طالعتنا (الرسالة) الغراء، في عددها رقم 157، بمقال طلى للكاتب الأديب الأستاذ محمد علي غريب، ألم فيه بدراسة شائقة لنتاج قصصي مصري شاب. . وقد مهد لدراسته هذه بمقدمة تناول فيها فن القصة في الأدب المصري الحديث.
ولقد كانت هذه المقدمة القصيرة - كما دعت الحال - لمحة خاطفة، وإلمامة مقتضبة، جال فيها قلم الكاتب جولة سريعة كما تجري أحداث الدنيا في عصرنا الحاضر. ولكنها ساقت إلى رأسي هذا البحث الذي أطالع القراء به اليوم: وهو بحث في القصة المصرية ترويت فيه بعض التروي، لأتمكن من الدراسة الهادئة غير العاجلة، ولألم فيه بتاريخ القصة في الأدب العربي، وبقيمة هذا الفن الجميل، وبنشأته في الأدب المصري الحديث، وبالمدارس الغربية التي تأثر بها منشئو القصة في مصر؛ ثم بما حظيت به من جهود الأدباء المصريين، وما بلغته هذه الجهود من توفيق وما قطعته في طريقها نحو السداد.
ويجدر بنا - قبل أن نوغل في الحديث - أن نستعرض ما لهذا الفن الجميل من آثار جليلة في تكوين النفوس والعقول على السواء. فالقصة الناجحة القريبة من الكمال الفني، أبلغ تأثيراً في النفس، وأقوى سلطاناً على العقل، من أي عمل فني آخر. . لأن الفنون الجميلة عامة تفعل في النفس فعلاً، ولا تقوى على أن تفعل في العقل شيئاً. . وإذا نظر الإنسان إلى لوحة فنية بالغة نهاية الكمال، أو إلى تمثال أفرغت فيه عبقرية فنان موهوب، أو إذا استمع قطعة موسيقية تضافرت فيها براعة نفر من نوابغ الواضعين والعازفين، فستطغى على نفسه موجة من الشعور بالسرور أو بإحساس يشبه السرور والنشوة، ولكن عقله لن يتأثر بذلك شيئا. . في حين أن القصة الناجحة قد تخلق من قارئها إنساناً جديداً، وقد تسوق إليه رأيا يحتل من عقله موضع العقيدة. .
ومن أجل هذا عني الغربيون في نهضاتهم القديمة والحديثة بفن القصة عناية بليغة. فاستطاع قصصيوهم أن يخلقوا بفنهم جماعات قريبة من الكمال. . وكان لهذا الفن في نهضتهم الحديثة أثر جليل ملموس.
وليس مغالياً من يقول: إن فن القصة قد أبرز إلى ميدان الزمن والتاريخ فرنسا الحديثة، وروسيا الحديثة، وإيطاليا الحديثة. . وقد يكون كذلك خالق بريطانيا الجديدة، ودافعها إلى رقيها الفكري والخلقي الذي كادت تتفرد به بين الأمم. على أن الذي لا يقبل الجدل أن القصة قد تقدمت في أوربا وأمريكا في العصر القريب الذي نعيش فيه، فغمرت سوق الأدب، وتمتعت من الأدباء المتأدبين بعناية غلبت كل عناية، وإقبال فاق كل إقبال وجهود بذت كل جهود. .
وإذا كان الغرب اليوم في أوج عزه وعظمته؛ وإذا كان مع ذلك منكباً على فن القصة أي انكباب، فذلك دليل ساطع على أن هذا الفن جدير بالعناية خليق بالاهتمام. .
ولقد عرف الغرب كيف يحتفي بفنانيه عامة، وقصصييه خاصة، وكيف يكرمهم ويكبر فيهم فنهم وفضلهم العميم، فأتاح لهم أن يكونوا من قادة العقول في المقدمة، وأن يفرغوا إلى فنهم فيهبونه وقتهم وجهدهم جميعاً، بما ضمن لهم من وسائل المعيشة والرزق الكثير، وبما هيأ لهم من ظروف يخلون فيها لدراساتهم الطويلة، ويلمسون فيها جوانب الحياة في مختلف الجماعات ومتباين الطبقات. . .
ولقد ظل الأدب العربي مفتقراً إلى القصة في جميع عصوره الأولى؛ ويلوح أن الأمية والبداوة في العهد الجاهلي قد ساعدتا على إهمال الفنون الجميلة - ومن بينها القصة - وأن كل ما تمتع به العرب من ضروب الفن الجميل إذ ذاك هو ما حملته ألسنة الرواة من الشعر والنثر، وما ترنم به حداة الإبل من موسيقى بسيطة. .
على أن النهضة الإسلامية التي حمل رايتها محمد صلى الله عليه وسلم، كانت في حاجة إلى القصة أيضاً؛ لذلك كان القصص في القرآن جانباً خطيراً من جوانب الاعجاز، وعاملاً قوياً في تهذيب نفوس أولئك الجاهليين، وقوة رائعة تضافرت مع ما خص الله به محمداً فاستطاعت أن تخلق من أشتات الجاهليين في شبه الجزيرة أمة لم يشهد مثلها التاريخ القديم أو الحديث.
فالقرآن الكريم إذن أول من أدخل القصة على الآداب العربية، ودفع بها إلى مقام العناية. .
وطبيعي أن يعني القرآن بالقصة، فهو الداعي إلى الكمال العلمي والروحي والخلقي، الجامع لأنواع العلوم والفنون عامة، والدستور الخالد الذي ينظم حياة إنسانية عالية الأركان دائمة على الزمان.
ولقد نال فن القصة بعد ذلك جانباً من عناية الناطقين بالضاد، فكانت السير النبوية ثانية المحاولات الموفقة لخلق فن جديد في اللغة العربية، على أن هذه السير كانت فتحاً لباب واحد من أبواب فن القصة، هو القصص التاريخي، كما كان ما فيها من فن لا يزال فجاً محتاجاً لكثير من العناية والموهبة. . وهي مع ذلك جهود لا يمكن أن يغفل ما لها من فضل عميم على القصة العربية الصميمة. .
وسايرت القصة العربية النهضة الفكرية التي دفع الإسلام العالم العربي إليها فتقدمت خطوات ليست ذات أثر كبير، إذ كانت في عصر الأمويين تكاد تقتصر على الرواية والارتجال، ولم يلتفت إليها - كفن جميل له أثره وفعله - إلا بعض الرواة الذين دبجوا قصص الشعراء المحبين، وأسبغوا عليها بعض الصناعة والحبكة والطرافة. .
ثم كان بعد ذلك العصران العباسيان الأول والثاني، حين بلغ الرقي الفكري ذروته، وحين فرغ العرب - الهادئون، الناعمون، المتمدينون - ينشدون غذاء النفس والروح في الفنون الجميلة، وحين ضربوا في كل جانب من جوانب التفكير الحر والابتكار. فكان طبيعياً أن يبلغ فن القصة أوج عزه وعظمته، وكان طبيعياً أن يتخصص كبار الفنانين العرب لكتابة القصة وابتكارها، كما تفرغ إخوانهم للموسيقى والغناء، والرسم، والكتابة، والشعر، وسائر الفنون العالية. . وكفى دليلاً على رقي القصة في ذلك العصر الحافل بالروائع والبدائع (ألف ليلة وليلة) إذا قصدنا جانب الخيال والابتكار، ثم (المقامات) إذا نشدنا جانب الصياغة والإتقان.
غير أن المحنة التي لحقت بالعرب والعربية، بانحلال الدولة العباسية، كانت كافية لأن تحطم الآثار العقلية والفنية والفكرية، وأن تأتي عليها إتياناً ذريعاً. .
وإذا كان الباحث في تاريخ الأدب العربي - بعد المحنة العباسية - يعثر بين الحين والحين على بعض الآثار الفنية المتصلة بالقصة، فليس ذلك إلا ترديداً لبعض ما خلفته يد الزمن من آثار الفنانين العباسيين. .
والقصة في الأدب المصري، حديثة العهد، قريبة المولد، لأن العصور التي خلفت عصر الفاطميين، قد أفسدت اللسان العربي الذي تكلم به المصريون منذ الفتح الإسلامي، وأدخلت على سلاسته وجذالته لكنة الترك وعجمة الفرنجة. . .
ولسنا نستطيع أن نسمي قصص (أبي زيد) و (السيد البدوي) وأمثالها قصصاً عربياً أو عجمياً، فكلها وليدة خيال مشعوذ وقلم مرضوض. . .
إذن لم يشهد الأدب العربي المصري جهوداً تبذل في سبيل القصة الموفقة إلا بالأمس القريب، منذ عشرات السنين، وبعد أن استطاعت النهضة العلوية أن تقوم اللسان، وتصلح التفكير، وتنمي الخيال. . . حين قامت طائفة من نوابغ الشبان تخلق القصة العربية في معناها الذي نعرفه الآن، وهي طائفة كل أفرادها اليوم من الكتاب الممتازين والأدباء البارزين. . .
وإذا كانت العربية، التي تحدث بها رعاة الإبل والأنعام في شبه الجزيرة، قد وسعت مدنية العباسيين وعلمهم الغزير، فإنها قد وسعت كذلك كل ما جال في خواطر أولئك الشبان، أو هؤلاء الكرام الكاتبين. وقد استطاع ذلك النفر - بما أوتي من فن خالص وموهبة - أن يزجي إلى العربية هدية لم تألفها من قبل أبداً. فلقد كان في محاولاته الموفقة متأثراً بالمدارس الغربية إلى جانب ما خص به من سليقة عربية حلوة الجرس موفقة المرمى، سديدة المعنى.
وإنه لواجب علينا أن نطوف بهذا النفر الجليل، وأن نمضي على نتاجه سريعاً، لنسجل له فضله شاكرين. . ولكننا نرى - قبل ذلك - أن نذكر المدارس التي تخرج فيها بكلمة قصيرة: وهي المدرسة الروسية والمدرسة الإنجليزية، والمدرسة الفرنسية. .
فالمدرسة الروسية قد امتازت بمحاكاة الواقع ومسايرته، والتعلق بالطبيعة ومظاهرها وأجوائها - الملموسة وغير الملموسة - ثم بالصدق، والهدوء، والتهكم. .
والمدرسة الإنكليزية تعشقت الصدق أيضاً؛ وأحبت التحليل النفسي الدقيق، ووفقت في كشف النفس البشرية توفيقاً عظيماً، واستطاعت أن تلمس العواطف وتترجم الأحاسيس في عمق وسداد عجيبين. .
والمدرسة الفرنسية قد عشقت الخيال، وتطرفت فبالغت بعض المبالغة، غير متقيدة بالواقع أو المألوف، وبرعت في الحبكة المصنوعة براعة تثير العجب والإعجاب معاً، ومالت إلى ترجمة الأسى والحزن البليغ. .
وهؤلاء الناهضون بالقصة فريقان: كان لأحدهما الفضل في أن يحمل إلى العربية القصة الغربية الموفقة في معناها الحديث الذي دفعتها إليه النهضة الأخيرة، وأن يخلق في العربية أو يكشف في بحرها الزاخر عما يترجم لغة أبناء الغرب أصدق ترجمة، ويزجيها إلى أسمع العالم العربي سائغة المعنى، عربية الرنين موفورة الحظ من بلاغة أبناء العرب وفصاحتهم. .
ولن ينسى قراء العربية فضل هذا الفريق أبداً، فلقد فتح بجهوده وتمكنه وسلامة ذوقه العربي فتحاً في العربية جديداً، وكان له - وهو المترجم - فضل لا يعلو عليه فضل الواضعين أو المتكبرين، لأنه البوتقة التي صهرت جميل فن الغربيين، فاستحال فيها فناً عربياً رائعاً.
ويتزعم هذا النفر ثلاثة من نوابغ الأدباء المصريين، وهم: الزيات، والمنفلوطي، والمازني.
فأما الزيات، فيمنعني عن الإشادة بفضله أنه مدير هذه المجلة، وأنه رجل يعرف فيه قراء العربية التواضع الكثير والنأي عن الضوضاء، وأخشى - وهو صاحب الحق في النشر - أن يحول تواضعه الغزير بين هذا البحث وبين أبصار القراء وأسماعهم. .
على أن كل هذا لا يمنعني من القول بأن جهده في سبيل القصة لن ينساه له تاريخ هذا الفن في الأدب العربي، ولن ينساه له أولئك المتأدبون الشبان الذين عرفوا من معرباته معنى القصة الناجحة ولونها، والذين مضوا بعد ذلك يقفون أثره ويتلمسون الطريق التي مهدها لهم وفتحها أمام تفكيرهم. . حين نقل إلى لغة الضاد (لامرتين) و (جوت) في أبدع ما صورت الشاعرية الفرنسية والألمانية، وأنجب الخيال اللاتيني والجرماني. . وستبقى (رفائيل) (وآلام فرتر) على الأيام مثلاً بديعاً للتعريب الكامل الذي تكاد تغلب فيه قوة المترجم، كما بقيت (كليلة ودمنة) تتحدث إلى يومنا هذا بفضل ابن المقفع.
وأما المنفلوطي، فقد كان جديراً بأن يزجي إلى القصة فضلاً أكثر من فضله، فهو الأديب بفطرته والقصصي بفطرته. . ولو شاء الله وبسط أمامه سبل دراسة هذا الفن، أو قارب بين لسانه وبين لغة من اللغات الحية، لكسبنا فيه قصصياً عظيماً ولكان نتاجه في فننا هذا نتاجاً باقياً خالداً. . على أنه برغم هذا مشكور الأثر باقي الذكر، ممتاز بما خص به من أدب رائع، وذوق فني بديع، وجذالة تفعل في لسان الناشئة فعلاً محموداً.
وأما المازني - المترجم - فبالغ قمة التوفيق، كزميله الزيات، لوفرة علمه بلغة الإنجليز، ولأنه أديب عربي قويم اللسان، مفطور على الفن. . وقد نرى فيما بعد - أن المازني المؤلف أسدى إلى القصة يداً فوق يده هذه، ولكن الفضل لا يمحو الفضل على حال؛ وسيبقى المازني المترجم خالداً في قصة (ابن الطبيعة) فقد كان فيها عظيماً حقاً، إذ استطاع أن يختار للعربية أروع أمثلة الأدب الروسي، كما استطاع أن ينقل فن أبناء الروس نقل الفنان والأديب الموهوب.
والفريق الثني هو فريق المبتكرين، أو الواضعين، وهو أول من ساق جمهور القارئين والمعنيين بالأدب إلى فهم معنى القصة الذي عرفها به الغربيون؛ ونستطيع القول بأن هذا الفريق أحسن إلى القصة حيناً من الزمن فعرفت له أياديه، ثم أهملها اليوم إهمالاً تأخذه عليه وتشكوه منه. . ولو استمر ذلك النفر فوهب القصة عهد رجولته كما وهبها شبابه، لاستطاعت أن تبلغ شأناً غير شأنها، ومنزلاً فوق منزلتها. .
وهؤلاء الذين يستطيعون أن يشقوا طريقهم ليأخذوا مقام الصدر بين آلاف المؤلفين وأشباه المؤلفين، ليسوا إلا أربعة من كرام الكتاب؛ هم: المازني، وهيكل، وتيمور، وأبو حديد.
ولكل من الأربعة لون خاص يميزه من سواه.
فالمازني. أميز صفاته سلامة أسلوبه العربي وعلوه، ثم جمال تهكمه وفكاهته، وميله إلى المزاح، مع شدة احتفاظه بالأرستقراطية. وهو إلى جانب هذا فنان من الطبقة الأولى، فقد اجتمعت فيه فطرة الفنان، والدراسة الطويلة المستمرة، فأنجبتا للعالم العربي قوة عزيزة قليلة الوجود.
وهو - على رغم كونه تلميذا مخلصاً للمدرسة الإنجليزية - لا يستطيع أن يخفي على القارئين أنه تتلمذ على المدرسة الروسية أيضاً. وإذا كان دائم الانكباب على الأدب الإنجليزي مولعاً به ولعاً شديداً، فإنه بطبعه وبسليقته الفنية، كان فيما أنتج ميالاً إلى المدرسة الروسية، في هدوئها، وصدقها، وتفكهها، وطبيعتها وإن استطاع - بما كسب من دراسة - أن يترجم الأحاسيس ترجمة صادقة تميز بها منشئو القصة الإنجليزية.
والذي قرأ المازني - المؤلف - في قصته (إبراهيم الكاتب) لا يمكنه بعد ذلك أن يندب حظ القصة في الأدب العربي الصميم؛ لأنه يراها في قصة المازني خلقت قوية لأول عهدها بالحياة، ووجدت من روحه الفنانة، وقلمه الملهم، ودراسته الطويلة، متكأ كان جديراً بأن يحملها إلى المقام الذي بلغته بين أبناء أوربا وأمريكا، لو قدر له أن يضع على عاتقه هذا الواجب الخطير.
وكان هيكل فيما أنتج - وأول نتاجه قصة زينب - فرنسياً مخلصاً؛ فهو يؤثر الصناعة والحبكة القصصية، ويحب أن يضرب على أوتار تحس، وأن يعالج بمجهوده موضوعاً، غير متقيد بمذهب الفن للفن، بل ذاهباً مذهب استغلال الفن للمصلحة. ولقد أسبغ على فرنسية فنه روحاً عربية جميلة، بما وفق إليه من براعة في الوصف، وقدرة على التصوير الفاتن.
ولا شك أن هيكل فنان بطبعه؛ وقد كان خليقاً بأن يكون من عداد القصصيين الممتازين لو عني بفنه عنايته بأدبه وعلمه، ولو تابع استغلال روحه الفنية التي فطر عليها.
وكان تيمور - ولا يزال - مثالاً للقصصي المصري الخالص، وقد يكون تناول بالدراسة المدارس الغربية. . . ثم ترك نفسه بعد ذلك طليقة، وأطلق قلمه حراً، فإذا هو المصري في فنه وأدبه وحياته، وإذا هو عميق في مصريته إلى المكان الذي يجب أن يكون عنده المصري العربي الشعبي.
والذي قرأ تيمور في قصته الطويلة (الأطلال) أو في قصصه القصيرة التي أخرجها قبل ذلك كتباً، يلمس فيه ميلاً إلى هذا الفن شديداً، ويؤمل منه بعد ذلك انقطاعاً للقصة وإيثاراً لها على كل شيء، حتى يسد بذلك فراغاً يجب ألا يترك شاغراً، أو يباح هباء للعابثين المسيئين إلى القصة وتاريخها شر الإساءة. .
وكان فريد أبو حديد مصرياً كذلك دائماً، حين أخرج لنا (ابنة المملوك) و (مذكرات المرحوم محمد) ثم عميقاً في مصريته أيضاً. ويبدو أن دراسته التاريخية الطويلة، قد انحرفت به إلى القصة التاريخية فعشقها عشقاً عظيماً، ولم يرض أن يحيد عنها إلى غيرها من جوانب فن القصة.
وإذا كانت دراسة التاريخ قد غمرت نتاجه وأفرغت عليه من لونها فيضاً، فليس ذلك هو الشيء الذي يتميز به أبو حديد أو يتفرد، وإنما الذي يتميز به على القصصيين المصريين جميعاً هو الخيال الخصب الذي لا يحد، والقدرة الفائقة على تصوير الحياة في غابر العصور أو حاضرها أو مستقبلها.
وهذا الخيال، وهذه الطبيعة، وهذه الدراسة، كانت قادرة على أن تجعل من أبي حديد عوناً للقصة المصرية شديداً، ومناصراً قوياً، وفارساً مبرزاً، لو أقبل يدخل الميدان ويوغل في ثناياه. . وهو القدير على ذلك أي قدرة. .
ولقد كان لنا أن نضع الدكتور طه حسن بك في عداد القصصيين النابغين، حين نقرأ له كتابه (الأيام) الذي بلغ به شأو من الكمال عظيماً، والذي استطاع أن يفرغ في سطوره فناً عريقاً ومقدرة فائقة تطالع القارئ فتأخذ عليه حسه. . غير أن الدكتور - فيما عدا الأيام - لا يستطيع أن يكون قصصياً. . ولو أراد الله ووهب الدكتور نعمة الإبصار، لكسب فن القصة فيه خير نصير وأحسن عون، ولكان لمصر والشرق العربي أن ينتظرا منه خيراً كثيراً، لأنه - على حالته تلك - كان يحس إحساس المبصرين، ويدرك ما يجول بخواطرهم، أو ما يغمر كياناتهم من عوامل نفسية يدفعها إليهم الوسط لذي يحيط بهم - بكل ما فيه.
(البقية في العدد القادم)
هلال أحمد شتا
مجلة الرسالة - العدد 164
بتاريخ: 24 - 08 - 1936
ولقد كانت هذه المقدمة القصيرة - كما دعت الحال - لمحة خاطفة، وإلمامة مقتضبة، جال فيها قلم الكاتب جولة سريعة كما تجري أحداث الدنيا في عصرنا الحاضر. ولكنها ساقت إلى رأسي هذا البحث الذي أطالع القراء به اليوم: وهو بحث في القصة المصرية ترويت فيه بعض التروي، لأتمكن من الدراسة الهادئة غير العاجلة، ولألم فيه بتاريخ القصة في الأدب العربي، وبقيمة هذا الفن الجميل، وبنشأته في الأدب المصري الحديث، وبالمدارس الغربية التي تأثر بها منشئو القصة في مصر؛ ثم بما حظيت به من جهود الأدباء المصريين، وما بلغته هذه الجهود من توفيق وما قطعته في طريقها نحو السداد.
ويجدر بنا - قبل أن نوغل في الحديث - أن نستعرض ما لهذا الفن الجميل من آثار جليلة في تكوين النفوس والعقول على السواء. فالقصة الناجحة القريبة من الكمال الفني، أبلغ تأثيراً في النفس، وأقوى سلطاناً على العقل، من أي عمل فني آخر. . لأن الفنون الجميلة عامة تفعل في النفس فعلاً، ولا تقوى على أن تفعل في العقل شيئاً. . وإذا نظر الإنسان إلى لوحة فنية بالغة نهاية الكمال، أو إلى تمثال أفرغت فيه عبقرية فنان موهوب، أو إذا استمع قطعة موسيقية تضافرت فيها براعة نفر من نوابغ الواضعين والعازفين، فستطغى على نفسه موجة من الشعور بالسرور أو بإحساس يشبه السرور والنشوة، ولكن عقله لن يتأثر بذلك شيئا. . في حين أن القصة الناجحة قد تخلق من قارئها إنساناً جديداً، وقد تسوق إليه رأيا يحتل من عقله موضع العقيدة. .
ومن أجل هذا عني الغربيون في نهضاتهم القديمة والحديثة بفن القصة عناية بليغة. فاستطاع قصصيوهم أن يخلقوا بفنهم جماعات قريبة من الكمال. . وكان لهذا الفن في نهضتهم الحديثة أثر جليل ملموس.
وليس مغالياً من يقول: إن فن القصة قد أبرز إلى ميدان الزمن والتاريخ فرنسا الحديثة، وروسيا الحديثة، وإيطاليا الحديثة. . وقد يكون كذلك خالق بريطانيا الجديدة، ودافعها إلى رقيها الفكري والخلقي الذي كادت تتفرد به بين الأمم. على أن الذي لا يقبل الجدل أن القصة قد تقدمت في أوربا وأمريكا في العصر القريب الذي نعيش فيه، فغمرت سوق الأدب، وتمتعت من الأدباء المتأدبين بعناية غلبت كل عناية، وإقبال فاق كل إقبال وجهود بذت كل جهود. .
وإذا كان الغرب اليوم في أوج عزه وعظمته؛ وإذا كان مع ذلك منكباً على فن القصة أي انكباب، فذلك دليل ساطع على أن هذا الفن جدير بالعناية خليق بالاهتمام. .
ولقد عرف الغرب كيف يحتفي بفنانيه عامة، وقصصييه خاصة، وكيف يكرمهم ويكبر فيهم فنهم وفضلهم العميم، فأتاح لهم أن يكونوا من قادة العقول في المقدمة، وأن يفرغوا إلى فنهم فيهبونه وقتهم وجهدهم جميعاً، بما ضمن لهم من وسائل المعيشة والرزق الكثير، وبما هيأ لهم من ظروف يخلون فيها لدراساتهم الطويلة، ويلمسون فيها جوانب الحياة في مختلف الجماعات ومتباين الطبقات. . .
ولقد ظل الأدب العربي مفتقراً إلى القصة في جميع عصوره الأولى؛ ويلوح أن الأمية والبداوة في العهد الجاهلي قد ساعدتا على إهمال الفنون الجميلة - ومن بينها القصة - وأن كل ما تمتع به العرب من ضروب الفن الجميل إذ ذاك هو ما حملته ألسنة الرواة من الشعر والنثر، وما ترنم به حداة الإبل من موسيقى بسيطة. .
على أن النهضة الإسلامية التي حمل رايتها محمد صلى الله عليه وسلم، كانت في حاجة إلى القصة أيضاً؛ لذلك كان القصص في القرآن جانباً خطيراً من جوانب الاعجاز، وعاملاً قوياً في تهذيب نفوس أولئك الجاهليين، وقوة رائعة تضافرت مع ما خص الله به محمداً فاستطاعت أن تخلق من أشتات الجاهليين في شبه الجزيرة أمة لم يشهد مثلها التاريخ القديم أو الحديث.
فالقرآن الكريم إذن أول من أدخل القصة على الآداب العربية، ودفع بها إلى مقام العناية. .
وطبيعي أن يعني القرآن بالقصة، فهو الداعي إلى الكمال العلمي والروحي والخلقي، الجامع لأنواع العلوم والفنون عامة، والدستور الخالد الذي ينظم حياة إنسانية عالية الأركان دائمة على الزمان.
ولقد نال فن القصة بعد ذلك جانباً من عناية الناطقين بالضاد، فكانت السير النبوية ثانية المحاولات الموفقة لخلق فن جديد في اللغة العربية، على أن هذه السير كانت فتحاً لباب واحد من أبواب فن القصة، هو القصص التاريخي، كما كان ما فيها من فن لا يزال فجاً محتاجاً لكثير من العناية والموهبة. . وهي مع ذلك جهود لا يمكن أن يغفل ما لها من فضل عميم على القصة العربية الصميمة. .
وسايرت القصة العربية النهضة الفكرية التي دفع الإسلام العالم العربي إليها فتقدمت خطوات ليست ذات أثر كبير، إذ كانت في عصر الأمويين تكاد تقتصر على الرواية والارتجال، ولم يلتفت إليها - كفن جميل له أثره وفعله - إلا بعض الرواة الذين دبجوا قصص الشعراء المحبين، وأسبغوا عليها بعض الصناعة والحبكة والطرافة. .
ثم كان بعد ذلك العصران العباسيان الأول والثاني، حين بلغ الرقي الفكري ذروته، وحين فرغ العرب - الهادئون، الناعمون، المتمدينون - ينشدون غذاء النفس والروح في الفنون الجميلة، وحين ضربوا في كل جانب من جوانب التفكير الحر والابتكار. فكان طبيعياً أن يبلغ فن القصة أوج عزه وعظمته، وكان طبيعياً أن يتخصص كبار الفنانين العرب لكتابة القصة وابتكارها، كما تفرغ إخوانهم للموسيقى والغناء، والرسم، والكتابة، والشعر، وسائر الفنون العالية. . وكفى دليلاً على رقي القصة في ذلك العصر الحافل بالروائع والبدائع (ألف ليلة وليلة) إذا قصدنا جانب الخيال والابتكار، ثم (المقامات) إذا نشدنا جانب الصياغة والإتقان.
غير أن المحنة التي لحقت بالعرب والعربية، بانحلال الدولة العباسية، كانت كافية لأن تحطم الآثار العقلية والفنية والفكرية، وأن تأتي عليها إتياناً ذريعاً. .
وإذا كان الباحث في تاريخ الأدب العربي - بعد المحنة العباسية - يعثر بين الحين والحين على بعض الآثار الفنية المتصلة بالقصة، فليس ذلك إلا ترديداً لبعض ما خلفته يد الزمن من آثار الفنانين العباسيين. .
والقصة في الأدب المصري، حديثة العهد، قريبة المولد، لأن العصور التي خلفت عصر الفاطميين، قد أفسدت اللسان العربي الذي تكلم به المصريون منذ الفتح الإسلامي، وأدخلت على سلاسته وجذالته لكنة الترك وعجمة الفرنجة. . .
ولسنا نستطيع أن نسمي قصص (أبي زيد) و (السيد البدوي) وأمثالها قصصاً عربياً أو عجمياً، فكلها وليدة خيال مشعوذ وقلم مرضوض. . .
إذن لم يشهد الأدب العربي المصري جهوداً تبذل في سبيل القصة الموفقة إلا بالأمس القريب، منذ عشرات السنين، وبعد أن استطاعت النهضة العلوية أن تقوم اللسان، وتصلح التفكير، وتنمي الخيال. . . حين قامت طائفة من نوابغ الشبان تخلق القصة العربية في معناها الذي نعرفه الآن، وهي طائفة كل أفرادها اليوم من الكتاب الممتازين والأدباء البارزين. . .
وإذا كانت العربية، التي تحدث بها رعاة الإبل والأنعام في شبه الجزيرة، قد وسعت مدنية العباسيين وعلمهم الغزير، فإنها قد وسعت كذلك كل ما جال في خواطر أولئك الشبان، أو هؤلاء الكرام الكاتبين. وقد استطاع ذلك النفر - بما أوتي من فن خالص وموهبة - أن يزجي إلى العربية هدية لم تألفها من قبل أبداً. فلقد كان في محاولاته الموفقة متأثراً بالمدارس الغربية إلى جانب ما خص به من سليقة عربية حلوة الجرس موفقة المرمى، سديدة المعنى.
وإنه لواجب علينا أن نطوف بهذا النفر الجليل، وأن نمضي على نتاجه سريعاً، لنسجل له فضله شاكرين. . ولكننا نرى - قبل ذلك - أن نذكر المدارس التي تخرج فيها بكلمة قصيرة: وهي المدرسة الروسية والمدرسة الإنجليزية، والمدرسة الفرنسية. .
فالمدرسة الروسية قد امتازت بمحاكاة الواقع ومسايرته، والتعلق بالطبيعة ومظاهرها وأجوائها - الملموسة وغير الملموسة - ثم بالصدق، والهدوء، والتهكم. .
والمدرسة الإنكليزية تعشقت الصدق أيضاً؛ وأحبت التحليل النفسي الدقيق، ووفقت في كشف النفس البشرية توفيقاً عظيماً، واستطاعت أن تلمس العواطف وتترجم الأحاسيس في عمق وسداد عجيبين. .
والمدرسة الفرنسية قد عشقت الخيال، وتطرفت فبالغت بعض المبالغة، غير متقيدة بالواقع أو المألوف، وبرعت في الحبكة المصنوعة براعة تثير العجب والإعجاب معاً، ومالت إلى ترجمة الأسى والحزن البليغ. .
وهؤلاء الناهضون بالقصة فريقان: كان لأحدهما الفضل في أن يحمل إلى العربية القصة الغربية الموفقة في معناها الحديث الذي دفعتها إليه النهضة الأخيرة، وأن يخلق في العربية أو يكشف في بحرها الزاخر عما يترجم لغة أبناء الغرب أصدق ترجمة، ويزجيها إلى أسمع العالم العربي سائغة المعنى، عربية الرنين موفورة الحظ من بلاغة أبناء العرب وفصاحتهم. .
ولن ينسى قراء العربية فضل هذا الفريق أبداً، فلقد فتح بجهوده وتمكنه وسلامة ذوقه العربي فتحاً في العربية جديداً، وكان له - وهو المترجم - فضل لا يعلو عليه فضل الواضعين أو المتكبرين، لأنه البوتقة التي صهرت جميل فن الغربيين، فاستحال فيها فناً عربياً رائعاً.
ويتزعم هذا النفر ثلاثة من نوابغ الأدباء المصريين، وهم: الزيات، والمنفلوطي، والمازني.
فأما الزيات، فيمنعني عن الإشادة بفضله أنه مدير هذه المجلة، وأنه رجل يعرف فيه قراء العربية التواضع الكثير والنأي عن الضوضاء، وأخشى - وهو صاحب الحق في النشر - أن يحول تواضعه الغزير بين هذا البحث وبين أبصار القراء وأسماعهم. .
على أن كل هذا لا يمنعني من القول بأن جهده في سبيل القصة لن ينساه له تاريخ هذا الفن في الأدب العربي، ولن ينساه له أولئك المتأدبون الشبان الذين عرفوا من معرباته معنى القصة الناجحة ولونها، والذين مضوا بعد ذلك يقفون أثره ويتلمسون الطريق التي مهدها لهم وفتحها أمام تفكيرهم. . حين نقل إلى لغة الضاد (لامرتين) و (جوت) في أبدع ما صورت الشاعرية الفرنسية والألمانية، وأنجب الخيال اللاتيني والجرماني. . وستبقى (رفائيل) (وآلام فرتر) على الأيام مثلاً بديعاً للتعريب الكامل الذي تكاد تغلب فيه قوة المترجم، كما بقيت (كليلة ودمنة) تتحدث إلى يومنا هذا بفضل ابن المقفع.
وأما المنفلوطي، فقد كان جديراً بأن يزجي إلى القصة فضلاً أكثر من فضله، فهو الأديب بفطرته والقصصي بفطرته. . ولو شاء الله وبسط أمامه سبل دراسة هذا الفن، أو قارب بين لسانه وبين لغة من اللغات الحية، لكسبنا فيه قصصياً عظيماً ولكان نتاجه في فننا هذا نتاجاً باقياً خالداً. . على أنه برغم هذا مشكور الأثر باقي الذكر، ممتاز بما خص به من أدب رائع، وذوق فني بديع، وجذالة تفعل في لسان الناشئة فعلاً محموداً.
وأما المازني - المترجم - فبالغ قمة التوفيق، كزميله الزيات، لوفرة علمه بلغة الإنجليز، ولأنه أديب عربي قويم اللسان، مفطور على الفن. . وقد نرى فيما بعد - أن المازني المؤلف أسدى إلى القصة يداً فوق يده هذه، ولكن الفضل لا يمحو الفضل على حال؛ وسيبقى المازني المترجم خالداً في قصة (ابن الطبيعة) فقد كان فيها عظيماً حقاً، إذ استطاع أن يختار للعربية أروع أمثلة الأدب الروسي، كما استطاع أن ينقل فن أبناء الروس نقل الفنان والأديب الموهوب.
والفريق الثني هو فريق المبتكرين، أو الواضعين، وهو أول من ساق جمهور القارئين والمعنيين بالأدب إلى فهم معنى القصة الذي عرفها به الغربيون؛ ونستطيع القول بأن هذا الفريق أحسن إلى القصة حيناً من الزمن فعرفت له أياديه، ثم أهملها اليوم إهمالاً تأخذه عليه وتشكوه منه. . ولو استمر ذلك النفر فوهب القصة عهد رجولته كما وهبها شبابه، لاستطاعت أن تبلغ شأناً غير شأنها، ومنزلاً فوق منزلتها. .
وهؤلاء الذين يستطيعون أن يشقوا طريقهم ليأخذوا مقام الصدر بين آلاف المؤلفين وأشباه المؤلفين، ليسوا إلا أربعة من كرام الكتاب؛ هم: المازني، وهيكل، وتيمور، وأبو حديد.
ولكل من الأربعة لون خاص يميزه من سواه.
فالمازني. أميز صفاته سلامة أسلوبه العربي وعلوه، ثم جمال تهكمه وفكاهته، وميله إلى المزاح، مع شدة احتفاظه بالأرستقراطية. وهو إلى جانب هذا فنان من الطبقة الأولى، فقد اجتمعت فيه فطرة الفنان، والدراسة الطويلة المستمرة، فأنجبتا للعالم العربي قوة عزيزة قليلة الوجود.
وهو - على رغم كونه تلميذا مخلصاً للمدرسة الإنجليزية - لا يستطيع أن يخفي على القارئين أنه تتلمذ على المدرسة الروسية أيضاً. وإذا كان دائم الانكباب على الأدب الإنجليزي مولعاً به ولعاً شديداً، فإنه بطبعه وبسليقته الفنية، كان فيما أنتج ميالاً إلى المدرسة الروسية، في هدوئها، وصدقها، وتفكهها، وطبيعتها وإن استطاع - بما كسب من دراسة - أن يترجم الأحاسيس ترجمة صادقة تميز بها منشئو القصة الإنجليزية.
والذي قرأ المازني - المؤلف - في قصته (إبراهيم الكاتب) لا يمكنه بعد ذلك أن يندب حظ القصة في الأدب العربي الصميم؛ لأنه يراها في قصة المازني خلقت قوية لأول عهدها بالحياة، ووجدت من روحه الفنانة، وقلمه الملهم، ودراسته الطويلة، متكأ كان جديراً بأن يحملها إلى المقام الذي بلغته بين أبناء أوربا وأمريكا، لو قدر له أن يضع على عاتقه هذا الواجب الخطير.
وكان هيكل فيما أنتج - وأول نتاجه قصة زينب - فرنسياً مخلصاً؛ فهو يؤثر الصناعة والحبكة القصصية، ويحب أن يضرب على أوتار تحس، وأن يعالج بمجهوده موضوعاً، غير متقيد بمذهب الفن للفن، بل ذاهباً مذهب استغلال الفن للمصلحة. ولقد أسبغ على فرنسية فنه روحاً عربية جميلة، بما وفق إليه من براعة في الوصف، وقدرة على التصوير الفاتن.
ولا شك أن هيكل فنان بطبعه؛ وقد كان خليقاً بأن يكون من عداد القصصيين الممتازين لو عني بفنه عنايته بأدبه وعلمه، ولو تابع استغلال روحه الفنية التي فطر عليها.
وكان تيمور - ولا يزال - مثالاً للقصصي المصري الخالص، وقد يكون تناول بالدراسة المدارس الغربية. . . ثم ترك نفسه بعد ذلك طليقة، وأطلق قلمه حراً، فإذا هو المصري في فنه وأدبه وحياته، وإذا هو عميق في مصريته إلى المكان الذي يجب أن يكون عنده المصري العربي الشعبي.
والذي قرأ تيمور في قصته الطويلة (الأطلال) أو في قصصه القصيرة التي أخرجها قبل ذلك كتباً، يلمس فيه ميلاً إلى هذا الفن شديداً، ويؤمل منه بعد ذلك انقطاعاً للقصة وإيثاراً لها على كل شيء، حتى يسد بذلك فراغاً يجب ألا يترك شاغراً، أو يباح هباء للعابثين المسيئين إلى القصة وتاريخها شر الإساءة. .
وكان فريد أبو حديد مصرياً كذلك دائماً، حين أخرج لنا (ابنة المملوك) و (مذكرات المرحوم محمد) ثم عميقاً في مصريته أيضاً. ويبدو أن دراسته التاريخية الطويلة، قد انحرفت به إلى القصة التاريخية فعشقها عشقاً عظيماً، ولم يرض أن يحيد عنها إلى غيرها من جوانب فن القصة.
وإذا كانت دراسة التاريخ قد غمرت نتاجه وأفرغت عليه من لونها فيضاً، فليس ذلك هو الشيء الذي يتميز به أبو حديد أو يتفرد، وإنما الذي يتميز به على القصصيين المصريين جميعاً هو الخيال الخصب الذي لا يحد، والقدرة الفائقة على تصوير الحياة في غابر العصور أو حاضرها أو مستقبلها.
وهذا الخيال، وهذه الطبيعة، وهذه الدراسة، كانت قادرة على أن تجعل من أبي حديد عوناً للقصة المصرية شديداً، ومناصراً قوياً، وفارساً مبرزاً، لو أقبل يدخل الميدان ويوغل في ثناياه. . وهو القدير على ذلك أي قدرة. .
ولقد كان لنا أن نضع الدكتور طه حسن بك في عداد القصصيين النابغين، حين نقرأ له كتابه (الأيام) الذي بلغ به شأو من الكمال عظيماً، والذي استطاع أن يفرغ في سطوره فناً عريقاً ومقدرة فائقة تطالع القارئ فتأخذ عليه حسه. . غير أن الدكتور - فيما عدا الأيام - لا يستطيع أن يكون قصصياً. . ولو أراد الله ووهب الدكتور نعمة الإبصار، لكسب فن القصة فيه خير نصير وأحسن عون، ولكان لمصر والشرق العربي أن ينتظرا منه خيراً كثيراً، لأنه - على حالته تلك - كان يحس إحساس المبصرين، ويدرك ما يجول بخواطرهم، أو ما يغمر كياناتهم من عوامل نفسية يدفعها إليهم الوسط لذي يحيط بهم - بكل ما فيه.
(البقية في العدد القادم)
هلال أحمد شتا
مجلة الرسالة - العدد 164
بتاريخ: 24 - 08 - 1936