د. عبدالجبار العلمي - الدكتور المختار حسني محققاً ومبدعاً

عرفتُ الدكتور المختار حسني منذ عقود، جمعنا فيها العملُ في مؤسسة ثانوية واحدة ، وعشق الكتاب. وكنت خلال لقاءاتنا اليومية وجولاتنا التي تتجاوز المرتين أحيانا في مكتبات الأحباس الزاهرة ، ألمس فيه محبة البحث العلمي ، وعشقه لكتب التراث العربي الزاخر ، وكنت دوماً أقول له على سبيل المزاح والجد ، والله فيك باحث ومحقق دقيق ، لا تقل عن محققينا مغرباً ومشرقاً أمثال محمود محمد شاكر وأستاذيك الدكتورين فخر الدين قباوة وعزة حسن .. فكان يرد بابتسامة مشرقة غير، مقتنع بما أقول ، وكأنني أسمعه يرد : هيهات العقيق . ما أبعدني عن درجة أولئك الأساتذة المحققين الكبار . سجل الأستاذ المختار حسني أطروحته لنيل الدكتوراه في جامعة الحسن الثاني ـ كلية الآداب بنمسيك سيدي عثمان بعنوان "مفهوم التناص وخصوصية توظيفه في الشعر الإسلامي المعاصر بالمغرب : شعر الأمراني والربَّاوي وبنعمارة نموذجاً " ، وذلك تحتَ إشراف أستاذنا الدكتور محمد خليل. وكانت رسالة ضخمة في ثلاثة مجلدات. وحظيتْ هذه الأطروحة الجديدة في موضوعها، بالطبع ثلاث مرات. المرة الأولى بمطبعة دار النجاح الجديدة بالدار البيضاء على نفقة الباحث ، والثانية بدار الفكر بالجزائر ، وقد أخبرني المؤلف بأن طباعتها شابتها العديد من الأخطاء المتنوعة . أما الطبعة الثالثة ، فقد صدرت عن دار غيداء بالأردن سنة 2022 ، وذلك بعنوان " نظرية التناص / المفهوم وخصوصية التوظيف في الشعر العربي المعاصر " ، والكتاب من ستمائة وإحدى وثلاثين صفحة ( 631 ) من القطع الكبير . ويعتبر الكتاب من بين أهم الدراسات التي أنجزت حول التناص سواء على مستوى التنظير أو الممارسة والتطبيق ، وربما أول دراسة أكاديمية اختصت بالتناص وتطبيقه تطبيقاً اتسم بالدقة والاستفادة من نظرية التناص سواء لدى الغربييين أمثال : جيرار جونيت في كتابه أطراس و جوليا كريستيفا في كتابها المعروف "ثورة اللغة الشعرية " ويوري لوتمان في كتابه " بنية النص الفني " ؛ أو لدى الكتاب العرب ومنهم " ابن رشيق في كتابه " قراضة الذهب " ، والدكتور محمد مفتاح في كتابه الذائع الصيت " دينامية النص / تنظير وإنجاز" . ويصرح المؤلف أنه أفاد أيما إفادة من تطبيقات مفتاح التي رأى أن ابن رشيق يسير على نفس منهج الدكتور مفتاح رغم بعد المسافة الزمنية بينهما ، وأن الفارق يبدو فقط في التسميات والمصطلحات .. والكتاب وحده يحتاج إلى عرض مفصل لا يسمح المجال هنا للنهوض به . وقد كان الهدف الأساس تقديم لمحات عن المنجز البحثي والعلمي والإبداعي للدكتور المختار حَسني الذي يجمع بين البحث الأكاديمي والدراسات التطبيقية حول الشعر خاصة وبين الإبداع الشعري الرصين ، مركزاً على بعض شعراء المغرب الشرقي ، ونذكر هنا على سبيل التمثيل، دراسته القيمة لقصيدتي الشاعر محمد علي الرباوي " سبو سيد العشاق " ، و"العيد " اللتين ضمهما كتاب " التناص في شعر الرباوي ". وكانت دراسته إياهما دراسة تطبيقية دقيقة. وفي هذه العجالة سنكتفي برصد عملين ، الأول إبداعي ، والثاني تحقيق كتاب.
1ـ ديوان " للشوق نزيفه والأسى للوطن " :
صدر حديثا ديوان شعري بعنوان " للشوق نزيفه " للصديق الشاعر الباحث المحقق الدكتور المختار حسني ، وذلك عن جمعية " جامعة المبدعين المغاربة " التي تقوم بجهود ثقافية تقصر عن القيام بها بعض الجهات الرسمية وغيرها من مؤسسات النشر والتوزيع. والديوان مطبوع في حلة أنيقة، وقد عني الشاعر بشكلِ جميع قصائدِه مما لا تتم في الغالب العناية به في العديد من الدواوين المنشورة محليا وعربيا. وقد قسم الشاعر ديوانه إلى قسمين : الأول وسمه بالعنوان المثبت في الغلاف( للشوق نزيفه ) ؛ والثاني اختار له عنواناً متمما للعنوان الرئيس ومعطوفاً عليه وهو:" والأسى للوطن" ولا يخفى أن الموضوعي فيه يمتزج بالذاتي . ومن خلال العنوانين يبدو أن الشاعر غنى في شعره للذات الشاعرة وأشجانها، كما شدا للوطن وهمومه والأقطار العربية والإسلامية ومعضلاتها.
واللافت لنظر المتصفح لهذا الديوان المتميز أن صاحبه يستخدم جميع الأشكال الشعرية انطلاقا من قناعته أن الشعر شعر في جميع هذه الأشكال ما دام يتوفر على الشعرية. وهكذا نلاحظ أن القسم الأول استخدم فيه الشكل العمودي، ولا نقول التقليدي - كما نبهني ذات زمن أستاذي الدكتور محمد خليل أطال الله في عمره - فكم من القصائد العمودية أكثر حداثة في رؤيتها إلى العالم وفي مكونات خطابها الشعري من كثير من قصائد التفعيلة أو قصيدة النثر . أما القسم الثاني فأغلب قصائده وردت على الشكل التفعيلي. ويضم القسم الأول ( للشوق نزيفه ) اثنتين وثلاثين قصيدة ، بينما يشتمل القسم الثاني ( والأسى للوطن ) على خمس وثلاثين قصيدة . ولنا عودة إلى الديوان بعد قراءته القراءة المتمعنة . ولا يسعنا هنا إلا أن نزجي الشكر العميق للشاعر محمد اللغافي الذي سهر على إخراج هذا الديوان وغيره من الكتب المتنوعة الأخرى ، مهنئين الصديق العزيز المختار حسني على هذا الإصدار الشعري الذي يعتبر أول إصدار له في هذا الجنس الأدبي الرفيع ، ومازال في ثنايا ملفاته وداخل أدراجه العديد من الدواوين تنتظر الطبع والنشر . وفقه الله إلى إخراجها مع كتبه البحثية الأخرى إلى النور لتغني ديوان الشعر المغربي والمكتبة العربية والمغربية.
2 ـ ديوان شعر عامر بن الطفيل العامري / تحقيق وشرح : الدكتور المختار حَسْني :
صدر مؤخراً في طبعة أنيقة قشيبة للباحث المحقق الدكتور المختار حَسْني المختار حَسْني ، وذلك ضمن إصدارات دار الكتب العِلمية الزاهرة في بيروت ـ لبنان لسنة 2020م. والحقيقة أن المحققَ فرغ من تحقيقه سنة 2002 م. لكن ظروف النشر والتوزيع التي يعرف صعوبتَها الكتاب والمبدعون في بلداننا العربية ، وغياب دعم الكتاب من لدن المؤسسات الرسمية المنوط بها الشأن الثقافي ، أخَّرَ طبعَ الديوان وخروجه من عتمة الأدراج إلى عالم النور . يقع الديوان في 277 صفحة من القطع الكبير ، ويضم اثنتين وثمانين قصيدة ، وقد عني المحقق بوضع فهرس للشعر قسمه إلى قسمين : الأول خصصه لقصائد الشاعر عامر بن الطفيل ؛ والثاني رصده للشعر الوارد في الشرح ، مرتَّباً ترتيباً ألفبائياً ، مع ذكر بحره وقائله ورقم الصفحة التي ورد بها الشاهد الشعري في المتن . وختم عمله بثبت زاخر بالمصادر والمراجع التي استعان بها في التحقيق .
أما في المقدمة المركزة التي عرض فيها عمله في الديوان ، فيذكر لنا متون الديوان المخطوطة والمطبوعة التي اعتمدها في التحقيق ، والملاحظ أن أغلبها مطبوع إلا واحداً ، فهو مصورة مخطوط.
وقد أوردها الدكتور المختار حَسْني كما يلي :
1 ـ مصورة مخطوطة ليدن وهو الوحيد الذي اعتمده المستشرق "لايل" في نسخته ، وبه كامل شعر عامر بن الطفيل برواية وشرح أبي بكر الأنباري . ويصف المحقق صورة المخطوطة ، ثم يذكر أنه عمل على ترقيم المخطوط لكونه مغفلاً منه في التصوير .
2 ـ طبعة دار صادر ، بيروت ،1399 هـ / 1979م. ويلاحظ المحقق أنها إعادة لطبعة لايل ، وليس فيها من جديد سوى ترتيب القصائد بحسب القوافي .
3 ـ طبعة مؤسسة الرسالة ( 1997 م. ) بتحقيق الدكتورة هدى جنهويتشي، وقد زادت على الطبعتين السابقتين 17 بيتاً . ولاحظ الدكتور حَسْني أن المحققة لم تكن تعود إلى المخطوط إلا نادراً ، ربما لأخذ ترقيم الصفحات فقط ، بل اعتمدتْ غالباً على قراءة "لايل" حتى في المواضع التي أخطأ فيها مما نوه إليه المحقق في هوامش تحقيقه.
4 ـ ديوان عامر بن الطفيل ، تحقيق ودراسة الدكتور أنور أبو سويلم ، دار الجيل ، بيروت 1416 هـ / 1996 م. ويشير المحقق إلى أن الدكتور أنور، بذل فيه جهداً كبيراً يشكر عليه ، ويتمثل ذلك على وجه الخصوص في الدراسة المستفيضة والتخريجات والزيادات والشروح والتوضيحات الكثيرة والفهارس الفنية المتنوعة .. إلا أن ما يعيبه عليه هو أنه اقتفى في الغالب طبعة نشرة " لايل " الأمر الذي يفند قوله إنه اعتمد على المخطوط. وكانت تلك الطبعة نشرتْ مع ديوان عبيد بن الأبرص في سلسلة نشريات " جب " التذكارية رقم 21 ، ليدن ـ لندن ، 1913 م. ( ينظر بروكلمان ، ج. 1 ، ص : 117 )
وبعد أن ذكر المحقق الدواوين التي اعتمدها في تحقيقه ، أشار إلى ما فاته الاطلاع عليه من شعر عامر بن الطفيل ، ويتعلق الأمر بمصدرين:
ـ أحدهما طبعة أخرى للديوان بتحقيق د. محمود الجادر ؛ ود. عبدالرزاق خليفة محمود الديلمي ، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة ، العراق ، سنة 2001 م. في 308 من الصفحات ( ينظر الذخائر اللبنانية ، عدد : 10 ، ص : 290 )
ثانيهما : مخطوط شرح القصيدة الدامغة للهمذاني ، وبه أبيات تنسبُ لعامر بن الطفيل . والمخطوط مصور كان في حوزة الأستاذ حمد الجاسر رحمه الله. وكان المشرف على مكتبته قد وعد المحقق بإرسال صورة عنه فور العثور عليه ، لكنْ ربما ثمة ظروف لم تسمح بذلك.
وفي ختام هذه المقدمة الغنية بالمعلومات عن متون الديوان التي اعتمدها الدكتور حسني في التحقيق ، يذكر لنا بقية عمله في الديوان ويتمثل فيما يلي : توثيق أغلب الأبيات التي استشهد بها الشارح ـ تصحيح الكثير من الأخطاء الواردة في الديوان المطبوع ـ ضبط الأبيات والشرح التام ـ إضافة عشرات الأبيات إلى الديوان التي وجدها المحقق في المصادر التراثية المختلفة سواء منها الصحيحة للشاعر في الغالب ، أو المنسوبة إليه في أحيان قليلة لم ترد في الطبعات السابقة ـ نَسْبُ أغلب الأبيات الواردة في الشرح إلى قائليها ، هذا فضلاً عن الشروح والتوضيحات المختلفة.
ومن يتصفح الديوان ، سيدرك مدى الجهد المبذول في تحقيق هذا الديوان ، من خلال الهوامش التي تملأ صفحات الكتاب ، وهي هوامش غنية مفيدة ماتحة من عيون المصادر العربية، معاجم وكتب تراجم ومختارات شعرية وكتب الثقافة الأدبية العامة وغيرها مما تزخر به المكتبة العربية التراثية.
ولا ينبغي أن ننسى تحقيقه الجديد لكتابين صدرا مؤخراً عن دار الكتب العلمية بلبنان ـ بيروت هما كتاب " حسنُ التَّوسل إلى صناعة الترسل " لشهاب الدين محمد بن سلمان بن فهد الحلبي ( سنة 2022 ) ، وديوان " شعر مروان بن أبي حفصة" ( شرح وتوثيق ).
وختاماً أود أن أهمس في أذن أخي وصديقي الدكتور المختار حَسني سائلاً : " ألا تصدُق أحيانا فِراسة الأصدقاء المحبين ؟


الدراسة المنشورة في جريدة "الشمال" الزاهرة ، عدد يوم الخميس 31 مارس 2023 .

بقلم : د. عبدالجبار العلمي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...