مثلما يتعرف الواحد منا علي ظهر أخيه أو أبيه أو صديقه القديم, تعرفت علي البالطو من ظهره.. فانخطف قلبي, جاشت مشاعري حتي سخنت برغم شعوري المفاجيء بالعري التام. مشيت وراء البالطو بخطو وئيد يتناسب مع خطو لابسه, الذي بدالي من ظهره شخصا مهيبا, مديد القامة, نحيف البدن, تماما مثلما كنت أري نفسي في مرايا دولاب الهدوم في بيتنا في البلد, حينما كنت أرتديه وأقفل جميع أزراره حتي زرار العنق, والأزرار كلها تختفي تحت شريحة تسترها, بينما تنطرح الياقة السخية المدحوة من الجانبين علي فتحة الصدر, سامقة الحافة إلي تخوم الأذنين, تلك هي تفصيلته: تجعل الجسم مبروما والقامة سامقة مستقيمة, ثم إن قماشته من الجبردين الإنجليزي سوداء اللون تتحدي الزمن وعواديه, فتبقي أبد الدهر لامعة سخية تفوح منها علي البعد رائحة القماش الجديد, رغم أن عمره الآن يتجاوز خمسة وعشرين عاما, حقه علي أن أحتفل بيوبيله الفضي لا أن أفعل فيه هذه الفعلة الخسيسة الحقيرة!
انفلت البالطو من عيني عند ناصية شارع درب الجماميز, فلحقت به مسرعا في الشارع العمومي, صفير الترماي وهديره يسايراني تحت شمس الصباح الخضراء.
خطواتي تكاد تنتظم علي وقع العجلات فوق القضبان, الساعة الكحيانة الصدئة في معصمي تشير إلي الثامنة صباحا, البرودة تنفث سمومها في أوصالي, وال بول أوفر الذي أرتديه فوق القميص لأدفء فيه. ساعدي الأيسر منكسر فوق صدري يحتضن حافظة من الجلد الصناعي فيها نماذج للصيغ القانونية: كيف يتم تحرير البلاغات ورفع الدعاوي القضائية, وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لرفعها إلي الشرطة أو إلي النيابة مباشرة أو إلي المحكمة رأسا, أتدرب علي استخدامها في مكتب الأستاذ عبد السلام الريدي المحامي الذي التحقت به ككاتب محام بواسطة وكيله ابن عمتي دسوقي أفندي منذ أن فشلت في استكمال الدراسة الثانوية قبل عامين.
يجب أن أكون في المكتب الكائن بشارع مجلس الشعب في غضون ساعة علي الأكثر.
ولكن لا مشكلة في التخلف عن الموعد ساعة أخري أو حتي ساعتين, المهم ألا يختفي البالطو من تحت ناظري, لكن ما نتيجة هذه الملاحقة؟ لست أدري...
ياللعجب! إنه يتجه نحو محكمة باب الخلق, أيكون لابسه صاحب قضية ستنظر اليوم في المحكمة؟ الحقيبة الجلدية الثمينة رغم قدمها في يده اليسري تشي بأنه رجل مهم, ياللعجب مرة ثانية! إنه يمسك بيده اليمني لفة من أكياس مطاعم الفول فيها أربعة ساندوتشات دائرية منفوخة بما فيها وبارزة للعيان.
ها هو ذا يعرج علي مقهي العدالة علي ناصية الحارة المحاذية للمحكمة, المقهي التي يؤمها زبائن المحكمة من متهمين ومدعين وكتبة محامين ومخبرين وباعة متسولين يجيدون التنشين علي الموجوع من الجالسين في انتظار المحامي أو ميعاد الجلسة يستنزلون عليهم كرم الله ونصره, وفي ثقة تامة يقدمون لهم البشارة بأن الله سيفك حبس المظلوم ويفرج كرب المكروب.. إلخ.
إطمأننت إلي أن البالطو قد جلس منزويا في ركن داخل المقهي, قد وضع لابسه الحقيبة فوق الترابيزة, فك لفة الأكياس, أمسك بالخبز المتخم وشرع في القضم بشهية, وكان الجرسون يضع أمامه كوب ماء حينما صرت أنا واقفا أمام عربة الفول علي الرصيف المقابل أشتري شريحتين من خبز معبأتين بالفول والطعمية مع حزمة من البصل الأخضر, وقليل من الطرشي, اتخذت طريقي مباشرة إلي نفس الترابيزة التي يجلس إليها البالطو, جلست في مواجهته من الجانب الآخر وأنا أهز رأسي في دماثة مقلدا كبار المحامين المؤدبين المبتسمين علي الدوام, قائلا: صباح الخير. هزة رأسه كانت أكثر إتقانا مني, بدت طبيعية غير مقلدة, مما يشي بأنه قد يكون واحدا من السادة أصحاب القضايا, طاف بخلدي خاطر يغريني بأن أمارس مهمتي التي يوصيني بها دسوقي افندي ويغريني بعمولات مجزية إذا نجحت في جلب زبائن للمكتب, وهكذا جعلت أدبر لمدخل يفتح جسرا للكلام مع لابس البالطو. صفقت للجرسون, فأتي, قلت له بأريحية وبساطة:
هات لنا اتنين شاي! لي وللأستاذ!
وانعطفت نحوه:
حضرتك تأخذ شاي ولا حاجة ساقعة؟.
هز رأسه في دماثة:
كتر خيرك! بس حضرتك ضيف علي الترابيزة بتاعتي يعني الحساب عندي!.
ثم توجه للجرسون:
أشرب حاجة ساقعة تطفي الصواريخ إللي طفحتها دي! طفحتها؟! هو إذن ليس من الأسياد, ولا حتي من أرباعهم إن الصدأ يحيط بقفاه. شعره الجميل الشكل من بعيد أكرت متجلد لم يقربه الماء منذ وقت مضي, بل إن الغبار يتدسس بين شعره, كما أن أسنانه صفراء, وشفتيه محروقتان تركت فيها السجائر تجويفا كزبيبة الصلاة, ها هو ذا يبرم الأكياس الورقية يكورها, ويلقي بها علي الأرض, ثم يعتدل في جلسته واضعا ساقا علي ساق مناديا الجرسون في طلب حجر من المعسل علي البوري. البوري, وليس الشيشة؟! عندئذ فطنت والألم يعصر دموعي في صدري إلي أن البالطو هو الذي أضفي عليه ظلا من فخامة واحترام ليس يستحقهما...
***
... كنت أضع يدي في جيبي, وحافظة الأوراق تحت إبطي, أمشي مختالا, أكاد من فرط الثقة أطير فوق روحي المعنوية المرتفعة, ألست مستورا بلباس لايرتديه إلا السادة من علية القوم؟ الزبائن ينبهرون من فخامتي, يناديني بعضهم بلقب الأستاذ ظنا منهم أنني المحامي, يكلمونني بوجل وارتباك, أسألهم إن كانوا يطلبون أي خدمة, من فرط ثقتهم في مظهري يدخلون في الكلام مباشرة, يحكون عن قضاياهم, عن خوفهم من كذا وكيت, عما في جيوبهم من فلوس قليلة باعوا بها نحاس الدار أو استلفوها بالفايظ, أقودهم إلي دسوقي افندي, فلا يتركهم إلا وقد دونت أسماءهم علي ملفات وتوقيعهم علي عقود, واستنزاف كل ما في جيوبهم من نقود كعرابين أتعاب, الزبون ما إن تتفتح أمامه تفاصيل القضية علي ضوء القانون حتي يعتريه الخوف من موقفه, يصير حائرا مضطربا, يعلن عن استعداده لدفع كل مدخراته في سبيل البراءة مع أن القضية من أساسها ربما كانت تافهة. دسوقي افندي مفرط في شيئين لا ثالث لهما رغم أنهما قد لا يتفقان معا في شخص واحد: الجدية والضحك, يعالج الجدية المفرطة بالضحك الهادر الرنان, ثم يداوي أثر الضحك بالجدية إذ يصير متأكدا أن ضحكه ذاك بصوته الرنان المتفتت اللاهب قد أحدث من الشوشرة علي ذهن الزبون بما لم يترك له فرصة للتفكير في وزن ما استمع إليه أصدق هو أم تلفيق وترويع بالقانون؟... دسوقي افندي كان معجبا بشكلي في البالطو الثمين, تيمنا بإعجاب الاستاذ الذي كان مفتونا بشكل البالطو علي جسدي, ولايني يردد أن البالطو مظهر مشرف لي وله, سيما وأني أتبعه كظله في المحكمة أزوده بالملفات عند طلبها, العجيب أن الأستاذ الذي يلبس كل يوم بدلة جديدة بقميصها ورابطة عنقها ومنديل صدرها وحذائها وجوربها, قد ساومني ذات يوم علي هذا البالطو, لم يخجل من أن يجعلني أخلعه في حجرته ليقيسه علي جسده فإذا هو كأنه مفصل عليه, ولقد تلكأ طويلا في خلعه, فخشيت أن أقول له تفضل فيتفضل فعلا. قال لشبحي الواقف خلفه في المرآة البيضاوية المعلقة علي الحائط:
تبيعه؟ أعطيك فيه سبعة جنيهات مرتب خريج جامعة!
في تلك اللحظة دخل دسوقي افندي في المرآة وسمع كلام الأستاذ فراحت نظراتي تستغيث به في ضراعة. فقال له إن البالطو عزيز علي العائلة كلها لأنه ذكري باقية من خاله- أبي- عليه رحمة الله. ثم أضاف قائلا ان شكلي طوال فصل الشتاء بفضل هذا البالطو شكل ابن ناس محترمين, أما في أشهر الربيع والخريف والصيف فانني لست أكثر من بلطجي زلنطحي بقميص مترهل مفتوح الصدر وبنطلون منبعج الركبة وصندل في القدمين كالبرطوشة.
***
لكأن قدري وحظي العاثر يلعبان ضدي مع دسوقي أفندي بحيث احرم من المظهر المحترم نهائيا. كلفني دسوقي أفندي بالذهاب غدا صباحا الي المحكمة لأدفع رسوما علي عريضة دعوي. حسب قيمة الرسوم بجميع دمغاتها, سلمني المبلغ لكي يبيت معي, علي أن اخرج من مسكني صباحا متوجها الي المحكمة من بره بره, فأدفع الرسوم للخزينة, ثم أعود الي المكتب في شارع مجلس الأمة ومعي بيان بتحديد موعد الجلسة ورقم القضية في الرول. بدون هذا البيان لاعودة لي الي المكتب, بل لا بقاء لي في مدينة القاهرة بأكملها.. وقد لا يتورع الأستاذ عن إدخالي السجن بتأييد من دسوقي أفندي..
الحجرة التي اسكنها تقع في بيت عتيق انهار طابقاه الثاني والثالث فاندثر الطابق الأرضي إلا هذه الحجرة المطلة علي حارة درب الجماميز. اصبحت الحجرة اشبه بالبدروم اذ ان الهديم المتكرر قد رفع أرض الحارة, فصار باب البيت نصف باب علوي, فاضطررت الي وضع قطع من الحجارة بمثابة درج للنزول اليه. أما الشباكان المستطيلان فقد غاصا في الأرض فلم يبق منهما سوي شريحة كنزة ترتص فيها اسياخ صدئة كالحة من الحديد المضلع, ومن خلفها درف خشبية أشد كلاحة, ولا أحد يمنع صفيقا مزنوقا من ان يلوذ بالهديم المتراكم تحت الجدار ليفك حصره. كثيرا ماكنت في الليل اسمع صوت الطرطرة يتدفق كالنافورة, وطرطشة من رذاذ الصنان تغمرني في الفراش: كنبة بلدي اشتريتها من حي المناصرة, مع بطانية من مخلفات الجيش, ومخدة, وطبلية, ودولاب ايديال قديم من نفاية مكتب الأستاذ أرص فيه هدومي التي اغسلها بيدي واكويها فوق مسند الكنبة, وابورجاز, وسبرتاية, وحلة وطاسة وطبقان من الالمونيوم..
ليلتذاك, عندما أضأت الكشاف الذي احمله في جيبي لكي أري عتبة الباب والحجارة التي سأدوس فوقها للنزول, لاحظت أن باب البيت موارب مع أنه مفتوح علي الدوام لاستحالة إغلاقه, ثم انني الساكن الوحيد في البيت منذ تم تنكيسه, وقد رحب اصحابه ببقائي في هذه الحجرة طالما أنني متحمل مسئولية نفسي الي أن يحين هدم البيت نهائيا. حينما أضأت الكشاف سمعت خروشة خشنة خلف الباب, ولمحت طيف بلوزة ملونة, وظل بنطلون رجالي. هتفت بصوت فلاح جسور: مين اللي جوه؟ ثم قفزت داخلا, لأفاجأ بأني امام تلميذين مراهقين في المرحلة الثانوية وربما الاعدادية. البنت جميلة جدا, فاتنة, فائرة, نصف صدرها مكشوف عن ممر سحري من المرمر اصابني بالدوار. كان العهر ما ثلافي عينيها الواسعتين بشكل مخيف كعيني الجنية النداهة. أما الولد فسفروت, طويل القامة, وسيم احمر الوجه بسالفين طويلين وشعر كثيف مهوش..
هجمت عليهما بشراسة فلاح مكبوت يري اللحم الوردي امامه يستمتع به غيره. قبضت علي ساعديهما بقوة حديدية. صارا يرتعشان, يربتان علي صدري بمودة ورجاء. قالت البنت:
- ابوس رجلك ما تعليش صوتك أحسن بيتنا قريب من هنا!
وقال الولد بهمس كالفحيح:
- نتفاهم بالراحة! واحنا تحت أمرك!
وقالت البنت بصوت واعد:
- افتح الأوضة طيب! نقعد نتفاهم بهدوء وحنبقي صحاب!
قلت لها:
- مدي إيدك في جيب بنطلوني الصغير طلعي المفتاح!
- حاضر!
وبيد حنونه بحثت عن الجيب الصغير. دست أناملها في الجيب الصغير, ثم قالت:
- مفيش مفاتيح هنا!
تذكرت, هتفت:
- يبقي في الجيب الكبير!
قال الفتي:
- عنك أنت!
ودس يده في الجيب القريب منه. سحب سلسلة المفاتيح قلت له:
- افتح!
دس المفتاح في الكالون وأداره سكتين. دفع الباب فانفتح. قال:
اتفضل حضرتك قيد النور عشان أنت اللي عارف مطرحه!
دون أن أدري فككت يدي عن ساعديهما لكي أتحسس زر النور. وما إن خطوت إلي الداخل حتي دفعني الفتي بقوة, فانكفأت علي بوزي في أرض الحجرة, وسحب الفتي الباب فأغلقه من الخارج بالمفتاح, ثم قال بحقد وتشف وهزء:
تصبح علي خير يا شيخ الغفر!
الخبطة دوختني. دارت بي الأرض. أدخلتني في غيبوبة لما يقرب من عشر دقائق. فلما استطعت الوقوف والوصول إلي زر الإضاءة تحسست جبهتي المتألمة, فتوقفت يدي علي ورم كالبلحة. ظللت طول الليل أعالجها بكمادات. من حسن الحظ أن باب الحجرة من درفتين, إحداهما مثبته بترباسين, واحد يغوص في خشب العتبة, والثاني يغوص في خشب السقف, فلو أرحت الترباسين من الداخل تتحرر الدرفة ويمكن تحريكها إلي الداخل, فيبتعد لسان الكالون عن المرقد الذي يبيت فيه, فينفتح الباب تماما. وعندما صحوت بعد نوم مضطرب, مذعورا من ضياع الوقت, وحررت الدرفتين, سررت إذ وجدت المفتاح في الكالون. حمدت ذلك للفتي. ولكن! يا للكارثة! كل ما كان معي من نقود قد سلب, الرسوم وقدرها مائتان وستون قرشا, ومصاريفي بقية الشهر وقدرها سبعون قرشا أو نحو ذلك..
رسوم القضية أو الكارثة. دسوقي افندي لن يصدق أي حكاية تقال حتي البلحة المتكورة في جبهتي لن تكون شاهدة علي ما جري. إن تصديقي مرفوض من الأساس حتي لو اقتنع دسوقي افندي بصدق ماسأحكيه. ولكن هل أستطيع أن أحكي ما حدث ؟ الموت عندي أهون من الفضيحة التي ستنتقل في الحال إلي عمي فتنتشر في بلدتنا التي تترقب شيئا كهذا ينشغل به الناس في شغف, تبديدا لرتابة الحياة. وفوق ذلك فإني متأكد من أن دسوقي افندي لن يتورع عن تسليمي بيده للشرطة لكي تربيني لعلني أتوب عن أمور المعيلة.. ياربي ماذا أفعل ؟ لا أعرف أي أحد في القاهرة يمكن أن أميل عليه وأشكو له محنتي. ثم من ذا الذي يقبل أن يقرضني مثل هذا المبلغ ؟ وحتي لو كان ذلك ممكنا فمتي يحدث, إنني لابد أن ألحق بخزينة المحكمة قبل إغلاقها. لم يبق سوي ثلاث ساعات علي موعد الإغلاق. ياربي, ليس عندي أي شئ ثمين قابل للبيع أو للرهن علي ذمة هذا المبلغ. كان الدولاب الإيديال مفتوحا لأنه بغير باب أصلا, وقعت نظرتي الحائرة علي البالطو, شممت نفسي, إنه أثمن شئ عندي, بل أثمن ما في حياتي كلها. لا مفر إذن من رهنه لدي محل رهونات, ومن هنا الي مجئ الشتاء يكون قد حلها الحلال بمبلغ أفك به رهنيته..
طويت البالطو علي ذراعي. أغلقت باب الحجرة ومضيت. سيرا علي قدمي وصلت إلي مدخل شارع الموسكي من ناحية حي العتبة. فهنا ترهن الأشياء الثمينة, وتباع الملابس المستعملة. لسوء الحظ لايوجد أي محل للرهونات, لا يوجد إلا محلات تقوم بترميم الملابس القديمة وعرضها بشكل لافت جاذب. أمري لله, من محل إلي محل نشف ريقي وتحطمت روحي المعنوية فانهارت مقاومتي. كنت مقدرا له عشرة جنيهات علي الأقل باعتباره لايزال رونقه غير معطوب. وإذ رضيت بنصف هذا المبلغ إذا جاءني وجدتني محتاجا لعناء كبير في اللف والمساومة, والوقت قارب الضحي العالي.. فقبلت راغما بثلاثة جنيهات بشرط أن يعدني صاحب المحل بالاحتفاظ به أمانة لحين عودتي إليه بالمبلغ مضافا إليه نصف جنيه كمكسب له. فإذا بي كنت واهما حين صدقت بأنه سيفعل.
***
تاخد بوري معايه ؟
وقبل أن أرد بالنفي أو بالإيجاب قال للجرسون:
هات بوري كمان للأخ!
ومال ليضبط الماء في قارورة البوري النحاسية..
عندئذ وقعت عيني علي البطاقة الشخصية للبالطو: ثلاث بقع ضئيلة جدا كرءوس الدبابيس, باهتة, اثنتان متجاورتان علي حافة الياقة النائمة, فوق هامش الخياطة, والثالثة تحتهما في الوسط. كانت قد تناثرت من فرشاة نقاش كان يدهن دولاب أختي العروس باللاكيه الأبيض. ورغم أنها لم تكن ملحوظة إلا لمن يدقق النظر سيما وسخاء الجبردين الإنجليزي الأسود بلمعته القطيفية يلقي بظله السخي علي النقاط يكاد يحجبها تماما, فإن أبي قد تكدر بسببها جدا, إذ إنه يعتز بهذا البالطو حتي باتت عائلتنا تعتبره تراثا من الفخار والعزة. وبعد موت أبي المفاجئ طمع فيه عمي الكبير لكن أمي رفضت بشدة تقرب من الزجر والتأنيب, واحتفظت به إلي أن طالت قامتي, وكانت مترددة في إعطائه لي, لكنها حين علمت أنني مسافر إلي ابن عمتي في القاهرة ليبحث لي عن عمل في مكتبه فتحت الدولاب وسحبت البالطو فاحتضنته طويلا وقبلته في كتفيه وياقته ثم انهمرت دموعها, وأخيرا سلمته لي ملفوفا في ملاءة قديمة تمنع عنه الغبار:
خذه يسترك في بلاد الغربة!
قصة البالطو باقية إلي اليوم في حكاوي العائلة والبلدة كلها: أبي حامل عالمية الأزهر الشريف كان يدرس اللغة العربية في دروس خصوصية لبنتين. من أبناء أحد كبار الموظفين في هيئة قناة السويس بمدينة الاسماعيلية, في بيته في عمارة من مساكن الهيئة يسكن في شقة منها مهندس بترول إنجليزي أسلم حديثا ويتوق لقراءة القرآن الكريم بالعربية. تعرف علي أبي, طلب منه أن يعلمه اللغة العربية. أبي اعتبرها رسالة ينال عليها أجرا وثوابا من الله, فأخلص في تعليم الرجل كما ينبغي, من الأبجدية إلي قواعد النحو والصرف الي فقه الله, فما مر عام وبعض عام إلا والخواجة الانجليزي يقرأ القرآن بطلاقة دون خطأ واحد. وقد أغدق علي أبي كثيرا من الهدايا الثمينة من أقلام باركر وساعات رادو إلي نظارات ريبان وماإلي ذلك. لكن أعظم هدية قدمها هي هذا البالطو. اشتراه خصيصا له. لم يوضع علي جسد مخلوق قبل جسد أبي. أمي لاتزال إلي اليوم تحتفظ في قاع الدولاب بالأكياس التي كانت تغلفه, مكتوبا عليها بالانجليزية اسم محل سان مايكل. كان البالطو نقلة طبقية في حياة أبي. به أصبح أبي من عليه القوم علي الشكلين: الشيخ والأفندي.
جاء الشاي والبوري وزجاجة الاسباتس الخضراء الداكنة المرطبة. وفتح لابس البالطو حقيبته وسحب منها رزمة جرائد ومجلات مطوية. فردها, لكنه استدرك ناظرا:
مااتعرفناش علي حضرتك يعني!
وضعت يدي علي صدري:
محسوبك عبد الباسط قنديل! كاتب محامي! مكتب الأستاذ عبد السلام الريدي المحامي بالنقض ومجلس الدولة!
أهلا أبو زمل!
ماسمعتش عن شخص اسمه الدبيهي ؟
كامل الدبيهي سمعت عنه! هو انت حضرتك ؟!
لم أفلح في كلية الحقوق لأسباب لا يهمك أن تعرفها! لكني أفهم في القانون كأحسن المحامين!.. تستطيع أن تعتبرني سمسار قضايا!
أجلب القضايا للمحامين! القضية المناسبة للمحامي المناسب!
كيف تجيء لك القضايا ؟
أنا الذي أذهب إليها! أقطفها من محاضر النيابات! وأتصل بكل الأطراف: الجاني والمجني عليه! ولابد أن أقنع أحدهما بتوكيل محام!
علي فكرة ياأستاذ كامل! عندي سؤال!
إسأل كما تشاء!
لا تواخذني! من أين اشتريت هذا البالطو الفخم ؟
لا فخم ولا حاجة! أنا اشتريته مستعملا من شارع الموسكي! لكن ثمنه حراق!
بكم اشتريته ؟
دفعت فيه خمسة عشر جنيها!
يانهار أسود ومطين بطين!! كل هذا المبلغ ؟ كيف يارجل ؟!
الواضح أنك لا تفهم قيمته! إنه ماركة سان مايكل! يعني لو اشتريته جديدا من المحل تدفع بالاسترليني مايوازي خمسة آلاف جنيه مصري! إن أهم شيء حدث في مصر في عامنا هذا عام ألف وتسعمائة وسبعة وسبعين هو انتفاضة الشعب المصري واقتنائي لهذا البالطو! لقد جلب لي الخير في أول يوم لبسته: خرجت من حادث الانتفاضة بعشرة موكلين متهمين في الانتفاضة بالشغب والسرقة والإتلاف وزعزعة السلم الاجتماعي وماإلي ذلك! محاميك الريدي هذا فاز منهم بثلاثة موكلين والباقي وزعته علي محامين آخرين! يعني رزقني الله بأضعاف ثمن البالطو فأحببته! لا أفرط فيه ولو بمال قارون!
أرأيت إلي جماله وأبهته ؟ لقد غير شكلي وشخصيتي!!
كان عندي أخوه الخالق الناطق! هو هو بذاته!
وطفرت الدموع من عيني..
سرق منك ؟
مع الأسف بعته بثلاثة جنيهات! أنا متأكد أنك اشتريته من ثالث محل علي يمينك في مدخل الموسكي!
فعلا أنا اشتريته من هذا المحل! صاحب المحل يعرفني! ناداني وأنا ماشي في الشارع! قال عندي لك هدية العمر! وسحبه من الدولاب وقاسه علي جسمي فلم أخلعه من ساعتها! رأيتني في المرآة شخصا آخر تماما! لورد انجليزي! باشا! دفعت دون مساومة! أصله طلب عشرين جنيها! فلما شرعت في خلعه تنازل عن خمسة جنيهات في سبيل ألا أخلعه! فتفاءلت به وكان الفأل سعيدا حقا!
لم يكفه انهياري وانخراطي في البكاء الحارق, فاستدرك في قسوة كأنه يريد إلاجهاز علي تماما:
كله إلا بيع الهدوم! من يبيع هدمة واحدة من هدومه يكون عدم المؤاخذة رجلا هزؤة!
كنت مضطر! لم يكن أمامي غيره...
حكيت له الحكاية بالتفصيل في تلك الليلة المشئومة, لعله يصحح نظرته لي, فإذا به يفجؤني بما لم أتوقعه.
ياصاحبي أنت بعت هدومك من أول ماقبضت علي ذراعي الفتي والفتاة!.. لم تكن كريما ولاحكيما!.. كنت تريد نزع ثيابهما بالفضيحة فما نزعت الإ ثيابك أنت بهذا التصرف الصغير: رغبتك في مضاجعة الفتاة وارتكاب الإثم الأشنع مما كانا يفعلانه! كانا مزنوقين في قبلة وحضن يطفيء نيرانهما لاأزيد ولاأقل! وكان الأولي بك أن تعنفهما بكلمتين ثم تطلق سراحهما دون شوشرة!.. تعيش وتأكل غيرها علي كل حال!
ما أغاظني أكثر أنه كان يكلمني دون أن يتوقف عن تصفح وقراءة عناوين الصحف وكان لابد أن أعجل بالانصراف قبل أن تتسع الزنوق في جروحي. صفقت للجرسون وأنا أتحسس مافي جيبي من قروش. ولكن كامل لوح بيده للجرسون أن ينصرف ثم قال لي:
الحساب عندي كما اتفقنا! اتكل علي الله شوف حالك!
صافحته ومشيت..
أماهو, البالطو بلابسه, فلم ينصرف من حياتي. ربما كان لكامل الدبيهي وجود من قبل في المحيط الذي أتحرك فيه غير أنني لم أكن علي وعي به ولم أره. أما منذ أن لبس البالطو الذي كان كل ثروتي فإن حضوره بات كثيفا حتي أصبحت علي شيء من اليقين بأنه يطاردني عن عمد. فحيث أتركه في ساحة المحكمة أفاجأ به ماشيا أمامي ذات مرة في حارة درب الجماميز علي بعد خطوات قليلة من حجرتي في البيت الهديم, فارتج قلبي لأول وهلة, ظننته متجها إلي حجرتي. لكنه تجاوزني وتجاوزها دون أن ينتبه إلي وجودي. العجيب أنه كان يتلقي التحيات من أهل الحارة, ويرد عليها بمودة تدل علي وجود معرفة سابقة! وكأنه هو الساكن هنا وليس أنا..
المفاجأة الكبري أنني ذات صباح ذهبت إلي عملي في مكتب الأستاذ عبدالسلام, ففوجئت بالبالطو جالسا إلي مكتب خاص أضيف إلي مكتب دسوقي أفندي فوقفت متجمدا أحملق فيه. من تحت ياقة البالطو السخية الفخمة تطلع رقبة مبرومة مستطيلة يعلوها رأس رقيق في حجم الكرة الشراب ولونها, ذو شعر أكرت لكنه مع ذلك جميل في كثافته واتساق سالفيه وقفاه, وعينين ذكيتين مليئتين بالشقاوة المتلطفة المغلفة بسياج من الحكمة والدهاء... بيمناه قلم رصاص يجري به فوق سطور يقرؤها, وبيسراه سيجارة مشتعلة وطويلة طولا شاذا ودسوقي افندي الذي يهددني بالويل كلما رآني ممسكا بسيجارة جالس إلي مكتبه يباريه في التدخين مبتهجا ضاحكا علي الفاضي والمليان. كان قد طلبني بمجرد علمه بوصولي.
وها أنذا صرت واقفا في الساحة الضيقة جدا بين المكتبين المتقاطعين بزاوية قائمة غيرت منظر الحجرة وضيقتها قال دسوقي افندي:
سلمت علي رئيسك الجديد؟
نعم؟! آه!! الأستاذ كامل الدبيهي طبعا نار علي علم!
شغلك من الآن معه! يكلفك بالاطلاع علي القضايا يعني تنسخها بخط يدك صفحة صفحة! يكلفك بدفع رسوم! بنسخ أحكام! بالانتظار في قاعة الجلسة حتي يحضر الأستاذ فإن تأخر ونوديت القضية تميل علي أحد المحامين وتطلب منه أن يتكرم بطلب التأجيل حتي يحضر المحامي الأصلي!.. لسوف تتعلم أشياء لينتفع المكتب بخبراته واتصالاته الواسعة! ثم إنه سيأخذ ليسانس الحقوق هذا العام بإذن الله!
رفع البالطو رأسه وابتسم هازا رأسه في دماثة:
قل يارب! قل يارب! أنا جاهز للامتحان!
ورغم أن المشهد بدا لي كمنام مشوش فإنني لم أكن منزعجا من هذه المفاجأة أو هكذا خيل إلي. إنما الذي وجعني حقا وأكد لي أنني في الواقع في حالة صحو تام, هذه النظرة القاسية التي رشقني بها دسوقي افندي وهو يشير بيده في حركة ذات معني إلي البالطو. كانت نظرة تأنيب وتحقير شنيعة, نطقت بأوضح عبارة بأنني حقير وضيع إذ أفرط في البالطو لهذا الشخص أو لغيره, بل إن نظرته تلك ذهبت في تشككها إلي أبعد من البيع. لحظتئذ نزل جدار أسود فصل عيني عن جميع المرئيات. نبهني الفراش إلي أن الأستاذ يطلبني. بقليل من الوعي تنبهت إلي أن الأستاذ يكلفني بفتح ملف لقضية جديدة أعطاني بياناتها وأوراقها لكي أسجلها علي الغلاف ثم أسلمها إلي كامل بك. وعندما استدرت خارجا أتخبط ناداني. عدت إليه. نظرة دسوقي افندي بنصها لبست في عينيه, صارت مثل كرة الإسكواش تخبطني في جنبي ثم تزيد فتتلقفها عيناه لترتد عائدة إلي جبهتي تضربها بقوة أغمضت عيني. قال بود مفتعل يقطر سماجة.
أين البالطو الفخم؟! لماذا لم تعد تلبسه؟ أيعجبك منظرك هذا؟ ألست بردان؟
دون أن أدري صرخت فيه بخشونة:
ضاع مني! سرق!
رميت الملف علي مكتبه واندفعت خارجا من مكتبه, ثم من ردهة الشقه, ثم من بابها إلي الشارع. مشيت علي غير هدي تذكرت حافظة أوراقي التي تركتها في المكتب, استعرضت محتوياتها فبدت من التفاهة لاتستحق العودة لأخذها.
كنت واثقا من أنني سأواجه مصيرا شاقا مؤلما, لكن هدير الشارع مالبث أن استغرقني. وكان شعوري بلذة التحرر والانعتاق يبدد خوفي من الغامض المجهول.
.
انفلت البالطو من عيني عند ناصية شارع درب الجماميز, فلحقت به مسرعا في الشارع العمومي, صفير الترماي وهديره يسايراني تحت شمس الصباح الخضراء.
خطواتي تكاد تنتظم علي وقع العجلات فوق القضبان, الساعة الكحيانة الصدئة في معصمي تشير إلي الثامنة صباحا, البرودة تنفث سمومها في أوصالي, وال بول أوفر الذي أرتديه فوق القميص لأدفء فيه. ساعدي الأيسر منكسر فوق صدري يحتضن حافظة من الجلد الصناعي فيها نماذج للصيغ القانونية: كيف يتم تحرير البلاغات ورفع الدعاوي القضائية, وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لرفعها إلي الشرطة أو إلي النيابة مباشرة أو إلي المحكمة رأسا, أتدرب علي استخدامها في مكتب الأستاذ عبد السلام الريدي المحامي الذي التحقت به ككاتب محام بواسطة وكيله ابن عمتي دسوقي أفندي منذ أن فشلت في استكمال الدراسة الثانوية قبل عامين.
يجب أن أكون في المكتب الكائن بشارع مجلس الشعب في غضون ساعة علي الأكثر.
ولكن لا مشكلة في التخلف عن الموعد ساعة أخري أو حتي ساعتين, المهم ألا يختفي البالطو من تحت ناظري, لكن ما نتيجة هذه الملاحقة؟ لست أدري...
ياللعجب! إنه يتجه نحو محكمة باب الخلق, أيكون لابسه صاحب قضية ستنظر اليوم في المحكمة؟ الحقيبة الجلدية الثمينة رغم قدمها في يده اليسري تشي بأنه رجل مهم, ياللعجب مرة ثانية! إنه يمسك بيده اليمني لفة من أكياس مطاعم الفول فيها أربعة ساندوتشات دائرية منفوخة بما فيها وبارزة للعيان.
ها هو ذا يعرج علي مقهي العدالة علي ناصية الحارة المحاذية للمحكمة, المقهي التي يؤمها زبائن المحكمة من متهمين ومدعين وكتبة محامين ومخبرين وباعة متسولين يجيدون التنشين علي الموجوع من الجالسين في انتظار المحامي أو ميعاد الجلسة يستنزلون عليهم كرم الله ونصره, وفي ثقة تامة يقدمون لهم البشارة بأن الله سيفك حبس المظلوم ويفرج كرب المكروب.. إلخ.
إطمأننت إلي أن البالطو قد جلس منزويا في ركن داخل المقهي, قد وضع لابسه الحقيبة فوق الترابيزة, فك لفة الأكياس, أمسك بالخبز المتخم وشرع في القضم بشهية, وكان الجرسون يضع أمامه كوب ماء حينما صرت أنا واقفا أمام عربة الفول علي الرصيف المقابل أشتري شريحتين من خبز معبأتين بالفول والطعمية مع حزمة من البصل الأخضر, وقليل من الطرشي, اتخذت طريقي مباشرة إلي نفس الترابيزة التي يجلس إليها البالطو, جلست في مواجهته من الجانب الآخر وأنا أهز رأسي في دماثة مقلدا كبار المحامين المؤدبين المبتسمين علي الدوام, قائلا: صباح الخير. هزة رأسه كانت أكثر إتقانا مني, بدت طبيعية غير مقلدة, مما يشي بأنه قد يكون واحدا من السادة أصحاب القضايا, طاف بخلدي خاطر يغريني بأن أمارس مهمتي التي يوصيني بها دسوقي افندي ويغريني بعمولات مجزية إذا نجحت في جلب زبائن للمكتب, وهكذا جعلت أدبر لمدخل يفتح جسرا للكلام مع لابس البالطو. صفقت للجرسون, فأتي, قلت له بأريحية وبساطة:
هات لنا اتنين شاي! لي وللأستاذ!
وانعطفت نحوه:
حضرتك تأخذ شاي ولا حاجة ساقعة؟.
هز رأسه في دماثة:
كتر خيرك! بس حضرتك ضيف علي الترابيزة بتاعتي يعني الحساب عندي!.
ثم توجه للجرسون:
أشرب حاجة ساقعة تطفي الصواريخ إللي طفحتها دي! طفحتها؟! هو إذن ليس من الأسياد, ولا حتي من أرباعهم إن الصدأ يحيط بقفاه. شعره الجميل الشكل من بعيد أكرت متجلد لم يقربه الماء منذ وقت مضي, بل إن الغبار يتدسس بين شعره, كما أن أسنانه صفراء, وشفتيه محروقتان تركت فيها السجائر تجويفا كزبيبة الصلاة, ها هو ذا يبرم الأكياس الورقية يكورها, ويلقي بها علي الأرض, ثم يعتدل في جلسته واضعا ساقا علي ساق مناديا الجرسون في طلب حجر من المعسل علي البوري. البوري, وليس الشيشة؟! عندئذ فطنت والألم يعصر دموعي في صدري إلي أن البالطو هو الذي أضفي عليه ظلا من فخامة واحترام ليس يستحقهما...
***
... كنت أضع يدي في جيبي, وحافظة الأوراق تحت إبطي, أمشي مختالا, أكاد من فرط الثقة أطير فوق روحي المعنوية المرتفعة, ألست مستورا بلباس لايرتديه إلا السادة من علية القوم؟ الزبائن ينبهرون من فخامتي, يناديني بعضهم بلقب الأستاذ ظنا منهم أنني المحامي, يكلمونني بوجل وارتباك, أسألهم إن كانوا يطلبون أي خدمة, من فرط ثقتهم في مظهري يدخلون في الكلام مباشرة, يحكون عن قضاياهم, عن خوفهم من كذا وكيت, عما في جيوبهم من فلوس قليلة باعوا بها نحاس الدار أو استلفوها بالفايظ, أقودهم إلي دسوقي افندي, فلا يتركهم إلا وقد دونت أسماءهم علي ملفات وتوقيعهم علي عقود, واستنزاف كل ما في جيوبهم من نقود كعرابين أتعاب, الزبون ما إن تتفتح أمامه تفاصيل القضية علي ضوء القانون حتي يعتريه الخوف من موقفه, يصير حائرا مضطربا, يعلن عن استعداده لدفع كل مدخراته في سبيل البراءة مع أن القضية من أساسها ربما كانت تافهة. دسوقي افندي مفرط في شيئين لا ثالث لهما رغم أنهما قد لا يتفقان معا في شخص واحد: الجدية والضحك, يعالج الجدية المفرطة بالضحك الهادر الرنان, ثم يداوي أثر الضحك بالجدية إذ يصير متأكدا أن ضحكه ذاك بصوته الرنان المتفتت اللاهب قد أحدث من الشوشرة علي ذهن الزبون بما لم يترك له فرصة للتفكير في وزن ما استمع إليه أصدق هو أم تلفيق وترويع بالقانون؟... دسوقي افندي كان معجبا بشكلي في البالطو الثمين, تيمنا بإعجاب الاستاذ الذي كان مفتونا بشكل البالطو علي جسدي, ولايني يردد أن البالطو مظهر مشرف لي وله, سيما وأني أتبعه كظله في المحكمة أزوده بالملفات عند طلبها, العجيب أن الأستاذ الذي يلبس كل يوم بدلة جديدة بقميصها ورابطة عنقها ومنديل صدرها وحذائها وجوربها, قد ساومني ذات يوم علي هذا البالطو, لم يخجل من أن يجعلني أخلعه في حجرته ليقيسه علي جسده فإذا هو كأنه مفصل عليه, ولقد تلكأ طويلا في خلعه, فخشيت أن أقول له تفضل فيتفضل فعلا. قال لشبحي الواقف خلفه في المرآة البيضاوية المعلقة علي الحائط:
تبيعه؟ أعطيك فيه سبعة جنيهات مرتب خريج جامعة!
في تلك اللحظة دخل دسوقي افندي في المرآة وسمع كلام الأستاذ فراحت نظراتي تستغيث به في ضراعة. فقال له إن البالطو عزيز علي العائلة كلها لأنه ذكري باقية من خاله- أبي- عليه رحمة الله. ثم أضاف قائلا ان شكلي طوال فصل الشتاء بفضل هذا البالطو شكل ابن ناس محترمين, أما في أشهر الربيع والخريف والصيف فانني لست أكثر من بلطجي زلنطحي بقميص مترهل مفتوح الصدر وبنطلون منبعج الركبة وصندل في القدمين كالبرطوشة.
***
لكأن قدري وحظي العاثر يلعبان ضدي مع دسوقي أفندي بحيث احرم من المظهر المحترم نهائيا. كلفني دسوقي أفندي بالذهاب غدا صباحا الي المحكمة لأدفع رسوما علي عريضة دعوي. حسب قيمة الرسوم بجميع دمغاتها, سلمني المبلغ لكي يبيت معي, علي أن اخرج من مسكني صباحا متوجها الي المحكمة من بره بره, فأدفع الرسوم للخزينة, ثم أعود الي المكتب في شارع مجلس الأمة ومعي بيان بتحديد موعد الجلسة ورقم القضية في الرول. بدون هذا البيان لاعودة لي الي المكتب, بل لا بقاء لي في مدينة القاهرة بأكملها.. وقد لا يتورع الأستاذ عن إدخالي السجن بتأييد من دسوقي أفندي..
الحجرة التي اسكنها تقع في بيت عتيق انهار طابقاه الثاني والثالث فاندثر الطابق الأرضي إلا هذه الحجرة المطلة علي حارة درب الجماميز. اصبحت الحجرة اشبه بالبدروم اذ ان الهديم المتكرر قد رفع أرض الحارة, فصار باب البيت نصف باب علوي, فاضطررت الي وضع قطع من الحجارة بمثابة درج للنزول اليه. أما الشباكان المستطيلان فقد غاصا في الأرض فلم يبق منهما سوي شريحة كنزة ترتص فيها اسياخ صدئة كالحة من الحديد المضلع, ومن خلفها درف خشبية أشد كلاحة, ولا أحد يمنع صفيقا مزنوقا من ان يلوذ بالهديم المتراكم تحت الجدار ليفك حصره. كثيرا ماكنت في الليل اسمع صوت الطرطرة يتدفق كالنافورة, وطرطشة من رذاذ الصنان تغمرني في الفراش: كنبة بلدي اشتريتها من حي المناصرة, مع بطانية من مخلفات الجيش, ومخدة, وطبلية, ودولاب ايديال قديم من نفاية مكتب الأستاذ أرص فيه هدومي التي اغسلها بيدي واكويها فوق مسند الكنبة, وابورجاز, وسبرتاية, وحلة وطاسة وطبقان من الالمونيوم..
ليلتذاك, عندما أضأت الكشاف الذي احمله في جيبي لكي أري عتبة الباب والحجارة التي سأدوس فوقها للنزول, لاحظت أن باب البيت موارب مع أنه مفتوح علي الدوام لاستحالة إغلاقه, ثم انني الساكن الوحيد في البيت منذ تم تنكيسه, وقد رحب اصحابه ببقائي في هذه الحجرة طالما أنني متحمل مسئولية نفسي الي أن يحين هدم البيت نهائيا. حينما أضأت الكشاف سمعت خروشة خشنة خلف الباب, ولمحت طيف بلوزة ملونة, وظل بنطلون رجالي. هتفت بصوت فلاح جسور: مين اللي جوه؟ ثم قفزت داخلا, لأفاجأ بأني امام تلميذين مراهقين في المرحلة الثانوية وربما الاعدادية. البنت جميلة جدا, فاتنة, فائرة, نصف صدرها مكشوف عن ممر سحري من المرمر اصابني بالدوار. كان العهر ما ثلافي عينيها الواسعتين بشكل مخيف كعيني الجنية النداهة. أما الولد فسفروت, طويل القامة, وسيم احمر الوجه بسالفين طويلين وشعر كثيف مهوش..
هجمت عليهما بشراسة فلاح مكبوت يري اللحم الوردي امامه يستمتع به غيره. قبضت علي ساعديهما بقوة حديدية. صارا يرتعشان, يربتان علي صدري بمودة ورجاء. قالت البنت:
- ابوس رجلك ما تعليش صوتك أحسن بيتنا قريب من هنا!
وقال الولد بهمس كالفحيح:
- نتفاهم بالراحة! واحنا تحت أمرك!
وقالت البنت بصوت واعد:
- افتح الأوضة طيب! نقعد نتفاهم بهدوء وحنبقي صحاب!
قلت لها:
- مدي إيدك في جيب بنطلوني الصغير طلعي المفتاح!
- حاضر!
وبيد حنونه بحثت عن الجيب الصغير. دست أناملها في الجيب الصغير, ثم قالت:
- مفيش مفاتيح هنا!
تذكرت, هتفت:
- يبقي في الجيب الكبير!
قال الفتي:
- عنك أنت!
ودس يده في الجيب القريب منه. سحب سلسلة المفاتيح قلت له:
- افتح!
دس المفتاح في الكالون وأداره سكتين. دفع الباب فانفتح. قال:
اتفضل حضرتك قيد النور عشان أنت اللي عارف مطرحه!
دون أن أدري فككت يدي عن ساعديهما لكي أتحسس زر النور. وما إن خطوت إلي الداخل حتي دفعني الفتي بقوة, فانكفأت علي بوزي في أرض الحجرة, وسحب الفتي الباب فأغلقه من الخارج بالمفتاح, ثم قال بحقد وتشف وهزء:
تصبح علي خير يا شيخ الغفر!
الخبطة دوختني. دارت بي الأرض. أدخلتني في غيبوبة لما يقرب من عشر دقائق. فلما استطعت الوقوف والوصول إلي زر الإضاءة تحسست جبهتي المتألمة, فتوقفت يدي علي ورم كالبلحة. ظللت طول الليل أعالجها بكمادات. من حسن الحظ أن باب الحجرة من درفتين, إحداهما مثبته بترباسين, واحد يغوص في خشب العتبة, والثاني يغوص في خشب السقف, فلو أرحت الترباسين من الداخل تتحرر الدرفة ويمكن تحريكها إلي الداخل, فيبتعد لسان الكالون عن المرقد الذي يبيت فيه, فينفتح الباب تماما. وعندما صحوت بعد نوم مضطرب, مذعورا من ضياع الوقت, وحررت الدرفتين, سررت إذ وجدت المفتاح في الكالون. حمدت ذلك للفتي. ولكن! يا للكارثة! كل ما كان معي من نقود قد سلب, الرسوم وقدرها مائتان وستون قرشا, ومصاريفي بقية الشهر وقدرها سبعون قرشا أو نحو ذلك..
رسوم القضية أو الكارثة. دسوقي افندي لن يصدق أي حكاية تقال حتي البلحة المتكورة في جبهتي لن تكون شاهدة علي ما جري. إن تصديقي مرفوض من الأساس حتي لو اقتنع دسوقي افندي بصدق ماسأحكيه. ولكن هل أستطيع أن أحكي ما حدث ؟ الموت عندي أهون من الفضيحة التي ستنتقل في الحال إلي عمي فتنتشر في بلدتنا التي تترقب شيئا كهذا ينشغل به الناس في شغف, تبديدا لرتابة الحياة. وفوق ذلك فإني متأكد من أن دسوقي افندي لن يتورع عن تسليمي بيده للشرطة لكي تربيني لعلني أتوب عن أمور المعيلة.. ياربي ماذا أفعل ؟ لا أعرف أي أحد في القاهرة يمكن أن أميل عليه وأشكو له محنتي. ثم من ذا الذي يقبل أن يقرضني مثل هذا المبلغ ؟ وحتي لو كان ذلك ممكنا فمتي يحدث, إنني لابد أن ألحق بخزينة المحكمة قبل إغلاقها. لم يبق سوي ثلاث ساعات علي موعد الإغلاق. ياربي, ليس عندي أي شئ ثمين قابل للبيع أو للرهن علي ذمة هذا المبلغ. كان الدولاب الإيديال مفتوحا لأنه بغير باب أصلا, وقعت نظرتي الحائرة علي البالطو, شممت نفسي, إنه أثمن شئ عندي, بل أثمن ما في حياتي كلها. لا مفر إذن من رهنه لدي محل رهونات, ومن هنا الي مجئ الشتاء يكون قد حلها الحلال بمبلغ أفك به رهنيته..
طويت البالطو علي ذراعي. أغلقت باب الحجرة ومضيت. سيرا علي قدمي وصلت إلي مدخل شارع الموسكي من ناحية حي العتبة. فهنا ترهن الأشياء الثمينة, وتباع الملابس المستعملة. لسوء الحظ لايوجد أي محل للرهونات, لا يوجد إلا محلات تقوم بترميم الملابس القديمة وعرضها بشكل لافت جاذب. أمري لله, من محل إلي محل نشف ريقي وتحطمت روحي المعنوية فانهارت مقاومتي. كنت مقدرا له عشرة جنيهات علي الأقل باعتباره لايزال رونقه غير معطوب. وإذ رضيت بنصف هذا المبلغ إذا جاءني وجدتني محتاجا لعناء كبير في اللف والمساومة, والوقت قارب الضحي العالي.. فقبلت راغما بثلاثة جنيهات بشرط أن يعدني صاحب المحل بالاحتفاظ به أمانة لحين عودتي إليه بالمبلغ مضافا إليه نصف جنيه كمكسب له. فإذا بي كنت واهما حين صدقت بأنه سيفعل.
***
تاخد بوري معايه ؟
وقبل أن أرد بالنفي أو بالإيجاب قال للجرسون:
هات بوري كمان للأخ!
ومال ليضبط الماء في قارورة البوري النحاسية..
عندئذ وقعت عيني علي البطاقة الشخصية للبالطو: ثلاث بقع ضئيلة جدا كرءوس الدبابيس, باهتة, اثنتان متجاورتان علي حافة الياقة النائمة, فوق هامش الخياطة, والثالثة تحتهما في الوسط. كانت قد تناثرت من فرشاة نقاش كان يدهن دولاب أختي العروس باللاكيه الأبيض. ورغم أنها لم تكن ملحوظة إلا لمن يدقق النظر سيما وسخاء الجبردين الإنجليزي الأسود بلمعته القطيفية يلقي بظله السخي علي النقاط يكاد يحجبها تماما, فإن أبي قد تكدر بسببها جدا, إذ إنه يعتز بهذا البالطو حتي باتت عائلتنا تعتبره تراثا من الفخار والعزة. وبعد موت أبي المفاجئ طمع فيه عمي الكبير لكن أمي رفضت بشدة تقرب من الزجر والتأنيب, واحتفظت به إلي أن طالت قامتي, وكانت مترددة في إعطائه لي, لكنها حين علمت أنني مسافر إلي ابن عمتي في القاهرة ليبحث لي عن عمل في مكتبه فتحت الدولاب وسحبت البالطو فاحتضنته طويلا وقبلته في كتفيه وياقته ثم انهمرت دموعها, وأخيرا سلمته لي ملفوفا في ملاءة قديمة تمنع عنه الغبار:
خذه يسترك في بلاد الغربة!
قصة البالطو باقية إلي اليوم في حكاوي العائلة والبلدة كلها: أبي حامل عالمية الأزهر الشريف كان يدرس اللغة العربية في دروس خصوصية لبنتين. من أبناء أحد كبار الموظفين في هيئة قناة السويس بمدينة الاسماعيلية, في بيته في عمارة من مساكن الهيئة يسكن في شقة منها مهندس بترول إنجليزي أسلم حديثا ويتوق لقراءة القرآن الكريم بالعربية. تعرف علي أبي, طلب منه أن يعلمه اللغة العربية. أبي اعتبرها رسالة ينال عليها أجرا وثوابا من الله, فأخلص في تعليم الرجل كما ينبغي, من الأبجدية إلي قواعد النحو والصرف الي فقه الله, فما مر عام وبعض عام إلا والخواجة الانجليزي يقرأ القرآن بطلاقة دون خطأ واحد. وقد أغدق علي أبي كثيرا من الهدايا الثمينة من أقلام باركر وساعات رادو إلي نظارات ريبان وماإلي ذلك. لكن أعظم هدية قدمها هي هذا البالطو. اشتراه خصيصا له. لم يوضع علي جسد مخلوق قبل جسد أبي. أمي لاتزال إلي اليوم تحتفظ في قاع الدولاب بالأكياس التي كانت تغلفه, مكتوبا عليها بالانجليزية اسم محل سان مايكل. كان البالطو نقلة طبقية في حياة أبي. به أصبح أبي من عليه القوم علي الشكلين: الشيخ والأفندي.
جاء الشاي والبوري وزجاجة الاسباتس الخضراء الداكنة المرطبة. وفتح لابس البالطو حقيبته وسحب منها رزمة جرائد ومجلات مطوية. فردها, لكنه استدرك ناظرا:
مااتعرفناش علي حضرتك يعني!
وضعت يدي علي صدري:
محسوبك عبد الباسط قنديل! كاتب محامي! مكتب الأستاذ عبد السلام الريدي المحامي بالنقض ومجلس الدولة!
أهلا أبو زمل!
ماسمعتش عن شخص اسمه الدبيهي ؟
كامل الدبيهي سمعت عنه! هو انت حضرتك ؟!
لم أفلح في كلية الحقوق لأسباب لا يهمك أن تعرفها! لكني أفهم في القانون كأحسن المحامين!.. تستطيع أن تعتبرني سمسار قضايا!
أجلب القضايا للمحامين! القضية المناسبة للمحامي المناسب!
كيف تجيء لك القضايا ؟
أنا الذي أذهب إليها! أقطفها من محاضر النيابات! وأتصل بكل الأطراف: الجاني والمجني عليه! ولابد أن أقنع أحدهما بتوكيل محام!
علي فكرة ياأستاذ كامل! عندي سؤال!
إسأل كما تشاء!
لا تواخذني! من أين اشتريت هذا البالطو الفخم ؟
لا فخم ولا حاجة! أنا اشتريته مستعملا من شارع الموسكي! لكن ثمنه حراق!
بكم اشتريته ؟
دفعت فيه خمسة عشر جنيها!
يانهار أسود ومطين بطين!! كل هذا المبلغ ؟ كيف يارجل ؟!
الواضح أنك لا تفهم قيمته! إنه ماركة سان مايكل! يعني لو اشتريته جديدا من المحل تدفع بالاسترليني مايوازي خمسة آلاف جنيه مصري! إن أهم شيء حدث في مصر في عامنا هذا عام ألف وتسعمائة وسبعة وسبعين هو انتفاضة الشعب المصري واقتنائي لهذا البالطو! لقد جلب لي الخير في أول يوم لبسته: خرجت من حادث الانتفاضة بعشرة موكلين متهمين في الانتفاضة بالشغب والسرقة والإتلاف وزعزعة السلم الاجتماعي وماإلي ذلك! محاميك الريدي هذا فاز منهم بثلاثة موكلين والباقي وزعته علي محامين آخرين! يعني رزقني الله بأضعاف ثمن البالطو فأحببته! لا أفرط فيه ولو بمال قارون!
أرأيت إلي جماله وأبهته ؟ لقد غير شكلي وشخصيتي!!
كان عندي أخوه الخالق الناطق! هو هو بذاته!
وطفرت الدموع من عيني..
سرق منك ؟
مع الأسف بعته بثلاثة جنيهات! أنا متأكد أنك اشتريته من ثالث محل علي يمينك في مدخل الموسكي!
فعلا أنا اشتريته من هذا المحل! صاحب المحل يعرفني! ناداني وأنا ماشي في الشارع! قال عندي لك هدية العمر! وسحبه من الدولاب وقاسه علي جسمي فلم أخلعه من ساعتها! رأيتني في المرآة شخصا آخر تماما! لورد انجليزي! باشا! دفعت دون مساومة! أصله طلب عشرين جنيها! فلما شرعت في خلعه تنازل عن خمسة جنيهات في سبيل ألا أخلعه! فتفاءلت به وكان الفأل سعيدا حقا!
لم يكفه انهياري وانخراطي في البكاء الحارق, فاستدرك في قسوة كأنه يريد إلاجهاز علي تماما:
كله إلا بيع الهدوم! من يبيع هدمة واحدة من هدومه يكون عدم المؤاخذة رجلا هزؤة!
كنت مضطر! لم يكن أمامي غيره...
حكيت له الحكاية بالتفصيل في تلك الليلة المشئومة, لعله يصحح نظرته لي, فإذا به يفجؤني بما لم أتوقعه.
ياصاحبي أنت بعت هدومك من أول ماقبضت علي ذراعي الفتي والفتاة!.. لم تكن كريما ولاحكيما!.. كنت تريد نزع ثيابهما بالفضيحة فما نزعت الإ ثيابك أنت بهذا التصرف الصغير: رغبتك في مضاجعة الفتاة وارتكاب الإثم الأشنع مما كانا يفعلانه! كانا مزنوقين في قبلة وحضن يطفيء نيرانهما لاأزيد ولاأقل! وكان الأولي بك أن تعنفهما بكلمتين ثم تطلق سراحهما دون شوشرة!.. تعيش وتأكل غيرها علي كل حال!
ما أغاظني أكثر أنه كان يكلمني دون أن يتوقف عن تصفح وقراءة عناوين الصحف وكان لابد أن أعجل بالانصراف قبل أن تتسع الزنوق في جروحي. صفقت للجرسون وأنا أتحسس مافي جيبي من قروش. ولكن كامل لوح بيده للجرسون أن ينصرف ثم قال لي:
الحساب عندي كما اتفقنا! اتكل علي الله شوف حالك!
صافحته ومشيت..
أماهو, البالطو بلابسه, فلم ينصرف من حياتي. ربما كان لكامل الدبيهي وجود من قبل في المحيط الذي أتحرك فيه غير أنني لم أكن علي وعي به ولم أره. أما منذ أن لبس البالطو الذي كان كل ثروتي فإن حضوره بات كثيفا حتي أصبحت علي شيء من اليقين بأنه يطاردني عن عمد. فحيث أتركه في ساحة المحكمة أفاجأ به ماشيا أمامي ذات مرة في حارة درب الجماميز علي بعد خطوات قليلة من حجرتي في البيت الهديم, فارتج قلبي لأول وهلة, ظننته متجها إلي حجرتي. لكنه تجاوزني وتجاوزها دون أن ينتبه إلي وجودي. العجيب أنه كان يتلقي التحيات من أهل الحارة, ويرد عليها بمودة تدل علي وجود معرفة سابقة! وكأنه هو الساكن هنا وليس أنا..
المفاجأة الكبري أنني ذات صباح ذهبت إلي عملي في مكتب الأستاذ عبدالسلام, ففوجئت بالبالطو جالسا إلي مكتب خاص أضيف إلي مكتب دسوقي أفندي فوقفت متجمدا أحملق فيه. من تحت ياقة البالطو السخية الفخمة تطلع رقبة مبرومة مستطيلة يعلوها رأس رقيق في حجم الكرة الشراب ولونها, ذو شعر أكرت لكنه مع ذلك جميل في كثافته واتساق سالفيه وقفاه, وعينين ذكيتين مليئتين بالشقاوة المتلطفة المغلفة بسياج من الحكمة والدهاء... بيمناه قلم رصاص يجري به فوق سطور يقرؤها, وبيسراه سيجارة مشتعلة وطويلة طولا شاذا ودسوقي افندي الذي يهددني بالويل كلما رآني ممسكا بسيجارة جالس إلي مكتبه يباريه في التدخين مبتهجا ضاحكا علي الفاضي والمليان. كان قد طلبني بمجرد علمه بوصولي.
وها أنذا صرت واقفا في الساحة الضيقة جدا بين المكتبين المتقاطعين بزاوية قائمة غيرت منظر الحجرة وضيقتها قال دسوقي افندي:
سلمت علي رئيسك الجديد؟
نعم؟! آه!! الأستاذ كامل الدبيهي طبعا نار علي علم!
شغلك من الآن معه! يكلفك بالاطلاع علي القضايا يعني تنسخها بخط يدك صفحة صفحة! يكلفك بدفع رسوم! بنسخ أحكام! بالانتظار في قاعة الجلسة حتي يحضر الأستاذ فإن تأخر ونوديت القضية تميل علي أحد المحامين وتطلب منه أن يتكرم بطلب التأجيل حتي يحضر المحامي الأصلي!.. لسوف تتعلم أشياء لينتفع المكتب بخبراته واتصالاته الواسعة! ثم إنه سيأخذ ليسانس الحقوق هذا العام بإذن الله!
رفع البالطو رأسه وابتسم هازا رأسه في دماثة:
قل يارب! قل يارب! أنا جاهز للامتحان!
ورغم أن المشهد بدا لي كمنام مشوش فإنني لم أكن منزعجا من هذه المفاجأة أو هكذا خيل إلي. إنما الذي وجعني حقا وأكد لي أنني في الواقع في حالة صحو تام, هذه النظرة القاسية التي رشقني بها دسوقي افندي وهو يشير بيده في حركة ذات معني إلي البالطو. كانت نظرة تأنيب وتحقير شنيعة, نطقت بأوضح عبارة بأنني حقير وضيع إذ أفرط في البالطو لهذا الشخص أو لغيره, بل إن نظرته تلك ذهبت في تشككها إلي أبعد من البيع. لحظتئذ نزل جدار أسود فصل عيني عن جميع المرئيات. نبهني الفراش إلي أن الأستاذ يطلبني. بقليل من الوعي تنبهت إلي أن الأستاذ يكلفني بفتح ملف لقضية جديدة أعطاني بياناتها وأوراقها لكي أسجلها علي الغلاف ثم أسلمها إلي كامل بك. وعندما استدرت خارجا أتخبط ناداني. عدت إليه. نظرة دسوقي افندي بنصها لبست في عينيه, صارت مثل كرة الإسكواش تخبطني في جنبي ثم تزيد فتتلقفها عيناه لترتد عائدة إلي جبهتي تضربها بقوة أغمضت عيني. قال بود مفتعل يقطر سماجة.
أين البالطو الفخم؟! لماذا لم تعد تلبسه؟ أيعجبك منظرك هذا؟ ألست بردان؟
دون أن أدري صرخت فيه بخشونة:
ضاع مني! سرق!
رميت الملف علي مكتبه واندفعت خارجا من مكتبه, ثم من ردهة الشقه, ثم من بابها إلي الشارع. مشيت علي غير هدي تذكرت حافظة أوراقي التي تركتها في المكتب, استعرضت محتوياتها فبدت من التفاهة لاتستحق العودة لأخذها.
كنت واثقا من أنني سأواجه مصيرا شاقا مؤلما, لكن هدير الشارع مالبث أن استغرقني. وكان شعوري بلذة التحرر والانعتاق يبدد خوفي من الغامض المجهول.
.