كان توفيق الحكيم قد هوجم هجومًا شديدًا بسبب شهادته التي انتقد فيها الحقبة الناصرية عام ٧٢، حتي أن محمد حسنين هيكل اتهمه, ردًا عليه في مقال، بأنه كان من الأشباح الخائفة، وأن الشجاعة الحقيقية كانت تقتضي أن ينقد عبدالناصر حيًّا، فرد الحكيم بأنه فعلًا كان من الأشباح الخائفة، ولكنّ هذا لم يكن إلا دليلًا على وجود مصدر للخوف، وهو اتهام للناصرية وليس للكتّاب، فقام الأستاذ عبدالستار الطويلة في مقال، يدافع فيه عن الحكيم، بذكر تلك الواقعة، والتي أنقلها نصًا من كتاب "عودة الوعي" قائلًا:
"بعد أن ألقى خروتشوف خطابه التاريخي الذي كشف فيه أمام مؤتمر الحزب الشيوعي سنة ١٩٥٦ عن انتهاك الحريّات أيام ستالين، بدأ أعضاء المؤتمر يقدّمون إليه أسئلتهم مكتوبة؛ ومُوقّعًا عليها بأسمائهم، وكان من بينها سؤال يقول: إذا كان هذا الانتهاك قد حدث أيام ستالين؛ فأين كنت أنت؟ ولاحظ خروتشوف أن السؤال بلا توقيع، فصاح: من صاحب هذا السؤال؟ وعندما لم يرُد أحد، ضحك خروتشوف، وقال: جوابي هو أني كنت مثلك يا صاحب السؤال."
ثم اضاف الأستاذ الطويلة: وإذا افترضنا أن الحكيم قد خاف؛ فمن حقه أن يخاف، فهو لا يدّعي أنه زعيم حزب، أو حامل بندقية.
ربما غاب عن الأستاذ هيكل وغيره من المنتقدين صمتَ كُتّابٍ كبار كالحكيم والعقاد وطه حسين في الحقبة الناصرية, علي عكس ما كانوا عليه فترة الملكية, أنَّ ثمة فارقًا بين الخوف والجبن، فالخوف شعور طبيعي, يتملّك حتى الشجاع, وينتج عن تهديد قوة ما أكبر من الإنسان، كخوف المريض من الموت، أو الفرد من المجموع أو السلطة، لكن الجبن شعور بالخوف المتطرّف غير المُبرّر, يكون من أي قوّة حتى لو كانت مكافئة, وهو هنا آفة ونقص, كخوف الفرد من الفرد, حتى أننا نجد أن "الشجاعة", لغةً, نقيض "الجبن"، بينما "الخوف" نقيض "الأمن" و"الاطمئنان"، لذلك فطبيعي أن يخرج النبي موسى من مدينة فرعون "خائفًا يترقّب"؛ كان موسى خائفًا، ولم يكن جبانًا، لأنه فرد يواجه دولة، وفي المقابل نجده, في حالة الصراع المتكافئ، قد وكز رجلًا فقضى عليه، كذلك لم يكن جبنًا أن يهاجر النبي محمد عن مكة مهاجرًا مُتخفّيًا, بل كان خائفًا ذلك الخوف الطبيعي الذي لن يمنعه من العودة بقوة مكافئة لفتح مكة.
ومن هذا يمكن أن نقف على دور المثقف في الرفض والنقد، فهو كإنسان، ليس مطالبًا أن يكون ثائرًا، المهم ألا يكون جبانًا، له أن يصمت خوفًا، ولكن شريطة ألا يُهلّل مع المنافقين ولا يضلل مع المغرضين، ليس جبنًا أن يخاف حين يشعر أن المناخ مُهدّد، فالطبيعي أن يتكلَّم في المساحة التي لا تشكل خطرًا عليه, لأن الحركة متعلقة بالمساحة، ومساحة الحريّة تصنعها السلطة لا المثقف، دور المثقف أن ينادي بالحريّة بما لا يُهدّد حياته، هذا ما كان، في كل تاريخ المثقف مع السلطة، وما يكون؛ فلم يكن مثقف كغيلان الدمشقي شجاعًا عندما أرسل رسالة شديدة اللهجة للخليفة منتقدًا فيها تصرفاته بل ومعتقداته (في القضاء والقدر) لأن الخليفة كان عمر بن عبدالعزيز، ولم يكن جبانًا عندما صمت وهرب خوفًا من الخليفة الآخر، الذي سيصلبه رغم صمته؛ لأن هذا الخليفة كان هشام بن عبدالملك، كذلك لم تكن شجاعةً من رجل كالأشتر النخعي أن يهدّد الخليفة عثمان وهو على المنبر، بل ويتجرَّأ على نزع سيفه وكسْره أمام الجميع، لأنه لم يكن يجرؤ أن يفعل ذلك مع رجل كمعاوية.
كان الرجل, أي رجل, يملك حريّة أن يقول لعمر بن الخطاب: اتق الله، ولا يملك نفس الحريّة مع عبدالملك بن مروان الذي هدد صراحةً بقتل كل من يقول له تلك الكلمة, بل إن خليفة كأبي جعفر المنصور لم يتقبل حتى النصيحة من أحد رجاله المثقفين وهو ابن المقفع في رسالته البديعة له "رسالة الصحابة"، واعتبر أن مجرّد نصحه قلّة ذوق وإهانة لسلطانه، فأمر بقتله بعد تقطيع أطرافه وشيِّها أمامه.
إذن ليس مطالبا من المثقف سوى أن يكون صادقًا، إن صرخ غير مبال بتهديد فهذا أعظم الجهاد، وإن لم يفعل, خوفًا على حياته، فهذا من طبيعة البشر، ولا لوم عليه إلا أن يقول ما لا يؤمن به.
"بعد أن ألقى خروتشوف خطابه التاريخي الذي كشف فيه أمام مؤتمر الحزب الشيوعي سنة ١٩٥٦ عن انتهاك الحريّات أيام ستالين، بدأ أعضاء المؤتمر يقدّمون إليه أسئلتهم مكتوبة؛ ومُوقّعًا عليها بأسمائهم، وكان من بينها سؤال يقول: إذا كان هذا الانتهاك قد حدث أيام ستالين؛ فأين كنت أنت؟ ولاحظ خروتشوف أن السؤال بلا توقيع، فصاح: من صاحب هذا السؤال؟ وعندما لم يرُد أحد، ضحك خروتشوف، وقال: جوابي هو أني كنت مثلك يا صاحب السؤال."
ثم اضاف الأستاذ الطويلة: وإذا افترضنا أن الحكيم قد خاف؛ فمن حقه أن يخاف، فهو لا يدّعي أنه زعيم حزب، أو حامل بندقية.
ربما غاب عن الأستاذ هيكل وغيره من المنتقدين صمتَ كُتّابٍ كبار كالحكيم والعقاد وطه حسين في الحقبة الناصرية, علي عكس ما كانوا عليه فترة الملكية, أنَّ ثمة فارقًا بين الخوف والجبن، فالخوف شعور طبيعي, يتملّك حتى الشجاع, وينتج عن تهديد قوة ما أكبر من الإنسان، كخوف المريض من الموت، أو الفرد من المجموع أو السلطة، لكن الجبن شعور بالخوف المتطرّف غير المُبرّر, يكون من أي قوّة حتى لو كانت مكافئة, وهو هنا آفة ونقص, كخوف الفرد من الفرد, حتى أننا نجد أن "الشجاعة", لغةً, نقيض "الجبن"، بينما "الخوف" نقيض "الأمن" و"الاطمئنان"، لذلك فطبيعي أن يخرج النبي موسى من مدينة فرعون "خائفًا يترقّب"؛ كان موسى خائفًا، ولم يكن جبانًا، لأنه فرد يواجه دولة، وفي المقابل نجده, في حالة الصراع المتكافئ، قد وكز رجلًا فقضى عليه، كذلك لم يكن جبنًا أن يهاجر النبي محمد عن مكة مهاجرًا مُتخفّيًا, بل كان خائفًا ذلك الخوف الطبيعي الذي لن يمنعه من العودة بقوة مكافئة لفتح مكة.
ومن هذا يمكن أن نقف على دور المثقف في الرفض والنقد، فهو كإنسان، ليس مطالبًا أن يكون ثائرًا، المهم ألا يكون جبانًا، له أن يصمت خوفًا، ولكن شريطة ألا يُهلّل مع المنافقين ولا يضلل مع المغرضين، ليس جبنًا أن يخاف حين يشعر أن المناخ مُهدّد، فالطبيعي أن يتكلَّم في المساحة التي لا تشكل خطرًا عليه, لأن الحركة متعلقة بالمساحة، ومساحة الحريّة تصنعها السلطة لا المثقف، دور المثقف أن ينادي بالحريّة بما لا يُهدّد حياته، هذا ما كان، في كل تاريخ المثقف مع السلطة، وما يكون؛ فلم يكن مثقف كغيلان الدمشقي شجاعًا عندما أرسل رسالة شديدة اللهجة للخليفة منتقدًا فيها تصرفاته بل ومعتقداته (في القضاء والقدر) لأن الخليفة كان عمر بن عبدالعزيز، ولم يكن جبانًا عندما صمت وهرب خوفًا من الخليفة الآخر، الذي سيصلبه رغم صمته؛ لأن هذا الخليفة كان هشام بن عبدالملك، كذلك لم تكن شجاعةً من رجل كالأشتر النخعي أن يهدّد الخليفة عثمان وهو على المنبر، بل ويتجرَّأ على نزع سيفه وكسْره أمام الجميع، لأنه لم يكن يجرؤ أن يفعل ذلك مع رجل كمعاوية.
كان الرجل, أي رجل, يملك حريّة أن يقول لعمر بن الخطاب: اتق الله، ولا يملك نفس الحريّة مع عبدالملك بن مروان الذي هدد صراحةً بقتل كل من يقول له تلك الكلمة, بل إن خليفة كأبي جعفر المنصور لم يتقبل حتى النصيحة من أحد رجاله المثقفين وهو ابن المقفع في رسالته البديعة له "رسالة الصحابة"، واعتبر أن مجرّد نصحه قلّة ذوق وإهانة لسلطانه، فأمر بقتله بعد تقطيع أطرافه وشيِّها أمامه.
إذن ليس مطالبا من المثقف سوى أن يكون صادقًا، إن صرخ غير مبال بتهديد فهذا أعظم الجهاد، وإن لم يفعل, خوفًا على حياته، فهذا من طبيعة البشر، ولا لوم عليه إلا أن يقول ما لا يؤمن به.