إعداد: د. عادل الأسطة
جامعة النجاح الوطنية
كلية الآداب/قسم اللغة العربية
لا تظهر النصوص الروائية، غالباً، تصور الذات لذاتها أو صورة للآخر وحسب، فهي أحياناً تبرز تصور الاخر للآخر الذي تخيلها أو كتب عنها. ونحن في النصوص المعاينة، كما لاحظنا، أمام ذات تكتب عن ذاتها القومية، وتبرز هنا تصورها لآخرها، وأمام سارد يعرض لنماذج الآخر.
ويبدو تخيل المتخيل في النصوص الأربعة أوضح ما يكون في"الزوبعة "، إذ لا تبـرز النصوص الأخـرى، إلا ما ندر وهو ما يبدو في" الرغيف" ، تصور الآخر فيها للعرب.
وكما أشرت، تضم الذات القومية في " الزوبعة " البدوَ العربَ والإقطاعَ في منطقة بلاد الشام والفلاحين؛ مسيحيين ومسلمين، وسكان المدن التي تقع في المنطقة العربية؛ دمشق والقدس وعمان-قبل أن تصبح مدينة- والعقبة وبغداد … الخ، وأما الذات غير القومية، وهي هنا آخر العرب، فتشمل الأتراك والأرثوذكس اليونان والفرنسيين والإنجليز والشركس الذين جاءوا إلى الوطن العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قبل أن يصبحوا جزءاً من الذات القومية، كما هم الآن حيث يعدون عرباً.
وتحفل " الزوبعة " بنماذج غير عربية، من أتراك وفرنسيين ويونانيين وإنجليز، من هؤلاء مَنْ له حضور رئيس في الرواية، ومنهم من لا حضور له إلا قليلاً، وإذا ما اسـتعرنا مصطلحات نقد الرواية، قلنا إن بعض هؤلاء يعدون شخصيات رئيسـة، وبعضهم شـخصيات ثانوية. ولئن كنت، من قبل، توقفت أمام النماذج التركية، لأن الدراسة تبحث عن الأتراك، فإنني سأبرز تصور غير العرب للعرب، كما يقدمها زياد قاسم.
ويرسم الكاتب شخصيات عربية وأخرى غير عربية، ويترك لها، أحياناً، حرية التعبير عن ذاتها وعن رؤيتها لآخرها، وإن كان لا يبدو سارداً محايداً، أو سارداً يكتفي بتصوير الآخرين من خلال عدسة كاميرته، فهو يبدو غالباً سارداً كلي المعرفة وسارداً غير محايد، إذ نقرأ تعليقاته على سلوكات شخوصه وتصرفاتهم، ولربما يدفع هذا المرءَ إلى التساؤل عن إحاطة هذا السارد بتلك العوالم والشخوص التي كتب عنها، وما هي المراجع التي اعتمد عليها في تقديم عالمه المتنوع المترامي الأطراف؟
ولئن كان هذا، حقاً، يحتاج إلى دراسة، إلاّ أن ما يهمني هنا هو ما يتعلق بالصور الذهنية المتبادلة، فلئن كان الكاتب يبرز لغير العرب تصوراً ما، فإنه يترك لهؤلاء، - أي لغير العرب – المجال لأن يفصحوا أيضاً عن رؤيتهم للعرب، فكيف بدت صورة العرب في أذهان الآخرين؟
ولن أكتب هنا عن صورة العرب كما قدمها السارد في الرواية، لأن الشخصيات العربية ذات حضور واسع وتحتاج الكتابة عنها إلى صفحات طويلة، وليس هذا مرماي، إذ هدفي هو أن أكتب عن صورة الآخر، وهذا ما أبرزته في الجزء الأول من الدراسة، وما سأبرزه هنا يعد تمماً ومكملاً للجزء الأول.
ينظر الجندي التركي إلى المسيحي العربي على أنه كافر(ص13)، وأما الصواف التركي الذي يقيم في الآستانة ويقوّد على زوجته وبناته فينظر إلى العرب بقرف(ص87) وأما جمال باشا السفاح فيرى العرب " حفاة يرتدون فساتين رثة ويريدون الثورة على تركيا "(ص479) وحين يخسر هذا الحرب ويتذكر ما ألم به ويبحث عن الأسباب يرى أن دور العرب في مسـاعدة الإنجليز كان ســبباً مهماً في خسارته، وهكذا ازداد نقمة على العرب ورأى فيهم " الأفعى التي تسكن فراشه" وأنهم بطبعهم خونة غدارون " (492) والعرب في نظر جاويش تركي حمقى (ص502). ويبدو أن نعت العرب بالخونة والغدارين تعززت منذ بداية القرن العشرين، وذلك لتمرد العرب على الأتراك ووقوفهم إلى جانب الإنجليز. ويرى جمال باشا في البدو أعداءً داخليين للأتراك، وأنه يمكن السيطرة عليهم ممن خلال الذهب لأن " إيمان البدو بالذهب أكثر من إيمانهم بالأنبياء. ولورنـس الإنجليزي الذي وصلت شـهرته الآفاق لم يسـتمل القبائل البدوية بسـبب زرقة عينيه، وإنما بسبب لمعان ذهبه الإنجليزي" (ص590) ويتكرر وصـف البـدو بحـب الذهب، فعرب العقبة كانـوا يتوقعون الإنجليز وذهبهم، فجاءهم " عربان مستعدون للقتل من أجل الذهب "(ص590). وكنا لاحظنا أن الأتراك يحبون الذهب، ولا يختلف اليهود عن هؤلاء.
ونظرة الاحتقار هنا للعرب، كما تبدو من خلال أعين الأتراك في الرواية، ليست مقتصرة عليهم. يأتي الروائي على المطران الأرثوذكسي اليونان ويشير إلى أنهم لا يرغبون في أن يكون بينهم عرب، وبخاصة البدو، وحين يريد الأب سمعان أن يغدو راهباً في الدير، يرفض الأرثوذكسي ذلك، على الرغم من وجود الأب جابر الكاهن العربي الوحيد في الدير، ويعقب أحد المطارنة على عرض الأب سمعان:
"مسيخ. مسيخ. كل أرابي موش قادر ياكل بصير يقول مسيخ"(ص164)
ويعقب السارد:
" فالعرب برأيه لم يكونوا يوماً ولن يكونوا رعية وفية للمسيح" (ص165) و " كان يعتبرهم عالة على الطائفة وطقوسها الرفيعة التي هي من حق أبناء اليونان وحدهم"، والعرب جوعى وكذابون. وحين يقارن الكاهن جابر بين البروتستنت والكاثوليك يكاشف إيليا في نظرة الأرثوذكس اليونان للعرب:
" الأمر من ذلك كله احتقار البطاركة الأرثوذكس للعنصر العربي وعدم السماح لهم بالترهبن في أخوية القبر المقدس ومنعهم من انتخاب الأساقفة والمحاكم الكنسية بينما البطاركة اليونان منغمسون في ملذاتهم وشهواتهم "(ص170) ويتكرر الحديث في الرواية في موطن آخر حيث يظهر أيضاً تعالي الأرثوذكسي اليونان على العرب(ص490).
لربما يجدر هنا التوقف أمام نظرة الشراكسة، في الرواية، إلى العرب. وعلينا ألا نغفل أن هذه النظرة تعود إلى نهاية ق19 وبداية ق20، وهما زمن أحداث الرواية. يأتي الشركس إلى عمان هرباً من المذابح التي ارتكبت بحقهم في روسيا القيصرية، ويقف الأتراك إلى جانبهم. من الشخصيات الشركسية في الرواية مقصود الذي قتل والده وهو يدافع عن ممتلكاته في عمان أمام غزوات أشرف التركي، ولمقصود خال شارك في المعارك ضد الروس، ولغة هذا العربية ضعيفة، ولهذا فهو يحتاج إلى مترجم يسهل له التفاهم مع العرب المحتالين (ص309). وليس العرب محتالين وحسب، إنهم، كما يراهم الخال، مجانين ولا يحسنون التفكير.
يقص خال مقصود عليه عن معارك الشركس مع جنود القيصر، ويأتي على الحيلة التي لجأ إليها الشراكسة فانتصروا بسببها، ويسأل مقصوداً.
" بربك هل يوجد عربي يفكر هكذا "(ص313).
كأَن العرب، بل هم في نظرة الخال، لا يحسنون التفكير. ونرى الشركس يفضلون اليهود على العرب. يذهب مقصود إلى طبرية ويضاجع اليهوديات ويعقب:
" شتان بين العرب واليهود. عربيم موليخ لاخيم" ناقلاً بذلك شتيمة اليهود في العرب.
إن نظرة الآخرين للعرب، كما تبرزها الرواية، تبدو، كما لاحظنا، سلبية جداً. والسؤال هو: هل هذه النظرة السلبية تعود لأن العرب كانوا مغلوبين على أمرهم، وأنهم كانوا خاضعين لحكم آخر إسـلامي ولكـن غير عربـي؟ لعلنـي هنـا أكتفـي بإبراز تَخَيْل تَخَيُّلْ المُتَخَيلْ، كما ورد في " الزوبعة "، فالإجابة عن هذا السؤال تقع خارج إطار العنوان وهو صورة الأتراك في نماذج قصصية من بلاد الشام "، وإن كان المرء يستطيع أن يقول إن بعض هذه الصور كان له أسبابه، فوصف العرب بأنهم غدارون خونة، وهو وصف يصدر عن جمال باشا، ما زال يتكرر لدى بعض الأتراك الذين ينقمون على العرب بسبب وقوفهم في الحرب الأولى إلى جانب الإنجليز، وقد أبرز ذلك الدكتور إبراهيم الداقوقي في كتابه " صورة العرب لدى الأتراك " (1996). يكتب الداقوقي:
" إن مؤرخي الفترة الكمالية المتشبعين بالأفكار القومية المتطرفة: يوسف آنجورا ويوسف ضياء وسعدي مقصودي ورشيد صفت(صفوت) قد وضعوا المؤلفات التاريخية التي تتجاهل العرب، وإذا ما ذكروا فإنهم يذكرون - أي العرب – كأعداء، وخونة وطاعنين الأتراك في الظهر".(ص45).
وتختلف هذه الصورة للعرب عن تلك التي قدمها لهم توفيق يوسف عواد و توفيق فياض وحنا مينه وزياد قاسم اختلافاً كلياً. العرب، في روايات هؤلاء وقصصهم، تحت الحكم العثماني في أيامه الأخيرة، كانوا يبحثون عن حريتهم واستقلالهم وتحررهم من نير الأتراك.
يقول الماركسيون إن الموقع يترك تأثيره على الموقف. فهل تفسر هذه المقولة الاختلاف في التصور للذات القومية وللذات غير القومية، هل للحقيقة وجه واحد أم أن لها وجهين أو وجوهاً عديدة؟ لن أقدم، شخضياً، إجابات، قدر ما أثير أسئلة، وإن كنت اقر بأن الأتراك ما كانوا لينهزموا لولا تردي حالتهم، وتحولهم إلى الرجل المريض الذي طمع الآخرون في أملاكه، بعد أن كان هو يدك أسوار أوروبا. وإنه لمن الممتع أن ينظر المرء إلى تصور العرب للأتراك، حين كان هؤلاء أقوياء في بداية امبراطوريتهم العثمانية.
الأتراك وتصورهم لذاتهم في الرواية العربية
تبرز الروايات المعاينة صورة للذات القومية، وقد ألمحت إليها بإيجاز، وتأتي أيضاً على صورة آخر هذه الذات، وهذا ما كان موضع معاينة مفصلة. وتظهر أيضاً تصور الآخر – وهنا نقصد التركي أكثر من غيره – للعرب، وقد عالجت ذلك في القسم الثاني. وتبدو لنا قليلاً صورة الآخر التركي لذاته. وهذه الصورة الأخيرة هي أيضاً صورة متخيلة تخيلها كاتب عربي، لأن تصور الأتراك عن أنفسهم في الأدب التركي يعكس تصورهم هم لا تصور الأدباء العرب، وتبدو معالجة هذه الصورة مغرية لأنها ستضعنا أمام تصورنا عرباً لتصور الأتراك لذاتهم، وتصور الأتراك أنفسهم لذاتهم.
وعلى العموم، يمكن القول إن تصور الأتراك لذاتهم، كما يبدو في النصوص المعاينة، يبدو قليلاً، ولربما تبدو رواية " الزوبعة " الوحيدة التي تعكس لنا هذه الصورة. وكنت أتيت من قبل على هذه الصورة بإيجاز شديد.
إنّ زيداً ابن خالة خالد الحجاج يقدم لنا هذه الصورة، ولكن زيداً هذا شخصية متقلبة متغيرة، وهو في تغيره وتقلبه يقدم لنا نموذجاً لبعض الأتراك، وتصدر عنه، في أثناء حديثه عن الأتراك، آراء متعارضة متناقضة في تثمين الأتراك وتبيان صورتهم في ذهنه. " الله فوق وتركيا تحت " يقول زيد مخاطباً أحد مساعديه الكبار حين يريد تعيين مديرٍ للمعارف في القدس، ويسأل عن هوية الشخص المقترح، اسمه: " هل هو تركي أباً عن جد ؟" (ص341)
وخالة زيد التركية، حين تعلم أن ابن أختها في القدس، ولم يأت ليسلم عليه، تصدر الرأي التالي في الأتراك: " إن الأتراك يعرفون الواجب والأصول تجاه الآخرين سواء أكانوا أقارب لهم أم لا.(ص341)
ولعل ما يلفت الانتباه هو مخاطبة زيد لخالته قائلاً:
" من سوانا يا خالتي يعرف الأصول. لا الفرنسيين ولا الإنجليز. لقد ساد الأتراك العالم بتواضعهم، الكبير كبير بتواضعه والصغير يصغر بتعاليه" (ص342)وهو قول يتناقض وسلوكه في بعض مراحل حياته، حيث كان يتعالى على العرب وبعض الأتراك. ولكن ما يفسر هذا التناقض هو ما يقوله السارد عن زيد " ما اسهل ما ينقلب زيد " ( ص 341).
الأتراك هو سلطان الله على أرضه، وهم يعرفون الأصول أكثر من غيرهم، وقد سادوا العالم بتواضعهم. هكذا هم في عيني زيد، فكيف يتصور جمال باشا ذاته وقومه؟
" أنا دائماً أفي بوعودي، ومن لا يفي وعده يستحق قطع رأسه "(ص481) يخاطب جمال باشا اشرف التركي. وهذه هي العبارة البارزة التي ينطق بها جمال باشا مبرزاً تصوره لذاته، وأما ما كتب عنه في الرواية، وهو أكثر مما نطق به، فهو تصور السارد، ومن ورائه الكاتب، لهذا القائد التركي، وتبدو صورته سلبية جداً كما لاحظنا. والسؤال هو: لو قرأنا الأدبيات التي أنجزت، في زمن جمال باشا، من الأتراك أنفسهم، وتلك التي أنجزت منهم أيضاً بعد عام 1924 فكيف كانت صورته فيها تبدو؟
الخلاصـــــــة
أنجزت النصوص المعاينة، كما لاحظنا، بعد زوال حكم الأتراك وفي زمن الدولة الوطنية، وغالباً ما كانت تكتب عن الأتراك يوم كان هؤلاء يحكمون الوطن العربي الذي عانى في فترة حكم الأتراك الأخيرة من الفقر والقمع والتخلف، وهذا جعل العرب لقمة سائغة لمستعمر جديد هو بريطانيا وفرنسا.
وما وصف به الأتراك من سلوكات شائنة، مثل الزنا واللواط وحب الذهب والقوادة وصف به غيرهم أيضاً، في الروايات نفسها. وكانت الكتابة عن الأتراك، بالإضافة إلى أنها أنجزت في زمن الدولة الوطنية، تخضع لرؤى الكتاب وتوجهاتهم، ولئن كانت النماذج التي برزت بدت غالباً سلبية، فإننا لم نعدم وجود نماذج إيجابية، وهذا ما بدا في نص حنا مينه الروائي.
ولربما يتساءل المرء: ماذا عن صورة الأتراك والكتابة عنهم فيما بعد عام 1918؟ ألم يكتب أي كاتب عن الأتراك أو عن نماذج بشرية تنتمي إلى ما بعد 1918؟ إن ذلك يشكل، في النصوص المعاينة، استثناء، وهو ما بدا في نص مينا. ولا أعرف شخصياً نصوصاً أخرى مشهورة أتت على الحياة في تركيا بعد عام 1924 ليكتب أصحابها عن تركيا العلمانية. ويبدو أن اتصال العرب بالغرب، ودراسة كثير من الكتاب هناك، مثل توفيق الحكيم وسهيل إدريس والطيب صالح، هو ما جعلهم يكتبون عن نماذج أوروبية. وإن المرء ليتطلع إلى قراءة نصوص تصور الأتراك بعيداً عن عالم السياسة وبعيداً عن الماضي المؤلم، ليرى صورة هؤلاء كما يبدون عليه في حياتهم اليومية، وفي عالم لا تحكمه علاقات توتر وسيطرة جماعة على جماعة.
جامعة النجاح الوطنية
كلية الآداب/قسم اللغة العربية
لا تظهر النصوص الروائية، غالباً، تصور الذات لذاتها أو صورة للآخر وحسب، فهي أحياناً تبرز تصور الاخر للآخر الذي تخيلها أو كتب عنها. ونحن في النصوص المعاينة، كما لاحظنا، أمام ذات تكتب عن ذاتها القومية، وتبرز هنا تصورها لآخرها، وأمام سارد يعرض لنماذج الآخر.
ويبدو تخيل المتخيل في النصوص الأربعة أوضح ما يكون في"الزوبعة "، إذ لا تبـرز النصوص الأخـرى، إلا ما ندر وهو ما يبدو في" الرغيف" ، تصور الآخر فيها للعرب.
وكما أشرت، تضم الذات القومية في " الزوبعة " البدوَ العربَ والإقطاعَ في منطقة بلاد الشام والفلاحين؛ مسيحيين ومسلمين، وسكان المدن التي تقع في المنطقة العربية؛ دمشق والقدس وعمان-قبل أن تصبح مدينة- والعقبة وبغداد … الخ، وأما الذات غير القومية، وهي هنا آخر العرب، فتشمل الأتراك والأرثوذكس اليونان والفرنسيين والإنجليز والشركس الذين جاءوا إلى الوطن العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قبل أن يصبحوا جزءاً من الذات القومية، كما هم الآن حيث يعدون عرباً.
وتحفل " الزوبعة " بنماذج غير عربية، من أتراك وفرنسيين ويونانيين وإنجليز، من هؤلاء مَنْ له حضور رئيس في الرواية، ومنهم من لا حضور له إلا قليلاً، وإذا ما اسـتعرنا مصطلحات نقد الرواية، قلنا إن بعض هؤلاء يعدون شخصيات رئيسـة، وبعضهم شـخصيات ثانوية. ولئن كنت، من قبل، توقفت أمام النماذج التركية، لأن الدراسة تبحث عن الأتراك، فإنني سأبرز تصور غير العرب للعرب، كما يقدمها زياد قاسم.
ويرسم الكاتب شخصيات عربية وأخرى غير عربية، ويترك لها، أحياناً، حرية التعبير عن ذاتها وعن رؤيتها لآخرها، وإن كان لا يبدو سارداً محايداً، أو سارداً يكتفي بتصوير الآخرين من خلال عدسة كاميرته، فهو يبدو غالباً سارداً كلي المعرفة وسارداً غير محايد، إذ نقرأ تعليقاته على سلوكات شخوصه وتصرفاتهم، ولربما يدفع هذا المرءَ إلى التساؤل عن إحاطة هذا السارد بتلك العوالم والشخوص التي كتب عنها، وما هي المراجع التي اعتمد عليها في تقديم عالمه المتنوع المترامي الأطراف؟
ولئن كان هذا، حقاً، يحتاج إلى دراسة، إلاّ أن ما يهمني هنا هو ما يتعلق بالصور الذهنية المتبادلة، فلئن كان الكاتب يبرز لغير العرب تصوراً ما، فإنه يترك لهؤلاء، - أي لغير العرب – المجال لأن يفصحوا أيضاً عن رؤيتهم للعرب، فكيف بدت صورة العرب في أذهان الآخرين؟
ولن أكتب هنا عن صورة العرب كما قدمها السارد في الرواية، لأن الشخصيات العربية ذات حضور واسع وتحتاج الكتابة عنها إلى صفحات طويلة، وليس هذا مرماي، إذ هدفي هو أن أكتب عن صورة الآخر، وهذا ما أبرزته في الجزء الأول من الدراسة، وما سأبرزه هنا يعد تمماً ومكملاً للجزء الأول.
ينظر الجندي التركي إلى المسيحي العربي على أنه كافر(ص13)، وأما الصواف التركي الذي يقيم في الآستانة ويقوّد على زوجته وبناته فينظر إلى العرب بقرف(ص87) وأما جمال باشا السفاح فيرى العرب " حفاة يرتدون فساتين رثة ويريدون الثورة على تركيا "(ص479) وحين يخسر هذا الحرب ويتذكر ما ألم به ويبحث عن الأسباب يرى أن دور العرب في مسـاعدة الإنجليز كان ســبباً مهماً في خسارته، وهكذا ازداد نقمة على العرب ورأى فيهم " الأفعى التي تسكن فراشه" وأنهم بطبعهم خونة غدارون " (492) والعرب في نظر جاويش تركي حمقى (ص502). ويبدو أن نعت العرب بالخونة والغدارين تعززت منذ بداية القرن العشرين، وذلك لتمرد العرب على الأتراك ووقوفهم إلى جانب الإنجليز. ويرى جمال باشا في البدو أعداءً داخليين للأتراك، وأنه يمكن السيطرة عليهم ممن خلال الذهب لأن " إيمان البدو بالذهب أكثر من إيمانهم بالأنبياء. ولورنـس الإنجليزي الذي وصلت شـهرته الآفاق لم يسـتمل القبائل البدوية بسـبب زرقة عينيه، وإنما بسبب لمعان ذهبه الإنجليزي" (ص590) ويتكرر وصـف البـدو بحـب الذهب، فعرب العقبة كانـوا يتوقعون الإنجليز وذهبهم، فجاءهم " عربان مستعدون للقتل من أجل الذهب "(ص590). وكنا لاحظنا أن الأتراك يحبون الذهب، ولا يختلف اليهود عن هؤلاء.
ونظرة الاحتقار هنا للعرب، كما تبدو من خلال أعين الأتراك في الرواية، ليست مقتصرة عليهم. يأتي الروائي على المطران الأرثوذكسي اليونان ويشير إلى أنهم لا يرغبون في أن يكون بينهم عرب، وبخاصة البدو، وحين يريد الأب سمعان أن يغدو راهباً في الدير، يرفض الأرثوذكسي ذلك، على الرغم من وجود الأب جابر الكاهن العربي الوحيد في الدير، ويعقب أحد المطارنة على عرض الأب سمعان:
"مسيخ. مسيخ. كل أرابي موش قادر ياكل بصير يقول مسيخ"(ص164)
ويعقب السارد:
" فالعرب برأيه لم يكونوا يوماً ولن يكونوا رعية وفية للمسيح" (ص165) و " كان يعتبرهم عالة على الطائفة وطقوسها الرفيعة التي هي من حق أبناء اليونان وحدهم"، والعرب جوعى وكذابون. وحين يقارن الكاهن جابر بين البروتستنت والكاثوليك يكاشف إيليا في نظرة الأرثوذكس اليونان للعرب:
" الأمر من ذلك كله احتقار البطاركة الأرثوذكس للعنصر العربي وعدم السماح لهم بالترهبن في أخوية القبر المقدس ومنعهم من انتخاب الأساقفة والمحاكم الكنسية بينما البطاركة اليونان منغمسون في ملذاتهم وشهواتهم "(ص170) ويتكرر الحديث في الرواية في موطن آخر حيث يظهر أيضاً تعالي الأرثوذكسي اليونان على العرب(ص490).
لربما يجدر هنا التوقف أمام نظرة الشراكسة، في الرواية، إلى العرب. وعلينا ألا نغفل أن هذه النظرة تعود إلى نهاية ق19 وبداية ق20، وهما زمن أحداث الرواية. يأتي الشركس إلى عمان هرباً من المذابح التي ارتكبت بحقهم في روسيا القيصرية، ويقف الأتراك إلى جانبهم. من الشخصيات الشركسية في الرواية مقصود الذي قتل والده وهو يدافع عن ممتلكاته في عمان أمام غزوات أشرف التركي، ولمقصود خال شارك في المعارك ضد الروس، ولغة هذا العربية ضعيفة، ولهذا فهو يحتاج إلى مترجم يسهل له التفاهم مع العرب المحتالين (ص309). وليس العرب محتالين وحسب، إنهم، كما يراهم الخال، مجانين ولا يحسنون التفكير.
يقص خال مقصود عليه عن معارك الشركس مع جنود القيصر، ويأتي على الحيلة التي لجأ إليها الشراكسة فانتصروا بسببها، ويسأل مقصوداً.
" بربك هل يوجد عربي يفكر هكذا "(ص313).
كأَن العرب، بل هم في نظرة الخال، لا يحسنون التفكير. ونرى الشركس يفضلون اليهود على العرب. يذهب مقصود إلى طبرية ويضاجع اليهوديات ويعقب:
" شتان بين العرب واليهود. عربيم موليخ لاخيم" ناقلاً بذلك شتيمة اليهود في العرب.
إن نظرة الآخرين للعرب، كما تبرزها الرواية، تبدو، كما لاحظنا، سلبية جداً. والسؤال هو: هل هذه النظرة السلبية تعود لأن العرب كانوا مغلوبين على أمرهم، وأنهم كانوا خاضعين لحكم آخر إسـلامي ولكـن غير عربـي؟ لعلنـي هنـا أكتفـي بإبراز تَخَيْل تَخَيُّلْ المُتَخَيلْ، كما ورد في " الزوبعة "، فالإجابة عن هذا السؤال تقع خارج إطار العنوان وهو صورة الأتراك في نماذج قصصية من بلاد الشام "، وإن كان المرء يستطيع أن يقول إن بعض هذه الصور كان له أسبابه، فوصف العرب بأنهم غدارون خونة، وهو وصف يصدر عن جمال باشا، ما زال يتكرر لدى بعض الأتراك الذين ينقمون على العرب بسبب وقوفهم في الحرب الأولى إلى جانب الإنجليز، وقد أبرز ذلك الدكتور إبراهيم الداقوقي في كتابه " صورة العرب لدى الأتراك " (1996). يكتب الداقوقي:
" إن مؤرخي الفترة الكمالية المتشبعين بالأفكار القومية المتطرفة: يوسف آنجورا ويوسف ضياء وسعدي مقصودي ورشيد صفت(صفوت) قد وضعوا المؤلفات التاريخية التي تتجاهل العرب، وإذا ما ذكروا فإنهم يذكرون - أي العرب – كأعداء، وخونة وطاعنين الأتراك في الظهر".(ص45).
وتختلف هذه الصورة للعرب عن تلك التي قدمها لهم توفيق يوسف عواد و توفيق فياض وحنا مينه وزياد قاسم اختلافاً كلياً. العرب، في روايات هؤلاء وقصصهم، تحت الحكم العثماني في أيامه الأخيرة، كانوا يبحثون عن حريتهم واستقلالهم وتحررهم من نير الأتراك.
يقول الماركسيون إن الموقع يترك تأثيره على الموقف. فهل تفسر هذه المقولة الاختلاف في التصور للذات القومية وللذات غير القومية، هل للحقيقة وجه واحد أم أن لها وجهين أو وجوهاً عديدة؟ لن أقدم، شخضياً، إجابات، قدر ما أثير أسئلة، وإن كنت اقر بأن الأتراك ما كانوا لينهزموا لولا تردي حالتهم، وتحولهم إلى الرجل المريض الذي طمع الآخرون في أملاكه، بعد أن كان هو يدك أسوار أوروبا. وإنه لمن الممتع أن ينظر المرء إلى تصور العرب للأتراك، حين كان هؤلاء أقوياء في بداية امبراطوريتهم العثمانية.
الأتراك وتصورهم لذاتهم في الرواية العربية
تبرز الروايات المعاينة صورة للذات القومية، وقد ألمحت إليها بإيجاز، وتأتي أيضاً على صورة آخر هذه الذات، وهذا ما كان موضع معاينة مفصلة. وتظهر أيضاً تصور الآخر – وهنا نقصد التركي أكثر من غيره – للعرب، وقد عالجت ذلك في القسم الثاني. وتبدو لنا قليلاً صورة الآخر التركي لذاته. وهذه الصورة الأخيرة هي أيضاً صورة متخيلة تخيلها كاتب عربي، لأن تصور الأتراك عن أنفسهم في الأدب التركي يعكس تصورهم هم لا تصور الأدباء العرب، وتبدو معالجة هذه الصورة مغرية لأنها ستضعنا أمام تصورنا عرباً لتصور الأتراك لذاتهم، وتصور الأتراك أنفسهم لذاتهم.
وعلى العموم، يمكن القول إن تصور الأتراك لذاتهم، كما يبدو في النصوص المعاينة، يبدو قليلاً، ولربما تبدو رواية " الزوبعة " الوحيدة التي تعكس لنا هذه الصورة. وكنت أتيت من قبل على هذه الصورة بإيجاز شديد.
إنّ زيداً ابن خالة خالد الحجاج يقدم لنا هذه الصورة، ولكن زيداً هذا شخصية متقلبة متغيرة، وهو في تغيره وتقلبه يقدم لنا نموذجاً لبعض الأتراك، وتصدر عنه، في أثناء حديثه عن الأتراك، آراء متعارضة متناقضة في تثمين الأتراك وتبيان صورتهم في ذهنه. " الله فوق وتركيا تحت " يقول زيد مخاطباً أحد مساعديه الكبار حين يريد تعيين مديرٍ للمعارف في القدس، ويسأل عن هوية الشخص المقترح، اسمه: " هل هو تركي أباً عن جد ؟" (ص341)
وخالة زيد التركية، حين تعلم أن ابن أختها في القدس، ولم يأت ليسلم عليه، تصدر الرأي التالي في الأتراك: " إن الأتراك يعرفون الواجب والأصول تجاه الآخرين سواء أكانوا أقارب لهم أم لا.(ص341)
ولعل ما يلفت الانتباه هو مخاطبة زيد لخالته قائلاً:
" من سوانا يا خالتي يعرف الأصول. لا الفرنسيين ولا الإنجليز. لقد ساد الأتراك العالم بتواضعهم، الكبير كبير بتواضعه والصغير يصغر بتعاليه" (ص342)وهو قول يتناقض وسلوكه في بعض مراحل حياته، حيث كان يتعالى على العرب وبعض الأتراك. ولكن ما يفسر هذا التناقض هو ما يقوله السارد عن زيد " ما اسهل ما ينقلب زيد " ( ص 341).
الأتراك هو سلطان الله على أرضه، وهم يعرفون الأصول أكثر من غيرهم، وقد سادوا العالم بتواضعهم. هكذا هم في عيني زيد، فكيف يتصور جمال باشا ذاته وقومه؟
" أنا دائماً أفي بوعودي، ومن لا يفي وعده يستحق قطع رأسه "(ص481) يخاطب جمال باشا اشرف التركي. وهذه هي العبارة البارزة التي ينطق بها جمال باشا مبرزاً تصوره لذاته، وأما ما كتب عنه في الرواية، وهو أكثر مما نطق به، فهو تصور السارد، ومن ورائه الكاتب، لهذا القائد التركي، وتبدو صورته سلبية جداً كما لاحظنا. والسؤال هو: لو قرأنا الأدبيات التي أنجزت، في زمن جمال باشا، من الأتراك أنفسهم، وتلك التي أنجزت منهم أيضاً بعد عام 1924 فكيف كانت صورته فيها تبدو؟
الخلاصـــــــة
أنجزت النصوص المعاينة، كما لاحظنا، بعد زوال حكم الأتراك وفي زمن الدولة الوطنية، وغالباً ما كانت تكتب عن الأتراك يوم كان هؤلاء يحكمون الوطن العربي الذي عانى في فترة حكم الأتراك الأخيرة من الفقر والقمع والتخلف، وهذا جعل العرب لقمة سائغة لمستعمر جديد هو بريطانيا وفرنسا.
وما وصف به الأتراك من سلوكات شائنة، مثل الزنا واللواط وحب الذهب والقوادة وصف به غيرهم أيضاً، في الروايات نفسها. وكانت الكتابة عن الأتراك، بالإضافة إلى أنها أنجزت في زمن الدولة الوطنية، تخضع لرؤى الكتاب وتوجهاتهم، ولئن كانت النماذج التي برزت بدت غالباً سلبية، فإننا لم نعدم وجود نماذج إيجابية، وهذا ما بدا في نص حنا مينه الروائي.
ولربما يتساءل المرء: ماذا عن صورة الأتراك والكتابة عنهم فيما بعد عام 1918؟ ألم يكتب أي كاتب عن الأتراك أو عن نماذج بشرية تنتمي إلى ما بعد 1918؟ إن ذلك يشكل، في النصوص المعاينة، استثناء، وهو ما بدا في نص مينا. ولا أعرف شخصياً نصوصاً أخرى مشهورة أتت على الحياة في تركيا بعد عام 1924 ليكتب أصحابها عن تركيا العلمانية. ويبدو أن اتصال العرب بالغرب، ودراسة كثير من الكتاب هناك، مثل توفيق الحكيم وسهيل إدريس والطيب صالح، هو ما جعلهم يكتبون عن نماذج أوروبية. وإن المرء ليتطلع إلى قراءة نصوص تصور الأتراك بعيداً عن عالم السياسة وبعيداً عن الماضي المؤلم، ليرى صورة هؤلاء كما يبدون عليه في حياتهم اليومية، وفي عالم لا تحكمه علاقات توتر وسيطرة جماعة على جماعة.