أكيد أن الذاكرة تكتسي أهمية بالغة في عملية تعرف هوية الموضوعات التي تجد الذات نفسها معنية بتحديدها، وتمييزها من غيرها. وتزداد هذه الأهمية حين يصير الزمان عاملًا مهما في التعرف الهوياتي؛ أي حين تتعرض الموضوعات المستذكرَة للتغير في هيئتها، وفي التعبير عن نفسها بوساطة الفعل؛ سواء أكان هذا الأخير حركة أم فكرًا. وتُثار في هذه الصدد مجموعة من الأسئلة الإشكالية نذكر من ضمنها: هل يعيد فعل تعرف هوية الموضوعات بوساطة الاستذكار تشكيلها من جديد؟ وهل يرتبط هذا الفعل (التعرف) بنوع الذكرى؟ وما هي الكيفية التي تحل بوساطتها مشكلة التغير التي تُحدِث قطيعة مع المستمر في هوية الموضوعات؟ وما النسق الذي يتحكم في هذا التفاعل بين فعل الاستذكار وتعرف موضوعه المتحرك في الزمان؟ وكيف يشتغل طرفا الاضطراب والانتظام في صياغة هوية الموضوع المستذكر.
لا يكفي القول إن الذاكرة مسؤولة عن جانب كبير من ضمان نشوء الهوية؛ لأن فعل الاستذكار ذو طبيعة زمانية؛ ولأن الذاكرة لا تتشكل من استعادة ماضي الموضوع وحده وحسب، بل أيضًا من حاضر فعل الاستذكار نفسه، الذي تتكون بموجبه الحاجة إلى هذه الاستعادة؛ أي أن هذا الفعل يُؤثر في موضوعه الذي يستعيده؛ بما يعنيه هذا من تدخل لسياقات الاستذكار في صياغة موضوعه؛ إذ لا تهبنا الذاكرة التاريخ الشخصي (الذي يُشكل حبكة مفسرة للموضوع المستذكَر) كما هو في صفائه التام، فمهما حاولنا الحرص على تتبع تكون هذا التاريخ في الزمان على نحو تعاقبي، فهناك في كل محاولة من هذا القبيل ما يجعل من كل ما في الحياة مُعرضًا للاضطراب بفعل النسيان، وبفعل الطفرة الهوياتية التي هي ماثلة في الأزمنة التي لم نُعايش فيها موضوع استذكارنا؛ أي أزمنة غيابه التي لم نكن حاضرين فيها، وتُشكل ثغرات في ذاكرتنا؛ فما تهبه الذاكرة – في هذا الصدد- لا يتعدى حضورًا متقطعًا في الزمان لموضوع الاستذكار؛ أي حضورًا تتخلله لحظات غياب موضوع الاستذكار عن وعينا وإدراكنا؛ الشيء الذي يُفيد تقطعًا في تسجيل الذاكرة. وقد لا ينطبق هذا الأمر على تعرف إلى الآخر أو الغير وحسب، بل ينطبق أيضًا على أنفسنا؛ فهناك العديد من الأفعال التي نقوم بها لا يبقى مسجلًا في ذاكرتنا بفعل النسيان؛ بل يتعرض المسجل بوساطة الذاكرة أحيانًا إلى اضطراب في ترتيب وقوعه في الزمان. كل هذا يسمح لنا بالحديث عن كون الذاكرة تتعرف هوية موضوعها بوساطة لَم البقايا، لا بوساطة كل جاهز؛ وهذا كافٍ لإثارة مشكلة الحبكة في تعرف الهوية؛ أهي حبكة تنتمي إلى الذاكرة بوصفها أحداثًا قد وقعت في الماضي، أم هي فعل لم البقايا الذي هو فعل الاستذكار المنتمي إلى الحاضر، الذي يُعيد تشكيل الذاكرة؛ بحيث تصير هوية الماضي مصوغة من خلال هوية فعل الاستذكار نفسه وسياقاته.
ويزداد هذا الأمر تعقيدًا حين يتصل الأمر بإدراك هوياتي صادر عن الآخر؛ أي حين تكُون هوية الشخص منظورًا إليها من خلال فعل استذكار شخص آخر. ومعنى هذا أن كل استذكار هوياتي يُعَد تنظيمًا لبقايا ما يُستذكر؛ بما يعنيه هذا التنظيم من ربط وترتيب لهذه البقايا في الزمان؛ ومن تقويم لها بجعل بعضها أكثر أهمية من البعض الآخر. ومن ثمة يعطي فعل الاستذكار لهذه البقايا- في لحظة استرجاعها- ما تكُون به متسقة ومُنسجمة، وما تُساهم به في بناء هوية الموضوع المستذكَر. لكن يُثار في هذا الصدد سؤال أساس: أتُعَد هوية الموضوع المستذكر (شخصا ما أو شيئا ما) ما كان عليه في الماضي؟ أم ما اسْتُعيد في لحظة فعل استذكاره من قبل مَنْ يستذكر؟ لا تصير هويةٌ ما متطلبة إلا في اللحظة التي نحتاج فيها إليها.
إن سؤال «من هذا الذي أمامي؟» لا يُثار إلا بموجب اضطراب في عملية تعرف الذاكرة على موضوعها الحي الماثل أمامها. هكذا تصير الهوية مورطة في هوية فعل الاستذكار؛ ومعنى هذا أن طبيعة هوية الموضوع المستذكَر تتأثر بطبيعة هوية فعل الاستذكار وقدرته على تنظيم المعطيات المتعلقة بالذاكرة؛ فهذه الأخيرة تفتقر إلى التنظيم الذاتي الذي يُميز كل كائن- كما لمح إلى هذا إيمانويل كانط؛ أي أنها لا تتجاوز تسجيل الأحداث إلى تنظيمها على نحو نهائي، لأن النسيان لها بالمرصاد. ولهذا لابد للذاكرة لكي تفعل- على مستوى تعرف هوية الموضوعات- من أن تستمد تنظيمها من فعل الاستذكار. ولا يكُون هذا الأخير فعالًا- في هذا النطاق- إلا بالتكرار؛ فتكرار استعادة الموضوع المستذكر يتحول بالتدرج إلى عادة ونظام وتنظيم؛ ومن ثمة تكتسب الذكرى شكلها من تكرار فعل استعادتها، ويكتسب الموضوع المستذكَر هويته. وينبغي أن نُميز هنا بين نوعين من الذكرى: ا- الذكرى المُستحوِذة (لا العادات كما عند بول ريكورidem ) التي تُساهم في تكوِين هوية الذات المستذكَرة، وتتصف الذكرى بكونها مُتكررة. ب- الذكرى العَرَضية التي قد تتكرر، لكنها تُساهم في تشكيل الهوية على نحو حاسم، كأن نتذكر أننا كنا نرتاد مكانا ما.
تتصل مُحتويات الذكرى المُستحوِذة بتكوين أسطورة المرور الشخصي في العالم والحضور فيه؛ والمقصود بهذا الأحداث التي تُشكل تاريخ الشخص، والتي تعكس تطلعاته، وتُظهر كيف كان يسعى إلى تنظيم العالم، وتنظيم ذاته حسب الغاية التي يتصورها من الحياة، والماثلة أساسًا في اتقاء كل تهديد لوجوده. بينما تتصل مُحتويات الذكرى العرضية بالعادة، وبمُشتركُ معرفةٍ في تعاطي العالم والموضوعات. وتتأتى أهمية هذا التمييز من الفصل بين معنى التكرارين: تكرار الذكرى المُستحوِذة الذي يظل على مُستوى فعل الاستذكار فقط؛ ولا يمس موضوع الذكرى الذي لا يتكرر مرة أخرى لأنه مُرتبط بزمان وبسياق لا يتكرران، بينما يتكرر موضوع الذكرى العَرَضية في الحياة لأنه يندرج في نمط الأفعال المُرتبط بالعادة، ولا نحتاج فيه إلى استعمال فعل الاستذكار للقيام به. وما يُوضع موضع تأويل هوياتي هو النوع الأول، والمقصود بالتأويل- هنا- فعل فهم هوية الموضوع، ولا يتيسر هذا الفهم إلا بمقارنة ما تحقق من التطلعات بما لم يتحقق، وربما كانت الذكرى المستحوِذة، والتي لم يطوها النسيان متصلة بما لم نحققه، وكانت أكثر اتصالا بتحديد هويتنا المعذبة. وينطبق هذا أيضًا على تاريخ الجماعات التي تحدد هويتها انطلاقًا من الإخفاقات الكبرى التي تشكل عدم تحقق تطلعاتها.
* عن جريدة القدس العربي
لا يكفي القول إن الذاكرة مسؤولة عن جانب كبير من ضمان نشوء الهوية؛ لأن فعل الاستذكار ذو طبيعة زمانية؛ ولأن الذاكرة لا تتشكل من استعادة ماضي الموضوع وحده وحسب، بل أيضًا من حاضر فعل الاستذكار نفسه، الذي تتكون بموجبه الحاجة إلى هذه الاستعادة؛ أي أن هذا الفعل يُؤثر في موضوعه الذي يستعيده؛ بما يعنيه هذا من تدخل لسياقات الاستذكار في صياغة موضوعه؛ إذ لا تهبنا الذاكرة التاريخ الشخصي (الذي يُشكل حبكة مفسرة للموضوع المستذكَر) كما هو في صفائه التام، فمهما حاولنا الحرص على تتبع تكون هذا التاريخ في الزمان على نحو تعاقبي، فهناك في كل محاولة من هذا القبيل ما يجعل من كل ما في الحياة مُعرضًا للاضطراب بفعل النسيان، وبفعل الطفرة الهوياتية التي هي ماثلة في الأزمنة التي لم نُعايش فيها موضوع استذكارنا؛ أي أزمنة غيابه التي لم نكن حاضرين فيها، وتُشكل ثغرات في ذاكرتنا؛ فما تهبه الذاكرة – في هذا الصدد- لا يتعدى حضورًا متقطعًا في الزمان لموضوع الاستذكار؛ أي حضورًا تتخلله لحظات غياب موضوع الاستذكار عن وعينا وإدراكنا؛ الشيء الذي يُفيد تقطعًا في تسجيل الذاكرة. وقد لا ينطبق هذا الأمر على تعرف إلى الآخر أو الغير وحسب، بل ينطبق أيضًا على أنفسنا؛ فهناك العديد من الأفعال التي نقوم بها لا يبقى مسجلًا في ذاكرتنا بفعل النسيان؛ بل يتعرض المسجل بوساطة الذاكرة أحيانًا إلى اضطراب في ترتيب وقوعه في الزمان. كل هذا يسمح لنا بالحديث عن كون الذاكرة تتعرف هوية موضوعها بوساطة لَم البقايا، لا بوساطة كل جاهز؛ وهذا كافٍ لإثارة مشكلة الحبكة في تعرف الهوية؛ أهي حبكة تنتمي إلى الذاكرة بوصفها أحداثًا قد وقعت في الماضي، أم هي فعل لم البقايا الذي هو فعل الاستذكار المنتمي إلى الحاضر، الذي يُعيد تشكيل الذاكرة؛ بحيث تصير هوية الماضي مصوغة من خلال هوية فعل الاستذكار نفسه وسياقاته.
ويزداد هذا الأمر تعقيدًا حين يتصل الأمر بإدراك هوياتي صادر عن الآخر؛ أي حين تكُون هوية الشخص منظورًا إليها من خلال فعل استذكار شخص آخر. ومعنى هذا أن كل استذكار هوياتي يُعَد تنظيمًا لبقايا ما يُستذكر؛ بما يعنيه هذا التنظيم من ربط وترتيب لهذه البقايا في الزمان؛ ومن تقويم لها بجعل بعضها أكثر أهمية من البعض الآخر. ومن ثمة يعطي فعل الاستذكار لهذه البقايا- في لحظة استرجاعها- ما تكُون به متسقة ومُنسجمة، وما تُساهم به في بناء هوية الموضوع المستذكَر. لكن يُثار في هذا الصدد سؤال أساس: أتُعَد هوية الموضوع المستذكر (شخصا ما أو شيئا ما) ما كان عليه في الماضي؟ أم ما اسْتُعيد في لحظة فعل استذكاره من قبل مَنْ يستذكر؟ لا تصير هويةٌ ما متطلبة إلا في اللحظة التي نحتاج فيها إليها.
إن سؤال «من هذا الذي أمامي؟» لا يُثار إلا بموجب اضطراب في عملية تعرف الذاكرة على موضوعها الحي الماثل أمامها. هكذا تصير الهوية مورطة في هوية فعل الاستذكار؛ ومعنى هذا أن طبيعة هوية الموضوع المستذكَر تتأثر بطبيعة هوية فعل الاستذكار وقدرته على تنظيم المعطيات المتعلقة بالذاكرة؛ فهذه الأخيرة تفتقر إلى التنظيم الذاتي الذي يُميز كل كائن- كما لمح إلى هذا إيمانويل كانط؛ أي أنها لا تتجاوز تسجيل الأحداث إلى تنظيمها على نحو نهائي، لأن النسيان لها بالمرصاد. ولهذا لابد للذاكرة لكي تفعل- على مستوى تعرف هوية الموضوعات- من أن تستمد تنظيمها من فعل الاستذكار. ولا يكُون هذا الأخير فعالًا- في هذا النطاق- إلا بالتكرار؛ فتكرار استعادة الموضوع المستذكر يتحول بالتدرج إلى عادة ونظام وتنظيم؛ ومن ثمة تكتسب الذكرى شكلها من تكرار فعل استعادتها، ويكتسب الموضوع المستذكَر هويته. وينبغي أن نُميز هنا بين نوعين من الذكرى: ا- الذكرى المُستحوِذة (لا العادات كما عند بول ريكورidem ) التي تُساهم في تكوِين هوية الذات المستذكَرة، وتتصف الذكرى بكونها مُتكررة. ب- الذكرى العَرَضية التي قد تتكرر، لكنها تُساهم في تشكيل الهوية على نحو حاسم، كأن نتذكر أننا كنا نرتاد مكانا ما.
تتصل مُحتويات الذكرى المُستحوِذة بتكوين أسطورة المرور الشخصي في العالم والحضور فيه؛ والمقصود بهذا الأحداث التي تُشكل تاريخ الشخص، والتي تعكس تطلعاته، وتُظهر كيف كان يسعى إلى تنظيم العالم، وتنظيم ذاته حسب الغاية التي يتصورها من الحياة، والماثلة أساسًا في اتقاء كل تهديد لوجوده. بينما تتصل مُحتويات الذكرى العرضية بالعادة، وبمُشتركُ معرفةٍ في تعاطي العالم والموضوعات. وتتأتى أهمية هذا التمييز من الفصل بين معنى التكرارين: تكرار الذكرى المُستحوِذة الذي يظل على مُستوى فعل الاستذكار فقط؛ ولا يمس موضوع الذكرى الذي لا يتكرر مرة أخرى لأنه مُرتبط بزمان وبسياق لا يتكرران، بينما يتكرر موضوع الذكرى العَرَضية في الحياة لأنه يندرج في نمط الأفعال المُرتبط بالعادة، ولا نحتاج فيه إلى استعمال فعل الاستذكار للقيام به. وما يُوضع موضع تأويل هوياتي هو النوع الأول، والمقصود بالتأويل- هنا- فعل فهم هوية الموضوع، ولا يتيسر هذا الفهم إلا بمقارنة ما تحقق من التطلعات بما لم يتحقق، وربما كانت الذكرى المستحوِذة، والتي لم يطوها النسيان متصلة بما لم نحققه، وكانت أكثر اتصالا بتحديد هويتنا المعذبة. وينطبق هذا أيضًا على تاريخ الجماعات التي تحدد هويتها انطلاقًا من الإخفاقات الكبرى التي تشكل عدم تحقق تطلعاتها.
* عن جريدة القدس العربي