الفوضى بالنسبة لي،هي ساقية الروح،ولذا لم يكن من السهل علي،أن أقبل الإقامة مع عائلة،فالبرنامج اليومي المُحدّد ومواعيد الوجبات،كافية لجعل حياتي جحيماً،ناهيك عن الإضطرار إلى التظاهر بالأدب،واغتصاب الإبتسامات،وتجنّب الكلمات البذيئة!وعلى أيّة حال فقد قبلت بهذا التنازل،بعد أن قذف"الشيوخ" بأشيائي إلى عرض الشارع،بعد أن ضبطوا الجارة جالسة على حافّة سريري،بعد عودة مبكّرة لأحدهم من الجامعة،ولم تفلح أيماني المشدّدة في إقناعهم،أنّني لم أرتكب عملاً شائناً.. .أمّا قصّة الجارة هذه،فلم تكن إلّا حبّ استطلاعٍ بحت،لا تشوبه أيّة
وليجة،ولأنّي أحترم الدوافع البشريّة النقيّة،فقد سمحتُ لها بالدخول،وطرح الأسئلة علي،ولم يكن ولوجها إلى غرفة النوم واختيارها لحافّة السرير لتجلس عليها،إلّا من قبيل التسلسل العفوي للأحداث،أمّا انفجاري بالضحك في وجه الشيخ،فلم يكن إلّا لأنّ موقفي في مواجهة الشيخ،ذكّرني بنكتة مفتش القطارات،الّذي ضبطه الزوج داخل الدولاب،منتظراً مرور القطار،ليقيس درجة الإهتزاز،وفيما إذا كانت تشكّل خطراً يهدد حياة ساكنيه،فما كان منه إلّا أن طلب من الزوج أن يُطلق عليه النّار،لأنّ قصّته غير قابلة للتصديق!
أمّا اختياري للحي الإنجليزي،فلم يكن لانبهاري بالإرث الإستعماري،فقد كنت أكنّ له كل الإحتقار،وإنّما كانت نفعيّة بحتة،لأنّي أكبُّ على الكتب قبيل شهرين من موعد الإمتحانات!والهدوء الّذي يميّز الحي الإنجليزي،يهيّء لي جوّاً مثاليّاً للدراسة!
حيّاني الكابتن المتقاعد منذ عهد عاد،بلمس قُبّعته،وابتسمت العجوز كاشفةً عن طقم أسنانٍ أثري،وهُرِعت إلى المشهد،فتاة شابّة بلباسٍ قصير،لا بُدّ أنّها الحفيدة أو أحد الحفيدات،وكان أوّل ما لفت انتباهي،الزغب الأشقر،على ساقيها الممتلئتين!
انكببتُ بنهمٍ على الدراسة،أيّاماً لم يقاطعني فيها أحد،إلّا لتذكيري بمواعيد الوجبات،وقد وفّرت لي النافذة الواسعة،والطقس اللطيف،والنسيم الجبلي،جوّاً مثاليّاً!أما الحفيدة فقد اختفت من المشهد بتاتاً،وظننتُ أنّها رُبّما عادت من حيثُ أتت،حتّى جاء يوم،وسمعتُ نقراً خفيفاً على الباب،خارج المواعيد المعتادة!كانت الصغيرة تحمل طبقاً من الحلوى أرسلته جدّتها،ناولتني الطبق واستأذنت في الجلوس قليلاً،الأمر الّذي جعلني أستحضر قصّتي مع الجارة والشيخ!وحيث أنّه ليس هناك شيخ،ولا شيء آخر أخشاه،فقد سمحت لها بالجلوس!
قالت إنّ الرتابة هنا لا تطاق وأنّ الحياة مع جدّيها،في هذا الجو شبه الريفي تبعث على الملل،ثُمّ عقّبت:هل هذه درّاجتك الناريّة المركونة عند المدخل؟!
-نعم،هل تعجبك؟!
-تبدو عليها الجِدّة،رغم أنّك لم تُضف إليها شيئاً،الشباب مغرمون بالتزيين والتعديلات!
-لا أجد الوقت لذلك،أنا طالبٌ جاد!
-هل أنت جادٌّ للدرجة الّتي تمنعك من الذهاب في نزهة،في عطلة نهاية الأسبوع؟!
-لا،ليس لهذه الدرجة!
-لاحظت أنّ دراجتك لا تغيّر مكانها هناك،حتّى خلال العطل!أم أنّ لديك درّاجة أخرى تخفيها في مكانٍ ما؟!
ابتسمت لدعابتها،ثُمّ قلت:
-لم كل هذا الدوران حول الشجيرة،أطلقي نار بندقيّتكِ على الهدف،إذا كنت متلهّفة على الذهاب في نزهة،فسأصطحبك!
-حقّاً؟!لم أتوقّع أنّك ستوافق بهذه السهولة،لقد أعطيتني انطباعاً أنّك من قوارض الكتب!
-استأذني من جدّيكِ إذن!
-لقد استأذنتُ بالفعل!
أردفتها خلفي،وانطلقنا في طريقٍ طويل باتّجاهٍ واحد،صعوداً نحو التلال،وتوقّفنا في كل استراحة،أنا للقهوة،وهي للآيس كريم"البوظة"!
كانت رحلة ممتعة وبريئة،وترجّلنا لتناول وجبة تحت شجرة صنوبر ضخمة،على جانب الطريق!
كان كُلُّ شيءٍ ممتعاً،والحديث استكشاف ومغامرة،فبالنسبة لطالبة ثانوي،فالطالب الجامعي موضع إكبار وقداسة،وللتجربة مهابتها،فالجامعة هي العالم المفتوح،عالم الحرّية،والمدرسة هي العالم المحروس،عالم الرقابة والقيود الصارمة،حتّى بالمقياس الإنجليزي الّذي لا زال سائداً هنا،حتّى أنّ مديرة إحدى المدارس صرّحت لي في تباهٍ:نحن لا نسمح هنا بتجاوز حدّ القُبل بين الذكور والإناث!مدرستنا محافظة جدّاً،ولهذا يُقبل علينا الآباء،وإذن فالكسْب هو الهدف النّهائي،والعفّة هي الطُّعم!
شبعنا هواءً وطعاماً وشراباً،وكلاماً أيضاً،حتّى أنّ الفتاة استغرقت في الصمت،وهي تعقد ذراعيها حول خصري،وتسند رأسها إلى ظهري،لتكون في مأمن إذا ما غلبها النّعاس فجأة ونحن ننحدر إلى أسفل التلال في طريق عودتنا.
يبدو أنّ منظرنا هكذا لم يُعجب أحد سوّاقي الشاحنات،فبدأ بالإنحراف أمامنا على حين غرّة،ومن ثمّ الإنطلاق وقذف زجاجات البيرة أمامنا،بعد أن يفرغها في جوفه!حاولت تجنّبه بكل ما أملك من براعة،حتّى أصل إلى مشارف المدينة على الأقل،حيث يمكن أن تعترضه الشرطة!ولكنّه توقّف أمامي بشكلٍّ مفاجيء،ممّا جعلني أشكّ في نواياه،فتوقّفت بدوري،أوقفت الدراجة على ساق الإسناد،طلبتُ إلى الفتاة أن تبقى مكانها،وسحبت عتلة كنت أحتفظ بها للمواقف الحرجة،وجريت نحوه،ولدهشتي فقد تلقّاني رافع اليدين،وقال إنّ شاحنته تعطّلت فجأة،ولمّا صرخت في وجهه بغضب:لماذا
كان يعاكسنا ويلقي الزجاجات في طريقنا،قال إنّه لم يفعل ذلك ،وإنّما الرجل الّذي كان يجلس إلى جانبه،والّذي التقطه عن الطريق بدافع الشفقة،ولمّا سألته :أين ذلك الرجل؟!ردّ عليّ باستغراب:الم تر كيف ترجّل وهرب؟!لا بدّ انّك لم تنتبه!
في تلك الأثناء كان عدد من سوّاقي الشاحنات،قد توقّفوا لاستطلاع الأمر،أو لنجدة زميلهم،كما يقضي العرف بين السوّاقين على الطرق الخارجيّة،اختلست نظرة بطرف عيني،إلى حيثُ كانت تقف الفتاة،وحمدت الله أنّ أحداً منهم لم يُعر وجودها أي انتباه،فخفّ رٌعبي قليلاً،وكنت على وشك أن أحييهم وأنسلّ قافلاً بهدوء،لولا أنّ ابن الحرام جأر فجأة رافعاً عقيرته،وهويشير إلى حيث تقف الفتاة:هذه هي الفتاة الّتي كان يضاجعها،دون حياءٍ أوخجل،طوال الطريق،لقد أهان تقاليدنا!هَمْهمَ الجميع بصوت واحد ساخرين وضاحكين،إلى أن أسكتهم
من تقمّص دور الزعامة بإشارة من يده،ثُمّ وجّه سؤاله إلى السائق:وكيف كان يضاجعها؟!
-لقد كانت تجلس خلفه على الدرّاجة،وهي تحتضنه بذراعيها!
-وهل هذا هو وضع المضاجعة حسب علمك الّذي درسته؟!
انفجر الجميع ضاحكين،بينما تقدّم الزعيم نحو السائق مستنشقاً،ثُمّ أردف:
-يبدو أنّ البيرة قد أخذت مأخذها منك،وعلى أيّة حال،فحسب ما رأيته من حجم دماغك،فإنّ قدحاً واحداً كفيلٌ بتبخيره!وقهقه الجميع مرّة أخرى!
شعر الرجل بالإهانة،واحمرّت عيناه حتّى تحبّبتا فجأة،انحنى ليلتقط زجاجة بيرة فارغة،وقال وهو يتقدّم نحوي:
-سأنتقم من هذا النذل،إنّه هوالسبب في تعريضي للسخرية!
أوقفه الزعيم براحة يده:
-لا ،ليس هو،قلّة عقلك هي السبب،أمّا إذا كنت مصرّاً على التحدّي،فألق زجاجةالبيرة،وبارزه رجلاً لرجل!
ألقى زجاجة البيرة وأسرع نحوي بكل قوّته،تراجعتُ قليلاً فتعثّروكاد أن يسقط على وجهه،ضحك الرجال،بينما صرخ في وجوههم: محتجّاً ثُمّ جأر:
-ها هو يهرب الجبان! هل رأيتم ذلك؟!
تقدّمتُ ولكمته في معدته قبل أن يتماسك!
-غادر وجبان!
ألقى بجسده علي ليمنعني من استخدام اللكمات،حاولت أن أفقده توازنه وأسقطه أرضاً،ولكنّي تراجعت عن الفكرة حتّى لا أبالغ في إهانته فيجنّ جنونه،ويقدمُ على شيءٍ ليس في الحسبان!
لاحظ الزعيم ذلك،فتقدّم ليفصلنا واضعاً ذراعه بيننا قائلاً:
-هذا يكفي! انتهت الجولة!لا خاسر ولا رابح!خذ فتاتك واذهب يا بني!
كنت أشغّل درّاجتي بينما انهمك الزعيم في تقريع السائق،وسمعته يقول:
ما الّذي يضيرك لوقفز انجليزي فوق انجليزيّة،إنّها ليست أمّك على أيّةحال،إنّهم يأتون هنا للمتعة،أنت عارٌ على السياحة بالفعل،سوف أشكوك إلى رأس الدولة!إنّك تعطّل سياساتنا الخارجيّة!
كان الرجال يقهقهون في مرح،حين مرقت كالسهم من جانبهم!
لم تقل فتاتي شيئاً،إلى أن شعرت بالأمان ونحن ننسربُ في زحام المدينة،هتفت:
-يا بطلي!أنتظر حتّى تنال مكافأتك،سيكون ذلك في الغرفة بعيداً عن أعين السوّاقين!
أجبتها في مرح:
-أعرف تعليمات مدرستكم،لقد باحت لي المديرة بالسر!ومع ذلك فالقبلة شيٌ جيّد من فمك الجميل!
-آه أيّها الماكر،إنّك تتلاعب بي،لم يكن هذا ما أفكّر به!
-حسناً هذا ما تقوله الفتيات الصغيرات،لا أظنّ أنّك تفكّرين بإهدائي طقم أسنان جدّتك العجوز كمكافأة لي على بطولتي!
لم نتوقّف عن الضحك،وتقاذف كرة الحديث،فرحاً بنجاتنا رُبّما من موقف،لا نتردّد في الإقرار،بأنّه كان خطراً بالفعل،حين نلتفت إلى الخلف لنلمحه من فوق أكتافنا!
نزار حسين راشد
وليجة،ولأنّي أحترم الدوافع البشريّة النقيّة،فقد سمحتُ لها بالدخول،وطرح الأسئلة علي،ولم يكن ولوجها إلى غرفة النوم واختيارها لحافّة السرير لتجلس عليها،إلّا من قبيل التسلسل العفوي للأحداث،أمّا انفجاري بالضحك في وجه الشيخ،فلم يكن إلّا لأنّ موقفي في مواجهة الشيخ،ذكّرني بنكتة مفتش القطارات،الّذي ضبطه الزوج داخل الدولاب،منتظراً مرور القطار،ليقيس درجة الإهتزاز،وفيما إذا كانت تشكّل خطراً يهدد حياة ساكنيه،فما كان منه إلّا أن طلب من الزوج أن يُطلق عليه النّار،لأنّ قصّته غير قابلة للتصديق!
أمّا اختياري للحي الإنجليزي،فلم يكن لانبهاري بالإرث الإستعماري،فقد كنت أكنّ له كل الإحتقار،وإنّما كانت نفعيّة بحتة،لأنّي أكبُّ على الكتب قبيل شهرين من موعد الإمتحانات!والهدوء الّذي يميّز الحي الإنجليزي،يهيّء لي جوّاً مثاليّاً للدراسة!
حيّاني الكابتن المتقاعد منذ عهد عاد،بلمس قُبّعته،وابتسمت العجوز كاشفةً عن طقم أسنانٍ أثري،وهُرِعت إلى المشهد،فتاة شابّة بلباسٍ قصير،لا بُدّ أنّها الحفيدة أو أحد الحفيدات،وكان أوّل ما لفت انتباهي،الزغب الأشقر،على ساقيها الممتلئتين!
انكببتُ بنهمٍ على الدراسة،أيّاماً لم يقاطعني فيها أحد،إلّا لتذكيري بمواعيد الوجبات،وقد وفّرت لي النافذة الواسعة،والطقس اللطيف،والنسيم الجبلي،جوّاً مثاليّاً!أما الحفيدة فقد اختفت من المشهد بتاتاً،وظننتُ أنّها رُبّما عادت من حيثُ أتت،حتّى جاء يوم،وسمعتُ نقراً خفيفاً على الباب،خارج المواعيد المعتادة!كانت الصغيرة تحمل طبقاً من الحلوى أرسلته جدّتها،ناولتني الطبق واستأذنت في الجلوس قليلاً،الأمر الّذي جعلني أستحضر قصّتي مع الجارة والشيخ!وحيث أنّه ليس هناك شيخ،ولا شيء آخر أخشاه،فقد سمحت لها بالجلوس!
قالت إنّ الرتابة هنا لا تطاق وأنّ الحياة مع جدّيها،في هذا الجو شبه الريفي تبعث على الملل،ثُمّ عقّبت:هل هذه درّاجتك الناريّة المركونة عند المدخل؟!
-نعم،هل تعجبك؟!
-تبدو عليها الجِدّة،رغم أنّك لم تُضف إليها شيئاً،الشباب مغرمون بالتزيين والتعديلات!
-لا أجد الوقت لذلك،أنا طالبٌ جاد!
-هل أنت جادٌّ للدرجة الّتي تمنعك من الذهاب في نزهة،في عطلة نهاية الأسبوع؟!
-لا،ليس لهذه الدرجة!
-لاحظت أنّ دراجتك لا تغيّر مكانها هناك،حتّى خلال العطل!أم أنّ لديك درّاجة أخرى تخفيها في مكانٍ ما؟!
ابتسمت لدعابتها،ثُمّ قلت:
-لم كل هذا الدوران حول الشجيرة،أطلقي نار بندقيّتكِ على الهدف،إذا كنت متلهّفة على الذهاب في نزهة،فسأصطحبك!
-حقّاً؟!لم أتوقّع أنّك ستوافق بهذه السهولة،لقد أعطيتني انطباعاً أنّك من قوارض الكتب!
-استأذني من جدّيكِ إذن!
-لقد استأذنتُ بالفعل!
أردفتها خلفي،وانطلقنا في طريقٍ طويل باتّجاهٍ واحد،صعوداً نحو التلال،وتوقّفنا في كل استراحة،أنا للقهوة،وهي للآيس كريم"البوظة"!
كانت رحلة ممتعة وبريئة،وترجّلنا لتناول وجبة تحت شجرة صنوبر ضخمة،على جانب الطريق!
كان كُلُّ شيءٍ ممتعاً،والحديث استكشاف ومغامرة،فبالنسبة لطالبة ثانوي،فالطالب الجامعي موضع إكبار وقداسة،وللتجربة مهابتها،فالجامعة هي العالم المفتوح،عالم الحرّية،والمدرسة هي العالم المحروس،عالم الرقابة والقيود الصارمة،حتّى بالمقياس الإنجليزي الّذي لا زال سائداً هنا،حتّى أنّ مديرة إحدى المدارس صرّحت لي في تباهٍ:نحن لا نسمح هنا بتجاوز حدّ القُبل بين الذكور والإناث!مدرستنا محافظة جدّاً،ولهذا يُقبل علينا الآباء،وإذن فالكسْب هو الهدف النّهائي،والعفّة هي الطُّعم!
شبعنا هواءً وطعاماً وشراباً،وكلاماً أيضاً،حتّى أنّ الفتاة استغرقت في الصمت،وهي تعقد ذراعيها حول خصري،وتسند رأسها إلى ظهري،لتكون في مأمن إذا ما غلبها النّعاس فجأة ونحن ننحدر إلى أسفل التلال في طريق عودتنا.
يبدو أنّ منظرنا هكذا لم يُعجب أحد سوّاقي الشاحنات،فبدأ بالإنحراف أمامنا على حين غرّة،ومن ثمّ الإنطلاق وقذف زجاجات البيرة أمامنا،بعد أن يفرغها في جوفه!حاولت تجنّبه بكل ما أملك من براعة،حتّى أصل إلى مشارف المدينة على الأقل،حيث يمكن أن تعترضه الشرطة!ولكنّه توقّف أمامي بشكلٍّ مفاجيء،ممّا جعلني أشكّ في نواياه،فتوقّفت بدوري،أوقفت الدراجة على ساق الإسناد،طلبتُ إلى الفتاة أن تبقى مكانها،وسحبت عتلة كنت أحتفظ بها للمواقف الحرجة،وجريت نحوه،ولدهشتي فقد تلقّاني رافع اليدين،وقال إنّ شاحنته تعطّلت فجأة،ولمّا صرخت في وجهه بغضب:لماذا
كان يعاكسنا ويلقي الزجاجات في طريقنا،قال إنّه لم يفعل ذلك ،وإنّما الرجل الّذي كان يجلس إلى جانبه،والّذي التقطه عن الطريق بدافع الشفقة،ولمّا سألته :أين ذلك الرجل؟!ردّ عليّ باستغراب:الم تر كيف ترجّل وهرب؟!لا بدّ انّك لم تنتبه!
في تلك الأثناء كان عدد من سوّاقي الشاحنات،قد توقّفوا لاستطلاع الأمر،أو لنجدة زميلهم،كما يقضي العرف بين السوّاقين على الطرق الخارجيّة،اختلست نظرة بطرف عيني،إلى حيثُ كانت تقف الفتاة،وحمدت الله أنّ أحداً منهم لم يُعر وجودها أي انتباه،فخفّ رٌعبي قليلاً،وكنت على وشك أن أحييهم وأنسلّ قافلاً بهدوء،لولا أنّ ابن الحرام جأر فجأة رافعاً عقيرته،وهويشير إلى حيث تقف الفتاة:هذه هي الفتاة الّتي كان يضاجعها،دون حياءٍ أوخجل،طوال الطريق،لقد أهان تقاليدنا!هَمْهمَ الجميع بصوت واحد ساخرين وضاحكين،إلى أن أسكتهم
من تقمّص دور الزعامة بإشارة من يده،ثُمّ وجّه سؤاله إلى السائق:وكيف كان يضاجعها؟!
-لقد كانت تجلس خلفه على الدرّاجة،وهي تحتضنه بذراعيها!
-وهل هذا هو وضع المضاجعة حسب علمك الّذي درسته؟!
انفجر الجميع ضاحكين،بينما تقدّم الزعيم نحو السائق مستنشقاً،ثُمّ أردف:
-يبدو أنّ البيرة قد أخذت مأخذها منك،وعلى أيّة حال،فحسب ما رأيته من حجم دماغك،فإنّ قدحاً واحداً كفيلٌ بتبخيره!وقهقه الجميع مرّة أخرى!
شعر الرجل بالإهانة،واحمرّت عيناه حتّى تحبّبتا فجأة،انحنى ليلتقط زجاجة بيرة فارغة،وقال وهو يتقدّم نحوي:
-سأنتقم من هذا النذل،إنّه هوالسبب في تعريضي للسخرية!
أوقفه الزعيم براحة يده:
-لا ،ليس هو،قلّة عقلك هي السبب،أمّا إذا كنت مصرّاً على التحدّي،فألق زجاجةالبيرة،وبارزه رجلاً لرجل!
ألقى زجاجة البيرة وأسرع نحوي بكل قوّته،تراجعتُ قليلاً فتعثّروكاد أن يسقط على وجهه،ضحك الرجال،بينما صرخ في وجوههم: محتجّاً ثُمّ جأر:
-ها هو يهرب الجبان! هل رأيتم ذلك؟!
تقدّمتُ ولكمته في معدته قبل أن يتماسك!
-غادر وجبان!
ألقى بجسده علي ليمنعني من استخدام اللكمات،حاولت أن أفقده توازنه وأسقطه أرضاً،ولكنّي تراجعت عن الفكرة حتّى لا أبالغ في إهانته فيجنّ جنونه،ويقدمُ على شيءٍ ليس في الحسبان!
لاحظ الزعيم ذلك،فتقدّم ليفصلنا واضعاً ذراعه بيننا قائلاً:
-هذا يكفي! انتهت الجولة!لا خاسر ولا رابح!خذ فتاتك واذهب يا بني!
كنت أشغّل درّاجتي بينما انهمك الزعيم في تقريع السائق،وسمعته يقول:
ما الّذي يضيرك لوقفز انجليزي فوق انجليزيّة،إنّها ليست أمّك على أيّةحال،إنّهم يأتون هنا للمتعة،أنت عارٌ على السياحة بالفعل،سوف أشكوك إلى رأس الدولة!إنّك تعطّل سياساتنا الخارجيّة!
كان الرجال يقهقهون في مرح،حين مرقت كالسهم من جانبهم!
لم تقل فتاتي شيئاً،إلى أن شعرت بالأمان ونحن ننسربُ في زحام المدينة،هتفت:
-يا بطلي!أنتظر حتّى تنال مكافأتك،سيكون ذلك في الغرفة بعيداً عن أعين السوّاقين!
أجبتها في مرح:
-أعرف تعليمات مدرستكم،لقد باحت لي المديرة بالسر!ومع ذلك فالقبلة شيٌ جيّد من فمك الجميل!
-آه أيّها الماكر،إنّك تتلاعب بي،لم يكن هذا ما أفكّر به!
-حسناً هذا ما تقوله الفتيات الصغيرات،لا أظنّ أنّك تفكّرين بإهدائي طقم أسنان جدّتك العجوز كمكافأة لي على بطولتي!
لم نتوقّف عن الضحك،وتقاذف كرة الحديث،فرحاً بنجاتنا رُبّما من موقف،لا نتردّد في الإقرار،بأنّه كان خطراً بالفعل،حين نلتفت إلى الخلف لنلمحه من فوق أكتافنا!
نزار حسين راشد