- 1 -
عرفنا ابن زيدون العاشق الذي يحسن التحدث عن مآسي القلوب، ويكاد يعرف أسرار النفوس، فماذا نقول عن شوقي؟ لقد طال الحديث عن هذا الشاعر في فصول هذا الكتاب، ونخشى أن يتحيَّف حقوق من عرضنا لهم من الشعراء، ولكن كيف نستكثر القول في شوقي، وقد بذَّ ابن زيدون؟ إن نونية شوقي أعجوبة من الأعاجيب، وقد أرسلها من الأندلس في أعقاب الحرب العالمية فضجّ لها شعراء مصر، وأجابه إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وعبد الحليم المصري؛ ولكنهم عجزوا جميعاً عن الجري في ميدانه، ولم يُؤثَرْ لهم في معارضته شيء ذو بال بالقياس إلى أمير الشعراء.
ابتدأ ابن زيدون نونيته بشكوى البين والأعداء والزمان، وكانت الأبيات السبعة التي تحدث بها عن جواه زفرة محرقة لم يعيها ما وشيت به من الزخرف، ولكن أين هي من بداية شوقي حين خاطب الطائر الحزين في وادي الطلح بضاحية إشبيلية؟ لقد تمثل الطائر شبيهاً به في لوعته وجواه فاندفع يقول:
يا نائح الطَّلحِ أشباهٌ عوادينا ... نشْجى لواديكَ أم نأسى لوادينا
ماذا تَقُصُّ علينا غير أنَّ يداً ... قصت جناحيك جالت في حواشينا
رَمى بنا البينُ أَيكا غير سامِرنا ... أخا الغَريب وَظِلاً غير نادينا
كلٌّ رَمَتهُ النَّوى، ريشَ الفِراقُ لنا ... سَهما، وسُلَّ عَليكَ البَينُ سِكِّينا
إذا دعا الشوقُ لم نبرَح بمُنصَدِعٍ ... من الجناحين عَيٍّ لا يُلَبِّينا
فإن يكُ الجنسُ يا ابن الطلح فرَّقنا ... إن المصائب يَجمعن المصابينا
لم تألُ ماَءكَ تحناناً ولا ظَمأ ... ولا ادِّكاراً ولا شجوَاً أفانينا
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
والشاعر في هذه الأبيات حيران، يجعل الطائر في حالتين: حال المغترب، وحال المقيم، فما تدري أيبكي من الغربة أم ينوح من فقد الأليف؛ ومع حيرة الشاعر وضلاله عن تح ما يريد نراه بلغ غاية الرفق حين قال:
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
وهي حال نشهدها في الطائر المحزون، فقد نرى الطائر يتنقل على غير هدى من أيك إلى أيك، فنعرف أنه يبحث عمن يواسيه، ولكن أين من يواسي الطائر الحزين؟ إن شوقي نفسه أخطأ حين قال:
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
فإن الطائر لا يجد من يأسو جسمه، وإنما يجد من يذبحه ويشويه، والناس ألأم من أن يطِبُّوا لطائر جريح!
وانتقل ابن زيدون من شكوى البين والأعداء والزمان إلى معاتبة حبيبته، فذكر أنه لم يستمع وشاية ولم يعتقد إلا الوفاء، أما شوقي فقد انتقل من خطاب الطائر إلى بكاء الأندلس والحنين إلى مصر، فقال:
واهاً لنا نازحي أيكٍ بأندلسٍ ... حللنا رَفيفاً من رَوابينا
رسمٌ وقفنا على رسمِ الوفاءِ لهُ ... نجيشُ بالدمع والإجلالُ يثنينا
لفتيةٍ لا تنالُ الأرضُ أدمعهم ... ولا مفارقُهم إلاَّ مصلينا
لو لم يسودُوا بدينٍ فيه منبهةٌ ... للناس كانت لهم أخلاقهم دينا
لم نسر من حرمٍ إلا إلى حرمٍ ... كالخمر من بابل سارت لدارينا
لما نبا الخلْدُ نابت عنهُ نُسختهُ ... تماثُلَ الوردِ خيرياً ونسرينا
نسقي ثراهمْ ثناءً، كلما نُثِرَتْ ... دموعُنا نُظمت منها مراثينا
كادت عيونُ قوافينا تحرِّكهُ ... وكدنَ يوقظن في الترب السلاطينا
وللقارئ أن يتأمل الحسن في هذه الأبيات، فالشاعر يغلبه الدمع، وهو يتذكر ملوك الأندلس، ولكن الإجلال يثنيه عن البكاء، لأنه في ديار قوم لم تنل الأرض أدمعهم ومفارقهم إلا عند السجود، فهم لم يعرفوا الخشوع لغير الله، وذلك من أبعد الغايات في الثناء.
ويأبى شوقي غلا أن يحرص على المعاني الشعرية، فهو في الأندلس لا يسري من حرم ألا إلى حرم، ولكن كيف؟ كالخمر سارت من بابل إلى دارين! وقديسة الخمر لا تجوز في غير مذاهب الشعراء.
ثم قال في الحنين إلى وطن النيل:
لكن مصر وإن أغضت على مقةٍ ... عينٌ من الخلدِ بالكافور تسقينا
على جوانبها رفَّت تمائمُنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا
وهذا معنى قديم سبقه إليه من قال:
أحبُّ بلاد اللهِ ما بين منعِجٍ ... إلي وسلمى لو يصوبُ سحابها
بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائمي ... وأول أرض مسَّ جسمي ترابُها
والبكر هو قول شوقي:
ملاعبٌ مَرحَت فيها مآرُبنا ... وأربُعٌ أنِسَتْ فيها أمانينا
وإنما كان هذا معنى بكراً لما فيه من طرافة الخيال، أرأيتم كيف تمرح المآرب، وكيف تأنس الأماني؟
لقد رأيت شوقي أول ما رأيته سنة 1921، وكان دعاني للغداء عنده بالمطرية مع الأصدقاء الأكرمين مصطفى القشاشي، وسعيد عبدة، وأحمد علام، فعجبت يومئذ لذلك المبسم الساحر وسألت نفسي: كيف كان ذلك الملاك في صباه!
إن حنين شوقي إلى مصر حنينٌ عميق، وإنما كان كذلك لأن الشاعر شهد في مصر دنيا من الحب والمجد لم يظفر بها إلا الأفلون؛ ودنيا شوقي لم تكن مثل دنيا الناس في هذا الزمان، كانت الدنيا في شباب شوقي تفيض بالبشر والإيناس، وكان الشاعر يعيش فيها عيشة مضمخة بالسحر والفتون، وكان للجمال قدسية، وكان للصبا سلطان، وكانت خطوب الزمن لا تهد النفوس كما تفعل في هذه الأيام.
ومن البكر أيضاً قول شوقي:
بنَّا فلم نخلُ من رَوحٍ يُراوحنا ... من برِّ مصرَ وريحان يُغادينا
كأُمِّ موسى على اسم الله تكفلنا ... وباسمه ذهبت في اليمِّ تلقينا
يريد ان يقول إن مصر لم تلقهِ في النفي غلا خوفاً عليه من كيد فرعون، فرعون القرن العشرين المستر جون بول!
- 2 -
تذكرون قول ابن زيدون: يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به ... من كان صِرفَ الهوى والودِّ يسقينا
واسألْ هنالك هل عنى تذَكُّرُنا ... إلفاً تذكرهُ أمسى يُعَنِّينا
وهذا شعر جميل، ولكن انظر كيف عارضه شوقي فقال:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا ... بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
لما ترقرقَ في دمعِ السماءِ دماً ... هاجَ البكا فخضبنا الأرضَ باكينا
الليلُ يشهدُ لم نهِتك دياجيَهُ ... على نِيامٍ ولم نهِتفْ بسالينا
والنَّجمُ لم يرَنا إلاَّ على قدمٍ ... قيامَ ليلِ الهوى للعهدِ راعينا
كزفرةٍ في سماءِ الليلِ حائرَةٍ ... مِمَّا نُردِّدُ فيهِ حينَ يضوينا
َباللهِ إن جُبتَ ظلماَء العبابِ على ... نجائبِ النور مَحْدواً (بجرِّينا)
ترُدُّ عنكَ يداهُ كلَّ عاديةٍ ... إنْساً يعِثنَ فساداً أو شياطينا
حتى حوتْكَ سماءُ النيل عاليةً ... على الغيوثِ وإن كانت ميامينا
وأحرزتك شفوف اللاَّزَورْد على ... وشى الزبرْ جدِ من أفوافِ وادينا
وحازكَ الريفُ أرجاءً مؤرَّجة ... ربت خمائلَ واهتزَّت بساتينا
فقفْ إلى النيل واهتفْ في خمائِله ... وانزل كما نزلَ الطَّلُّ الرَّياحينا
وآس ما باتَ يذْوي من منازلنا ... بالحادثاتِ ويضوي منْ مغانينا
انظروا. ابن زيدون يسأل البرق أن يسقي القصر، وشوقي يسأل البرق أن يأسو المنازل الذاوية، والمغاني الضاوية، والمعنيان مقتربان، ولكن شوقي أعطانا صورة شعرية لتنقل البرق من أفق إلى أفق، وانحداره من أرض إلى أرض، وأعطى صوراً من ريف مصر وخمائل النيل لا تشوقُ غلا شاعراً ودَّع دنياه حين ودَّع النيل.
وقال ابن زيدون:
ويا نسيمَ الصِّبا بلّغ تحيتنا ... من لوْ على البعد حيَّاً كان يحيينا
عارضه شوقي فقال:
ويا معطّرة الوادي سَرت سحراً ... فطاب كلُّ طروحِ من مرامينا
ذكيَّةَ الذَّيل لو خِلنا غلالتها ... قميصَ يوسف لم نُحسب مُغالينا
جَشِمتِ شوك السرى حتى أتيت لنا ... بالورد كُتْباً وبالرَّيا عناوينا فَلوْ جزيناكِ بالأرواحِ غاليةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهَضْ جوازينا
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
إلى الذين وجدنا وُدَّ غيرهمو ... دُنيا ووُدَّهمُ الصافي هو الدِّينا
إن ابن زيدون لم يزد على أن قال: (يا نسيمَ الصِّبا)، وهو تعبير ورد في مئات القصائد، أما شوقي فراح يَفتنُّ افتناناً يدل على قوة الشاعرية، وبراعة الخيال، فوصف النسمة بأنها معطرة الوادي، وأنها سارت في السحَر فطاب بمسراها كلُّ مرمىً سحيق، وأنها ذكيةُ الذيل كأنها قميص يوسف، وأنها جشِمت شوك السرى حتى أتت بالورد مجسماً في رسائل، وأتت بالريَّا مُمثَّلةً في عناوين، وشكر لها النُّعمى فقال:
فَلوْ جَزَيناكِ بالأرْوَاحِ غالِيَةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهض جَوَازينا
وابن زيدون يقول: (بلِّغ تحياتنا) وهي عبارة جافيةٌ، لأنها وردت في صورة الأمر، أما شوقي فيترفق، ويقول:
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
وابن زيدون يصف أحبابه بالقدرة على إحيائه لو أسعفوه بتحية، وشوقي يجعل كل هوى غير هوى أحبابه بمصر صورة من الدنيا، أما هوى أحبابه الذين يتشوق إليهم فهو في صفاء الدِّين
ولا ننكر أن أخيلة شوقي مقتبس من ابن زيدون، فقول شوقي:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا ... بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
اختلس برفق وحذق من قول ابن زيدون:
بنتم وبنَّا فما ابتلَّت جوانحُنا ... شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
والمعنى الذي عرضه ابن زيدون في ثلاثة أبيات بسطه شوقي في ثمانية عشر بيتاً، وإنما اتفق له ذلك لأنه كان يعارض ابن زيدون، فكان لابدَّ له من توشيةٍ بارعة تُعَفِّ على النظرة الفطرية في أبيات ابن زيدون، ولابن زيدون فضل السبق، ولشوقي فضل البراعة في تلوين الصور الشعرية، وهو فضل ليس بالقليل.
وأراد ابن زيدون أن يتذكر أيام الأنس فقال:
حالت لفَقْدِكُمو أيامُنا فغدت ... سُوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا إذ جانِبُ العيش طلق من تألُّفنا ... ومربع اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فُنون الوصل دانية ... قُطُوفُهُ فجنينا منه ما شِينا
ليُسق عهدُكُمُ عهد السرور فما ... كُنتم لأرواحنا إلا رَياحِينا
وهذا شعرٌ صافي الديباجة، رائع المعاني، ولكن انظروا كيف عارضه شوقي فجمع بين الأسى والفخر حين قال:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والشمسُ تختالُ في العِقْيانِ تحسَبُها ... بَلْقيسَ تَرْفُلُ في وشي اليمانينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
والسعد لو دام والدنيا لو اطردت ... والسيل لو عفَّ والمقدار لو دِينا
ألقى على الأرضِ حتى ردّها ذهباً ... ماءً لَمسنا به الإكسير أو طينا
أعداءُ من يُمنِهِ (التابُوتُ) وارْتسمتْ ... على جَوانبهِ الأنوَارُ مِنْ سينا
له مبالغُ ما في الخُلقِ من كرم ... عهدُ الكرام وميثاق الوفيِّينا
لم يجر للدهرِ إعذارٌ ولا عُرُسٌ ... إلاَّ بأيامنا أوْ في ليالينا
ولا حوى السعدُ أطغى في أعنته ... منَّا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحنُ اليواقيتُ خاضَ النارَ جَوهَرُنا ... وَلم يَهنْ بيدِ التشتيت غالينا
ولا يَحولُ لنا صبغ ولا خلق ... إذا تلوَّن كالحرباءِ شانينا
والقارئ حين يوازن بين هاتين القطعتين لا يدري أيهما أجود، لأن ابن زيدون على قصر نفسه في هذا الشوط بلغ غاية الرشاقة حين قال:
وإذا هصرنا فنون الأنس دانية ... قطفه فجنينا منه ما شينا
وبلغ غاية الدقة حين قال:
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... مورد اللهو صاف من تصافينا
والدقة في هذا البيت تؤخذ من صدق التعليل، فالعيش لم تتسع جوانبه إلا بفضل التألف، تألف القلبين، واللهو لم يصف مورده إلا بفضل التصافي، تصافي الحبيبين، والدنيا لا كدر فيها ولا صفاء، وإنما تصفو حين تصفو النفوس، وتقسو حين تقسو القلوب، فالزهر الذي يبسم لك لا يبسم لك وحدك، وإنما تراه يخصك بالرفق لأن الدنيا صفت لك، وقد يراه غيرك في ابتسامه صورة من صور العبوس، والنهر الذي تنظر إليه في الليالي المقمرة فتراه عاشقاً يغازل القمر ويتلقى دعابته في حنان، هذا النهر لا يتمثل لك كذلك إلا لأنك تشاهد أمواجه الفضية بقلب مرح وحس طروب، وهو نفسه قد يبدو للمحزون صورة من صور الاكتئاب.
ويروقنا قول شوقي:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
يروقنا هذا الشعر، لأن الشاعر جعل عهده في نضرة الزهر الذي يتفتح في أكناف الربوات، ولأنه رأى اللِّين في أيام الأنس شبيهاً باللين في أعطاف الصبا، وأعطاف الصبا جوهرٌ نبيل لا يعرف طيب لينها إلا شاعر أمكنته من أعطاف الصبا سَورَةُ الصبوات، ويروقنا أيضاً لطرافة هذا الخيال:
(ترف أوقاتنا فيها رياحينا)
ورفيف الأوقات معنى يعرفه العشاق الذين دار بهم الزمن في أرجوحة اللهو الجموح.
ويروقنا هذا الشعر مرة ثالثة لأن الشاعر يرى إقبال النيل كالدنيا حين تحتفل، وانظروا كيف تكون الدنيا حين تحتفل، ثم تأملوا روعة هذا الاستدراك:
(لو كان فيها وفاء للمصافينا)
ولكن هذه الطرافة في أخيلة شوقي لا تنسينا براعة ابن زيدون حين جعل محبوبته كل شيء حين قال:
يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاء الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها ... منىً ضروباً ولذاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا إن لم يكن هذا هو الشعر فما عسى الشعر أن يكون؟ أترون العذوبة في الهتاف بالروضة التي (طالما أجنت لواحظنا ورداً جلاه الصبا)، تأملوا عبارة (أجنت لواحظنا)، وانظروا كيف تغزونا الروضة فتقهرنا على تذوق جناها المرموق، والشاعر لا ينتظر حتى تهفو نفسه إلى مناعم الروضة، وإنما تهجم الروضة عليه فتعلمه كيف يهصر الأفنان، وكيف يجني القطوف، وعبارة (جلاه الصبا) ما رأيكم فيما تحويه من سحر أخاذ؟ ثم ما هذا التعبير الطريف:
(منىً ضروباً ولذات أفانينا)
أتعرفون كيف يكون للمعنى ألوان وللذات أفانين؟ إن هذا خيال شاعر غرق مرة في كوثر الوصال.
وانظروا هذا البيت:
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
أتحسون قوة هذا المعنى؟ ألا يُريكم الخيال صورة فتىً منعم يسحب ذيل النعيم؟ إن ابن زيدون في هذه الأبيات أقوى من شوقي في التحسر على ما ضاع من دنيا الهوى المفقود
(البقية في العدد القادم)
زكي مبارك
مجلة الرسالة - العدد 173
بتاريخ: 26 - 10 - 1936
عرفنا ابن زيدون العاشق الذي يحسن التحدث عن مآسي القلوب، ويكاد يعرف أسرار النفوس، فماذا نقول عن شوقي؟ لقد طال الحديث عن هذا الشاعر في فصول هذا الكتاب، ونخشى أن يتحيَّف حقوق من عرضنا لهم من الشعراء، ولكن كيف نستكثر القول في شوقي، وقد بذَّ ابن زيدون؟ إن نونية شوقي أعجوبة من الأعاجيب، وقد أرسلها من الأندلس في أعقاب الحرب العالمية فضجّ لها شعراء مصر، وأجابه إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وعبد الحليم المصري؛ ولكنهم عجزوا جميعاً عن الجري في ميدانه، ولم يُؤثَرْ لهم في معارضته شيء ذو بال بالقياس إلى أمير الشعراء.
ابتدأ ابن زيدون نونيته بشكوى البين والأعداء والزمان، وكانت الأبيات السبعة التي تحدث بها عن جواه زفرة محرقة لم يعيها ما وشيت به من الزخرف، ولكن أين هي من بداية شوقي حين خاطب الطائر الحزين في وادي الطلح بضاحية إشبيلية؟ لقد تمثل الطائر شبيهاً به في لوعته وجواه فاندفع يقول:
يا نائح الطَّلحِ أشباهٌ عوادينا ... نشْجى لواديكَ أم نأسى لوادينا
ماذا تَقُصُّ علينا غير أنَّ يداً ... قصت جناحيك جالت في حواشينا
رَمى بنا البينُ أَيكا غير سامِرنا ... أخا الغَريب وَظِلاً غير نادينا
كلٌّ رَمَتهُ النَّوى، ريشَ الفِراقُ لنا ... سَهما، وسُلَّ عَليكَ البَينُ سِكِّينا
إذا دعا الشوقُ لم نبرَح بمُنصَدِعٍ ... من الجناحين عَيٍّ لا يُلَبِّينا
فإن يكُ الجنسُ يا ابن الطلح فرَّقنا ... إن المصائب يَجمعن المصابينا
لم تألُ ماَءكَ تحناناً ولا ظَمأ ... ولا ادِّكاراً ولا شجوَاً أفانينا
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
والشاعر في هذه الأبيات حيران، يجعل الطائر في حالتين: حال المغترب، وحال المقيم، فما تدري أيبكي من الغربة أم ينوح من فقد الأليف؛ ومع حيرة الشاعر وضلاله عن تح ما يريد نراه بلغ غاية الرفق حين قال:
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
وهي حال نشهدها في الطائر المحزون، فقد نرى الطائر يتنقل على غير هدى من أيك إلى أيك، فنعرف أنه يبحث عمن يواسيه، ولكن أين من يواسي الطائر الحزين؟ إن شوقي نفسه أخطأ حين قال:
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
فإن الطائر لا يجد من يأسو جسمه، وإنما يجد من يذبحه ويشويه، والناس ألأم من أن يطِبُّوا لطائر جريح!
وانتقل ابن زيدون من شكوى البين والأعداء والزمان إلى معاتبة حبيبته، فذكر أنه لم يستمع وشاية ولم يعتقد إلا الوفاء، أما شوقي فقد انتقل من خطاب الطائر إلى بكاء الأندلس والحنين إلى مصر، فقال:
واهاً لنا نازحي أيكٍ بأندلسٍ ... حللنا رَفيفاً من رَوابينا
رسمٌ وقفنا على رسمِ الوفاءِ لهُ ... نجيشُ بالدمع والإجلالُ يثنينا
لفتيةٍ لا تنالُ الأرضُ أدمعهم ... ولا مفارقُهم إلاَّ مصلينا
لو لم يسودُوا بدينٍ فيه منبهةٌ ... للناس كانت لهم أخلاقهم دينا
لم نسر من حرمٍ إلا إلى حرمٍ ... كالخمر من بابل سارت لدارينا
لما نبا الخلْدُ نابت عنهُ نُسختهُ ... تماثُلَ الوردِ خيرياً ونسرينا
نسقي ثراهمْ ثناءً، كلما نُثِرَتْ ... دموعُنا نُظمت منها مراثينا
كادت عيونُ قوافينا تحرِّكهُ ... وكدنَ يوقظن في الترب السلاطينا
وللقارئ أن يتأمل الحسن في هذه الأبيات، فالشاعر يغلبه الدمع، وهو يتذكر ملوك الأندلس، ولكن الإجلال يثنيه عن البكاء، لأنه في ديار قوم لم تنل الأرض أدمعهم ومفارقهم إلا عند السجود، فهم لم يعرفوا الخشوع لغير الله، وذلك من أبعد الغايات في الثناء.
ويأبى شوقي غلا أن يحرص على المعاني الشعرية، فهو في الأندلس لا يسري من حرم ألا إلى حرم، ولكن كيف؟ كالخمر سارت من بابل إلى دارين! وقديسة الخمر لا تجوز في غير مذاهب الشعراء.
ثم قال في الحنين إلى وطن النيل:
لكن مصر وإن أغضت على مقةٍ ... عينٌ من الخلدِ بالكافور تسقينا
على جوانبها رفَّت تمائمُنا ... وحول حافاتها قامت رواقينا
وهذا معنى قديم سبقه إليه من قال:
أحبُّ بلاد اللهِ ما بين منعِجٍ ... إلي وسلمى لو يصوبُ سحابها
بلادٌ بها نِيطتْ عليَّ تمائمي ... وأول أرض مسَّ جسمي ترابُها
والبكر هو قول شوقي:
ملاعبٌ مَرحَت فيها مآرُبنا ... وأربُعٌ أنِسَتْ فيها أمانينا
وإنما كان هذا معنى بكراً لما فيه من طرافة الخيال، أرأيتم كيف تمرح المآرب، وكيف تأنس الأماني؟
لقد رأيت شوقي أول ما رأيته سنة 1921، وكان دعاني للغداء عنده بالمطرية مع الأصدقاء الأكرمين مصطفى القشاشي، وسعيد عبدة، وأحمد علام، فعجبت يومئذ لذلك المبسم الساحر وسألت نفسي: كيف كان ذلك الملاك في صباه!
إن حنين شوقي إلى مصر حنينٌ عميق، وإنما كان كذلك لأن الشاعر شهد في مصر دنيا من الحب والمجد لم يظفر بها إلا الأفلون؛ ودنيا شوقي لم تكن مثل دنيا الناس في هذا الزمان، كانت الدنيا في شباب شوقي تفيض بالبشر والإيناس، وكان الشاعر يعيش فيها عيشة مضمخة بالسحر والفتون، وكان للجمال قدسية، وكان للصبا سلطان، وكانت خطوب الزمن لا تهد النفوس كما تفعل في هذه الأيام.
ومن البكر أيضاً قول شوقي:
بنَّا فلم نخلُ من رَوحٍ يُراوحنا ... من برِّ مصرَ وريحان يُغادينا
كأُمِّ موسى على اسم الله تكفلنا ... وباسمه ذهبت في اليمِّ تلقينا
يريد ان يقول إن مصر لم تلقهِ في النفي غلا خوفاً عليه من كيد فرعون، فرعون القرن العشرين المستر جون بول!
- 2 -
تذكرون قول ابن زيدون: يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به ... من كان صِرفَ الهوى والودِّ يسقينا
واسألْ هنالك هل عنى تذَكُّرُنا ... إلفاً تذكرهُ أمسى يُعَنِّينا
وهذا شعر جميل، ولكن انظر كيف عارضه شوقي فقال:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا ... بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
لما ترقرقَ في دمعِ السماءِ دماً ... هاجَ البكا فخضبنا الأرضَ باكينا
الليلُ يشهدُ لم نهِتك دياجيَهُ ... على نِيامٍ ولم نهِتفْ بسالينا
والنَّجمُ لم يرَنا إلاَّ على قدمٍ ... قيامَ ليلِ الهوى للعهدِ راعينا
كزفرةٍ في سماءِ الليلِ حائرَةٍ ... مِمَّا نُردِّدُ فيهِ حينَ يضوينا
َباللهِ إن جُبتَ ظلماَء العبابِ على ... نجائبِ النور مَحْدواً (بجرِّينا)
ترُدُّ عنكَ يداهُ كلَّ عاديةٍ ... إنْساً يعِثنَ فساداً أو شياطينا
حتى حوتْكَ سماءُ النيل عاليةً ... على الغيوثِ وإن كانت ميامينا
وأحرزتك شفوف اللاَّزَورْد على ... وشى الزبرْ جدِ من أفوافِ وادينا
وحازكَ الريفُ أرجاءً مؤرَّجة ... ربت خمائلَ واهتزَّت بساتينا
فقفْ إلى النيل واهتفْ في خمائِله ... وانزل كما نزلَ الطَّلُّ الرَّياحينا
وآس ما باتَ يذْوي من منازلنا ... بالحادثاتِ ويضوي منْ مغانينا
انظروا. ابن زيدون يسأل البرق أن يسقي القصر، وشوقي يسأل البرق أن يأسو المنازل الذاوية، والمغاني الضاوية، والمعنيان مقتربان، ولكن شوقي أعطانا صورة شعرية لتنقل البرق من أفق إلى أفق، وانحداره من أرض إلى أرض، وأعطى صوراً من ريف مصر وخمائل النيل لا تشوقُ غلا شاعراً ودَّع دنياه حين ودَّع النيل.
وقال ابن زيدون:
ويا نسيمَ الصِّبا بلّغ تحيتنا ... من لوْ على البعد حيَّاً كان يحيينا
عارضه شوقي فقال:
ويا معطّرة الوادي سَرت سحراً ... فطاب كلُّ طروحِ من مرامينا
ذكيَّةَ الذَّيل لو خِلنا غلالتها ... قميصَ يوسف لم نُحسب مُغالينا
جَشِمتِ شوك السرى حتى أتيت لنا ... بالورد كُتْباً وبالرَّيا عناوينا فَلوْ جزيناكِ بالأرواحِ غاليةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهَضْ جوازينا
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
إلى الذين وجدنا وُدَّ غيرهمو ... دُنيا ووُدَّهمُ الصافي هو الدِّينا
إن ابن زيدون لم يزد على أن قال: (يا نسيمَ الصِّبا)، وهو تعبير ورد في مئات القصائد، أما شوقي فراح يَفتنُّ افتناناً يدل على قوة الشاعرية، وبراعة الخيال، فوصف النسمة بأنها معطرة الوادي، وأنها سارت في السحَر فطاب بمسراها كلُّ مرمىً سحيق، وأنها ذكيةُ الذيل كأنها قميص يوسف، وأنها جشِمت شوك السرى حتى أتت بالورد مجسماً في رسائل، وأتت بالريَّا مُمثَّلةً في عناوين، وشكر لها النُّعمى فقال:
فَلوْ جَزَيناكِ بالأرْوَاحِ غالِيَةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهض جَوَازينا
وابن زيدون يقول: (بلِّغ تحياتنا) وهي عبارة جافيةٌ، لأنها وردت في صورة الأمر، أما شوقي فيترفق، ويقول:
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
وابن زيدون يصف أحبابه بالقدرة على إحيائه لو أسعفوه بتحية، وشوقي يجعل كل هوى غير هوى أحبابه بمصر صورة من الدنيا، أما هوى أحبابه الذين يتشوق إليهم فهو في صفاء الدِّين
ولا ننكر أن أخيلة شوقي مقتبس من ابن زيدون، فقول شوقي:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا ... بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
اختلس برفق وحذق من قول ابن زيدون:
بنتم وبنَّا فما ابتلَّت جوانحُنا ... شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
والمعنى الذي عرضه ابن زيدون في ثلاثة أبيات بسطه شوقي في ثمانية عشر بيتاً، وإنما اتفق له ذلك لأنه كان يعارض ابن زيدون، فكان لابدَّ له من توشيةٍ بارعة تُعَفِّ على النظرة الفطرية في أبيات ابن زيدون، ولابن زيدون فضل السبق، ولشوقي فضل البراعة في تلوين الصور الشعرية، وهو فضل ليس بالقليل.
وأراد ابن زيدون أن يتذكر أيام الأنس فقال:
حالت لفَقْدِكُمو أيامُنا فغدت ... سُوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا إذ جانِبُ العيش طلق من تألُّفنا ... ومربع اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فُنون الوصل دانية ... قُطُوفُهُ فجنينا منه ما شِينا
ليُسق عهدُكُمُ عهد السرور فما ... كُنتم لأرواحنا إلا رَياحِينا
وهذا شعرٌ صافي الديباجة، رائع المعاني، ولكن انظروا كيف عارضه شوقي فجمع بين الأسى والفخر حين قال:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والشمسُ تختالُ في العِقْيانِ تحسَبُها ... بَلْقيسَ تَرْفُلُ في وشي اليمانينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
والسعد لو دام والدنيا لو اطردت ... والسيل لو عفَّ والمقدار لو دِينا
ألقى على الأرضِ حتى ردّها ذهباً ... ماءً لَمسنا به الإكسير أو طينا
أعداءُ من يُمنِهِ (التابُوتُ) وارْتسمتْ ... على جَوانبهِ الأنوَارُ مِنْ سينا
له مبالغُ ما في الخُلقِ من كرم ... عهدُ الكرام وميثاق الوفيِّينا
لم يجر للدهرِ إعذارٌ ولا عُرُسٌ ... إلاَّ بأيامنا أوْ في ليالينا
ولا حوى السعدُ أطغى في أعنته ... منَّا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحنُ اليواقيتُ خاضَ النارَ جَوهَرُنا ... وَلم يَهنْ بيدِ التشتيت غالينا
ولا يَحولُ لنا صبغ ولا خلق ... إذا تلوَّن كالحرباءِ شانينا
والقارئ حين يوازن بين هاتين القطعتين لا يدري أيهما أجود، لأن ابن زيدون على قصر نفسه في هذا الشوط بلغ غاية الرشاقة حين قال:
وإذا هصرنا فنون الأنس دانية ... قطفه فجنينا منه ما شينا
وبلغ غاية الدقة حين قال:
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... مورد اللهو صاف من تصافينا
والدقة في هذا البيت تؤخذ من صدق التعليل، فالعيش لم تتسع جوانبه إلا بفضل التألف، تألف القلبين، واللهو لم يصف مورده إلا بفضل التصافي، تصافي الحبيبين، والدنيا لا كدر فيها ولا صفاء، وإنما تصفو حين تصفو النفوس، وتقسو حين تقسو القلوب، فالزهر الذي يبسم لك لا يبسم لك وحدك، وإنما تراه يخصك بالرفق لأن الدنيا صفت لك، وقد يراه غيرك في ابتسامه صورة من صور العبوس، والنهر الذي تنظر إليه في الليالي المقمرة فتراه عاشقاً يغازل القمر ويتلقى دعابته في حنان، هذا النهر لا يتمثل لك كذلك إلا لأنك تشاهد أمواجه الفضية بقلب مرح وحس طروب، وهو نفسه قد يبدو للمحزون صورة من صور الاكتئاب.
ويروقنا قول شوقي:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
يروقنا هذا الشعر، لأن الشاعر جعل عهده في نضرة الزهر الذي يتفتح في أكناف الربوات، ولأنه رأى اللِّين في أيام الأنس شبيهاً باللين في أعطاف الصبا، وأعطاف الصبا جوهرٌ نبيل لا يعرف طيب لينها إلا شاعر أمكنته من أعطاف الصبا سَورَةُ الصبوات، ويروقنا أيضاً لطرافة هذا الخيال:
(ترف أوقاتنا فيها رياحينا)
ورفيف الأوقات معنى يعرفه العشاق الذين دار بهم الزمن في أرجوحة اللهو الجموح.
ويروقنا هذا الشعر مرة ثالثة لأن الشاعر يرى إقبال النيل كالدنيا حين تحتفل، وانظروا كيف تكون الدنيا حين تحتفل، ثم تأملوا روعة هذا الاستدراك:
(لو كان فيها وفاء للمصافينا)
ولكن هذه الطرافة في أخيلة شوقي لا تنسينا براعة ابن زيدون حين جعل محبوبته كل شيء حين قال:
يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاء الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها ... منىً ضروباً ولذاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا إن لم يكن هذا هو الشعر فما عسى الشعر أن يكون؟ أترون العذوبة في الهتاف بالروضة التي (طالما أجنت لواحظنا ورداً جلاه الصبا)، تأملوا عبارة (أجنت لواحظنا)، وانظروا كيف تغزونا الروضة فتقهرنا على تذوق جناها المرموق، والشاعر لا ينتظر حتى تهفو نفسه إلى مناعم الروضة، وإنما تهجم الروضة عليه فتعلمه كيف يهصر الأفنان، وكيف يجني القطوف، وعبارة (جلاه الصبا) ما رأيكم فيما تحويه من سحر أخاذ؟ ثم ما هذا التعبير الطريف:
(منىً ضروباً ولذات أفانينا)
أتعرفون كيف يكون للمعنى ألوان وللذات أفانين؟ إن هذا خيال شاعر غرق مرة في كوثر الوصال.
وانظروا هذا البيت:
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
أتحسون قوة هذا المعنى؟ ألا يُريكم الخيال صورة فتىً منعم يسحب ذيل النعيم؟ إن ابن زيدون في هذه الأبيات أقوى من شوقي في التحسر على ما ضاع من دنيا الهوى المفقود
(البقية في العدد القادم)
زكي مبارك
مجلة الرسالة - العدد 173
بتاريخ: 26 - 10 - 1936