أنا مصنوع من طين مصر ومعجون من عرق العمال الفلاحين
حكى لي والدي منذ ما يقرب من عقدين من الزمان عن طبيب كان يعالج بسيطي الحال بالمجان و يشتري لهم العلاج من ماله. ثم حكى لي خالي بعد عدة سنوات عن طبيب أنقذ حياة جدي من مرض عضال و كيف كان هذا الطبيب يعالج الفقراء بالمجان. بعد عدة سنوات اكتشفت أن الطبيب الأول كان نجل الثاني. حاولت اقتفاء آثار حياة الدكتور وديع حداد ونجله الدكتور فريد فلم أجد فيما نشر الا النذر البسيط مقارنة بالدور الإنساني الرائع الذي لعبه الطبيبان في رعاية وعلاج الفقراء. أخذتني مهمة البحث عن تفاصيل حياة الطبيبين في رحلة عبر القارات على متن أجنحة شبكة الإنترنت، رحلة أخذتني من مصر إلى كندا ، مرورا باستراليا والأردن. كانت بداية الخيط عند هوالمهندس جوني يوسف مزهر-الفلسطيني المصري المقيم في كندا- و الذي ارتبطت أسرته بأواصر الصداقة و الجيرة مع أسرة الدكتور فريد حداد بمصر الجديدة في خمسينيات القرن المنصرم. من فرط حماسة جوني مزهر لتوثيق حياة الدكتور فريد حداد، قاد سيارته مسافة الف كيلومتر في اوج سقيع و ثلوج شهر يناير ليتحاور مع الأستاذ رجا كامل حداد (ابن عم الدكتور فريد حداد) ليمدني بمعظم تفاصيل حياة الطبيبين وديع وفريد حداد والتي أوردتها في هذا المقال. قادني بحثي هذا ايضا لنجلي الدكتور فريد حداد، الدكتور وديع حداد و الاستاذ سامي حداد المقيمين في استراليا منذ ستينيات القرن الماضي و حصلت منهما علي معلومات قيمة عن والدهما كما حصلت منهما علي الصورة المصاحبة لهذا المقال.
اعتمدت في توثيقي لتفاصيل مصرع الدكتور فريد حداد علي ما نشر في الكتب و المقالات المعنية. اما عن تفاصيل حياته و حيث ان هذه المصادر لم تتناولها الا بالنذر البسيط ، فقد اعتمدت كلية علي ما اجتره افراد اسرته و اصدقاؤه من ذاكراتهم لاحداث مرت عليها عقود كثيره ، فنسوا ما نسوه و اختلط عليهم ما اختلط!
اشد ما ندمت عليه هو انني لم اقم ببحثي هذا عندما سمعت لأول مرة عن الطبيبين النبيلين وديع حداد و فريد حداد منذ عقدين من الزمان او يزيد. لو فعلت لتحصلت علي معلومات أوفر و أدق و لوثقت حياتهما بطريقة افضل بدلا من الاعتماد علي ذاكرات هشة لاحداث مر عليها ستة عقود من الزمان!
مولد فريد حداد وأسرته
ولد فريد وديع حداد في القاهرة سنه 1922 لأسره مصرية إنجيلية ميسورة الحال ترجع أصولها الي بلدة عبية بلبنان. انتقل جدوده من لبنان إلى القدس و منها إلى مصر في زمن الحرب العالمية الأولى (1918- 1914). والده الدكتور وديع ابراهيم حداد (1948- 1886) ووالدته السيدة السويدية هلفريد Helfrid.
نشأ فريد وسط أسرة محبة لعمل الخير فتشرب منذ حداثته حب الفقراء و الحرص على رعاية المعوزين. كان والده الطبيب النابه الشهيرالدكتور وديع حداد يباشر مرضاه الفقراء بالمجان في عيادته الكائنة في نفس الشقة التي قطن بها مع أسرته في شارع شبرا. و كان من المناظر اليومية المألوفة اكتظاظ عيادة الدكتور وديع حداد بالعشرات من المرضى الفقراء ينتظرون الكشف بالمجان (وأتخيل الحصول علي الدواء بالمجان أيضا). و كانت زوجة الدكتور وديع السويدية هلفرد تساعده في تنظيم العمل بالعيادة. يذكر الدكتور إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” ان الدكتور وديع كان يباشر مرضاه الفقراء بالمجان او بأتعاب زهيدة بمستشفى خيري بمصر القديمة اسمه Church Missionary Society Hospital.
كان للدكتور وديع شقيقا صيدلانيا اسمه كامل حداد (1961-1889). و قد سار الدكتور كامل على نفس المنهج الإنساني النبيل، فأنشأ صيدلية أسماها “وايت ستار” علي الرصيف المقابل لعيادة الدكتور وديع بشارع شبرا، و كان يصرف العلاج بالمجان لكل الفقراء و المحتاجين. على عكس الدكتور فريد حداد ، لم يكن لأي من الدكتور وديع حداد او السيدة هلفريد او الدكتور كامل حداد اي انتماءات سياسية او ايديولوجية ولم يحتكوا من قريب أو من بعيد بالسلطات ( ولا هي احتكت بهم)، بل كانت دوافعهم في اهتمامهم بالفقراء هي مزيج من إنسانية فطرية نبيلة صقلها إيمان مسيحي راسخ يحث على عمل الخيروالاهتمام بالضعفاء والمعوزين.
على أن صيت الدكتور وديع حداد (والذي اشتهر في الأوساط الطبية باسم الدكتور باز حداد) لم يقتصر علي بسطاء الحال، بل ذاع أيضا في أوساط الطبقتين المتوسطة والميسورة، فأقبلوا علي عيادته يطلبون العلاج، واختلط الفقراء والأثرياء جنبا الي جنب في عيادته بشبرا في ملحمة انسانية رائعة.
حكى لي خالي كيف استدعت جدتي لأمي الدكتور وديع حداد في بداية أربعينات القرن المنصرم لعلاج جدي من مرض التيفود (وكان هذا من الأمراض المميتة في ذلك الزمان)، بعد أن فشل مشاهير الأطباء في علاجه فأضحى على شفا موت محقق. المهم أن الدكتور وديع قرع باب الشقة ففتحت له جدتي غير عالمة أن الذي يقف أمامها هو الطبيب الشهيرذاته. فلما وجدت أمامها رجلا غير منسق الهندام يحمل في يده حقيبة متهالكة ظنته أحد الباعة الجائلين فاعتذرت له بلطف وأغلقت الباب. فما لبث أن قرع الجرس مرة أخرى فلما فتحت مرة ثانية عرفها بنفسه فأدخلته ليناظر جدي المريض. أتخيل انه لاحظ النظرات التي كانت ترمقه بها نتيجه لتواضع مظهره، فبعدما فرغ من مناظرة جدي ومن كتابة الروشتة، ، فاجأها بقوله أنه يدرك تماما انها لا تثق فيه نتيجة لمظهره غير المهندم ثم أضاف محذرا اياها إن لم تعط جدي العلاج الموصوف، فإنه ميت لا محالة بعد أيام معدودة، فما لبثت ان أعطت جدي العلاج فشفي و استرد عافيته بعد عدة أيام.
نشأة الدكتور فريد حداد
تلقى فريد حداد تعليمه بمدرسة English Mission College بمصر الجديدة والتحق بعدها بكلية طب قصر العيني حيث تخرج سنة 1948، وهي نفس سنة وفاة والده الدكتور وديع حداد، و كان ترتيبه الحادي عشر او الثاني عشر علي دفعته. يبدو أن سنوات دراسة الطب قد شهدت نشاطا سياسيا مكثفا لفت أنظار السلطات إليه مما أدى إلي اعتقاله بتهمة الشيوعية في نفس سنة تخرجه ثم مالبث ان اطلق سراحه بعد فترة لعدم كفاية الأدلة. بينما يؤكد ادوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” ان سبب اعتقال الدكتور فريد كان نشاطه الشيوعي، يرجح نجل الدكتور فريد ان والده تم اعتقاله من قبل السلطات اثر مشاركته في مظاهرة لطلبة الجامعة. تزوج فريد حداد من سيده فلسطينية المولد اسمها إيدا كيري سنه 1947 وأنجبا ثلاثة أبناء: وديع وسامي ومنى (جميعهم يعيشون باستراليا). على عكس زوجها، لم يعرف عن السيدة إيدا أي انتماءات سياسية أو أيديولوجية.
عمل الدكتور فريد عقب تخرجه في نفس عيادة والده بشارع شبرا مستكملا رسالة والده الإنسانية في علاج الفقراء بالمجان. كما أسس عيادة أخرى لعلاج أبناء الطبقة المتوسطة داخل مسكنه بشارع الشيخ عبد الوهاب النجار بمصر الجديدة. ثم مالبث أن نقل عيادة مصر الجديدة من مسكنه إلي شقة أخرى بنفس الشارع. عمل الدكتور فريد أيضا كطبيب لطلبة مدرسته English Mission College و يذكر الدكتور إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” ان فريدا كان يباشر الفقراء من مرضاه بمستشفىChurch Missionary Society Hospital بمصر القديمة، ومثل والده مستكملا بذلك رسالة أسرته الإنسانية في رعاية الفقراء و المعوزين. يتذكر معاصرو الدكتور فريد وده و بشاشته و إنسانيته في تعامله مع مرضاه بالإضافة إلى مهارته في التشخيص والعلاج. و قد ذكر لي أحد خريجي المدرسة انه في يوم دراسي تبادر الي سمعه ان سيارة الدكتور فريد معطلة لوجود مشكلة في اطاراتها، فأسرع هو و زميل آخر و أخذوا منه مفتاح السيارة و أصلحوا العيب عند الميكانيكي ثم ما لبثوا ان أعادوا السيارة الي منزله بمصر الجديدة. و قد ذكر لي هذا الخريج أنه وإن لم يدخل شقه الدكتور فريد (حيث أنه سلمه المفتاح من على باب الشقه)، الا إنه راعه افتقار مدخل الشقة إلى الأثاث. على الرغم من بساطة هذه الواقعة الا انها تعكس مدى حب التلاميذ لطبيبهم، فمن منا يتطوع لإصلاح سيارة طبيبه إن لم يجد منه إلا كل التفاني و المودة وحسن المعاملة؟ وقد ذكر لي خريج آخر للمدرسة ذاتها انه “كانت من دواعي سرور” أي طالب أن يحتاج الي الكشف عند الدكتور فريد حداد.
يذكر الدكتور إدوارد سعيد أيضا في كتابه أن فريدا كان ودودا بشوشا وفي الوقت ذاته كتوما و مقترا في الحديث عن نشاطاته السياسية. كما ذكر لي واحدا من خريجي المدرسة ان فريدا كان يميل الي الانطوائية وأن ملامح وجهه كانت تعكس علي الدوام حزنا دفينا. أتساءل ان كانت هذه الصفات تعكس شخصية انطوائية أم انها تعكس طبيعية عمله السياسي السري والمناخ السياسي في الخمسينيات من القرن الماضي. يذكر إدوارد سعيد أيضا الضغوط النفسية التي تعرض لها الدكتور فريد حداد عام 1958، وهو العام الذي سبق مقتله، من جانب أسرته للتخلي عن عمله السياسي لما استشعروه من مخاطر داهمة علي حياته، في وقت كان حزبه (الحزب الشيوعي المصري) يحثه علي بذل المزيد من الجهد في سبيل الحزب مهما كانت العواقب الشخصية.
يتذكر نجله الأكبر الدكتور وديع فريد حداد كيف كان الدكتور فريد يصطحب أولاده الثلاثة الي “الريف” و كيف كان سكان القرى يخرجون لاستقبال والدهم و الترحيب به و كيف كان الأبناء الثلاثه يقضون اليوم في مسجد القرية هربا من حرارة الجو. لا يتذكر الدكتور وديع طبيعة العمل الذي كان الدكتور فريد يؤديه في هذه القرى، الا انه يرجح انه إما كان يقوم بعلاج الفلاحين من مرض البلهارسيا أو انه كان يشارك في ندوات توعية للفلاحين. حفاوة استقبال الفلاحين للدكتور فريد تؤكد انه كان يؤدي عملا جليلا يمس حياتهم و الا لما خرجوا لاستقباله. كما ان هذه الزيارات التطوعية تتفق تماما مع شخصية الدكتور فريد حداد و انشغاله بتحسين حياة الفقراء و المعوزين.
دوافعه في الاهتمام بالفقراء
مما لاشك فيه هو انتماء الدكتور فريد حداد للحزب الشيوعي المصري. يذكر الدكتور ادوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” أن فريدا كان عضوا في “مجموعة العمال والفلاحين” التابعة للحزب الشيوعي. لم أتبين من خلال بحثي هذا مدى نشاط فريد حداد أو مدى انخراطه في العمل السياسي، إلا إنه تبقى حقيقة إنه قد تم القبض عليه بتهمة النشاط الشيوعي مرتين علي الأقل في خلال سنين حياته القصيرة: مرة في العهد الملكي سنة 1948 و المرة التي لقي مصرعه فيها عام 1959.
كان الدكتور فريد حداد مسيحيا متدينا، و قد ذكر لي نجله الأوسط سامي أن فريدا كان يصطحب أسرته بانتظام للكنيسه. في تقديري أن دوافع فريد للاهتمام بالفقراء وعلاجهم بالمجان كانت مزيجا من إنسانيه فطرية نبيلة تشربها من أسرة كان لها باع كبير من العمل الخيري بالإضافه إلى ايمان مسيحي عميق وإلى أيديولوجية شيوعية تنادي بقيم المساواة و التكافل و العدالة الاجتماعية.
إعتقاله و مقتله
ألقت السلطات القبض علي الدكتور فريد حداد في احدى ليال اكتوبر سنة 1959 ويتذكر نجله الأكبر الدكتور وديع فريد حداد “زوار الفجر” الذين قرعوا باب المنزل في الساعة الثانية صباحا ولما فتح لهم الدكتور فريد الباب، القوا القبض عليه و اقتادوه للمعتقل بملابس النوم فكانت هذه آخر مرة يرى فيها والده حيا. يتذكر أيضا نجل الدكتور فريد كيف هرعت والدته في الحال الي اقسام الشرطه المختلفة بحثا عن زوجها فلم تجده ولم تتوصل لأي معلومات عن مكان احتجازه. يتذكر نجل الدكتور فريد ايضا كيف رن تليفون المنزل بعد بضعة ساعات و كان المتصل هو الدكتور فريد يريد التحدث لزوجته الا انها لم تكن عادت للمنزل من جولتها بين اقسام الشرطه. أما آخر ذكريات النجل عن والده، فكانت رسالة وصلتهم من الدكتور فريد بعد ما يقرب من الشهر من اعتقاله، و فيها كان يخبرهم بمدى حبه لهم ويعتذرلهم عما سببه لهم من حزن و ألم نتيجه لاعتقاله. أخيرا يتذكر النجل كيف اكتظ منزلهم بالمعزين وقد توافدوا بأعداد كبيرة بعد وفاة الدكتور فريد لتعزية الأسرة الملكومة، غير عابئين بما قد يجره عليهم هذا من مضايقات من قبل سلطات كانت بلا شك تراقب الوافدين الي منزل من اعتبروه عدوا للوطن والشعب .
:اليكم ما كتبه الأديب نجيب سرور (بتصرف) عن وقائع إعتقال و مقتل الدكتور فريد حداد
“في الواقع كان يوما حافلا بالعمل قضاه الطبيب فريد حداد بين عيادته في مصر الجديدة وعيادته في شبرا. لم تكن مهنة الطب بالنسبة إليه تجارة كما هي بالنسبة لكثيرين، في ذلك اليوم كشف علي كثير من العمال والفقراء واللاجئين الفلسطينيين” مجانا، وصرف لبعضهم من جيبه- كالعادة- ثمن الدواء.
كان يؤمن في أعماقه بأن العلاج حق للجميع يجب أن تكفله الدول. كان يعرف أن في العالم دولا تكفل لمواطنيها العلاج المجاني، وكان يناضل في صمت من أجل أن تكون في مصر تلك الدولة...دولة العمال و الفلاحين…اجل كان عضوا في الحزب الشيوعي المصري.
وخرج ذلك المساء من عيادته مجهدا، لكنه كان راضيا، رضى الإنسان حين يشعر بأنه يفعل في يومه شيئا، وأنه غدا سيفعل شيئا أكثر وبعد غد شيئا أفضل.
وفي الطريق كان يفكر في زوجته إيدا وفي أكباده الثلاثة ولابد أنه تبسم لنادرة من نوادر وديع إبنه الأكبر الذي لم يتجاوز العاشرة أو سامي الذي لم يتجاوز السابعة أو منى الصغيرة الزهرة التي تتفتح على السنة الخامسة من عمرها.
فما أجمل أن يعود الإنسان إلي أسرته وعرق العمل لم يجف علي جبهته. إن بسمة الأطفال تمسح قطرات العرق وتذهب التعب وتجدد في النفس القدرة على العمل.
في تلك الليلة الباردة من ليالي نوفمبر، وقبل أن يدخل فريد حداد منزله انفتحت العربة المقفلة المتربصة علي الناصية، وانقض الزبانية عليه ونقلوه إلي معتقل القلعة، وهناك بدأت شعائر الاستجواب والتعذيب ثم نقل إلى ليمان أبي زعبل حيث جرد فريد و غيره من المعتقلين من ملابسهم تماما، وانهال الضرب بالهراوات علي كل مكان في أجسامهم، علي الرءوس والرقاب والصدور ثم طلب من فريد أن يهتف بسقوط الشيوعية فرفض. وسأله جلاده:
– انت شيوعي يا ولد؟
– انا مصري و أؤمن بالاشتراكية.
– يعني شيوعي مصنوع في روسيا؟
فضحك فريد بسخرية قبل أن يقول: أنا مصنوع من طين مصر و معجون من عرق العمال و الفلاحين.
فانهالوا عليه بالعصى و دبشك البنادق حتى فارق الحياة من جراء تهشيم جمجمته وألقوا بجثته العارية في فناء الليمان لساعات طويلة. ثم حرر الطبيب شهادة طبية مزيفة، قرر فيها أن فريد حداد مات بالسكتة القلبية ووضعت الجثة المشوهة من جراء التعذيب في نعش، وختم عليها بالشمع الأحمر، وسلمت إلي زوجته في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل مع أمر بدفن الجثة علي الفور.
وطلب أهله تشريح للجثة، لكن السلطات رفضت طلبهم بحجة أن “شهادة الوفاة أكدت انعدام الشبهات الجنائية وأن الوفاة نتجت عن سكتة قلبية”.
بينما يذكر نجيب سرور ان فريدا اعتقل و لقي مصرعه يوم 29 نوفمبر 1959، يؤكد نجل الدكتور فريد ان أباه اعتقل في اكتوبر 1959و لقي حتفه بعدها بشهر.
و قامت السلطات بوضع حراسة علي مقبرة الدكتور فريد لعدة أيام بعد دفنه (و في رواية أخرى عدة أسابيع) حتى لا يتسنى لأفراد أسرته معاينة الجثة ومشاهدة ما بها من آثار تعذيب وحشي. وخرجت صفحة وفيات جريدة الأهرام صباح30 نوفمبر 1959بالنعي التالي:
و كان لمصرع الدكتور فريد حداد في المعتقل صدا عالميا، فقد نشرت مجلة Esprit الفرنسية في عددها الصادر في شهر يوليو 1961 مقالا علي امتداد سبع صفحات عنوانه “القمع في الجمهورية العربية المتحدة” تناولت فيه تفاصيل تعذيب و قتل الدكتور فريد حداد.
و قد نعاه قريبه الشاعرالكبير فؤاد حداد بقصيدة حزينة اسمها “الشاي في ايد الشهيد”، هذه بعض أبياتها:
كما نعاه الأديب نجيب سرور بالأبيات التالية:
هذه السطور القصيرة كانت محاولة لتوثيق حياة طبيبين لعبا دورا عظيما في رعاية المرضى الفقراء. لم تلق جهود الطبيبين وديع حداد و فريد حداد التقديراللائق لا في حياتهما ولا بعد مماتهما (ولا هما سعيا وراء شئ من هذا القبيل). راعني و آلمني جدا سقوطهما من ذاكره تاريخ الوطن ومن ذاكرة تاريخ الطب المصري، علي الرغم من عطاء متجرد و بلا حدود للمرضى الفقراء. عطاء بدأه الدكتور وديع حداد منذ زمن الحرب العالميه الأولى و حتي وفاته سنة 1948. عطاء استكمله الدكتور فريد حداد منذ تخرجه سنة 1948 حتى مصرعه سنة 1959.
يؤلمني أن عطاء باذل كهذا على امتداد ما يزيد على نصف قرن لا يوجد له ذكر في كتاب ولا في ذاكرة!
د. يوسف سميكه -استشاري أمراض النسا و التوليد
حكى لي والدي منذ ما يقرب من عقدين من الزمان عن طبيب كان يعالج بسيطي الحال بالمجان و يشتري لهم العلاج من ماله. ثم حكى لي خالي بعد عدة سنوات عن طبيب أنقذ حياة جدي من مرض عضال و كيف كان هذا الطبيب يعالج الفقراء بالمجان. بعد عدة سنوات اكتشفت أن الطبيب الأول كان نجل الثاني. حاولت اقتفاء آثار حياة الدكتور وديع حداد ونجله الدكتور فريد فلم أجد فيما نشر الا النذر البسيط مقارنة بالدور الإنساني الرائع الذي لعبه الطبيبان في رعاية وعلاج الفقراء. أخذتني مهمة البحث عن تفاصيل حياة الطبيبين في رحلة عبر القارات على متن أجنحة شبكة الإنترنت، رحلة أخذتني من مصر إلى كندا ، مرورا باستراليا والأردن. كانت بداية الخيط عند هوالمهندس جوني يوسف مزهر-الفلسطيني المصري المقيم في كندا- و الذي ارتبطت أسرته بأواصر الصداقة و الجيرة مع أسرة الدكتور فريد حداد بمصر الجديدة في خمسينيات القرن المنصرم. من فرط حماسة جوني مزهر لتوثيق حياة الدكتور فريد حداد، قاد سيارته مسافة الف كيلومتر في اوج سقيع و ثلوج شهر يناير ليتحاور مع الأستاذ رجا كامل حداد (ابن عم الدكتور فريد حداد) ليمدني بمعظم تفاصيل حياة الطبيبين وديع وفريد حداد والتي أوردتها في هذا المقال. قادني بحثي هذا ايضا لنجلي الدكتور فريد حداد، الدكتور وديع حداد و الاستاذ سامي حداد المقيمين في استراليا منذ ستينيات القرن الماضي و حصلت منهما علي معلومات قيمة عن والدهما كما حصلت منهما علي الصورة المصاحبة لهذا المقال.
اعتمدت في توثيقي لتفاصيل مصرع الدكتور فريد حداد علي ما نشر في الكتب و المقالات المعنية. اما عن تفاصيل حياته و حيث ان هذه المصادر لم تتناولها الا بالنذر البسيط ، فقد اعتمدت كلية علي ما اجتره افراد اسرته و اصدقاؤه من ذاكراتهم لاحداث مرت عليها عقود كثيره ، فنسوا ما نسوه و اختلط عليهم ما اختلط!
اشد ما ندمت عليه هو انني لم اقم ببحثي هذا عندما سمعت لأول مرة عن الطبيبين النبيلين وديع حداد و فريد حداد منذ عقدين من الزمان او يزيد. لو فعلت لتحصلت علي معلومات أوفر و أدق و لوثقت حياتهما بطريقة افضل بدلا من الاعتماد علي ذاكرات هشة لاحداث مر عليها ستة عقود من الزمان!
مولد فريد حداد وأسرته
ولد فريد وديع حداد في القاهرة سنه 1922 لأسره مصرية إنجيلية ميسورة الحال ترجع أصولها الي بلدة عبية بلبنان. انتقل جدوده من لبنان إلى القدس و منها إلى مصر في زمن الحرب العالمية الأولى (1918- 1914). والده الدكتور وديع ابراهيم حداد (1948- 1886) ووالدته السيدة السويدية هلفريد Helfrid.
نشأ فريد وسط أسرة محبة لعمل الخير فتشرب منذ حداثته حب الفقراء و الحرص على رعاية المعوزين. كان والده الطبيب النابه الشهيرالدكتور وديع حداد يباشر مرضاه الفقراء بالمجان في عيادته الكائنة في نفس الشقة التي قطن بها مع أسرته في شارع شبرا. و كان من المناظر اليومية المألوفة اكتظاظ عيادة الدكتور وديع حداد بالعشرات من المرضى الفقراء ينتظرون الكشف بالمجان (وأتخيل الحصول علي الدواء بالمجان أيضا). و كانت زوجة الدكتور وديع السويدية هلفرد تساعده في تنظيم العمل بالعيادة. يذكر الدكتور إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” ان الدكتور وديع كان يباشر مرضاه الفقراء بالمجان او بأتعاب زهيدة بمستشفى خيري بمصر القديمة اسمه Church Missionary Society Hospital.
كان للدكتور وديع شقيقا صيدلانيا اسمه كامل حداد (1961-1889). و قد سار الدكتور كامل على نفس المنهج الإنساني النبيل، فأنشأ صيدلية أسماها “وايت ستار” علي الرصيف المقابل لعيادة الدكتور وديع بشارع شبرا، و كان يصرف العلاج بالمجان لكل الفقراء و المحتاجين. على عكس الدكتور فريد حداد ، لم يكن لأي من الدكتور وديع حداد او السيدة هلفريد او الدكتور كامل حداد اي انتماءات سياسية او ايديولوجية ولم يحتكوا من قريب أو من بعيد بالسلطات ( ولا هي احتكت بهم)، بل كانت دوافعهم في اهتمامهم بالفقراء هي مزيج من إنسانية فطرية نبيلة صقلها إيمان مسيحي راسخ يحث على عمل الخيروالاهتمام بالضعفاء والمعوزين.
على أن صيت الدكتور وديع حداد (والذي اشتهر في الأوساط الطبية باسم الدكتور باز حداد) لم يقتصر علي بسطاء الحال، بل ذاع أيضا في أوساط الطبقتين المتوسطة والميسورة، فأقبلوا علي عيادته يطلبون العلاج، واختلط الفقراء والأثرياء جنبا الي جنب في عيادته بشبرا في ملحمة انسانية رائعة.
حكى لي خالي كيف استدعت جدتي لأمي الدكتور وديع حداد في بداية أربعينات القرن المنصرم لعلاج جدي من مرض التيفود (وكان هذا من الأمراض المميتة في ذلك الزمان)، بعد أن فشل مشاهير الأطباء في علاجه فأضحى على شفا موت محقق. المهم أن الدكتور وديع قرع باب الشقة ففتحت له جدتي غير عالمة أن الذي يقف أمامها هو الطبيب الشهيرذاته. فلما وجدت أمامها رجلا غير منسق الهندام يحمل في يده حقيبة متهالكة ظنته أحد الباعة الجائلين فاعتذرت له بلطف وأغلقت الباب. فما لبث أن قرع الجرس مرة أخرى فلما فتحت مرة ثانية عرفها بنفسه فأدخلته ليناظر جدي المريض. أتخيل انه لاحظ النظرات التي كانت ترمقه بها نتيجه لتواضع مظهره، فبعدما فرغ من مناظرة جدي ومن كتابة الروشتة، ، فاجأها بقوله أنه يدرك تماما انها لا تثق فيه نتيجة لمظهره غير المهندم ثم أضاف محذرا اياها إن لم تعط جدي العلاج الموصوف، فإنه ميت لا محالة بعد أيام معدودة، فما لبثت ان أعطت جدي العلاج فشفي و استرد عافيته بعد عدة أيام.
نشأة الدكتور فريد حداد
تلقى فريد حداد تعليمه بمدرسة English Mission College بمصر الجديدة والتحق بعدها بكلية طب قصر العيني حيث تخرج سنة 1948، وهي نفس سنة وفاة والده الدكتور وديع حداد، و كان ترتيبه الحادي عشر او الثاني عشر علي دفعته. يبدو أن سنوات دراسة الطب قد شهدت نشاطا سياسيا مكثفا لفت أنظار السلطات إليه مما أدى إلي اعتقاله بتهمة الشيوعية في نفس سنة تخرجه ثم مالبث ان اطلق سراحه بعد فترة لعدم كفاية الأدلة. بينما يؤكد ادوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” ان سبب اعتقال الدكتور فريد كان نشاطه الشيوعي، يرجح نجل الدكتور فريد ان والده تم اعتقاله من قبل السلطات اثر مشاركته في مظاهرة لطلبة الجامعة. تزوج فريد حداد من سيده فلسطينية المولد اسمها إيدا كيري سنه 1947 وأنجبا ثلاثة أبناء: وديع وسامي ومنى (جميعهم يعيشون باستراليا). على عكس زوجها، لم يعرف عن السيدة إيدا أي انتماءات سياسية أو أيديولوجية.
عمل الدكتور فريد عقب تخرجه في نفس عيادة والده بشارع شبرا مستكملا رسالة والده الإنسانية في علاج الفقراء بالمجان. كما أسس عيادة أخرى لعلاج أبناء الطبقة المتوسطة داخل مسكنه بشارع الشيخ عبد الوهاب النجار بمصر الجديدة. ثم مالبث أن نقل عيادة مصر الجديدة من مسكنه إلي شقة أخرى بنفس الشارع. عمل الدكتور فريد أيضا كطبيب لطلبة مدرسته English Mission College و يذكر الدكتور إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” ان فريدا كان يباشر الفقراء من مرضاه بمستشفىChurch Missionary Society Hospital بمصر القديمة، ومثل والده مستكملا بذلك رسالة أسرته الإنسانية في رعاية الفقراء و المعوزين. يتذكر معاصرو الدكتور فريد وده و بشاشته و إنسانيته في تعامله مع مرضاه بالإضافة إلى مهارته في التشخيص والعلاج. و قد ذكر لي أحد خريجي المدرسة انه في يوم دراسي تبادر الي سمعه ان سيارة الدكتور فريد معطلة لوجود مشكلة في اطاراتها، فأسرع هو و زميل آخر و أخذوا منه مفتاح السيارة و أصلحوا العيب عند الميكانيكي ثم ما لبثوا ان أعادوا السيارة الي منزله بمصر الجديدة. و قد ذكر لي هذا الخريج أنه وإن لم يدخل شقه الدكتور فريد (حيث أنه سلمه المفتاح من على باب الشقه)، الا إنه راعه افتقار مدخل الشقة إلى الأثاث. على الرغم من بساطة هذه الواقعة الا انها تعكس مدى حب التلاميذ لطبيبهم، فمن منا يتطوع لإصلاح سيارة طبيبه إن لم يجد منه إلا كل التفاني و المودة وحسن المعاملة؟ وقد ذكر لي خريج آخر للمدرسة ذاتها انه “كانت من دواعي سرور” أي طالب أن يحتاج الي الكشف عند الدكتور فريد حداد.
يذكر الدكتور إدوارد سعيد أيضا في كتابه أن فريدا كان ودودا بشوشا وفي الوقت ذاته كتوما و مقترا في الحديث عن نشاطاته السياسية. كما ذكر لي واحدا من خريجي المدرسة ان فريدا كان يميل الي الانطوائية وأن ملامح وجهه كانت تعكس علي الدوام حزنا دفينا. أتساءل ان كانت هذه الصفات تعكس شخصية انطوائية أم انها تعكس طبيعية عمله السياسي السري والمناخ السياسي في الخمسينيات من القرن الماضي. يذكر إدوارد سعيد أيضا الضغوط النفسية التي تعرض لها الدكتور فريد حداد عام 1958، وهو العام الذي سبق مقتله، من جانب أسرته للتخلي عن عمله السياسي لما استشعروه من مخاطر داهمة علي حياته، في وقت كان حزبه (الحزب الشيوعي المصري) يحثه علي بذل المزيد من الجهد في سبيل الحزب مهما كانت العواقب الشخصية.
يتذكر نجله الأكبر الدكتور وديع فريد حداد كيف كان الدكتور فريد يصطحب أولاده الثلاثة الي “الريف” و كيف كان سكان القرى يخرجون لاستقبال والدهم و الترحيب به و كيف كان الأبناء الثلاثه يقضون اليوم في مسجد القرية هربا من حرارة الجو. لا يتذكر الدكتور وديع طبيعة العمل الذي كان الدكتور فريد يؤديه في هذه القرى، الا انه يرجح انه إما كان يقوم بعلاج الفلاحين من مرض البلهارسيا أو انه كان يشارك في ندوات توعية للفلاحين. حفاوة استقبال الفلاحين للدكتور فريد تؤكد انه كان يؤدي عملا جليلا يمس حياتهم و الا لما خرجوا لاستقباله. كما ان هذه الزيارات التطوعية تتفق تماما مع شخصية الدكتور فريد حداد و انشغاله بتحسين حياة الفقراء و المعوزين.
دوافعه في الاهتمام بالفقراء
مما لاشك فيه هو انتماء الدكتور فريد حداد للحزب الشيوعي المصري. يذكر الدكتور ادوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” أن فريدا كان عضوا في “مجموعة العمال والفلاحين” التابعة للحزب الشيوعي. لم أتبين من خلال بحثي هذا مدى نشاط فريد حداد أو مدى انخراطه في العمل السياسي، إلا إنه تبقى حقيقة إنه قد تم القبض عليه بتهمة النشاط الشيوعي مرتين علي الأقل في خلال سنين حياته القصيرة: مرة في العهد الملكي سنة 1948 و المرة التي لقي مصرعه فيها عام 1959.
كان الدكتور فريد حداد مسيحيا متدينا، و قد ذكر لي نجله الأوسط سامي أن فريدا كان يصطحب أسرته بانتظام للكنيسه. في تقديري أن دوافع فريد للاهتمام بالفقراء وعلاجهم بالمجان كانت مزيجا من إنسانيه فطرية نبيلة تشربها من أسرة كان لها باع كبير من العمل الخيري بالإضافه إلى ايمان مسيحي عميق وإلى أيديولوجية شيوعية تنادي بقيم المساواة و التكافل و العدالة الاجتماعية.
إعتقاله و مقتله
ألقت السلطات القبض علي الدكتور فريد حداد في احدى ليال اكتوبر سنة 1959 ويتذكر نجله الأكبر الدكتور وديع فريد حداد “زوار الفجر” الذين قرعوا باب المنزل في الساعة الثانية صباحا ولما فتح لهم الدكتور فريد الباب، القوا القبض عليه و اقتادوه للمعتقل بملابس النوم فكانت هذه آخر مرة يرى فيها والده حيا. يتذكر أيضا نجل الدكتور فريد كيف هرعت والدته في الحال الي اقسام الشرطه المختلفة بحثا عن زوجها فلم تجده ولم تتوصل لأي معلومات عن مكان احتجازه. يتذكر نجل الدكتور فريد ايضا كيف رن تليفون المنزل بعد بضعة ساعات و كان المتصل هو الدكتور فريد يريد التحدث لزوجته الا انها لم تكن عادت للمنزل من جولتها بين اقسام الشرطه. أما آخر ذكريات النجل عن والده، فكانت رسالة وصلتهم من الدكتور فريد بعد ما يقرب من الشهر من اعتقاله، و فيها كان يخبرهم بمدى حبه لهم ويعتذرلهم عما سببه لهم من حزن و ألم نتيجه لاعتقاله. أخيرا يتذكر النجل كيف اكتظ منزلهم بالمعزين وقد توافدوا بأعداد كبيرة بعد وفاة الدكتور فريد لتعزية الأسرة الملكومة، غير عابئين بما قد يجره عليهم هذا من مضايقات من قبل سلطات كانت بلا شك تراقب الوافدين الي منزل من اعتبروه عدوا للوطن والشعب .
:اليكم ما كتبه الأديب نجيب سرور (بتصرف) عن وقائع إعتقال و مقتل الدكتور فريد حداد
“في الواقع كان يوما حافلا بالعمل قضاه الطبيب فريد حداد بين عيادته في مصر الجديدة وعيادته في شبرا. لم تكن مهنة الطب بالنسبة إليه تجارة كما هي بالنسبة لكثيرين، في ذلك اليوم كشف علي كثير من العمال والفقراء واللاجئين الفلسطينيين” مجانا، وصرف لبعضهم من جيبه- كالعادة- ثمن الدواء.
كان يؤمن في أعماقه بأن العلاج حق للجميع يجب أن تكفله الدول. كان يعرف أن في العالم دولا تكفل لمواطنيها العلاج المجاني، وكان يناضل في صمت من أجل أن تكون في مصر تلك الدولة...دولة العمال و الفلاحين…اجل كان عضوا في الحزب الشيوعي المصري.
وخرج ذلك المساء من عيادته مجهدا، لكنه كان راضيا، رضى الإنسان حين يشعر بأنه يفعل في يومه شيئا، وأنه غدا سيفعل شيئا أكثر وبعد غد شيئا أفضل.
وفي الطريق كان يفكر في زوجته إيدا وفي أكباده الثلاثة ولابد أنه تبسم لنادرة من نوادر وديع إبنه الأكبر الذي لم يتجاوز العاشرة أو سامي الذي لم يتجاوز السابعة أو منى الصغيرة الزهرة التي تتفتح على السنة الخامسة من عمرها.
فما أجمل أن يعود الإنسان إلي أسرته وعرق العمل لم يجف علي جبهته. إن بسمة الأطفال تمسح قطرات العرق وتذهب التعب وتجدد في النفس القدرة على العمل.
في تلك الليلة الباردة من ليالي نوفمبر، وقبل أن يدخل فريد حداد منزله انفتحت العربة المقفلة المتربصة علي الناصية، وانقض الزبانية عليه ونقلوه إلي معتقل القلعة، وهناك بدأت شعائر الاستجواب والتعذيب ثم نقل إلى ليمان أبي زعبل حيث جرد فريد و غيره من المعتقلين من ملابسهم تماما، وانهال الضرب بالهراوات علي كل مكان في أجسامهم، علي الرءوس والرقاب والصدور ثم طلب من فريد أن يهتف بسقوط الشيوعية فرفض. وسأله جلاده:
– انت شيوعي يا ولد؟
– انا مصري و أؤمن بالاشتراكية.
– يعني شيوعي مصنوع في روسيا؟
فضحك فريد بسخرية قبل أن يقول: أنا مصنوع من طين مصر و معجون من عرق العمال و الفلاحين.
فانهالوا عليه بالعصى و دبشك البنادق حتى فارق الحياة من جراء تهشيم جمجمته وألقوا بجثته العارية في فناء الليمان لساعات طويلة. ثم حرر الطبيب شهادة طبية مزيفة، قرر فيها أن فريد حداد مات بالسكتة القلبية ووضعت الجثة المشوهة من جراء التعذيب في نعش، وختم عليها بالشمع الأحمر، وسلمت إلي زوجته في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل مع أمر بدفن الجثة علي الفور.
وطلب أهله تشريح للجثة، لكن السلطات رفضت طلبهم بحجة أن “شهادة الوفاة أكدت انعدام الشبهات الجنائية وأن الوفاة نتجت عن سكتة قلبية”.
بينما يذكر نجيب سرور ان فريدا اعتقل و لقي مصرعه يوم 29 نوفمبر 1959، يؤكد نجل الدكتور فريد ان أباه اعتقل في اكتوبر 1959و لقي حتفه بعدها بشهر.
و قامت السلطات بوضع حراسة علي مقبرة الدكتور فريد لعدة أيام بعد دفنه (و في رواية أخرى عدة أسابيع) حتى لا يتسنى لأفراد أسرته معاينة الجثة ومشاهدة ما بها من آثار تعذيب وحشي. وخرجت صفحة وفيات جريدة الأهرام صباح30 نوفمبر 1959بالنعي التالي:
و كان لمصرع الدكتور فريد حداد في المعتقل صدا عالميا، فقد نشرت مجلة Esprit الفرنسية في عددها الصادر في شهر يوليو 1961 مقالا علي امتداد سبع صفحات عنوانه “القمع في الجمهورية العربية المتحدة” تناولت فيه تفاصيل تعذيب و قتل الدكتور فريد حداد.
و قد نعاه قريبه الشاعرالكبير فؤاد حداد بقصيدة حزينة اسمها “الشاي في ايد الشهيد”، هذه بعض أبياتها:
كما نعاه الأديب نجيب سرور بالأبيات التالية:
هذه السطور القصيرة كانت محاولة لتوثيق حياة طبيبين لعبا دورا عظيما في رعاية المرضى الفقراء. لم تلق جهود الطبيبين وديع حداد و فريد حداد التقديراللائق لا في حياتهما ولا بعد مماتهما (ولا هما سعيا وراء شئ من هذا القبيل). راعني و آلمني جدا سقوطهما من ذاكره تاريخ الوطن ومن ذاكرة تاريخ الطب المصري، علي الرغم من عطاء متجرد و بلا حدود للمرضى الفقراء. عطاء بدأه الدكتور وديع حداد منذ زمن الحرب العالميه الأولى و حتي وفاته سنة 1948. عطاء استكمله الدكتور فريد حداد منذ تخرجه سنة 1948 حتى مصرعه سنة 1959.
يؤلمني أن عطاء باذل كهذا على امتداد ما يزيد على نصف قرن لا يوجد له ذكر في كتاب ولا في ذاكرة!
د. يوسف سميكه -استشاري أمراض النسا و التوليد