قدري حافظ طوقان - الرياضيات في الشعر

يقولون إن عداء مستحكما موجود بين الرياضيات والأدب بما فيه الشعر، ولكن الحقيقة تنقي وجود هذا العداء، والواقع لايؤيده، إذ ليس في أحدهما ما يناقض الآخر، وكثيراً ما استعان العلماء بأحدهما على الثاني. وإذا كان هناك عداء موضوع أو خصام موهوم، فهو في الحقيقة والواقع بين الرياضيين من جهة، والأدباء من جهة أخرى؛ وما علمت لهذا سبباً، وما قدرت أن أجد الدافع لذلك. فالأديب أو الشاعر يغيظه أن تذكر أمامه كلمة رياضيات، ويزيد في حنقه أن تجري أمامه بحوث في الأرقام والمعادلات والأشكال والخطوط، يتملص من جلسات الرياضيين ويشمئز حين الاجتماع بهم. وليس هذا خاصاً بالأدباء، فكذلك الذين يعنون بالعلوم الرياضية هم أشد حنقا على الأدباء من الأدباء عليهم، لا يتركون فرصة دون ذكر النوادر عن الأدباء والشعراء، وقد يتمادى بعضهم فيستهزئ بلغة العواطف والنسيم والطلول وهند وليلى ومجنونها. وتراهم (أو على الأقل يتظاهرون) بأنهم لا يفهمون معنى لأبيات يتخللها وصف بديع أو مجاز بليغ. هذا صراع موجود لا يمكننا إنكاره. وقلّ أن تجد أديبا أو شاعراً يعنى بالأرقام، كما أنه قل أن تجد رياضياً يعنى بالأدب أو الشعر. وأصبح الجمع بين الرياضيات والأدب والشعر في شخص واحد من الخوارق، بل من ضروب الشذوذ التي تثير الدهشة والاستغراب. فإذا قيل هذا أديب أو شاعر، فمعنى ذلك ضمناً أنه يمج الرياضيات ويكره كل شئ يحتوي على الأرقام والمعادلات. وإذا قيل هذا رياضي فمعنى ذلك ضمناً أنه يكره الأدب والشعر، ولا يفهم إلا الملموس المحسوس، ولا يتكلم إلا بلغة الأرقام. ولكن برغم ذلك فإننا نجد أشخاصاً برعوا وبرزوا في الناحيتين، وكان لهم فيهما جولات موفقات، فهناك رياضيون اعتنوا بالأدب ووجدوا فيه تسلية، وسحرهم الشعر وفنونه، ووجدوا فيه ملهاة، ولم تمنعهم الرياضيات من النظم أو من الغوص على كنوز الأدب، بل قد بلغ في بعضهم حب الجهتين أن استعمل الشعر في التعبير عن القوانين والمعادلات الرياضية. وإذا اطلعت على كتاب (مخطوط) للبيروني: (التفهيم لأوائل صناعة التنجيم) رأيت أدباً عالياً، ودقة في التعابير بالغة الدرجة العليا من الإجادة. وهناك شعراء عكفوا على دراسة الرياضيات والفلك، وشعروا بلذة دراستهما، وبلغوا فيهما ذروة عالية يحسدهم عليها الكثيرون.

لا أعرف شاعراً أو شاعرة قبل زرقاء اليمامة نظم شعراً وضمنه مسألة حسابية. ومما لاشك فيه أنها لم تكن تقصد وضع معضلة رياضية في قالب شعري، إنما جل ما في الأمر أنها كانت حادة البصر، وقد رأت سربا من الطيور، فرغبت في وضع عدده شعراً. وأرجح أن إيجاد العدد يحتاج إلى عملية حسابية يعجز عنها الكثيرون من فحول الشعراء وكبار الأدباء، أما الأبيات فهي:

ليت الحمام ليه ... ونصفه قديه

إلى حمامتيه ... صار الحمام ميه

والمعنى المقصود من هذين البيتين أنه إذا أضيف إلى هذا السرب نصفه وحمامة واحدة لكان حاصل الجمع مئة، فإذا أخذت الحمامة كان الباقي تسعاً وتسعين، وهذا العدد يعدل عدد الحمام ونصفه، أي أن عدد الحمام ست وستون. وقد علق النابغة الذبياني على هذه الأبيات، ويظهر منها أنه يعرف عدد الطيور مع أنه لم يذكر ذلك صراحة. قال النابغة:

أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد

يحفه جانباً نيق وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكمل من الزمد

قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد

فحسبوه فألفوه كما زعمت ... تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد

فكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد

وإذا اطلعت على ديوان أبي نؤاس وقد غمره الحب والخمر واستوليا عليه ودخلا في كل أعماله الصغيرة والكبيرة، أقول إذا اطلعت على ديوانه العجيب الغريب وجدت فيه بعض أبيات أشار فيها إلى تقسيم قلبه بين جنان حبيبته والساقي والعشاق تقسيماً حسابياً غريباً في بابه تقسيمات أبي نؤاس:

جنان حصلت قلبي ... فما إن فيه من باق

لها الثلثان من قلبي ... وثلثا ثلثه الباقي

وثلثا ثلث ما يبقى ... وثلث الثلث للساقي

فتبقى أسهم ست ... تجزأ بين عشاق ولقد وجد في الغرب من استطاع أن يضع كثيراً من الطرق والقوانين التي تتعلق بالأرقام والأعمال الأربعة شعراً. واعتنى بعض علماء الرياضة بالشعر والأدب، ورغب غير واحد منهم في وضع الجبر شعراً، فابن الياسمين وضع أرجوزة في علم الجبر وقد شرحها كثيرون. وفي هذه الأرجوزة نجد خلاصة كثير من القوانين والمعادلات الجبرية التي يجدها القارئ في كتب الجبر الحديثة. وتدل الأرجوزة على تضلع الناظم في الجبر وبعد غوره فيه، على أن ثروته الأدبية لا يستهان بها، وتدل أيضاً على أن لديه شاعرية قوية قد لا نجدها في كثيرين من شعراء زمانه، وإني أعتقد أنه لولا إحاطته بالجبر والشعر إحاطة كلية لما استطاع أن يضعهما في قالب سلس جذاب. ولدينا نسختان من أرجوزة ابن الياسمين، أخذنا الأولى عن مخطوطة قديمة موجودة في المكتبة الخالدية في القدس وهي (شرح الياسمينية للمارديني)، والثانية أرسلها إلينا الصديق الأديب عبد الله كنون من شباب طنجة بالمغرب ومن نجومها اللامعة في سماء الشعر والتاريخ.

ولنرجع إلى الشعر الموجود في أرجوزة أبن الياسمين فنجد أنه يبدأ بذكر خواص القواعد الأربع الأصلية وشرح طرق حلها للأعداد الصحيحة والكسرية، وبعد ذلك ينتقل إلى علم الجبر فيقول:

على ثلاثة يدور علم الجبر ... المال والأعداد ثم الجذر

ثم يفسر كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة يقوله:

فالمال كل عدد مربع ... والجذر واحد تلك الأضلع

والعدد المطلق ما لم ينسب ... للمال أو للجذر فافهم تصب

من هنا يفهم أن المال هو كل عدد مربع، والجذر أحد ضلعيه، والعدد المطلق هو الذي لم ينسب إلى جذر ولا إلى مال ولا إلى غيرهما، فالاثنان (مثلاً) عدد.

والجذر والشيء بمعنى واحد ... كالقول في لفظ أب ووالد

أي أن الجذر والشيء مترادفان، وبعبارة أخرى يمكن أن يقال إن الجذر هو العدد المجهول ويعبر عنه بالحرف (س) في علم الجبر وعلى ذلك يكون المال (س2). ثم يبحث ابن الياسمين في المعادلات وأقسامها وأنواعها وطرق حلها ويأتي بعد ذلك على شرح طريقة إكمال المربع لحل المعادلة ذات الدرجة الثانية، وإذا تتبعت خطواتها بالدقة تجدها هي بنفسها الخطوات المتبعة في الكتب الجبرية الحديثة.

فربع النصف من الأشياء ... واحمل على الأعداد باعتناء

وخد من الذي تناهى جذره ... ثم انقص التنصيف تفهم سره

فما بقى فذاك جذر المال ... وهذه رابعة الأحوال

ولم يستطع العرب أن يدركوا القيم السالبة، أي أنهم لم يعتبروا من جذور المعادلة إلا الموجب. ثم يشرح طريقة استخراج المجهول في المعادلة التي يكون فيها معامل (س2) غير الواحد، وهي نفس الطريقة التي تجدها في كتب الجبر للمدارس الثانوية. وأعطى طرقاً لكيفية حل بعض المعادلات التي تكون في أوضاع مخصوصة مثاله:

فاجمع إلى أعدادك التربيعا ... واستخرجن جدرها جميعا

واحمل على التنصيف ما أخدتا ... فذلك الجدر الذي أردتا

ولم يقف ابن الياسمين عند هذا الحد، بل نجده يشرح بعض النظريات التي تتعلق بالقوى والأسس وطرق ضربها في بعضها وقسمتها على بعضها. ولم ينس أيضاً أن يذكر معنى كلمتي (جبر) و (مقابلة) فقال:

وكل ما استثنيت في المسائل ... صيره إيجاباً مع المعادل

وبعد ما يجبر فليقابل ... بطرح ما نظيره يماثل

ولولا الخوف من الملل الذي قد يتسرب إلى القراء ولا سيما الأدباء منهم لأتينا على شرح هذين البيتين تفصيلاً. ولقد سبق أن شرحت معنى الكلمتين (جبر) و (مقابلة) في مقالي في المقتطف.

وتنتهي الأرجوزة بالصلاة والسلام على النبي.

ويوجد شعر كثير حوى مسائل حسابية وهندسية ومعضلات فلكية من الصعب فهمها وقد يكون حلها أيضاً.

وفوق ذلك أخذ الشعراء بعض الاصطلاحات والأسماء والآلات الفلكية والرياضية واستعملوها في شعرهم فقد كتب أبو إسحاق الصابي في يوم مهرجان مع إسطرلاب أهداه إلى عضد الدولة ما يلي:

أهدي إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليه لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك عن شيء يدانيه

لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدى لك الفلك العالي بما فيه

وكتب أيضاً مع زيج أهداه - والزيج هو كتاب يتضمن جداول وحسابات فلكية: -

أهديت محتفلا زيجا جداوله ... مثل المكاييل يستوفى بها العُمر

فقس به الفلك الدوار واجر كما ... يجري بلا أجل يخشى وينتظر

ومما كتب إليه في يوم نيروز مع رسالة هندسية من استخراجه:

رأيت ذوي الآمال أهدوا لك الذي ... تروق العيون الناظرات محاسنه

وحولك خزان يحوزونه وما ... له منك إلا لحظ طرف يعاينه

ولكنني أهديت علماً مهذباً ... يروق العقول الباحثات بواطنه

وخير هدايانا الذي إن قبلته ... فليس سوى تامور قلبك خازنه

وأخذ بعضهم من الأفلاك والكواكب ومن الظواهر الطبيعية والفلكية ميداناً لنظم الشعر ومسرحاً للخيال، قال أحدهم، ولا يحضرني اسمه الآن:

أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال لونه يحكي اللهب

ككرة من فضة مجلوة ... أو في عليها صولجان من ذهب

وقال التهامي في البقع السوداء التي تظهر على سطح القمر:

فبات يجلو لنا من وجهها قمراً ... من البراقع لولا كلفة القمر

وقال ابن المعتز في وصف الهلال:

أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر

وجاء في سقط الزند للمعري وصف للسماء وما فيها من أجرام وقد صورت أحسن تصوير في قالب شعري جميل:

كأن سهاها في مطالع أفقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا

كأن بني نعش ونعشاً مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا

كأن سهاها عاشق بين عود ... فآونةً يبدو وآونةً يخفي

كأن قدامي النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسمُ الخوافي له ضعفا

وجاء أيضاً: سقتها الذراع الضيغمية جهدها ... فما أغفلت من بطنها قيد أصبعِ

بها ركز الرمح السماك وقطعت ... عُرى الفرع في مبكى الثريا بأدمع

ويستبطأ المريخ وهو كأنه ... إلى الغور نار القابس المتسرع

وتبتسم الأشراط فجرا كأنها ... ثلاث حمامات سدكن بموضع

وتعرض ذات العرش باسطةً لها ... إلى الغرب في تغويرها يد أقطع

وجمع الشيخ اليازجي أسماء البروج في ثلاثة أبيات فقال:

من البروج في السماء الحملُ ... تنزل فيه الشمس إذ تعتدل

والثور والجوزاء نعم المنزلة ... وسرطان أسد وسنبله

كذلك الميزان ثم العقرب ... قوس وجدي دلو حوت يشرب

وقال أبو العباس ابن الخليفة المعتز بالله في مخاطبة القمر:

يا ساقي الأنوار من شمس الضحى ... يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي

أما ضياء الشمس فيك فناقص ... وأرى حرارة نارها لم تنقص

لم يظفر التشبيه منك بطائل ... متسلخ بهقا كلون الأبرص

ولا يمكننا في هذه العجالة الإتيان على أكثر ما قاله الشعراء وعلماء الفلك والرياضة في مبادئ العلوم الرياضية والفلكية فهو أجل من أن يحاط به في مقالة أو مقالتين آملين العودة إلى البحث فيه بصورة أوسع وأوفى للمرام.

(نابلس)
قدري حافظ طوقان
مجلة الرسالة - العدد 63
بتاريخ: 17 - 09 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...