواطفه من خلال الوعي بالـذات Self - Awareness فالوعي بالنفس والتعرف على الشعور وقت حدوثه، هو الحجر الأساسي في الذكاء العاطفي، وامتلاك القدرة على رصد المشاعر من لحظة إلى أخرى يعد عاملاً حاسماً في فهم النفس، كما أن عدم القدرة على فهم المشاعر الحقيقية، تجعل الفرد يقع تحت رحمتها، فالأشخاص الذين يمتلكون هذه القدرة أشخاص واثقون في أنفسهم وفيما يتخذونه من قرارات.
وقد صنف " ماير" الناس بالنسبة للوعي بأنفسهم إلى ثلاثة أصناف: الأول الواعون بأنفسهـم: وهم الذيـن يدركون حالتهم النفسية في أثناء معايشتها، وعندهم الحنكـة فيما يخص حياتهم الانفعالية ويمثـل إدراكهم الواضـح لانفعالاتهم أساساً لسماتهـم الشخصية يتمتعون باستقلالية في شخصياتهم، واثقون من أنفسهم ويتمتعون بصحة نفسية جيدة، ويميلون أيضاً إلى النظر للحياة نظرةً إيجابية، وهم أيضاً قادرون على الخروج من مزاجهم السيء في أسرع وقت ممكن، باختصار تساعدهم عقلانيتهم على إدارة عواطفهم وانفعالاتهم. أما الصنف الثاني الغارقون في انفعالاتهم: العاجزون عن الخروج منها، وكأن حالتهم النفسية تمتلكهم تماماً، وهم متقلبو المزاج، غير مدركين لمشاعرهم إلى الدرجة التي يضيعون فيها ويتوهون عن أهدافهم إلى حدٍ ما، ومن ثم فهم قليلاً ما يحاولون الهرب من حالتهم النفسية السيئة، كما يشعرون بعجزهم عن التحكم في حياتهم العاطفية، إنهم أناس مغلوبون على أمرهم فاقدو السيطرة على عواطفهم. وأخيراً المتقبلون لمشاعرهم: وهـؤلاء على الرغم من وضوح رؤيتهم بالنسبة لمشاعرهم، فإنهم يميلون لتقبل حالتهم النفسية دون محاولة لتغييرها، وهؤلاء ينقسمون إلى مجموعتين، الأولى: تشمل من هم عادة في حالة مزاجية جيدة، ومن ثم ليس لديهم دافع لتغييرها. أما المجموعة الثانية: تشمل من لهم رؤية واضحة لحالتهم النفسية، ومع ذلك فحين يتعرضون لحالة نفسية سيئة يتقبلونها كأمر واقع، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها على الرغم من اكتئابهم، فهم استكانوا لليأس.
2- إدارة العواطف والتحكم بهاEmotion Handling ، إن الوعي بالذات والتعامل مع المشاعر لتكـون ملائمة مع المواقف الحالية، يتم عن طريق القدرة على تهدئة النفس، والتخلص من القلق الجامح، وسرعة الاستثارة. وإن من يفتقر إلى هذه المقدرة، يظل في عراك مستمر مع الشعور بالكآبة، أما من يتمتع بهـا فهو ينهض من كبـوات الحياة وتقلباتها بسرعة أكبر.
3- تحفيـز النفس Motivation عبر توجيـه العواطف في خدمة هدف ما، فهذا أمر مهم لتنبيه النفس ودفعها للتفوق والإبداع، فالتحكم في الانفعالات وتأجيل الإشباع، أساس مهم لكل إنجاز ومن يتمتع بهذه المهارة الانفعالية يكون لديه فاعلية في كل ما يناط به من أعمال.
4- معرفـة عواطف الآخرين أو التقمص الوجدانيEmpathy ، وهي مقـدرة تتأسس على الوعـي بالانفعالات، حيث يدفع التقمص الوجداني الإنسان إلى الإيثار والغيرية (الاهتمام بالغير)، ومن لديه هذه الملكة يكون أكثر قدرةً على التقاط الإشارات التي تدل على أن هناك من يحتاج إليهم.
5- توجيه العلاقات الإنسانية أو المهارات الاجتماعية Social Skills عن طريق إدارة انفعالات الآخرين وتطويع عواطفهم، والقدرة على القيـادة الفاعلة والتأثير في الآخرين من خلال مشاعرهم.
خلاصة القول، إنك إذا كنت تتمتع بمستوى مرتفع من الذكاء العاطفي أو تريد تعزيزه من أجل تحقيق النجاح في حياتك الشخصية والاجتماعية والمهنية، نعرض لك في هذا السياق الصفات التي يشترك فيها الأشخاص الناجحون من أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع، وهي كالآتي: أولاً: لا يسعون للكمال، إن سعيك للكمال قد يقف بينك وبين إتمام المهام وتحقيق أهدافك، لأنك ستجد صعوبة جمّة عندما تريد البدء بأي عمل، وستجد نفسك تماطل وتفاضل بين المهام، الأمر الذي سيستغرق منك وقتاً طويلاً حتى تستقر على رأي. ولهذا السبب لا يسعى أصحاب الذكاء العاطفي العالي للكمال، ويدرك هؤلاء بأن الكمال غير موجود، لذا يمضون قدماً بخطى واثقة. وفي حال وقعوا في خطأ، يجرون التعديلات اللازمة، ويتعلمون من ذلك الموقف. ثانياً: يعرفون كيف يحققون التوازن بين العمل والراحة. إن العمل لفترة طويلة من الزمن من دون العناية بنفسك، سيؤدي إلى مشاكل نفسية وصحية أنت في غنى عنها، ولهذا السبب، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع متى يحين وقت العمل ومتى يحين وقت الاسترخاء. فعلى سبيل المثال، إذا كان هؤلاء الأشخاص يريدون الانقطاع عن العالم لبضع ساعات أو حتى في عطلة نهاية الأسبوع، فإنهم يفعلون ذلك، نظراً لحاجتهم لوقت مستقطع للحد من مستويات التوتر والإجهاد. ثالثاً: يتقبلون التغيير، بدلاً من الخوف من التغيير، يدرك أصحاب الذكاء العاطفي أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من الحياة. والخوف من التغيير يعيق النجاح، لذلك يتكيف هؤلاء الأشخاص مع التغيرات المحيطة بهم، كما لديهم خطة تعينهم على التأقلم مع المستجدات الطارئة. رابعاً: لا يتشتت انتباههم بسهولة، لدى الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي المرتفع القدرة على التركيز بشدة على المهام الموكلة إليهم، ولا يتشتت انتباههم بسهولة بفعل البيئة المحيطة بهم. خامساً: التعاطف مع الآخرين، يقول دانييل جولمان، كتابه " ركِّز (المحفز الخفي للتميز) "، إن التعاطف هو أحد المكونات الخمسة للذكاء العاطفي. في واقع الأمر، إن قدرتك على التواصل مع الآخرين وإظهار تعاطفك معهم، وانتهاز الفرصة لمساعدتهم، من العناصر الحاسمة التي من شأنها رفع مستوى الذكاء العاطفي الخاص بك. سادساً: يدركون مكامن قوتهم وضعفهم، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي الأشياء التي يبرعون فيها والأشياء التي لا يتقنوها، كما أنهم يعرفون أيضاً كيفية الاستفادة من نقاط القوة والضعف من خلال العمل مع الأشخاص المناسبين وفي الوقت المناسب. سابعاً: لديهم دوافع ذاتية، إذا كنت ذلك الطفل الطموح الذي يعمل بجد واجتهاد، وكان دافعك الحقيقي تحقيق هدفك وليس المكافأة فقط؟ كونك مثابر، حتى لو في سن مبكر، فهي إحدى السمات التي يمتلكها أصحاب الذكاء العاطفي. ثامناً: عدم الرجوع إلى الماضي، ليس لدى أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع وقت للتفكير بالماضي، لأنهم منشغلون جداً بالتفكير في الاحتمالات التي سيجلبها لهم المستقبل، كما لا يدعون الأخطاء السابقة تثبط معنوياتهم. تاسعاً: يركزون على النواحي الإيجابية، يفضل أصحاب الذكاء العاطفي تكريس وقتهم وجهدهم في حل المشاكل، وبدلاً من النظر إلى السلبيات، يتطلعون للنواحي الإيجابيــــة وما يمتلكون السيطرة عليه.
وهكذا نجد أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليه. وفي ذات السياق لابد لنا من الإشارة إلى العلاقة القائمة بين الإيمان والذكاء العاطفي، فإذا كان الذكاء العاطفي يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة، فإن الإيمان يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة في الدنيا والآخرة، وإن الإنسان يشعر بحلاوة الإيمان عندما يتحلى بمهارات الذكاء العاطفي ويربطها بربه ودينه وآخرته.
يُحكى أن يابانياً من محاربين الساموراي، أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار. لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: " أنت تافه ومغفل، أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك ... ".
آهان الراهب شرف الساموراي، الذي اندفع في موجة من غضب فسحب سيفه من غمده وهو يقول " سأقتلك لوقاحتك ... "، أجابه الراهب بهدوء " هذا تماماً هو (الجحيم) ... ". هدأ الساموراي، وقد روعته الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده. وانحى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته، فقال له الراهب: " هذه هي (الجنة)... ".
هكذا كانت يقظة الساموراي المفاجئة، وإدراكه لحالة التوتر التي تملكته. تصور الاختلاف الحاسم بين أن يسيطر عليك شعور ما. وأن تدرك في الوقت نفسه أن هذا الشعور قد جرفك بعيداً عن التعقل. لا شك أن وصية الفيلسوف اليوناني سقراط التي تقول " اعرف نفسك " تتحدث عن حجر الزاوية في الذكاء العاطفي، الذي هو وعي الإنسان بمشاعره وقت حدوثها.
إن أي نظرة للطبيعة الإنسانية تتجاهل قوة تأثير العواطف هي نظرة ضيقة الأفق بشكلٍ مؤسف. والواقع أن اسم " الجنس البشري Homo Sapiens " ذاته أي الجنس المفكر، يعد تعبيراً خادعاً في ضوء الرؤية والفهم الجديدين لموقع العواطف في حياتنا واللذين يطرحهما العلم الآن. وكلما علمتنا خبرات الحياة، فإن مشاعرنا غالباً ما تؤثر في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا بأكثر مما يؤثر تفكيرنا عندما يتعلق الأمر بتشكيل مصائرنا وأفعالنا. ولقد غالينا كثيراً في التأكيد على قيمة وأهمية العقلانية البحتة التي يقيسها معامل الذكاء (IQ) في حياة الإنسان. وسواء كان هذا المقياس إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فلن يحقق الذكاء العقلي شيئاً لو كبح جماح العواطف.
شهدت الأبحاث والدراسات العلمية المتعلقة بعواطف الإنسان نقلة نوعية بما أن العواطف والمشاعر تلعب دوراً كبيراً في التأثير على السلوك الإنساني وإقامة العلاقات والروابط الاجتماعية مع الآخرين، فقد نقوم أحياناً باتخاذ القرارات والإتيان بالتصرفات وتحديد موقفنا من الآخرين بناءً على مشاعرنا أو عواطفنا. لذا سعى علماء النفس إجراء مجموعة من الدراسات والأبحاث لتفسير دور العواطف الإنسانية الإيجابي في الحياة اليومية، وبالأخص فيما يتعلق بالذكاء العاطفي.
تتمثل أهمية الذكاء العاطفي في الصلة بيـن الإحساس والشخصية والاستعدادات الأخلاقية النظرية، وأن المواقف الأخلاقية الأساسية في الحياة إنما تنبع من قدرات الإنسان الانفعالية الأساسية، ذلك أن الانفعال بالنسبة للإنسان هو (واسطة) العاطفة، وهو شعور يتفجر داخل الإنسان للتعبير عن نفسه في فعل ما. وهؤلاء الذين يكونون أسرى الانفعال أي المفتقرون للقدرة على ضبط النفس، إنما يعانون من عجز أخلاقي فالقدرة على السيطرة على الانفعال هـي أساس الإدارة وأساس الشخصية وأساس مشاعر الإيثار إنما يكمن في التعاطف مع الآخرين أي القدرة على قراءة عواطفهم، أما العجز عـن الإحساس باحتياج الآخر أو بشعوره بالإحباط فمعناه عدم الاكتراث به.
كما يعد الذكاء العاطفي صفة أساسية في تكوين شخصية القائد الناجح The personality of the successful leader، وذلك أن القدرة على التأثير في الآخرين هي الصفة الأهم في القيادة، لأن هذه الصفة تحدد فيما إذا كانت الصفات الأخرى ستعمل أم لا، فما قيمة صفة الذكاء والقدرة على التخطيط إذا لم يكن القائد قادراً على التأثير في الآخرين؟
أثبتت الدراسات والأبحـاث المعاصرة أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليها. بناءً على ما سبق يتحتم علينا الإجابة على التساؤلات الرئيسية التالي: ما هو مفهوم الذكاء العاطفي؟ وما هي أسسه؟ وكيف يؤثر في معرفتنا لأنفسنا؟ وما هي الصفات التي يتمتع بها أصحاب الذكاء العاطفي؟
- مفهوم الذكاء العاطفي: تشير تعريفات الباحثين للذكاء العاطفي على أنـه قدرات ومهارات في فهم مشاعر الذات ومشاعر الآخرين، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا المضمون. يعرف سالوفي وماير الذكاء العاطفي بأنه القدرة على معرفة الشخص مشاعره وانفعالاتـه الخاصة كما تحدث بالضبط، ومعرفته بمشاعر الآخرين، وقدرته على ضبط مشاعره، وتعاطفه مع الآخرين والإحساس بهم، وتحفيز ذاته لصنع قرارات ذكية.
ويرى دانييل جولمان مؤلف كتاب " الذكاء العاطفي " الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أن الذكاء العاطفي هو مجموعة من السمات، قد يسميها البعض صفـات شخصية، لها أهميتها البالغـة في مصيرنا كأفراد. بمعنى آخر، أن تكون قادراً على حث نفسك على الاستمرار في مواجهة الإحباطات، والتحكم في النزوات، وتأجيل، إحساسك بإشباع النفس وإرضائها، والقدرة على تنظيم حالتك النفسية، ومنع الأسى أو الألم من شل قدرتك على التفكير، وأن تكون قادراً على التعاطف والشعور بالأمل. ويعرفـه آخرون بأنه القدرة على التعامل مع المعلومات العاطفيـة، من خلال استقبـال هذه العواطف واستيعابهـا وفهمها وإدارتها.
بناءً على ما سبق يمكننا تعريفه بأنه مجموعة من القدرات أو المهارات الشخصية التي تساعد الشخص على معرفة مشاعره وانفعالاته، وسيطرتـه عليها جيداً، وفهم مشاعـر وانفعالات الآخرين، وحسن التعامل معهـم، وقدرته على استثمار طاقته الوجدانية في الأداء الجيد، وعلى إقامـة علاقات طيبة مع المحيطين. باختصـار هو قدرة الإنسـان على التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين، لتحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولمن حوله. ووفقاً لمجلة " Psychology today "، فإن الذكاء العاطفيEmotional Intelligence هو القدرة على تحديد وإدارة عواطفك وعواطف الآخرين، وهذا الأمر عادةً ما ينطوي على:
- الوعي العاطفي، ويتضمن القدرة على تحديد مشاعرك ومشاعر الآخرين.
- القدرة على تسخير المشاعر وتطبيقها عملياً في حل مشاكلك في الحياة اليومية.
- القدرة على إدارة العواطف، مثل التحكم بمشاعر الغضب أو القدرة على الحفاظ على هدوئك عندما تكون مستاءً.
- أسس الذكاء العاطفي: يقوم الذكاء العاطفي على الأسس الآتية:
1- أن يعـرف كل إنسان عواطفه من خلال الوعي بالـذات Self - Awareness فالوعي بالنفس والتعرف على الشعور وقت حدوثه، هو الحجر الأساسي في الذكاء العاطفي، وامتلاك القدرة على رصد المشاعر من لحظة إلى أخرى يعد عاملاً حاسماً في فهم النفس، كما أن عدم القدرة على فهم المشاعر الحقيقية، تجعل الفرد يقع تحت رحمتها، فالأشخاص الذين يمتلكون هذه القدرة أشخاص واثقون في أنفسهم وفيما يتخذونه من قرارات.
وقد صنف " ماير" الناس بالنسبة للوعي بأنفسهم إلى ثلاثة أصناف: الأول الواعون بأنفسهـم: وهم الذيـن يدركون حالتهم النفسية في أثناء معايشتها، وعندهم الحنكـة فيما يخص حياتهم الانفعالية ويمثـل إدراكهم الواضـح لانفعالاتهم أساساً لسماتهـم الشخصية يتمتعون باستقلالية في شخصياتهم، واثقون من أنفسهم ويتمتعون بصحة نفسية جيدة، ويميلون أيضاً إلى النظر للحياة نظرةً إيجابية، وهم أيضاً قادرون على الخروج من مزاجهم السيء في أسرع وقت ممكن، باختصار تساعدهم عقلانيتهم على إدارة عواطفهم وانفعالاتهم. أما الصنف الثاني الغارقون في انفعالاتهم: العاجزون عن الخروج منها، وكأن حالتهم النفسية تمتلكهم تماماً، وهم متقلبو المزاج، غير مدركين لمشاعرهم إلى الدرجة التي يضيعون فيها ويتوهون عن أهدافهم إلى حدٍ ما، ومن ثم فهم قليلاً ما يحاولون الهرب من حالتهم النفسية السيئة، كما يشعرون بعجزهم عن التحكم في حياتهم العاطفية، إنهم أناس مغلوبون على أمرهم فاقدو السيطرة على عواطفهم. وأخيراً المتقبلون لمشاعرهم: وهـؤلاء على الرغم من وضوح رؤيتهم بالنسبة لمشاعرهم، فإنهم يميلون لتقبل حالتهم النفسية دون محاولة لتغييرها، وهؤلاء ينقسمون إلى مجموعتين، الأولى: تشمل من هم عادة في حالة مزاجية جيدة، ومن ثم ليس لديهم دافع لتغييرها. أما المجموعة الثانية: تشمل من لهم رؤية واضحة لحالتهم النفسية، ومع ذلك فحين يتعرضون لحالة نفسية سيئة يتقبلونها كأمر واقع، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها على الرغم من اكتئابهم، فهم استكانوا لليأس.
2- إدارة العواطف والتحكم بهاEmotion Handling ، إن الوعي بالذات والتعامل مع المشاعر لتكـون ملائمة مع المواقف الحالية، يتم عن طريق القدرة على تهدئة النفس، والتخلص من القلق الجامح، وسرعة الاستثارة. وإن من يفتقر إلى هذه المقدرة، يظل في عراك مستمر مع الشعور بالكآبة، أما من يتمتع بهـا فهو ينهض من كبـوات الحياة وتقلباتها بسرعة أكبر.
3- تحفيـز النفس Motivation عبر توجيـه العواطف في خدمة هدف ما، فهذا أمر مهم لتنبيه النفس ودفعها للتفوق والإبداع، فالتحكم في الانفعالات وتأجيل الإشباع، أساس مهم لكل إنجاز ومن يتمتع بهذه المهارة الانفعالية يكون لديه فاعلية في كل ما يناط به من أعمال.
4- معرفـة عواطف الآخرين أو التقمص الوجدانيEmpathy ، وهي مقـدرة تتأسس على الوعـي بالانفعالات، حيث يدفع التقمص الوجداني الإنسان إلى الإيثار والغيرية (الاهتمام بالغير)، ومن لديه هذه الملكة يكون أكثر قدرةً على التقاط الإشارات التي تدل على أن هناك من يحتاج إليهم.
5- توجيه العلاقات الإنسانية أو المهارات الاجتماعية Social Skills عن طريق إدارة انفعالات الآخرين وتطويع عواطفهم، والقدرة على القيـادة الفاعلة والتأثير في الآخرين من خلال مشاعرهم.
خلاصة القول، إنك إذا كنت تتمتع بمستوى مرتفع من الذكاء العاطفي أو تريد تعزيزه من أجل تحقيق النجاح في حياتك الشخصية والاجتماعية والمهنية، نعرض لك في هذا السياق الصفات التي يشترك فيها الأشخاص الناجحون من أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع، وهي كالآتي: أولاً: لا يسعون للكمال، إن سعيك للكمال قد يقف بينك وبين إتمام المهام وتحقيق أهدافك، لأنك ستجد صعوبة جمّة عندما تريد البدء بأي عمل، وستجد نفسك تماطل وتفاضل بين المهام، الأمر الذي سيستغرق منك وقتاً طويلاً حتى تستقر على رأي. ولهذا السبب لا يسعى أصحاب الذكاء العاطفي العالي للكمال، ويدرك هؤلاء بأن الكمال غير موجود، لذا يمضون قدماً بخطى واثقة. وفي حال وقعوا في خطأ، يجرون التعديلات اللازمة، ويتعلمون من ذلك الموقف. ثانياً: يعرفون كيف يحققون التوازن بين العمل والراحة. إن العمل لفترة طويلة من الزمن من دون العناية بنفسك، سيؤدي إلى مشاكل نفسية وصحية أنت في غنى عنها، ولهذا السبب، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع متى يحين وقت العمل ومتى يحين وقت الاسترخاء. فعلى سبيل المثال، إذا كان هؤلاء الأشخاص يريدون الانقطاع عن العالم لبضع ساعات أو حتى في عطلة نهاية الأسبوع، فإنهم يفعلون ذلك، نظراً لحاجتهم لوقت مستقطع للحد من مستويات التوتر والإجهاد. ثالثاً: يتقبلون التغيير، بدلاً من الخوف من التغيير، يدرك أصحاب الذكاء العاطفي أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من الحياة. والخوف من التغيير يعيق النجاح، لذلك يتكيف هؤلاء الأشخاص مع التغيرات المحيطة بهم، كما لديهم خطة تعينهم على التأقلم مع المستجدات الطارئة. رابعاً: لا يتشتت انتباههم بسهولة، لدى الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي المرتفع القدرة على التركيز بشدة على المهام الموكلة إليهم، ولا يتشتت انتباههم بسهولة بفعل البيئة المحيطة بهم. خامساً: التعاطف مع الآخرين، يقول دانييل جولمان، كتابه " ركِّز (المحفز الخفي للتميز) "، إن التعاطف هو أحد المكونات الخمسة للذكاء العاطفي. في واقع الأمر، إن قدرتك على التواصل مع الآخرين وإظهار تعاطفك معهم، وانتهاز الفرصة لمساعدتهم، من العناصر الحاسمة التي من شأنها رفع مستوى الذكاء العاطفي الخاص بك. سادساً: يدركون مكامن قوتهم وضعفهم، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي الأشياء التي يبرعون فيها والأشياء التي لا يتقنوها، كما أنهم يعرفون أيضاً كيفية الاستفادة من نقاط القوة والضعف من خلال العمل مع الأشخاص المناسبين وفي الوقت المناسب. سابعاً: لديهم دوافع ذاتية، إذا كنت ذلك الطفل الطموح الذي يعمل بجد واجتهاد، وكان دافعك الحقيقي تحقيق هدفك وليس المكافأة فقط؟ كونك مثابر، حتى لو في سن مبكر، فهي إحدى السمات التي يمتلكها أصحاب الذكاء العاطفي. ثامناً: عدم الرجوع إلى الماضي، ليس لدى أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع وقت للتفكير بالماضي، لأنهم منشغلون جداً بالتفكير في الاحتمالات التي سيجلبها لهم المستقبل، كما لا يدعون الأخطاء السابقة تثبط معنوياتهم. تاسعاً: يركزون على النواحي الإيجابية، يفضل أصحاب الذكاء العاطفي تكريس وقتهم وجهدهم في حل المشاكل، وبدلاً من النظر إلى السلبيات، يتطلعون للنواحي الإيجابيــــة وما يمتلكون السيطرة عليه.
وهكذا نجد أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليه. وفي ذات السياق لابد لنا من الإشارة إلى العلاقة القائمة بين الإيمان والذكاء العاطفي، فإذا كان الذكاء العاطفي يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة، فإن الإيمان يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة في الدنيا والآخرة، وإن الإنسان يشعر بحلاوة الإيمان عندما يتحلى بمهارات الذكاء العاطفي ويربطها بربه ودينه وآخرته.