داود سلمان الشويلي - السرد في الخيام والشعر في القصور(1)

ليس من نافل القول ان الحياة منذ أن عرفنا عنها الكثير نحن أبناء هذا الزمان، كانت سهلة، ويسيرة، بحيث تصل الى حد الهناء المترف، ولا هي صعبة بحيث تصل حد الشغف بالموت خلاصا منها، كانت هذه وتلك، وكان الميل الى الثانية هو الأعم، وواسع الانتشار، وكان السرد، ونعني به الحكايات، والسوالف، والحدوتات، هو الضارب في أطناب هذه الحياة المتقشفة، الصعبة، وكذلك ولد الشعر من رحم هذه الحياة، لأن الغناء ولد من رحم العمل، والغناء يستوجب الكلمة المنغمة، أي الشعر، وانتقل مباشرة للحياة الأولى، هذه الحياة التي في كنف الترافة، والهناء، ان كانت في الخيام أم كانت في القصور الشامخات، وراح يعيش بين جنبيها، حتى تردد صداه ألسنة الحسان الغواني بشكل منغم، كالغناء، أو غير منغم كقراءته من قبل الشاعر.
كان السرد الذي نعنيه قد سكن الخيام البسيطة، ببساطة حياة ناسها، وأهوال الصحراء الواسعة، الممتدة الأطراف، وكان مرة يحكى منغما على صوت الربابة، مثل حكايات السير الشعبية، وأخرى يحكى حكاية مسرودة نثرا. هكذا نمى، وكبر، وعاش، هذين الفنين عند العرب الأوائل، وما زال يعيش بيننا بإستحياء.
هكذا تلازم الانسان مع هذين الفنين، تلازم مع السرد، والغناء، ثم مع السرد، والشعر. السرد كان من حصة عامة الناس إلا القليل، والشعر صار من حصة خاصة الناس إلا القليل، وهذين القليلين لا يحسب لهما حساب، وكان الخاصة، والعامة، يبحثون في هذين الفنين عن الذي يذهب بعقولهم الى عوالم غير العالم الذي هم فيه يعيشون، كانوا يبحثون عن الخيال الذي يمتطوه، ويحلقون عاليا على أجنحته انعتاقا من واقعهم الفقير الذي تعكسه الخيام، أو المتخم بالمال الذي تعكسه القصور، كل يبحث في هذين الفنين عن (ليلاه)، ـي حاجته، لينسى وجوده الانساني ولو لبعض حين، حتى لو كان ذلك لدقائق معدودة، وليبقى عالم الحياة متشبثا به، ومحافظا عليه، مضاء دوما.
***
أ - "الشعر العمودي":
الشعر ديوان العرب، قال ذلك ابن عباس كما تذكر المصادر، وقال كذلك الشاعر أبو فراس الحمداني (الشعر ديوان العرب وعنوان الأدب) كما تذكر كذلك المصادر، والعهدة عليها.
كيف يكون الشعر ديوانا للعرب، وعنوانا للأدب؟
لنترك جانبا الى وقت آخر نصف العبارة الثاني، ونناقش نصفها الأوّل، الشعر "ديوان العرب" لنرى مدا انطباقها على واقع الشعر، وحرصه على أن يكون خازنا لكل ما يقوم به العرب.
ان فترة ما تسمى "بالجاهلية"، والتسمية غير موفقة، هي فترة الجذور، والأساس، اللذان ينهض عليهما الشعر العربي، وغنى، وتنوع، هذا الشعر، والذي يليه عبر تاريخه، هو جدير بأن تنطبق عليه العبارة تلك، لأن قابلية نصوصه على التحمل غير محدودة، وعلاقته، ثقافيا، وأدبيا، مع تفسه، ومع الغير، مستمرة، ومتجددة، وهذه القابلية تؤثر فيها، وتفرضها المرحلة التاريخية، وطبيعة التغيرات الانسانية، والحضارية التي مرّ بها العرب.
والشعر هذا ما هو إلا صورة من صور الطاقة الابداعية للانسان العربي، في الصحراء، وفي الحاضرة، على السواء، ذات البعد الانساني، والتي لا طاقة أخرى غيرها يقدمها الى الانسانية جمعاء. انها طاقة خلاقة، متحركة، متجددة، لاتحدها حدود.
الشعر ديوان العرب لأنه صورة ناطقة لتقدم، ونهوض، وانكسارت، وانحطاط، والمرور بفترات مظلمة للعرب. انه المرأة التي تعكس كل ما يصيب كيان العرب، وكل ما تكنه نفسيتهم "الحارة" بحرارة رمل صحرائهم، والباردة كبرودة ليلهم الصحراوي، من أمور.
الشعر العربي ليس العمود الواقف بدعامتين، ولا هو الوزن المسموع، المنغم، ولا القافية التي تشدك اليها دون وعي منك، ولا مفردات متجانسة، متناسقة خارجة عن القاموس اللغوي، وفيها كل ما في البيان، والبدبع، من عناصر يتحلى بها، ويزخرف عوالمه، انما هو كل هذا مجتمعا اضافة للموضوع الذي يتناوله.
فهل صدقت تلك المقولة/ العبارة؟
***
لندع رأي الدكتور طه حسين عن الشعر الجاهلي الذي جاء في كتابه (في الشعر الجاهلي)، جانبا(2) لبعض الوقت، ونتعرف على أوّل من قال قصيدة عمودية طويلة، متمكنة، وهو الشاعر امرؤ القيس، وكان الذين جاؤوا من قبله لم يكن شعرهم أكثر من أبيات لا تعد على أصابع اليدين، كما جاء في كتاب أدونيس (ديوان الشعر العربي – ج1)(3) مع العلم ان أوّل من قصد القصيد كما تذكر المصادر هو المهلهل(4) خال امرؤ القيس.
خاض الشاعر امرؤ القيس في جل أغراض الشعر، ونوّع في قصائده من حيث الوزن، والقافية، واشتهر الى حد ما بقصائدة الجنسية التي تذكر المصادر ان أبيه طرده من ديوانه الملكي لتشبيبه بنساء قبيلته. وفي معلقته، التي يبدأها بقوله:
قفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
يطرح موضوعة الجنس، فيقول:
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـــــا نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّــــا القَرَنْفُلِ
فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي
ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِــــــحٍ وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُــــــــــــلِ
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِـــــي فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّـــــــلِ
فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَـــــا وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّـــــــلِ
ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِــدْرَ عُنَيْـزَةٍ فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِــــــي
تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعــــــاً عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ
فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَــهُ ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَـــــــّـلِ
فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِـعٍ فَأَلْهَيْتُهَـا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْـــــــــوِلِ
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ بِشَـقٍّ وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَـــــــــــوَّلِ
***
وذكرت المصادر ان أصحاب المعلقات سبعة، وقيل تسعة، وقيل عشرة، وأوّل من ذكر المعلقات هو حماد الراوية الذي أطلق عليها اسم المعلقات، وأغلب الدارسين ينكرون هذه التسمية كالدكتور شوقي ضيف، والدكتور جواد علي. وأغلب شعراء المعلقات هم أبناء قصور، أو على الأقل كتبوا الشعر في القصور، ولأجل مَن في القصور مثل النابغة الذبياني الذي كتب قصيدته "المتجردة"، وأبو نواس الذي كتب قصيدته عن الجارية"جنان"، والشاعر ابن زيدون الذي كتب قصيدته عن"ولادة".
جل أصحاب المعلقات من الحواضر، واذا كان الشاعر من البادية فانه تردد على قصور الملوك، وجالسهم، ومدحهم، وكتب القصائد فيهم.
***
في العصر الأموي اشتهر الشاعر الفرزدق بالمدح والهجاء، وهذا الشاعر قد وفد على عدد كبير من الخلفاء كعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وابنه يزيد، وعبدالملك بن مروان، وابنائه الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، ووفد أيضاً على الخليفة عمر بن عبد العزيز، وعدد من الأمراء الأمويين، والولاة. هذا يوضح ان شعره شعر قصور، إذ لا يمكن أن يفد على هؤلاء الخلفاء، وعندما يخرج منهم يسكن في خيمة.
فها هو يمدح علي زين العابدين ويهجو هشام بن عبد الملك بقصيدته التي يقول فيها:
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
***
وفي العصر العباسي اشتهر الشاعر أبو نواس بشعر الخمربات، والغلمان، وهو ابن مدينة، اذ جدد في الشعر، وترك المقدمة الطللية قي شعره:
عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
وشعراء العمود القدامى أكثر من حبات اللؤلؤ في جيد غانية.
***
ولا نعدم شاعرا لم يسكن الحاضرة، أو خالط الملوك في قصورهم، وخاطبهم في شعره، وهذه النماذج التي استشهدت بها تلقى الضوء على نماذج تؤكد ان قول الشعر كان في القصور، وهذا لا يعني ان الشاعر عاش في القصور انما الذي أعنيه انه عاش في بيئة تشبه بيئة القصور.
وأيضا فإن الشعراء نظموا جل شعرهم لمن كان في القصور رجالا أو نساء، حتى الراعي في المراعي مثل عنترة فانه نظم الشعر لعبلة بنت عمه الملك.
***
تردد الشعراء، كما تذكر المصادر، على الأسواق، فكان المشهور من بين الأسواق سوق عكاظ في الجزيرة العربية، وسوق المربد في البصرة، إذ يقرأ الشعراء قصائدهم أمام الجمهور، والمتبضعين كما يحدث الآن إلا ان الفرق بين القراءة الأولى وقراءة اليوم انه في هذه الأيام تكون القراءة داخل قاعة، ويجلس المستمعين على كراسي، زيلقي الشاعر شعرة في "ميكرفون" ليصل صوته الى كل من في القاعة، أما في السابق فان القراءة تتم في الهواء الطلق، وأمام جمهور واقف، بصوت جوهري مسموع. والقراءة الثانية للشعراء القدامى تتم لبعضهم داخل القصور الملكية، وجل الشعراء مارسوا هذه القراءة، وتحدث في هذه القراءة بعض المحاورات الأدبية، وصراعات التنافس كما حدث للشاعر المتنبي في قصر سيف الدولة الحمداني، وحسد الشاعر أبو فراس الحمداني للشاعر كما تذكر المصادر.
إذن، ولد الشعر العمودي في القصور، وقرأ في القصور سوى بعضه الذي يقرأ في الأسواق، وبأوقات معينة.
***
هكذا ولد الشعر العمودي بين جدران القصور، ومنه الشعر المكتوب باللغة العبرية الذي تحدثت عنه في كتابي "الخيانة العظمى"(5) الذي كتب، وقرأ، أو تلي منغما، بين جدران المعابد.
***
2– "قصيدة التفعيلة":
يقول ابن قتيبة في كتابه: الشعر والشعراء- ج1 – ص88: ان "أول من قصد القصائد هو المهلهل بن ربيعة".
هذا رأي من بين آراء اخترته لأنه يوافق الكثير من الآراء لنقاد عرب قدامى، وهذا لا يعني انه القول الفصل في أوّل من قصد القصيد بعيدا عن تهويمات الكتاب الذين يحملون نفس ديني فيزعمون مرة ان أوّل من قصد القصيد هو آدم، وغيره يقول نوح، ولم يتفقوا على شخص بعينه.
أوّل ما ظهرت القصيدة ذات الأبيات الكثيرة حسب ما وصلنا من شعر، بعيدا عن رأي د. طه حسين الذي قاله في كتابه "في الشعر الجاهلي"، والذي أنا على رأيه، وحسب علمي المتواضع هي قصائد "أمرؤ القيس"، وهو ابن ملك، كان أبوه حجر ملكًا على بني أسد وغطفان، إذن ولدت قصيدته في القصور الملكية. ويتنازع معه مكانه الشعري خاله المهلهل الذي يضعه النقاد العرب القدامى على رأس أوّل من قصد القصيد.
تطور على يد شعراء العربية الشعر، فكان هناك شعر الفكرة الذي جاء به الشاعر أبي تمام، وكان هناك القصيدة الخالية من المقدمة الطللية كما جاءت في قصائد أبو نواس، وهناك كانت الموشحات. وعندما وصلنا الى القرن العشرين، وفي منتصفه، جاءت قصيدة التفعيلة التي سمي الشعر عندها بالشعر الحر، وهي تسمية خاطئة كما نرى، وسبق أن أعطينا رأينا عن ذلك في حلقة من حلقات هذه السلسلة.
وحتما ان عصر الشاعر له تأثير مباشر على شعره، وكذلك بيئته، وهذا ما سنتبينه في الشعر سابقا، وفي الشعر لاحقا، أي في القديم، والمعاصر.
***
كانت ولادة قصيدة التفعيلة، وهي عملية تنوع، وليس عملية انقطاع، واستئناف، فالنهر يمكن أن تسير فيه السفن الصغيرة، والسفن الكبيرة، والبواخر العملاقة، انه يجري. هذه الولادة يتنازعها شاعران هما السياب والملائكة، وهذه السطور تميل الى كون السياب هو أوّل من أنشأ قصيدة من هذا النوع، في قصيدته «هل كان حبًّا» في ديوانه «أزهار ذابلة»، الصادر في كانون الأوّل سنة 1947م. أما قصيدة الملائكة «الكوليرا»، فقد نشرت بالسنة ذاتها، في تشرين الأوّل سنة 1947م.
تطورت هذه القصيدة على يد السياب، وغيره من الشعراء الذين كتبوا فيها، حتى وصلت الى ما وصلت اليه خلال خمسين سنة فنازعتها قصيدة النثر هي وشعر العمود، ووصلت الى حد الاحتضار، فكان عمرها من ولادتها الى سنوات احتضارها حوالي 50 سنة قدمت فيها أكثر مما قدمته القصيدة العمودية خلال أكثر من 1500 سنة. فقد قدمت وحدة القصيدة بدلا من وحدة البيت في الشعر العمودي، وعدم الالتزام بالقافية بل بالغائها، وتعدد التفعيلات في أبيات القصيدة الواحدة، واستخدمت التدوير، وتعدد البحور في القصيدة الواحدة، وتعدد التفعيلات في البيت الواحد، واستعمال الأساطير داخلها، والقناع، والرمز، والنزعة الدرامية، وحديثها عن المدينة بديلا عن الصحراء، وغير ذلك.
إذن، تطور الشعر مع قصيدة التفعيلة، فقد كانت من أغراض الشعر في زمن القصيدة العمودية، هي: الغزل. المدح. الهجاء. الرثاء. الفخر، الحماسة. الوصف. الاعتذار. الحكمة. النصح والإرشاد. السياسة. اللهو. وصف الطبيعة. فقد غادرت ذلك قصيدة التفعيلة الى أمور أملتها عليها طبيعة العصر الذي هي فيه، فقد كان الشاعر المعاصر معبرا عن عصره، كما كان شاعر قصيدة العمود الى أواخر العصر العباسي أيضا معبرا عن عصره إلا ما رحم الله(!)(6). هذه أمور لها علاقة بالشعر والشعراء، ومن صميم القصيدة ذاتها، بل انها تؤثر فيها.
***
لا نعرف بالضبط ماذا كان يدور في خلد الشاعر بدر شاكر السياب، والشاعرة نازك الملائكة، من أحاسيس، ومشاعر، وظروف خاصة بهما عند كتابتهما أوّل قصائد التفعيلة، وهل كان ما نشروه هو التجربة الأولى لهما في كتابة شعر التفعيلة أم لا؟ لكننا نعلم ما سيقوله الشعراء الذين جاؤوا من بعدهم في كتابة شعر التفعيلة، انها الانسياق خلف تجربة الشاعرين.
***
نتساءل: هل ولدت قصيدة التفعيلة في القصور كسابقتها القصيدة العمودية؟ والآن لا توجد خيام، ولا صحراء؟
لا نقصد بالقصور، والخيام، القصور العيانية، والخيام كذلك، وانما نقصد بها نمط الحياة داخلهما. إذن ولدت قصيدة التفعيلة كسابقتها داخل القصور، وتنفست بهوائها، وأكلت من طعامها، ونامت على سريرها الوثير، وعندما استقامت، وشعرت بما تقوم به منافستها قصيدة النثر لجأت الى الورق بأنواعه السليلوزية، والألكترونية في شاشة الحاسوب، فراحت تدون عليه إلا ما رحم الله(!) في بعض المهرجانات التي لا تعد على أصابع اليد الواحدة في العام الواحد في قاعة يتكلم النظارة فيها فيما بينهم بصوت أعلى من صوت الشاعر، وهذه من أمراض المهرجانات الشعرية التي تشبه الى حد ما أسواق الشعر في الجاهلية، المربد، وعكاظ، مثلا، إذ ان القليل يسمع الشعر فيما الكثير يتبضع، والفرق قليل بين الأسواق في الماضي، والأسواق، ومهرجانات الشعر، في الحاضر، إذ في الماضي كان الشعراء يقفون على منصات خارج كل بناء مسقف، وجمهورهم واقف، أما الأن فيضمهم بناء فاخر، وجمهورهم جالس على الكراسي. هذه أمور شكلية إلا انها تؤثر في صميم الشعر، والشعراء، الماضين، والمعاصرين.
وهكذا انتقلت قصيدة التفعيلة بالشعر الى الورق دون ان تفقد القصر، فالورق يساعدها على الدخول الى ذائقة المتلقي بسهولة، ويسر.
***
3 - "قصيدة النثر":
ان التطورات التي طالت عالم الشعر منذ نشأته الى يومنا هذا، وهي عمليات تنوع، وليس انقطاع، ومن ثم استئناف، فالنهر يمكن أن تسير فيه السفن الصغيرة، والسفن الكبيرة، والبواخر العملاقة، انه يجري، كما ذكرت ذلك سابقا، هي تطوران لا ثالث لهما، وقد قام به الشعراء انفسهم لما لبيئة الشاعر من أثر في ذلك، الأوّل الوصول بالشعر الى قصيدة التفعيلة بإلغاء وزنها الظاهري المتأتي من البحور، وكذلك القافية، وأيضا من عمود الشعر، أي صدر وعجز البيت، إذ بات للكلمة الواحدة ان تكون بمثابة البيت الشعري. أما التطور الثاني فهو الذي حصل مع قصيدة النثر التي ألغت كليا الوزن، بحور صافية، وغير صافية، والقافية أيضا، اضافة لعمود الشعر الملغي من قصيدة التفعيلة، حتى انها وصفت على انها قطعة نثرية كالسرد مثل: الرواية، والقصة.
التطور الأوّل يضم بين جنبيه تطورات الشاعر ابو نواس بإلغاء المقدمة الطللية، والتطور الشكلي في الموشحات، وغير ذلك بحيث لا تفقد القصيدة الوزن، والقافية. وبعض تجارب الشعراء القدامى في إلغاء القافية. والتطور الثاني لم يكن مصاحبا لتطور سابق له بل جاء متأثرا، كما ترى هذه السطور، بترجمات الشعر الأجنبي، وبقصيدة شعر النثر الأجنبية، وخاصة الفرنسية، مثل شعر بودلير.
***
قلنا سابقا: ان الشعر كان مسكنه القصور فيما السرد كان مسكنه الخيام، وبرهنا على ذلك، وفي هذه السطور سنتحدث عن قصيدة النثر، وقد خرجت من القصور، وسكنت سطح الورقة مهما كان لونها، أو المادة المصنوعة منها، إلا انها لا تتعدى الورق، وشاشة الحاسوب الفضية، إلا نادرا.
كانت مسيرة الشعر في العالم قاطبة بدأ موزونا في ايقاعات متنوعة، وأوزان مسموعة، وانتهى منثورا بإيقاع معين، دون وزن يسمع، وهذا الذي انتهى له هو ما نسميه قصيدة النثر، وحديثنا سينصب على مسكنها، الحي الذي تسكنه، والدار التي تعيش فيها.
***
مضى على هذه القصيدة أكثر من نصف قرن، وهي متربعة بإستيحاء على "دست" الثقافة، والأدب العربيين خاصة في السنوات الأخير، بوجود وسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع الكتب الالكترونية، والنشر الالكتروني، وقد أخذت صور، وأشكال، وبنى، عدة، منها القصيدة النثرية الطويلة، ومنها قصيدة النثر القصيرة، ومنها اللمحة الشعرية، ومنها الومضة الشعرية، حتى وصلت الى ما يطلق عليه في اليابان بقصيدة الهايكو، وما هي بهايكو،... الخ، إلا انها تحمل اسم جامع هو قصيدة نثرية.
في هذه السطور لا نريد أن نتحدث عن هويتها، وجنسها، وإيقاعها، ونسبها، وهل هي من أصول عربية أم انها غير عربية الأصل؟ بل نتحدث عن سكنها بعد الانشاء، والبناء في أي صورة أو شكل لا يبعدها عن نثريتها التي تتصف بها، وهي تتحرك في عالم الشعر الواسع.
لنطرح بعض الأسئلة عليها من مثل: هل لها القدرة على البقاء مثل القصيدة العمودية(7)، لا مثل قصيدة التفعيلة؟ وهل لها المستقبل الواضح في عالم الثقافة، والأدب؟ وهل يمكنها التطوير، والارتقاء، الى عوالم جديدة في الاستحداث؟ مثل قصيدة العمود التي خرج منها، على الرغم من ان اكتشاف الفراهيدي للأوزان، والبحور، استخدمه الشعراء، والمهتمين به، كآليه فاحصة له فأصبح كالقيد الماسك بـ (وتين) الشعر، خرجت منها الموشحات مثلا، وخرجت منها قصيدة التفعيلة، ذلك بالتخلص من الوزن الظاهري لها، أما هي، أي قصيدة النثر، فقد تركت عالم الشعر، ودخلت عالم النثر، ولكن بصفات قريبة من صفات الشعر، أي انها ظلت مرتبطة به بخيوط تكاد أن تكون خيوط واهية كخيوط بيت العنكبوت.
والسؤال الأكثر الحاحا في ذهن المهتمين بها هو مدى قدرتها على الصمود الابداعي، والنفاذ الى المستقبل؟ وكذلك، هل ستعمر باشتراطاتها العامة كما عمرت قصيدة العمود أكثر من ألف عام على الرغم من انها (قصيدة النثر) تعيش حالة المقاومة ضد من كان محسوبا على انه أبوها البايلوجي، وهو ليس بأبيها، كقصيدة العمود، وقصيدة التفعيلة، منذ ولادتها الى الأن، ونحن نرى المطابع تخرج لنا يوميا مجموعات شعرية من نوعها. انها بنت زنا، أو كما أطلق عليها الدكتور علي داخل فرج اسم "الخنثى" كما جاء في عنوان كتابه (محاكمة الخنثى – قصيدة النثر في الخطاب النقدي العراقي- دار الفراهيدي- 2011)، فهي توصف مرة بنت زنا، وأخرى خنثى، إلا انها جاءت من أم لها زوج، وبنفس الوقت لها عشيق، الزوج هو الشعر، والعشيق هو النثر، والعكس صحيح. ويصفها الناقد حاتم الصكر بـ (الثمرة المحرمة) كما جاء في كتابه (الثمرة المحرمة - مقدمات نظرية وتطيقات في قراءة قصيدة النثر- شبكة أطياف الثقافية -الرباط 2019).
كانت قصيدة النثر عند ولادتها لا أب محدد لها، فكانت مثل أم البنات التي تلد بنتا، ويطبق عليها المثل القائل (مكروهة وجابت بنية)، كانت أمها هكذا بعد ان زنى بها النثر، (عشيقها)، وكانت، كذلك، ولادتها قيصرية، أو ولادة من الخاصرة، أو مثل السيد المسيح كما يذهب بعض الجهلة على انها ولادة من ربلة الساق، إلا انها ولدت خنثى.
هذه الأسئلة، وغيرها ستحاول هذا السطور الاجابة عنها من خلال طرحها على مائدة التشريح.
***
كانت قصيدة النثر، ومنذ ولادتها القيصرية، محاطة بإعداء غير قابلين بالتفاهم، أوالتصالح معها، وهم سدنة النمط القديم، فقد تناست قصيدة العمود "جرم" قصيدة التفعيلة تجاهها، ولملمت جراحاتها، وتكاتفت معها، ووقفت مع قصيدة التفعيلة بوجه قصيدة النثر فراح السدنة هؤلاء، باستماته الذي لا يخاف من ان يخسر شيئا لا يملكه عندما تنتهي المعركة، يحاولون محاربتها، والنيل منها، ولكن دون جدوى لأنها وجدت النصير القديم، وهو أقدم من الشعر، انه النثر يقف معها بعناصره المطواعة لها، وحسب ما ترغب، ويمدها ببعض القوة، ويساعدها على أخذ بعض عناصر عالم الشعر لاضافتها الى عالمها، كاللغة الايحائية المقتصدة، والصور الشعرية، مثلا.
***
بعد كل الذي قلناه عن ولادتها إلا ان الشباب العربي، شاعرا أو غير شاعر، راح يكيل لها العطف، والحنو، ويغذيها، ويكسوها الثياب الجميلة، والمتنوعة، حتى بات لها مسكن ورقي جديد، وليس قصر مزخرف كبير، اضافة لما ينشر منها في الصحف، والمجلات، وما يصدر منها من مجاميع، حتى بات لها مسكن ورقي آخر هو "مجلة شعر" لمؤسسها الشاعر يوسف الخال، والتي صدر عددها الأوّل علم 1957 في بيروت، مع العلم ان الإرهاص بها كان أقدم من ذلك التاريخ، وبتسميات عديدة، ليس أولها، ولا آخرها، اسم "الشعر المنثور" أو "النثر المركز"، أو "القصيدة الخرساء" التي أطلق عليها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي هذه التسمية في كتابه (قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء – أحمد عبد المعطي حجازي – منشورات مجلة دبي الثقافية – 2008).
جاءت كتابات الشعراء الذين نشروا في هذه المجلة تحت تأثير كتاب (قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا) لسوزان برنار الفرنسية، وثقافة جل شعراء هذه المجلة فرنسية كذلك. وعن هذا الرأي راجع مقدمة ديوان (لن) لانسي الحاج الذي يستعير الكثير من المقولات عن قصيدة النثر من هذا الكتاب، خاصة المقولة التي تحددها، والتي تقول ان من صفاتها (الإيجاز (أو الاختصار)، التوهج، والمجانية).
***
أوّل الرافضين لقصيدة النثر هي الشاعرة نازك الملائكة، وكان ذلك في كتابها النقدي (قضايا الشعر المعاصر – نازك الملائكة – دار العلم للملايين- ط14 – 2007). إذ قالت ص 222: ((ولسوف يجد دعاة "القصيدة انفسهم حيت بدأوا ، فقد استحال معنى كلمة "شعر" إلى التعبير عن النثر كما أرادوا ، غير أن الشعر وجد لنفسه إسما آخر صادقاً ينص على الوزن الذي حاولوا قتله، ولسوف يبقى الناثرون حيث كانوا مع الناثرين)).
والناقد والشاعر العراقي الثاني بعد الملائكة هو الشاعر سامي مهدي، الذي نشم من كتابه (أفق الحداثة وحداثة الأفق دراسة في حداثة مجلة شعر بيئة ومشروعا ونموذجا – دار الشؤون الثقافية العامة - 1988)، روح الفكر، والايديولوجية، المعاكسة لما يؤمن به من فكر ذي ايديولوجيا قومية، وذلك من خلال نقاشه للتوجه الفكري، والايديولوجي، الذي يؤمنون به جل شعراء مجلة شعر، وأظن ان هذا الفصل زائد عن حاجة الكتاب اعتمادا على توجه النقد الحديث، البنيوية، وما بعدها.
هذان الشاعران، هم من شعراء قصيدة التفعيلة، أو ما تسمى بالشعر الحر، وهي تسمية ليست على صواب، وانما تسمية متحاملة على أصحابها على الرغم من انهم غير منتبهين لما تحمله التسمية من تحامل فج، وتقبلوها بفرح وطمأنينة.
وعلى الرغم مما جابه هذه القصيدة من اعتراضات على الساحة العربية، والعراقية، فانها لاقت قبولا عند البعض من الشعراء، والنقاد، وبعض الشباب الذي راح يسود الصفحات بالغث، والسمين، منها. كالناقد الذي بشر ببعض شعرائها، حاتم الصكر.
***
تبقى قصيدة النثر بعيدة عن عالم الشعر طالما افتقدت لايقاعها الداخلي، وهو ايقاع له عدة منابع ليست هذه السطور القصيرة أهلا لطرحها، ومناقشتها، وكذلك لموسيقاها الداخلية التي تتبع ايقاعها، والى صورها الشعرية التي هي من مميزاتها الأصيلة، ومن لغتها المتسمة بالايجاز، والايحاء، أما إذا كانت تضم هذه العناصر فهي قصيدة نثر بحق.
***
وأخبرا، نخلص الى نتيجة واحدة هي ان هذه القصيدة خرجت من القصور، وحطت على الورق الأبيض، إلا ما رحم الله(!)، إذ وجدت لها مكانا على المنابرـ وبهذا فهي لم تخطو خطوة واحدة خارج تلك القصور، ويبقى الورق هو مسكنها، تحيا، وتعيش فيه، تنمو، وتكبر، فهل تموت عليه؟ سؤال يبقى مطروحا طالما بقيت هي على قيد الحياة.

***

الهوامش:
(1) هذه السطور هي استكمال لما ورد في دراستنا (السرد في الخيام والشعر في القصور) المنشورة في ملحق جريدة أوروك ع/ 76 بتاريخ 21 / 2/ 2023.
(2) أنا من رأي الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي.
(3) ديوان الشعر العربي – أدونيس –ج1 – الساقي – ط5 – 2010.
(4) الشعر والشعراء- ج1 – دار الحديث – القاهرة – 1423 هـ. - ص88.
(5) الخيانة العظمى - أشعار التوراة وجذورها العربية القديمة- " مقاربة نقدية جديدة بين ترجمات الربيعي والنصوص التوراتية الرسمية"- داود سلمان الشويلي – دار الرافدين – 2022.
(6) استخدم هذه العبارة بالسلب و الايجاب.
(7) أول من أطلق تسمية عمود الشعر على القصيدة القديمة هو الناقد القديم أبو علي أحمد المرزوقي عند شرحه لديوان الحماسة لابي تمام في كتابه (شعر ديوان الحماسة – مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة – 1951).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...