تابع (31 - 40)
31- د . لويس عوض .. وفوازير عبد الناصر ! (الوفد في 17 / 3 / 1997)
تصحيح تاريخ الشعوب عملية مستمرة كلما سمحت بها الوثائق التاريخية التي تظهر تباعاً، أو تكشفت حقائق جدد. والشعوب الحية لا تتردد في تصحيح تاريخها أولاً بأول حرصاً على تكوين ضميرها القومي تكويناً صحيحاً، وعلى سلامة ذاكرتها القومية، وبناء مستقبلها على أساس سليم يستفيد من تجارب الماضي.
وهذا ما نراه حالياً في روسيا ودول شرق أوروبا التي لم تتجه اتجاهها الحالي الاقتصادي والسياسي إلا بعد أن قامت أولاً بتصحح تاريخها وفقاً لما تكشفت عنه الأحداث، وأعادت تقييم تجربتها السابقة في إطار المتغيرات الدولية والمحلية.
وهذا التصحيح، وما يترتب عليه من تغيير، يؤدي بالضرورة إلى تغيير المصطلحات والمفاهيم وفقاً لحركة التاريخ، فما يطلق عليه اتجاه تقدمي قد يتحول مع التصحيح إلى اتجاه رجعي، وما يطلق عليه اسم يساري، يتحول مع التصحيح إلى اتجاه يميني!
وهذا ما يحدث حالياً في روسيا، فبعد أن كان الاتجاه الشيوعي يطلق عليه اسم اتجاه يساري، يعني أنه اتجاه تقدمي، صار اليوم يطلق عليه اسم اتجاه يميني، بمعنى أنه اتجاه رجعي يعود بروسيا ودول أوروبا الشرقية إلى الوراء ولا يمضي بها إلى الأمام!
وما نقوم به اليوم على صفحات جريدة "الوفد" الغراء من دراسة حول موقف ثورة يوليو من حقوق الإنسان، هو محاولة لتصحيح تاريخ مصر في فترة حكم ما عرفت باسم "ثورة 23 يوليو".
على أنه يجب أن أعترف بأن ما أقوم به ليس جديداً، بل له سوابق من مفكرين مصريين حاولوا إعادة تقييم تجربة ثورة يوليو توصلاً إلى حقيقة هويتها.
وقد كان من هؤلاء المفكرين الدكتور لويس عوض في كتابه "أقنعة الناصرية السبعة" الذي كتبه بذكاء وحذر شديدين بقدر ما سمحت له الظروف التي كتب فيها بعد عودته من جامعة كاليفورنيا عام 1975، واستطاع أن يقول فيه كل ما أراد قوله عبر جسور ذكية أقامها بمهارة لموازنة الأفكار الخطيرة التي طرحها ولم يكن لها سابقة في نقد هذه الثورة من مفكر يساري.
فقد طالب المصريين "بالنظر إلى فترة 1952 – 1970 نظرة موضوعية تعطي لعبد الناصر ونظامه ما له وما عليه، وقال إن أكثر الذين يحاسبون عبد الناصر في ذلك الوقت، لا يحق لهم أن يحاسبوه" لأنهم كانوا أدوات له في كثير مما ارتكب من أخطاء! وهم الذين وطدوا له فيما أخطأ وعوقوا سبيله كلما أصاب!
وفي الوقت نفسه هاجم الذين "ينتفضون غضباً إن سمعوا رجلاً يتوجع من مكروه أصابه في عهد عبد الناصر، ويزمجرون غيظاً إن خدش له أحد طرفاً! كأن شخص عبد الناصرغدا مقدساً له رهبوت الأنبياء! دون أن يدركوا أنهم ينتهون في النهاية – دون أن يعلموا – بالدفاع عن صلاح نصر وليس عن عبد الناصر!".
وقال إنه من الضروري أن نحاكم الماضي في موضوعية ودون تشنج، فقد كان من أخطاء ثورة يوليو أنها اشتغلت بتحطيم مقومات ثورة 1952 نفسها! حتى إنها طمست في عقول أجيالها الفرق بين سعد زغلول ومصطفى النحاس من جهة، وبين محمد محمود وإسماعيل صدقي من جهة أخرى!وبين العرش من جهة، والشارع المصري من جهة أخرى! وأذابت الفوارق بين الرجعية والتقدمية حتى بدت ثلاثون عاماً من كفاح الشعب العظيم من أجل الاستقلال الوطني والديمقراطية السياسية والاجتماعية، وكأنها ثلاثون عاماً من حكم الإرهاب!
ثم بدأ الدكتور لويس عوض في هدم ثورة يوليو وإعلان إفلاسها من الناحية الأيديولوجية (النظرية) فقال: إن الثورة بدأت في عام 1952 برفع ثلاثة شعارات – على غرار "الثالوث الفرنسي" في الثورة الفرنسية وهو ثالوث: "الحرية والمساواة والإخاء" الذي أعلنته الثورة الفرنسية أصلا ليحل في الوجدان الفرنسي محل "الثالوث المسيحي" (الأب والابن والروح القدس)، ويصبح عقيدة للقيادة الجديدة، أو محل "ثالوث الكنيسة الكاثوليكية": الإيمان والأمل والإحسان. وقد شاعت عادة "التثليث الإنساني" بدلا من "التثليث الإلهي" في أكثر الثورات والنظم الانقلابية منذ ذلك الحين، فأعلن هتلر أن رسالة المرأة هي "الأطفال والكنيسة والمطبخ" وأعلن زعماء مصر الفتاة في مصر في الثلاثينيات (أحمد حسين وفتحي رضوان) أن شعارهم هو: "الله والوطن والملك"، وسك الماريشال بيتان على العملة الفرنسية شعار فرنسا الجديد تحت الحكم النازي وهو "العمل والأسرة والوطن"، بدلا من "الحرية والمساواة والإخاء".
وهذا ما فعلته ثورة يوليو، فأعلنت في عام 1952 أن شعارها هو: "الاتحاد والنظام والعمل"! وفي سنة 1962 ومع الميثاق أعلنت شعاراً آخر هو "حرية واشتراكية ووحدة"!
وقال الدكتور لويس عوض إنه في أزمة مارس "حين سألنا الثورة قائلين: "الاتحاد والنظام والعمل" كلام جميل، ولكن هذه "واجبات الإنسان" فأين هي "حقوق الإنسان" التي تعد الثورة بها المواطنين إذا قاموا بواجباتهم؟ جاء الرد في عام 1956 في دستور 1956، ثم في المبادئ الثلاثة المعلنة في الميثاق في عام 1962. فهذه المبادئ الستة والمبادئ الثلاثة هي "العقد الاجتماعي" الذي عاهدت الثورة عليه المصريين وأرادت المصريين أن يتعاهدوا عليه.
ولكن إذا نظرنا إلى المبادئ الستة، وهي القضاء على الاستعمار، والقضاء على الإقطاع، والقضاء على الاحتكار الرأسمالي، وإقامة جيش وطني، وغقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. نرى انها تدل – بترتيب بندها – على سلم الأولويات في ذهن عبد الناصر وصحبه، وعلى أن الثورة ظلت لعشر سنوات على الأقل حتى عام 1962 "ترى أعداءها قبل أن ترى غايتها"!
فالمبادئ الثلاثة الأولى هي مبادئ تحطيم. وليست مبادئ نظام، أما المبادئ الثلاثة الأخيرة، وهي إقامة جيش وطني وقوي، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، فهي لا تعني شيئاً محدداً، باستثناء مبدأ الجيش الوطني القوي!
"إن هذه المبادئ إنما هو عموميات في عموميات! فماذا تكون هذه "العدالة الاجتماعية"؟ وما تعريفها؟ وما أسسها وحدودها؟
"أهي عدالة اجتماعية كما يراها من يملكون، أم عدالة اجتماعية كما يراها من لا يملكون؟ أهي عدالة أصحاب المائة فدان، أم عدالة الفلاحين الحفاة الذين فلحوا لهم الأرض؟ أهي عدالة صاحب المصنع أو المتجر، أو عدالة الأجراء العاملين في مصنعه أو متجره؟ أهي عدالة صاحب العمارة أم عدالة سكان العمارة؟ أهي عدالة الإحسان والوازع الخلقي أم عدالة الحقوق الطبيعية؟ أهي عدالة المنتج أم عدالة المستهلك؟
"وبالمثل، فماذا تكون هذه الديمقراطية السليمة؟ ومن الذي يحدد إن كانت هذه الديمقراطية أو تلك سليمة أو غير سليمة؟
"نحن نعرف أن معنى الديمقراطية الحرفي هو "حكم الشعب"، وأن سبيلها التقليدي هو اختيار الشعب من يراه من الوكلاء السياسيين، ليمثلوه ويعبروا عن مصالحه، وليحكموا ويحققوا مصالحه. فهل تكون الديمقراطية سليمة إذا حمينا الشعب من خطأ الاختيار، وبالعزل السياسي لمن نقدر أنهم أعداء الشعب؟
"ومن الذي يقدر إن كان هذا الرجل أو ذاك عدو الشعب أم صديق الشعب؟ نحن أم الشعب نفسه؟
"هل نحن متفقون على أن الشعب يحاج إلى وصاية أجهزة الاتحاد القومي والإتحاد الإشتراكي والمخابرات والمباحث الذين يستطلعون دخائل الناس ودخائل الأمور ولا يقفون عند ظاهر الحال؟".
ثم ينتقل الدكتور لويس عوض إلى الإشتراكية التي وعدت بها الثورة المواطنين، فيسخر منها قائلاً: إنها شيء غامض!، لأنه بحسب – تعريفه في الميثاق – مطاط يتسع لكل شيء: ففيه مكان للقطاع العام، وفيه مكان للقطاع الخاص! وفيه وعد بتذويب الفوارق ولكن كيف يكون: هل يكون بنسبة واحد للعامل إلى مائة لرئيس مجلس إدارة المؤسسة؟ أو واحد للعامل إلى مائة ألف لبعض المقاولين؟
ثم إن الثورة تقول إن هذه الإشتراكية "منبثقة من واقعنا"! دون أن تحدد هذا الواقع كما تؤكد أن اشتراكيتنا ليست اشتراكية مستوردة، أي أنها ليست كاشتراكية الخواجات في الاتحاد السوفيتي (الشيوعية) أو فيألمانيا الهتلرية (النازية) أو كاشتراكية حزب العمال البريطاني (الفاشبية)!
لهذا السبب – كما يقول الدكتور لويس عوض – حارت عقول المفكرين في "الميثاق"! فمن قائل إنه يرسي أسس الإشتراكية العلمية (الماركسية)! ومن قائل إنه يحترم الرسالات السماوية وإنه يرسي أسس الإشتراكية الدينية! ومن قائل: بل هو يرسي أسس الإشتراكية العربية! ولولا الحياء لقالوا: إنه يرسي أسس "الإشتراكية الوطنية، أي النازية! وهكذا دخلنا في عالم "الفوازير"! وأصبحت اشتراكيتنا كذلك اللغز الذي جاء في الأمثال:
"يعدي البحر ما يتبلش"!
لذلك يرى الكتور لويس عوض أنه من الظلم لعبد الناصر ونظامه أن نقول إنه وعد الناس ببناء اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ثم عجز عن تحقيقه! لأنه ـ باختصار ـ لم يع بشيء إلا في أعم عمومه، وهو: "مجتمع الكفاية والعدل"! ولكن هذا الشعار ليس فيه جديد! فقد كانت ترفعه أحزاب ما قبل الثورة، من الوفد إلى الأحرار الدستوريين إلى أحزاب السراي! بل إن الملك فاروق نفسه كان يؤنب النحاش باشا بحجة أنه لم يوفر للشعب "الغذاء والكساء" لكي يبرر طرده من الحكم!
ثم يسخر الدكتور لويس عوض من الشيوعيين المصريين والعرب الذين دافعوا عن عبد الناصر كرائد من رواد الإشتراكية، لمجرد أنهم رأوا في نظام القطاع العام وفي بعض التشريعات العمالية والتأمينات الاجتماعية وفي التعاون أو التقارب من الاتحاد السوفيتي "ملامح اشتراكية"! ويقول: إن هذا أمر جد خطير! وغنه "لابد من بحثه بحثاً علمياً واقتصادياً لمعرفة جوهر هذه "الإشتراكية الناصرية، وهل كانت اشتراكية حقيقية أو كانت "اشتراكية وطنية – أي فاشية؟".
ويبرر الدكتور لويس عوض أهمية فحص اشتراكية عبد الناصر، تبريراً يقطر سخرية، إذ ينفي عن هذه الإشتراكية صفتها كاشتراكية مما عرفته النظم الإشتراكية، فيبنيه على أن عبد الناصر ـ في نظره ـ سيدخل التاريخ باثنتين من اهم منجزاته، وهما: تصفية الشيوعية، وتصفية الديمقراطية، ليس فقط في مصر بل وفي العالم العربي لحد ما! فأي نوع من الاشتراكيات تدخل اشتراكية عبد الناصر بهذين الإنجازين؟
على هذا النحو حصر الدكتور لويس عوض اشتراكية عبد الناصر في سلك الإشتراكية الوطنية ـ أي النازية! فهي النوع الوحيد من الاشتراكيات الذي يعادي كلا من الشيوعية والديمقراطية بنفس الدرجة، وهي النوع الوحيد من الإشتراكية الذي ظهر في ألمانيا الهتلرية وإيطاليا موسوليني وأسبانيا فرانكو وجميع الفاشيات التي ظهرت في التاريخ!
32- عندما وقعت مصر في قبضة الحكومة الخفية والمخابرات والاتحاد السوفيتي ! الوفد في 24 / 3 / 1997
تحديد هوية ثورة يوليو هي عملية حيوية، وتعد من صميم العمل التاريخي، فمن الضروري لكل شعب أن يعرف تاريخه في صورته الصحيحة بعيداً عن التزييف والتضليل. وبالنسبة للشعب المصري خاصة فقد كان تاريخه عرضة للتشويه على يد ثورة يوليو، كما عرضه للطمس في كثير من أجزائه، حتى إن جيل ثورة يوليو شب وهو لا يعرف شيئاً عن الحركة الوطنية التي قادها الوفد منذ عام 1919 إلى عام 1952، بعد أن أسقطت الثورة من هذا التاريخ اسم أكبر زعيم شعبي عرفته مصر بعد سعد زغلول وهو مصطفى النحاس، وذلك في الوقت الذي رفعت اسم عبد الناصر إلى مقام البطولة والزعامة المتفردة التي لم يسبق لها مثيل، وأسبغت على حكمه من صفات التقدمية والإشتراكية والديمقراطية ما جعل منه أفضل حكم على العصور! وخدعت بذلك الشعب المصري وخدعت التاريخ فشبت الأجيال المصرية منذ ذلك الحين مغيبة الوعي تنظر إلى تاريخها بنفس المنظار الذي صنعته لها ثورة يوليو لتفهم تاريخها بالمقلوب!
ومن هنا فإن ما نقوم به على صفحات هذه الجريدة الغراء "الوفد" هو عمل تصحيحي مهم لتاريخ مصر، لا نستخدم فيه شيئاً سوى سلاح الحقائق التاريخية غير القابلة للشك أو النقض، ولا نبتغي منه غير وجه الحقيقة التاريخية المجردة.
وكنا في مقالنا السابق قد تعرضنا لمراجعة الدكتور لويس عوض لثورة يوليو، وكيف بيّن إفلاسها من الناحية الأيديولوجية (النظرية) عندما نقد شعاراتها الأولى عن "الاتحاد والنظام والعمل" قائلا إنها تحدثت عن واجبات الإنسان لا حقوق الإنسان! ونقد المبادئ الستة للثورة قائلاً إن المبادئ الثلاثة الأولى منها هي "مبادئ تحطيم" "لا مبادئ نظام" وأما المبادئ الثلاثة الباقية فهي – باستثناء مبدأ بناء الجيش الوطني القوي – عبارة عن عموميات في عموميات! وسخر من مبدأ الديمقراطية السليمة الذي نادت به الثورة، وال إنها وضعت الشعب تحت حماية أجهزة الاتحاد القومي والإتحاد الإشتراكي والمخابرات والمباحث! كما سخر من الإشتراكية التي وعدت بها الثورة المواطنين، وقال إنها شيء غامض ومطاط يتسع لكل شيء، وقد حارت فيها عقول المفكرين، ودخلت في عالم "الفوازير" وإن أحداً لا يعلم هل كانت اشتراكية حقيقية أو كانت "اشتراكية وطنية" (نازية) ! ثم حصر الدكتور لويس عوض اشتراكية عبد الناصر في سلك النازية بناء على أن عبد الناصر سوف يدخل التاريخ باثنين من أهم منجزاته، وهما: تصفية الشيوعية، وتصفية الديمقراطية!
وقد انتقل الدكتور لويس عوض إلى الحديث عن قرارات التأميم التي أعلنها عبد الناصر في يوليو 1961، والتي كانت العمود الفقري للقطاع العام، فقال إن هذه التأميمات وصفت خطأ "بالنظام الاشتراكي"، وما هي في حقيقتها إلى رأسمالية دولة! وحتى يوضح هذه النقطة قال: إن الفرق الوحيد بين الإشتراكية ورأسمالية الدولة فيما يتصل بالملكية العامة لوسائل الإنتاج والخدمات وأدواتهما، هو ما يتعلق بموضوع أيلولة فائض القيمة من هذا الاستثمار العام.
ففي الإشتراكية، "حيث الشعب مؤلَّه" – على حد قوله – يتحتم أن يئول فائض القيمة – أي ربح رأس المال العام وثمرته – إلى الشعب في صورة خدمات عامة، كالتعليم العام، والصحة العامة، والمواصلات العامة، والترفيه العام ـ وباختصار الإشتراكية تحتم أن تئول ثمار عمل الشعب وموارده الطبيعية إلى كل بحسب عمله أولا، وإلى كل بحسب حاجته (ثانيا).
أما في رأسمالية الدولة، حيث الدولة مؤلهة من دون الشعب، فثمار عمل الشعب وموارده الطبيعية تصب في خزائن الدولة لتنفقها بحسب تقدير ولاة الأمور القائمين بحكم الدولة، لما فيه خير الدولة! إن رأوا إنفاقها على مجد الدولة، أنفقوا على مجد الدولة! حتى ولو ضاعت في حروب وفتوحات! وإن رأوا إنفاقها على بناء صفوة المجتمع ومجتمع الصفوة، أنفقوها على ذلك! ولو ضاعت على الطبقات الحاكمة ولم يصل للشعب منها إلا الفتات!
كذلك تتميز الإشتراكية عن رأسمالية الدولة بالرقابة الشعبية ومسئولية الحاكم وطبقته الحاكمة أمام الشعب، وهو ما لا نراه في رأسمالية الدولة حيث نرى الحاكم غير المسئول أمام الشعب! بل نراه هو الذي يسائل كل من دونه ولا يسائله أحد! وهو ما يميز نظام عبد الناصر!
وتناول الدكتور لويس عوض التنمية الاقتصادية في نظام عبد الناصر، فقال إنها قامت على نظرية الاكتفاء الذاتي، أي أن تنتج الصناعة المصرية من الإبرة إلى الصاروخ! وهي قاعدة الاقتصاد الفاشي والنازي والشيوعي وكل نظام شمولي، ولا يمكن تطبيقها إلا في ظل الحماية الجمركية العنيفة الشاملة، وخفض استيراد السلع المصنوعة أو منعه، وفي ظل تجميد الصراع الطبقي (أو ما سمي بتحالف قوى الشعب العاملة!)
وهو ما قامت به الدول الاستعمارية الطامحة مثل ألمانيا النازية واليابان للسيطرة الصناعية، ولكن نجاح هذا النظام يرتبط بقدرة الصناعة الوطنية على الوقوف على قدميها، لأن كل حماية مصطنعة لا تقوم على بلوغ الإنتاج نفسه حد الكفاية إنما تكون على حساب المواطن المستهلك والعامل المنتج، وهما جسم المجتمع الأكبر الذي ما أنشئت الحماية إلا من أجله.
وقال إن دراسة حالة الاقتصاد المصري في عهد عبد الناصر تقف دونها توافر البيانات الصحيحة! وعندما أصدر الدكتور علي الجريتلي كتاب "التاريخ الاقتصادي من 1952 إلى 1966"، صادره عبد الناصر أو رجاله! ولم ير النور إلا بعد أن سقطت مراكز القوى! ولا يمكن معرفة هل تدر منشئات القطاع العام ربحا على مستوى الاستثمار الرأسمالي أو تخسر؟، وإذا كانت تربح فكيف ينفق ربحها: على القيادة أم على القاعدة؟
أكد أن منشئات القطاع العام المؤممة من المصالح الأجنبية قبل الثورة كانت ـ قطعا ـ استثمارات رابحة، وإلا أفلس أصحابها من الخواجات! فهل لا تزال تربح بعد التأميم بنفس النسبة؟ أو بنسبة أقل؟ أو ترى بعضها ينتج بالخسارة؟ هذه أسئلة يتعذر الإجابة عنها.
فعلى حد قوله "لقد كان تلفيق البيانات الخاصة بالإنتاج والخدمات والأرباح، سمة من سمات إدارة القطاع العام طوال عهد الثورة! كذلك إخفاء الحقائق والتستر على الأخطاء والخسائر والكوارث! وكان المنطق السائد هو رسم صورة وردية لحالة الإنتاج والتوزيع في كل فرع من فروع القطاع العام، لإثبات نجاح البيروقراطية والتكنو قراطية المصرية، ولو بإشاعة الأكاذيب! وكانت الدولة من جهة، والإتحاد الإشتراكي من جهة أخرى يشجعان هذا المنطق، لقمع التشكيك في القطاع العام ـ أي رأسمالية الدولة أو الإشتراكية سمها كما شئت!
وقال الدكتور لويس عوض إن مشكلة القطاع العام هي أن اكتشاف اللصوص فيه أصعب من اكتشافهم في القطاع الخاص حيث لكل رأس مال حارس يسهر عليه شخصياً ويصونه من الضيع، أما القطاع العام فمالكه الحقيقي، الذي هو الشعب، لا يملك حق التفتيش في دفاتره! لأن إدارته متحصنة داخل قلعة منيعة، هي قلعة الحكم ذاتها من إداريين وبيروقراطيين وفنيين!
وتساءل الدكتور عوض عن أسباب عجز مصر عن سداد ديونها الخارجية للدول الإشتراكية والرأسمالية؟ وقال إنه غما إنتاج القطاع العام لم يكن كافياً لتكوين الاحتياطي المطلوب تحويله إلى الدول الدائنة، ـ وفي هذه الحالة تكون الصورة العامة للقطاع العام صورة فاشلة بنسبة النقص في سداد أقساط الديون ـ وإما أن إنتاج القطاع العام كان كافياً لسداد الديون ولكن هذا الإنتاج أكله الإنفاق على حروبنا الخاسرة وعلى أحلامنا السياسية الضائعة! وفي هذه الحالة فإن اللوم يقع على قيادتنا السياسية والاقتصادية التي خلطت ميزانية الحرب بميزانية الحرب بميزانية التنمية!
وقال الدكتور لويس عوض "إنه مما لا شك فيه أن النظام المغلق الي أسسه عبد الناصر جعل من المستحيل معرفة ما كان يجري داخل مؤسسات القطاع العام وشركاته، وداخل إدارة النقد الأجنبي إلخ، وجعل العقاب على الانحرافات أو سوء التصرفات غير ممكن، لنهما كثيراً ما كانا يتمان بأمر من "الحكومة الخفية"! التي لم تكن مسئولة أمام أحد إلا عبد الناصر وحده!
وضرب المثل بفضيحة محصول القطن الذي أكلت الدودة منه ما قيمته 70 مليون جنيه عام 1961، ومع ذلك تاهت المسئولية بين وزارة الزراعة التي قالت إنها طلبت استيراد المبيدات اللازمة، وإدارة النقد الأجنبي التي قالت إن "جهة ما"! تصرفت في رصيد العملة الأجنبية!
وقال إنه وسط هذا الانغلاق سقط على القطاع العام ظلان رهيبان، هما: ظل المخابرات العامة، وظل الإتحاد الإشتراكي، كسلطات تحقيق وإدانة وإرهاب باسم نزاهة الحكم!، وكثرت الشكاوى الكيدية، ولم تعد تسمع لأحد كلمة إلا إذا كان موضع ثقة هاتين السلطتين غير المسئولتين!
وقال الدكتور لويس عوض غنه في ظل غلق باب الاستيراد إلا بإذن الدولة، راجت السوق السوداء في السلع الاستهلاكية المستوردة والمحلية، وفي قطع الغيار، وشاع الاكتناز للمضاربة فيها، "وتصاهر الأوغاد في القطاع العام والقطاع الخاص لسلخ جلد المستهلك"! وراجت سوق تهريب السلع الأجنبية في مجتمع الندرة، أي من الشام أيام الوحدة، ثم من غزة بعد الانفصال، ثم من ليبيا بعد هزيمة 1967 وثورة الفاتح من سبتمبر، ثم من السعودية والكويت ومن كل مكان بعد الانفتاح!
وتحدث الدكتور لويس عوض عن إدارة القطاع العام في عهد عبد الناصر، فوصفها بأنها إدارة مختلة نشأت في تاريخ مبكر من عهد عبد الناصر، واشتهرت باسم "أهل الثقة وأهل الخبرة"، عندما ما لم تجد الثورة سبيلاً لحماية نفسها إلا بالاعتماد على "الضباط الأحرار" ومن لاذ بهم من ضباط الصف الثاني، أو المدنيين المتقربين على أساس الولاء الشخصي، ودون قيد فني أو شرط فكري!
ومن هنا سلمت الثورة كل قطاعات الإنتاج والخدمات إلى مجموعة من القيادات العسكرية أو شبه العسكرية، وجعلت كل تعيين أو ترقية بقوة القانون من الدرجة الخامسة فصاعداً لا يتم إلا بموافقة المخابرات العامة ومكاتب الأمن! وكذلك الوضع في بعض القطاعات الحساسة كأجهزة الإعلام وبعض المستويات العليا كمجالس الإدارات، وعضوية الاتحاد القومي أو عضوية الإتحاد الإشتراكي.
وبذلك ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ جعلت الثورة "الجنسية المصرية" في المرتبة الثانية بعد "الجنسية الثورية"! واعتبرت كل مواطن مصري عدواً للثورة مالم يحصل على شهادة أو تأشيرة من مسئول بأنه عكس ذلك!
وقال إنه من بين من تخيرتهم الثورة من الإداريين والفنيين نسبة عظيمة من الجهال، خربي الذمة، والمستهترين، وعباد النفس، والمعارف، والأقارب بدرجة ساعدت على تخريب الإنتاج والخدمات في أكثر قطاعات الحياة في بلادنا"!
واستشهد الدكتور لويس عوض بحدث لعبد الناصر للصحفي الإنجليزي بيتر مانسفيلد، اعتبره "من أخطر وثائق الثورة التي تمكن من فهم منهج عبد الناصر في إدارة البلاد، وفيه اعترف عبد الناصر بأنه عندما عجز عن إبعاد زملائه من الضباط الأحرار عن الجيش عن طريق فصلهم من القوات المسلحة أو إحالتهم إلى المعاش أو الاستيداع، وهم لا يزالون في سن الخدمة العامة، وزعهم على الإدارات الحكومية وعلى المؤسسات والشركات العامة، لتسييرها من ناحية ولمراقبة أمن الدولة فيها من ناحية أخرى، وبهذا "كافأتهم على تضحيتهم، وخدمت جيش مصر بتنقيته من المشتغلين بالسياسة"!
وعلق الدكتور لويس عوض على هذه الوثيقة قائلاً: إذا كان عبد الناصر قد طهر جيش مصر منا لضباط السياسيين، ووقاها شر الانقلابات العسكرية، فإنه في الوقت نفسه أساء إلى الحياة المدنية وإلى إدارة الإنتاج المصري والخدمات المصري، بفرض العديد من الضباط ناقصي الخبرة، ومحدودي الثقافة، على حياتنا المدنية، وقد كان منهم فئة فاسدة الخلق، طغت وبغت، وأرهبت الأهلين لنهب المصادرات والحراسات والمال العام، أو لإشباع عقدها السادية في بعض الأحيان"!
33- د . لويس عوض وفاتورة حساب التجربة الناصرية ! (الوفد في 31 / 3 / 1997)
كنا وصلنا في عرض تقييم الدكتور لويس عوض التجربة الناصرية إلى نتيجة هامة من نتائج الحكم العسكري الفاشي الذي أرساه عبد الناصر، وهي انتقال السيطرة العسكرية من السيطرة على الجيش إلى السيطرة على وسائل الإنتاج، عندما سلمت الثورة كل قطاع من قطاعات الإنتاج والخدمات إلى مجموعة من ضباط الثورة الذين رأى عبد الناصر تطهير الجيش منهم لتامينه من الانقلابات العسكرية، وبذلك ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ يكون عبد الناصر قد طهر جيش مصر من الضباط السياسيين ووقاها شر الانقلابات العسكرية، وأساء إلى الحياة المدنية وإلى إدارة الإنتاج المصري والخدمات المصرية، بفرض العديد من الضباط ناقصي الخبرة محدودي الثقافة على حياتنا المدنية!
وفي الوقت نفسه، وإلى جانب هذه الإدارة العاجزة، تفشى الإرهاب من القاعدة تحت اسم "الرقابة الشعبية"! فقد كان باسم هذه الرقابة أن كثرت الشكاوى الكيدية في الرؤساء من فنيين وإداريين، واتهامهم بالانحرافالإداري أو المالي والسياسي، فتتحرك المخابرات العامة وتجري التحقيقات وفي بعض الأحيان تلفق القضايا للكوادر العليا في الإنتاج والخدمات!
وكان أبطال هذه المهازل ـ أو المآسي ـ وأدواتهما، هم أعضاء لجان الإتحاد الإشتراكي في مؤسسات القطاع العام وشركاته، ممن اشتغلوا بالإشتراكية اجتباء للمنافع الخاصة وللسيطرة الشخصية في مواقع عملهم.
وقد نجم عن ذلك ضياع هيبة الرؤساء وسلطتهم في محاسبة المرءوسين على الإهمال أو الفساد واستغلال النفوذ، وأصبح الطريق ممهداً امام فاسدي الخلق من الموظفين، فما عليهم إلا الاشتغال بالسياسة الثورية، وإقامة الجسور بينهم وبين مراكز القوى، عن طريق كتابة التقارير! ليصبحوا الحكام الحقيقيين لبعض المؤسسات والشركات، واكتسبوا ما أسماه الدكتور لويس عوض بـ "قوة الجستابو"! فأصيبت بعض القطاعات باشلل أو بالفوضى، وانعدام معايير الحساب!
وقال الدكتور لويس عوض إن عبد الناصر، "هذا الضابط المتعجرف الذي وقف يوم الاعتداء عليه في ميدان المنشية، يهين الشعب المصري ذا الجهاد المتصل، قائلاً: "أنا علمتكم العزة والكرامة"! عاد فوصف الشعب المصري في الميثاق بأنه "المعلم العظيم"! ولكنه وثورته "دمرا بعض أسس المجتمع المصري الراقية، التي بناها المصريون خلال المئتي سنة الأخيرة، نتيجة احتكاكهم المباشر بالحضارة الأوربية".
وقد عدد الدكتور لويس عوض من هذه الأسس الراقية التي دمرها عبد الناصر ونظامه: مبدأ القومية المصرية، ومبدأ الحق الطبيعي، والحقوق والحريات الديمقراطية مثل: فصل الدين عن الدولة، وفصل السلطات، وسيادة القانون، وسيادة الأمة على الحكومة، وحرية الاجتماع، والتفكير، والتعبير، والعمل، والاختيار، وحرية التنظيم، والتمثيل، والتوكيل السياسي .. الخ.
وهكذا ـ وكما يقول الدكتور لويس عوض ـ زعزعت الناصرية إيمان المصرين بهويتهم المصرية، وبشخصيتهم المصرية، ومحت اسم مصر، ودعت المصريين إلى فقدان أنفسهم في كيان سياسي أكبر هو كيان الأمة العربية الممتدة من الخليج إلى المحيط! وبعد أن كانت العروبة في سنتي 1953 و 1954 ـ أيام فلسفة الثورة ـ مجرد دائرة من الدوائر الثلاث التي تقع مصر في تقاطعها، وتستخدمها رصيداً لقوتها ولقوة المنطقة العربية، أصبحت مصر مركز دائرة واحدة هي دولة الوحدة العربية. كذلك نسفت الناصرية أكثر الحقوق والحريات الديمقراطية، وقبلت من حزب البعث فلسفة القومية العربية، ولم تجعلها دين الدولة الرسمي فحسب، بل جعلتها المصدر الرئيسي للسياسة والتشريع والقيم الفكرية والاجتماعية، وأعطت الدولة حق إلزام الناس بها، وحق تلقين الأجيال الجديدة بها، وتنشئتهم عليها كما لو كانت من مقولات الوحي التي لا تناقش!
وبالمثل اضطلعت الثورة الناصرية بحل كافة التنظيمات السياسية، وتحريم كافة التجمعات المنظمة، وتجريم كافة التجمعات غير المنظمة، وإقامة حياتنا السياسية على مبدأ تحالف قوى الشعب العاملة داخل وعاء واحد تسيطر عليه الدولة، وهو: هيئة التحرير، فالاتحاد القومي، ثم الإتحاد الإشتراكي.
وفي الوقت نفسه، وكما يقول الدكتور لويس عوض. اقتلعت الثورة الناصرية حق الأفراد والجماعات والطبقات في التفكير السياسي، وحريتها في العمل السياسي، وبذلك جردت هذه الثورة المصريين من حقوقهم السياسية، وعزلت الشعب المصري برمته عزلاً سياسياً! اللهم إلا من سار في مسيرتها بالولاء الشخصي.
كذلك ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ ألغت الثورة الفرق بين الدولة والحكومة، فغدت الحكومة هي الدولة، والحكومة هي الدولة! كما ألغت الفرق بين الشعب ووكلائه المعبرين عن إرادته، لأنها جردت الشعب المصري من حق توكيله للمثليه السياسيين المختارين له من قبل الثورة، وأنكرت التعارض بين مصالح الطبقات!
وفي عهد عبد الناصر، انهارت نظرية القانون نفسها! فتحول القانون من معيار موضوعي واضح يستمد من العرف العام ومن الضمير العام ومن المصلحة العامة، إلى قرارات وإجراءات فردية تقديرية تتخذ، مستمدة من الظروف الموقوتة والاحتياجات الطارئة! وابتكر سوفسطائيو الثورة نظرية "الفقه الثوري" و "الشرعية الثورية"، ليبرروا هذه الإجراءات والقرارات الاستثنائية، بدلا من أن يبصروا الحاكم بأن الفقه الثوري والشرعية الثورية، معناهما وضع فلسفة تشريعية جديدة، موضوعية المعايير، مستمدة، لا من سلطات الحاكم التقديرية، ولكن من العرف العام والضمير العام والمصلحة العامة للطبقات التي قامت الثورة لترد لها أهليتها القانونية، وللغايات التي قامت الثورة لتحقيقها.
"أما حرية التعبير" ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ اندمجت فيها السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، ومعها السلطة الرابعة (الصحافة) وغدت كلها الأذرع الأربع للزعيم الذي تجسدت فيه إرادة الولة"!
"بل إن وظائف الجيش والبوليس، اختلط بعضها ببعضها الآخر بعد ‘لان عضوية الجيش في تحالف قوى الشعب، لأنه غدا ـ بهذا ـ مسئولاً مسئولية رسمية عن حماية النظام الداخلي، لأنه طرف من أطرافه"!
وسخر الدكتور لويس عوض من التوسع المصري في البلاد العربية في عهد عبد الناصر ومن مقارنة عبد الناصر بمحدم علي قائلا: "إنك إذا أردت أن تجرب تجربة محمد علي، فلابد ان يكون لديك إبراهيم باشا والكولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي)! أما أن تجرب تجربة محدم علي باشا ومعك الصاغ عبد الحكيم عامر، الذي كلما خسر حرباً انتقل إلى رتبة أعلى!، فهذا أقصر الطرق إلى الكوارث القومية"!
وتساءل: كيف ائتمن عبد الناصر المشير عامر على قيادة الجيوش، وهو لا يستطيع أن يقود كتيبة؟ وقال إنه بعد أن خسر عبد الحكيم عامر معركة الوحدة مع سوريا، كان ينبغي على عبد الناصر أن يقيله، ويجرده من رتبته العسكرية، لا حرصا على الوحدة، ولكن حرصاً على هيبة مصر التي أضاعها بغفلته! وبعد أن خسر عبد الحكيم عامر حرب اليمن كان ينبغي أن يفعل فيه عبد الناصر أشياء كثيرة، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذه الأشياء، حتى خسر عبد الحكيم عامر حرب 1967! وعندئذ تحرك عبد الناصر وطلب إليه أن يستقيل، بدلاً من انيحيله إلى المحاكمة العسكرية، لأن مسئولية الهزيمة اقتربت من عبد الناصر شخصياً! وكان لابد من تقديم قربان للشعب المصري الغاضب، ولكن عبد الحكيم عامر رفض الاستقالة وأصر أن يجر معه عبد الناصر إلى الهاوية، ومنطقه: إن كانت هناك مسئولية فكلانا مسئول، وكلانا ينبغي أن ينصرف.
وسخر الدكتور لويس عوض من تبرير محمد حسنين هيكل تمسك عبد الناصر بعبد الحكيم عامر قائداً عاماً لجيوشه بأن "عبد الناصر، كان يحب عبد الحكيم عامر، من كل زملاء عبد الناصر كان أحبهم على قلبه!" وتساءل: وما يهم الشعب المصري والشعوب العربية إن كان عبد الناصر يحب عبد الحكيم عامر أو لا يحبه؟ المهم هو: هل كان عبد الحكيم عامر يصلح لعمله أو لا يصلح؟ ولكن نتائج الحروب الكثيرة التي خاضتها مصر والتي خسرتها بطريقة مشينة، بسبب الغفلة والارتباك، وربما بسبب الجهل أيضاً، تدل على أن عبد الحكيم عامر لم يكن يصلح.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تمسك عبد الناصر بعبد الحكيم عامر؟ لقد تمسك به لأن المشير لم يكن من أطماعه أن ينازع عبد الناصر مكان الزعامة، لأن الزعامة رهبانية وهو محب للحياة! وكان نظام عبد الناصر بحاجة إلى حراسة الجيش سياسياً وعسكرياً، وقد أدى عبد الحكيم عامر لعبد الناصر هذه المهمة ووقاه شر الانقلابات العسكرية! ولذا لم يتخل عبد الناصر عنه، متغاضياً عن أخطائه الكثيرة، وكان عليه أن يدرك أن من يحاول اقتحامات محمد علي، ويلوح دائماً "بأكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط"، ينبغي عليه أن يحسن اختيار جنرالاته!
وقال الدكتور لويس عوض إن الأمر لم يتوقف على سوء اختيار عبد الناصر لجنرالاته، بل إن مخابراته العسكرية أيضاً كانت ـ في مجموعها العام ـ دون المستوى الذي يمكنها من جمع المعلومات الصحيحة عن العدو وتحليلها ـ أو لعلها مشغولة بأمور أخرى! ـ ولذلك قدمت لعبد الناصر صورة مضللة عن الموقف في القناة سنة 1956، وفي سوريا سنة 1961، وفي اليمن بين 1962 و 1967، وفي سيناء 1967! ـ على غرار ما كان يفعله رؤساء المؤسسات والقطاع العام!
وقد سخر الدكتور لويس عوض من مقارنة عبد الناصر بمحمد علي، وحذوه حذو محمد علي في صنع السلاح المصري، وقال "إن من أراد تجييش الجيوش على نهج محمد علي؛ وحذوه حذو محمد علي في صنع السلاح المصري على أرض مصرية وبأيد مصرية، كان يجب عليه أن يحسن اختيار خبراء السلاح"، ولكنا سمعنا عن صواريخ الظافر والقاهر، ولم نلمس لها نتيجة! وكان من العجائب أن سمعنا أن المصانع الحربية تنتج أفران البوتاجاز وما شابهها من الدوات المنزلية!
أما خبراء تصنيع السلاح الأجانب، فلعلة ما، كما يقول الدكتور لويس عوض ـ لم تستعن مصر بدولة من الدول الصديقة العريقة في تصنيع السلاح، كالسويد وتشيكوسلوفاكيا وإيطاليا، وإنما اجتذبت حثالة النازيين، الذين تبين فيما بعد أنهم كانوا جواسيس إسرائيل! وكانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هي المورد الأول لهؤلاء النازيين! بعد أن حصلت أمريكا وروسيا على خيرة العلماء الألمان ولم يبق لمصر وللعالم الثالث إلا شذاذ الآفاق!
وهاجم الدكتور لويس عوض تبريرات الناصريين لهزيمة يونيه 1967، قائلاً: صوروا "مصرع مصر والناصرية في 1967، كأنه مجرد جريمة من جرائم الاستعمار العالمي بلا زيادة ولا نقصان! وكأننا كنا فيه مجرد ذبيحة بريئة من ذبائح الدول العظمى، لا مسئولية علينا في شيء مما حدث!".
وشبه الدكتور لويس عوض نظرية التحالف الطبقي بالإكراه التي اتبعها عبد الناصر في "الاتحاد القومي"، بمنهج الفاشية والنازية، يعرف أن أساس الفاشية والنازية هو نظرية الاتحاد القومي بين طبقات المجتمع الواحد لتصفيبة الصراع الطبقي الداخلي، وإسقاط التنقاضات الطبقية في الخارج، وهي من أصل كلمة "الفاسكيس" اللاتينية، بمعنى عصبة العصى التي يصعب تحطيمها ـ وقال إن هذا ما عمله موسوليني للشعب الإيطالي، وهتلر للشعب الألماني، كرد على نظرية الطبقات، وهو ما فعله عبد الناصر للشعب المصري!
34- رسالة مصطفى أمين إلى عبد الناصر (الوفد في 7 / 4 / 1997)
في مقالاتي السابقة عن انتهاك عبد الناصر لحقوق الإنسان، تعمدت ان أروي تجربة اليسار مع عبد الناصر، لأنها الوحيدة التي لا يستطيع حملة قميص عبد الناصر إنكارها، بحكم التحالف بينهم وبين اليساريين، الذي نسي فيه اليساريون ما لاقوه على يد عبد الناصر مما لم يشهده تاريخ التعذيب على مر العصور، لأنه كان تعذيباً بدون أي هدف أو غاية يراد تحقيقها، وإنما كان ـ كما كتب الدكتور رفعت السعيد ـ تعذيباً للتعذيب!
على أنه منذ أيام، وبمناسبة مرض الأستاذ مصطفى أمين، رأت جريدة الناصريين إهداءه باقة ورد ممثلة في محاكمته أيام عبد الناصر بتهمة الجاسوسية! وظنت الجريدة الساذجة أن شعبنا في أيام مبارك مازال يعيش في أيام الحكم الدكتاتوري لعبد الناصر! وأنه سوف يصدق تلك "الفبركة" الدموية التي لفقها نظام عبد الناصر لمصطفى أمين! ولكن شعبنا ضحك لما فعلته الجريدة، فما زال مصطفى أمين يكتب كقلم من الأقلام الشريفة التي تدافع عن الحرية والديمقراطية في بلدنا، مرتفعا فوق التهمة التي لفقها نظام عبد الناصر. على أنه كان من واجب الصحيفة، مادام أنها أثارت هذه القضية، أن تستكملها برواية ما ارتكبه النظام الناصري من جرائم في حقوق الإنسان في هذه القضية، وما وفره لمصطفى أمين من حقوق الدفاع عن النفس على أساس أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته أمام محاكمة عادلة، ولكن الجريدة لسوء حظها أهملت هذا الجانب، الأمر الذي يمنحني الفرصة كاملة، لتعريف القارئ الكريم بهذا الجانب، نقلاً عن رسالة أرسلها مصطفى أمين لعبد الناصر من سجن الاستئناف يوم 7 ديسمبر 1965، ترسم صورة كاملة لطريقة ثورة يوليو في احترام حقوق الإنسان! وأرجو من القاري أن يحبس أنفاسه وهو يقرأ رسالة مصطفى أمين لعبد الناصر، مع قبول اعتذاري لما فيها من اختصار غير مخل. تقول الرسالة:
"قبض عليّ يوم 21 يوليو (1965)، ووضعوا في يدي الحديد! وحملوني في سيارة من الإسكندرية إلى القاهرة، ووضعوا على عيني عصابة سوداء! وأدخلوني على صلاح نصر، فقال لي: إن الرئيس هو الذي أمر بالقبض عليك لاتصالك بالأمريكي أوديل!
"قلت له: إن اتصالي بأوديل لم يكن سراً عليك! وأنت تسألني من شهور عن أسماء الأمريكيين الذي أجتمع بهم من موظفي السفارة، فذكرت لك أسمائهم جميعاً، وفي مقدمتهم أوديل؟. وطلبت مني أن أسأله عن بعض معلومات عن موقف أمريكا من مصر، وجئت في مكتبك هنا، وأبلغتك بما قاله.
"ثم أخذوني إلى زنزانة في سجن المخابرات، ونزعوا ثيابي، وأصبحت عارياً تماماً! ووجهوا إلي مصابيح كشافة كادت تعمي عيني! وراحوا يضربونني، وصلبوني على الحائط، وثبتوا كل يد في قيد من الحديد بأعلى الجدار، ثم راحوا يرفسونني!
"وتدموا، ونزعوا بأيديهم شعر العانة!، واستأنفوا الضرب، والصفع، والرفس بالأيدي وبالأقدام وبالعصي!
"ثم فكوا القيد من يدي، وربطوا جهازي التناسلي بسلك، وجذبوني منه! وداروا بي حول الغرفة عدة مرات! ففقد بصري الرؤية، وتحولت وجوه الزبانية إلى أشباح ثم سقطت مغشياً عليّ.
"وأيقظوني، وبدءوا يضربونني من جديد، ويشدون شعر بطني وعانتي! وكان العذاب مريعاً، قاسياً، ومع ذلك تحملته. ولكنني لم أحتمل عندما شتموا أمي وقالوا إنها "شرموطة"! عندئذ بكيت.
"ولم يشفقوا على حالتي المرضية، ولم يشفقوا على سني، ولم يشفقوا على دموعي، واستمروا في إهاناتهم، وفي ضربهم وركلهم!
"ولم يكن التعذيب يوماً واحداً، لقد استمر أيام يوليو العشرة، وإلى أواخر أغسطس. كل يوم أعرى، وأضرب وأصلب، وأتلقى الإهانات والعذاب!
"وقال لي الزبانية أثناء التعذيب: أنني كنت ابلغك (عبد الناصر) بأخبار المخابرات، ورجال المشير الخاصة، وبعض مسائل خاصة عن حياة المشير الخاصة. فأقسمت لهم أنني لم أفعل ذلك. ولكنهم لم يصدقوا، وأصروا على أن معلوماتهم تؤكد ذلك، وهددوني بأن صلاح نصر سيقتلني بسم لا يمكن أن يكتشفه أي طبيب شرعي في العالم!
"وأخذني حمزة البسيوني إلى السجن الحربي، وأدخلوني غرفة تعذيب سوداء، بلا نوافذ، وأطلقوا علي عددا من الكلاب البوليسية الهائجة، كانت تهجم وتمزق ملابسي، وتركوني تحت رحمة الكلاب.
"ودخل حمزة البسيوني، وقال إنه سيدفنني بالحياة هناك، وإنه دفن بنفسه عشرات من الأحياء! وقال إنه سيقتلني في السجن الحربي ويقول إنني هربت!
"ويخرج حمزة البسيوني، وتدخل الكلاب! وتتكرر عملية التعذيب!
ثم يدخل عملاق يرتدي ملابس الجلاد، يدور حولي وكأنه يعاينني قبل تنفيذ حكم الإعدام!
"ونقلوني من الجسن الحربي بسيارة، معصوب العينين، إلى بناء المخابرات، حيث بدأ الجحيم من جديد: جردوني من ملابسي، وصلبوني، وضربوني. كانوا يتفننون في وسائل التعذيب!
"وأحضروا ثلاثة حراس يلازمونني بالنهار، وثلاثة حراس يلازمونني بالليل، مهمتهم أن يمنعوني أن أنام أو أغمض عيني، فإذا أغمضت عيني دفعوني بقبضات مسدساتهم حتى لا أنام!
"عدة ليال لم اذق فيها طعم النوم، عدة أيام حرمت فيها من الطعام، وعدة أيام في شهر يوليو وشهر أغسطس لم أذق فيها طعم الماء! واضطررت ان أشرب من ماء التواليت من شدة العطش! وكانوا يجيئون بكوب ماء مثلجة، ويضعونه على المائدة أمامي، فإذا قدمت يدي لأتناول الكوب، ألقاه الضابط على الأرض!
"فإذا انكفأت على الأرض اشرب الماء، ضربوني ومنعوني من الشرب، أو رفسوني حتى أسقط مغمى عليّ!
"ولم يكن اهتمامهم بالقضية أو التحقيق! كل ما كان يهمهم المسائل النسائية: سؤال عن نساء معينات! سؤال عن سيدة معينة! وهل كان بيني وبينها علاقة؟ وهل قالت إن بينها وبين شخصية كبيرة في الدولة علاقة؟ وهل أخبرت الرئيس بما سمعته عن ههذ العلاقة، أو علاقات غرامية أخرى للشخصية الكبيرة؟ ساعات طويلة؟ وأحاديثهم عن الجنس! وعن أنواع النساء! وعن مسائل لا يجوز ان يتحدث فيها رجل محترم.
"ولكنني كنت أذهل من اهتمام هذه الأجهزة بمثل هذه المسائل القذرة، وبكل تفاصيلها! وعندما أرفض أن أتحدث في مثل هذه المسائل القذرة يتهموني بأنني غير متعاون! ويهددوني بالتعذيب لأنني لا أريد أن أقول لهم ام أدوية يتوهمون أنني أستعملها في العلاقات الجنسية!
"وقد قال لي أحد الزبانية مرة: إنني سأحضر إلى هنا سكرتيرتك، وبناتك وسأترك العساكر يعتدون عليهن أمام عينيك.
"وفعلا أحضروا سكرتيرتي في الليل، إلى غرفة بجوار الغرفة التي كنت بها، وجعلوني أسمع بأذني صراخها، وسمعتهم يهددونها بإحضار بناتها والاعتداء عليهن أمامها!
"وكنت أسمع طوال الليل أصوات أطفال يضربون بالسياط، ويبكون ويتأوهون ويصرخون! ثم أسمع أصوات استغاثة من الزنزانات، وبكاء، وسياط تضرب، وعصي تحطم الظهور!
فإذا توسلت إليهم أن ينقذوني من هذه الأصوات، قالوا لي إنك فقدت عقلك! وغنه لا توجد أصوات! وغنك تتخيل أشياء لا وجود لها! ثم جاءوا بمن يشهدون على أنه لا يوجد أي أصوات!
"ثم بعد ذلك يستأنفون إخراج هذه الأصوات المرعبة التي تحطم الأعصاب!
"لم أتحمل كل هذا التعذيب، وتوسلت إلى أحد الزبانية أن يعطيني مسدساً أقتل به نفسي!، ولكنهم لم يرحموني، واستمر التعذيب كل يوم، ولم أعد أعرف متى يبدأ ومتى ينتهي، وكنت أفزع كلما سمعت صوت أقدام تقترب من زنزانتي، كان معنى اقتراب الأقدام أن الزبانية جاءوا ليأخذوني ويصلبوني من جديد!
"واصطبوني إلى غرفة التعذيب، وشاهدت بنفسي عملية تعذيب مفجعة لأشخاص لا أعرفهم. وجاء أحد الزبانية، وقال لي: إن هناك سبع عمليات للتعذيب! وإن كل ما تعرضت له هو العملية الأولى! وهددني بأنني إذا لم أكتب ما يريدون، فإنني سأمر على العمليات السبع كلها!
"وجاءت النيابة، واستمر التعذيب! كانوا يضربونني قبل التحقيق وبعد التحقيق! بل ويحدث أحياناً أن يأخذوني أثناء التحقيق إلى غرفة مجاورة ويضربوني، ثم يعيدوني لاستئناف التحديد!
والغريب أنني لم أستطع أن أنفرد بوكيل النيابة لحظة واحدة! كان ثلاثة من ضباط المخبرات يحضرون كل تحقيق، وكانوا يجلسون أمامي وورائي، فإذا لم يعجبهم كلامي زغدوني! وأشاروا لي! أو سحبوني إلى خارج الغرفة وضربوني، وأعادوا التحقيق!
"ونهاية التحقيق، أحضروا أشرطة قالوا أنها بصوتي! وعرفت على الفور أنها ملفقة، فقد قاموا بعملية مونتاج، فغيروا وبدول وعكسوا ونقلوا وحذفوا! وعلى الفور اكتشفت عملية التزييف، وشاء الله أن تظهر حقائق واضحة تثبت التزييف، وأردت أن تظهر هذه الأدلة، فأخذوني وضربوني وعلقوني من جديد، ومنعوا علي الطعام ومنعوني من النوم، ومن شرب الماء والتدخين!
"وكان الزبانية يهددوني ويقولون لي: لو فتحت فمك عن التعذيب في المحكمة أو أمام أي أحد، فسنقتلك، وسنصدر قانون يمنع المحامي أن يذكر أن هناك تعذيباً يسمح بالطعن في الأدلة التي نقدمها.
"وكنت أنتقل ذهاباً وإياباً بين غرفة مريحة فيها سرير وطعام وماء، وغرفة تعذيب أعلق فيها على الحائط! فإذا كتبت ما يريدون فإنني أستطيه أن أنام على سرير، وأن آكل، وأن أشرب الماء، وإذا رفضت أن أكتب ما يريدون، بدأت عملية التعذيب من جديد!
"إنني أعرف أن أعضاء هذه العصابة أقوياء، وأعرف أنهم استطاعوا أن يحطموني، وأن يلوثوني، وأن يلفقوا لي هذه القضية، وأن يدوسوني بأقدامهم، وأن يمنعوني من أن أرفع صوتي للدفاع عن نفسي، ولكني أعرف أن الله أكبر منهم جميعاً.
"المهم أن تعلم يا سيادة الرئيس أن هذا الجهاز هو جهاز فاسد، وأنه مليء بالجرام، وأنه يلفق التهم، وأنه يعمل لتضليلك وخاعك والكذب عليك، وأنه يخفي عنك الحقائق، وأن مهمته أن يلوث كل من يتصور أنه سيقول لك في يوم من الأيام حقيقة الفساد.
"إنني اخترت من تثق به ليسلمك هذا الخطاب، راجياً أن تحقق بنفسك، لا لتنقذني، فقد يكون القوت قد فات، ولكن لكي تنقذ مصر والمصريين من هذه العصابة"!
"انتهت رسالة مصطفى أمين إلى عبد الناصر، والمفارقة فيها أنه يشكو العصابة لرئيس العصابة! وأنه يتصور أن عبد الناصر كان غافلاً عما يفعل الظالمون! مع أنه كان رأس النظام الفاشي الذي أرسى هذه القواعد، وجند لها الزبانية المؤهلين لتطبيقها، وقام بتعيينهم، وحمايتهم من تدخل القانون!
ولكن المزعج أن هؤلاء الزبانية مازالوا يعيشون بيننا إلى اليوم! ولهم صحفهم، ودعاتهم وأقلامهم، وهم يضللون شبابنا، ويخرجون الأفلام التي تمجد عبد الناصر وتظهره في صورة المناضل العظيم، ويخفون الجانب المظلم من نظامه الفاشي الذي امتهن كرامة مفكري مصر وصحفييها وسياسييها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فلم يترك واحداً منهم إلا بعد أن ترك بصمته على ظهره بسياط زبانيته، وبعث الرعب المزمن في قلوبهم، حتى إنهم حتى اليوم يسبحون بحمد النظام الذي أذلهم وبث في قلوبهم الرعب!
ولكن التاريخ لا ينسى، وهو ما نحاول أن نثبته في هذه الدراسة التاريخية!
35- وفي عهد عبد الناصر تحسر الشيوعيون على أيام إسماعيل صدقي ! (الوفد في 14 / 4 / 1997)
"من سجن مصر، إلى ليمان طره، إلى تخشيبة الوايلي. إلى معتقل القلعة، إلى سجن الواحات الخارجة، إلى ليمان أبو زعبل، إلى تخشيبة مصر الجديدة، إلى سجن الاستئناف، إلى تخشيبة السيدة زينب، إلى سجن المحاريق إلى سجن القناطر الخيرية"!
هذه هي رحلة يساري مصري في العصر الرشيد .. عصر الكرامة لعبد الناصر! على مدى اثني عشر عاماً كاملة، نهديها إلى اليسار المصري المتحالف اليوم مع الناصريين، فيما أسميته تحالف المجلودين مع الجلادين! أما هذا اليساري المصري فهو مصطفى طيبة، الذي سجل عن ذكرياته عن سنوات السجن والاعتقال والعذاب وفقدان الآدمية في كتاب من جزئين تحت عنوان: "رسائل سياسي إلى حبيبته" صدر عام 1980، ونهديها إلى الناصريين الذين كرسوا جريدتهم "العربي" للدفاع عن حقوق الإنسان في عهد مبارك، وهم أبعد بتاريخهم الأسود عن التصدي لهذه القضية التي تذركوا لها طوال عصر عبد الناصر، فامتهنت حقوق الإنسان في هذا العصر كما لم تمتهن في أي عصر من عصور مصر، وقضى المناضلون حياتهم في سجون ومعتقلات عبد الناصر بدون محاكمات وبدون أحكام، وإنما فقط بأوامر من الزعيم الفاشي الكبير!
لقد عاش اليساريون في عهود الوفد الليبرالية يحكمهم القانون الذي يطبق عليهم كما يطبق على جميع القوى السياسية. وحتى عندما كانت مؤامرات القصر تفلح في إبعاد الوفد عن الحكم، ويفرض القصر دكتاتوريته وسيطرته على الحياة السياسية في مصر، كانت هناك حدود لهذه الدكتاتورية وتلك السيطرة! فقد كان هناك نظام له ملامح مميزة، ولكنه قانون يعرف فيه كل منهم حقوقه وواجباته!
ولدينا في توضيح هذه الحقائق رواية مصطفى أمين عن عهود الوفد، ورواية مصطفى طيبة الذي شاء حظه أن يدخل السجن في عهد الملكية المستبدة في الأيام السابقة على ثورة يوليو، ويستمر في السجن بعد الثورة، ويعقد المقارنة بين عهد الملكية المستبدة التي كان يحكم بقانون إسماعيل صدقي وعهد عبد الناصر الذي غاب فيه القانون!
إن هذه المقارنة التاريخية مهمة في تأكيد الصورة الفاشية لنظام عبد الناصر، وهي جديرة بأن يعرفها القراء والجيل الجديد الذي يضلله الناصريون بشعارات هم أبعد ما يكونون عن تطبيقها، وهم آخر من يتجرأ من البشر على المناداة بها!
ورواية مصطفى عن عهود الوفد كتبها أثناء تجربته الدامية في سجون عبد الناصر، وتمضي على النحو الآتي:
"عرفت وأنا في سجن المخابرات أن مصطفى النحاس توفي إلى رحمة الله، وحزنت كثيراً عليه، وأسفت أنني لا أستطيع أن اكتب رثاء له. لقد أحببت هذا الرجل وحاربته، وسجنت من اجله، وفصلت من المدارس، من اجله، واختلفت معه في الرأي وهاجمته وهو رئيس حكومة، فلم يفكر في أن يضعني في السجن!
"ولو كنت كتبت اليوم عن سكرتير احد الوزراء ما كتبت عن رئيس الحكومة مصطفى النحاس، لشنقوني، أو أعدموني رمياً بالرصاص!
"ولقد قبض علي في عهد النحاس سنة 1951 ستاً وعشرين مرة، ولكني كنت أدفع بكفالة، وأخرج من السجن! ولم يفكر النحاس في أن يدبر لي تهمة، او يحاكمني على جريمة أن برئ منها!
" من حق النحاس علي أن أشيد به وأنا مسجون، وأن أذكره كرجل قاد كفاح هذه الأمة، وضحى في سبيلها، ونفي من اجلها، وحمل الزعامة بعد سعد زغلول. وحزنت أن الصحف لم تخصص الصفحات للحديث عن تاريخ هذا الرجل وأمجاده التي هي تاريخ شعب مصر وأمجاد شعب مصر.
"وشعرت أن الزبانية هنا فزعوا من خروج الشعب كله لتحية الزعيم الكبير الراحل، واعتبروا هذه الجنازة الشعبية الهائلة ثورة على النظام، وانقضاضاً على الحكم! وقال لي أحدهم. غن الأمر صدر بالقبض على كل من سار في المظاهرة! قلت له ساخراً: هل ستقبضون على ثلاثة ملايين؟ إن السجون والمعتقلات مزدحمة ولا يوجد فيها أماكن خالية! قال لي ساخراً: هل كنت ستشترك في تشييع الجنازة؟ قلت: لولا أنني مسجون لسرت في الجنازة! قال ضاحكاً: وكنا قبضنا عليك!
"ثم ذكر لي الزبانية أشياء أذهلتني! قالوا إن الأوامر صدرت بالقبض على مئات الوفديين المعروفين، بتهمة أنهم مشوا في الجنازة! ولم أكن أعلم أن الوفاء أصبح جريمة في هذا البلد!".
كانت هذه هي رواية مصطفى أمين عن عهود الوفد. اما رواية مصطفى طيبة، التي يتحسر فيها على انون إسماعيل صدقي الذي صدر أثناء حكم القصر! فقد رواها من واقع اعتقاله في عهد فاروق يوم 18 يوليو 1952،قبل فيام ثورة يوليو بخمسة أيام فقط، وفي أثناء فرض الأحكام العرفية بعد حريق القاهرة، بتهمة تأسيس وإدارة الحزب الشيوعي المصري"، واستمر اعتقاله بعد قيام الثورة لمدة اثنى عشر عاماً! بتهمة قلب نظام الحكم!
فيسجل أنه عندما كان التحقيق يجري معه في ظل الأحكام العرفية قبل الثورة، حين بدأ رئيس النيابة التحقيق معه، وكان القيد الحديدي في معصمه، طلب منه فك قيده الحديدي "احتراماً للسلطة القضائية"! فإذا بالرجل يختلط في وجهه الغضب بحمرة الخجل ليكسو وجهه بلون غريب جسد كل ما يعانيه الرجل من مذلة ومهانة"! وكانت هذه الملحوظة كافية لفك القيد الحديدي!
وعندما قامت الثورة ظن مصطفى طيبة انه سوف يفرج عنه، حيث أكد المحامون له ان النيابة لا تملك دليلاً واحداً ضده. كما جاءت تصريحات الثورة، في شهر أغسطس بأن كل المسجونين السياسيين الذين اعتقلوا قبل 23 يوليو، سوف يفرج عنهم فوراً ـ لتؤكد هذا الشعور.
على أنه ظل في السجن! ثم صدر قانون يعطي الحق للذين يرون أن سياسيون ولم يفرج عنهم، بتقديم تظلمات أمام محكمة خاصة شكلت لهذا الغرض. "فتقدمنا بتظلمات، وبعد عدد من الجلسات أصدرت المحكمة حكماً برفض تظلماتنا! وقال في حيثيات الحكم إن الشيوعيين ليسوا سياسيين! وغنما هم اقتصاديون! وأنهم يصبحون سياسيين في حالة واحدة فقط، هي حالة استيلائهم على السلطة"!
ويقول مصطفى طيبة إنه، قبل نظر قضية التظلمات السياسية كان قرار الاتهام قد وصله، فوجد نفسه هو وزميله مصطفى كمال خليل، اللذين اعتقلا قبل 23 يوليو في قرار واحد، مع 21 آخرين قبضت عليهم ثورة يوليو، في قرار واحد، وكان الاتهام الموجه للجميع هو محاولة قلب نظام الحكم!
أي اثنان متهمان بقلب نظام الحكم الملكي، والباقون متهمون بقلب نظام ثورة يولي! فلقد تولت ثورة يوليو مهاك نظام الحكم الملكي في البطش بالشعب، ولكن بطريقة أكثر كفاءة! فأخذت توجه ضرباتها إلى الوفد، وفي الوقت نفسه أخذت توجه ضرباتها إلى الطبقة العاملة، فأعدمت خميس والبقري وأدخلت الحركة النقابية الشقوق! ونظراً لعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، فإنها أولت الشيوعيين عناية خاصة تضاءلت إلى جوارها عناية إسماعيل صدقي والنظام الملكي! فعلى حد قول مصطفى طيبة:
"بعد أيام من رفض تظلماتنا، سحبت قضيتنا من أمام محكمة الجنايات العسكرية (وأعضاؤها مستشارون) كي ينظرها "مجلس عسكري" (أعضاؤه عسكريون)! وبرئاسة القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن، نائب أحكام عسكري، وبإجراءات مجلس عسكري!
كانت هذه أول قضية شيوعية شكل لها مجلس عسكري خاص، الأمر الذي يوضح الفرق بين الحكم الملكي في أسوأ عهوده تحت الأحكام العرفية، وثورة يوليو الفاشية! ويقول مصطفى طيبة إنه في ذلك الحين نشرت روز اليوسف خبراً يقول بأن الدوائر الأمريكية ارتاحت لتشكيل مجلس عسكري لمحاكمة الشيوعيين!
وقد كان على أثر ذلك أن ثار السؤال: بأي قانون سوف يحاكم الشيوعيون؟ وعلى قول مصطفى طيبة:
"ظللنا أياماً قبل بدء المحاكمة نسأل: بأي قانون سوف نحاكم؟ هل بقانون صدقي، الذي أقصى عقوبة فيه هي 10 سنوات أشغال شاقة؟ او بقانون محاكم الثورة، والذي تصل أحكامه إلى الإعدام؟
"وأصبح قانون صدقي الذي صدر عام 1946 ـ وهو قانون غير دستوري لأنه صدر في غيبة البرلمان ـ حلما نتمناه!"
ويصور مصطفى طيبة الفوضى التي سادت في ذلك الحين بعد غياب القانون، فيقول: "مضت أيام لم تصلنا أي إجابة على هذا السؤال! حتى المحامين الذين وكلوا للدفاع عنا لم يعرفوا إجابة على هذا السؤال! أكثر من ذلك، لم نكن نعرف، ولا المحامون يعرفون: أين سنحاكم؟
هل في إحدى قاعات المحاكم الجنائية، او أحد معسكرات الجيش؟ ووصلتنا إشاعات تقول بأن النية متجهة إلى محاكمات سريعة في أحد معسكرات الجيش، وإصدار عدد من الأحكام بالإعدام، وتنفيذها فوراً رمياً بالرصاص! على هذا النحو أصبح الحكم الملكي ـ في أسوأ عهوده تحت الأحكام العرفية ـ أملاً بعيد المنال للشيوعيين بعد وقوع البلاد في الفوضى التي أحدثتها ثورة يوليو الفاشية، ويقول مصطفى طيبة: "هكذا عشنا أكثر من عشرة أيام نهباً للإشاعات والأخبار المتضاربة، ولم نعرف وفق أي قانون سنحاكم إلا من نائب الأحكام البكباشي حسن سري قبل أن تبدا أول جلسة للمحاكمة!
كان شبح محاكمة خميس والبقري وما قضت به من إعدامهما مخيماً على مصطفى طيبة وزملائه، ولذلك حين حملتهم سيارات السجن وسط المدافع وفي أيديهم القيود الحديدية إلى مكان المحاكمة، كانوا يظنون أنهم متجهين إلى إحدى معسكرات الجيش، "نحاكم هناك زي خميس والبقري"! فلما علموا من مأمور الحرس أنهم متجهون إلى محكمة الاستئناف بباب الخلق، صاح الجميع فرحاً! فقد كان ذلك يعني الإفلات من مصير خميس والبقري!
ولكن اليأس كان مخيماً على المحامين التقدميين، لدرجة أنهم تنحوا عن الدفاع تحت الاعتقاد بأن "الأحكام صادرة بالفعل من قبل المحاكمة". ولا أمل في أي دفاع.
وفي ذلك يقول مصطفى طيبة: "جاء عدد كبير من المحامين التقدمييم والوطنيين. كان من التقدميين أسماء لامعة، ولمعت أكثر في الستينيات، وكنت أعرفهم جميعاً، وللأسف كان موقفهم مخزيا: واحد منهم تنحى عن الدفاع عني. وآخرون تنحوا أيضاً. ولما سالت عن السبب قالوا:
"أصل مافيش فايدة. الأحكام صادرة .. صادرة"!
"الذين دافعوا عنا كانوا متطوعين من بين الوفديين: سليمان غنام، وأحمد الحضري، ومن بين رجال المحاماة البارزين، موريس أرقش، وعادل أمين وغيرهم. وجاءني الدكتور مدحت في قفص الاتهام يطلب مني ـ في شبه رجاء ـ ان أقبل انتدابه للدفاع عني مع الأستاذ سليمان غنام"!
36- عندما انتهت المحاكمة بالقبض على القاضي والمحامي !! (الوفد في 21 / 4 / 1996)
لعل كلام المناضل اليساري مصطفى طيبة الذي نشرناه في المقال السابق، الذي أبدى فيه تحسره على أيام إسماعيل صدقي، يمثل قمة المأساة التي عاشها اليساريون في عصر عبد الناصر! وهو العصر الذي يدافعون عنه اليوم بغير عذر مقبول، مما أعطى البعض من كبار الكتاب الإيحاء بأن عصر عبد الناصر كان عصراً شيوعياً، مستندين في ذلك إلى تأميمه وسائل الإنتاج في يولية 1961! على أن الدكتور لويس عوض نبه إلى أن تأميم وسائل الإنتاج لا يعني الشيوعية، وبرر ذلك بأن عبد الناصر سوف يدخل التاريخ بإنجازين هما:
تصفية الشيوعية، وتصفية الديموقراطية، وهذان الإنجازان يضعانه تاريخياً في سلك الإشتراكية الوطنية، أي النازية!
وقد وصف مصطفى طيبة الفوضى واليأس الذي انتاب المحامين اليساريين حتى إنهم تنحوا عن الدفاع على أساس اقتناعهم بأن "الأحكام صادرة .. صادرة من قبل المحاكمة، ومافيش فايدة"، ولكن المحامين الوفديين تصدوا للدفاع عن الشيوعيين، وكانت ثقتهم في البراءة كبيرة، فقد كانوا واقعين في وهم أن هناك قانوناً سوف تحترمه ثورة يوليو! ولسبب آخر سربه أحد المحامين لمصطفى طيبة، فقد قال له: أنت براءتك مائة في المئة! وعندما استفسر منه مصطفى طيبة عن السبب، قال له: إن التهمة الموجهة إليك هي قلب نظام الحكم الملكي، وها هم الضباط قد قلبوا نظام الحكم الملكي الذي أن متهم بمحاولة قلبه، ومن ثم فإما أن تطلع أنت براءة، وإنما أن يدخل ضباط يوليو السجن مع!
على أن الأمور لم تكن بهذه البساطة، لأنها كانت تتطلب وجود حد أدنى من النظام والقانون، ولم يكن شيء من ذلك متوافراً، لأن مصطفى طيبة لم يلبث أن عرف أن القاضي الذي أخذ في محاكمته قد قبض عليه، بل قبض أيضاً على المحامي الذي كان يدافع عنه! وبذلك أصبح القاشي والمحامي والمتهم في السجن في ذلك العهد "المجيد"!
وتمضي رواية مصطفى طيبة المثيرة على النحو الآتي:
"قال لي الأستاذ سليمان غنام رحمه الله: "موقفك في القضية سليم جداً. لو طبق الانون فالحكم بالنسبة لك سيكن براءة! قلت ضاحكاً: هل السبب هو المنطق؟ قال ضاحكاً: أنا باقول: القانون، مش المنطق! قلت: يا أستاذ غنام، أنت موكل للدفاع عن الديموقراطية والحريات السياسية، وكل ما نريده هو أن يسمع الرأي العام دفاعك عن الحرية"
"وصاح الحاجب: محكمة! ودخل القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن رئيس المحكمة، وضابطان برتبة صاغ، وبعدها دخل حسن سري نائب الأحكام ثم علي نور الدين المدعي.
"وتقدم المحامون: سليمان غنام، وأحمد الحضري، وموريس أرقش، وعادل أمين يطلبون تأجيل المحاكمة حتى ينظر مجلس الدولة في المذكرة التي تقدموا بها يطعنون في دستورية تشكيل المجلس العسكري. ورفعت الجلسة للمداولة.
"وانعقدت المحكمة بعد نصف ساعة، وأعلن الرئيس قرار المحكمة الاستمرار في نظر القضية المعروضة حتى يصدر مجلس الدولة قراره بشأن اعتراض الدفاع على تشكيلها".
وعلى هذا النحو اتؤنفت المحاكمة، جلسات صباحية ومسائية، واستمرت شهرين كاملين".
"على أنه قبل أن تصل إجراءات المحاكمة إلى نهايتها بأيام، قبض على القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن رئيس المحكمة، وعلى المرحوم الأستاذ سليمان غنام! وهكذا انتهت المحاكمة بالقبض على رئيس المحكمة وعلى المحامي الذي يدافع عني"!
ويفسر مصطفى طيبة القبض على القاضي بالآتي: "الحقيقة كلنا غير قادرين على تفسير موقف أحمد شوقي عبد الرحمن! كان يهتم اهتماماً ملحوظاً بكل الجوانب القانونية، وكان يصر على علنية الجلسات رغم طلب المدعي مراراً بعقد الجلسات سرية، كما كان يطالب بنشر ما يدور بالمحاكمة في الصحف. وبالطبع لم تكن الصحف تنشر شيئاً فيما عدا جريدة "المصري" التي كانت تتحايل على نشر بعض ما يدور في جلسات المحاكمة. وكان القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن يثبت في محضر الجلسات أن الصحف عليها أن تنشر، ليكون الرأي العام رقيباً على ما يدور، وكان يطلب يومياً من نائب الأحكام الاتصال بالصحف ويطلب منها النشر، وكثيراً ما لام مندوبي الصحافة الذين يحضرون الجلسات"!
ومعنى هذا الكلام أن القائمقام أحمد شوقي كان مهتماً بإقامة العدل وتطبيق حكم الانون! وفي الحقيقة أنه لا يحتسب على ثوار يوليو، فعلى الرغم من أنه كان أكبر المشتركين رتبة بعد اللواء محمد نجيب، وكان قائد الكتيبة 13 مشاة التي قامت بحماية مدخل العباسية من ناحية كلية البوليس، واحتلت رئاسة الحدود، فإنه كان ديموقراطي النزعة، وكان من مؤيدي اللواء محمد نجيب، وبعد انتهاء أزمة مارس بانتصار عبد الناصر، حوكم أمام محكمة الثورة وصدر عليه الحكم بالسجن لعشر سنوات!
والمهم هو أنه بعد القبض على القاضي والمحامي أعيد مصطفى طيبة إلى سجن مصر في انتظار محاكمة جديدة أمام مجلس عسكري جديد برئاسة اللواء فؤاد الدجوي في أكتوبر 1954. وكان اعتقاد الجميع أن المحاكمة الجديدة سوف تبدأ من حيث انتهت المحاكمة الأولى، على نحو ما يحدث في المحاكم الجنائية، ولكنها بدأت بإجراءات جديدة بعد أن ألغى المجلس الجديد إجراءات المجلس السابق!
وفي ذلك يقول مصطفى طيبة: هذا النوع من المحاكمات، لا يقدم ضمانات: لا للقاضي، ولا للمحامي، ولا للمتهم!
وتسائل المتهمون: أين القاضي السابق القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن؟ وتساءل ] مصطفى طيبة: أين الأستاذ سليمان غنام؟ ويتقدم محام من مكتب الأستاذ غنام، ويقول: الأستاذ سليمان غنام قبض عليه، وهو يطلب السماح بحضوره للدفاع عن المتهم! وتقرر المحكمة انتداب محام آخر، ويصرخ مصطفى طيبة: أنا أرفض أي محام تنتدبه المحكمة، ومصر على الأستاذ غنام!
ويعترض المتهمون الثلاث والعشرون على تشكيل المجلس العسكري من حيث الشكل والموضوع، وتواجه الثورة ذلك بإطلاق إشاعات مرعبة بأن القضية ستحول إلى محكمة الثورة، الأمر الذي يعني الإعدام! ويقول مصطفى طيبة: "أزعجتنا هذه الشائعات، فبقانون إسماعيل صدقي غير الدستوري فإن أقصى عقوبة علينا هي عشرة أعوام شاقة، بينما قانون محكمة الثورة يصل إلى الإعدام!
وتستمر المحكمات عدة جلسات، ويعلن الدجوي انتهاء المحاكمة في النصف الثاني من نوفمبر 1953 ، وفي يوم 12 يناير تعلن الأحكام بشكل درامي على النحو الذي يرويه مصطفى طيبة على النحو الآتي:
"في يوم 12 يناير 1954 أعلنت حالة الطوارئ في السجن كله، وفي كل المنطقة المحيطة به، لسبب لم نعرفه ولم يعرفه أحد أيضاً إلا بعد أن وقف 23 زميلاً في طابور ليتلو ضابط كبير في الجيش الحكم الصادر عليهم. وكان يوماً مثيراً.
وقد كتبت جريدة المصري في يوم 13 يناير 1954 وصف الطريقة التي أعلنت بها الأحكام، تعبيرا عن موقف الوفد من الحريات السياسية والديموقراطية. ووفقاً لكلام مصطفى طيبة:
"لقد ظلت زنازين السجنكلها مغلقة حتى الساعة التاسعة صباحاً، على الرغم من أنها تفتح عادة في السابعة، واختفى صوت المنادي الذي ينادي يومياً على أسماء المساجين الذين يستحقون الزياة، وأغلقت الدكاكين والقهاوي المحيطة بالسجن، وبدا الأمر كما لو كان انقلاباً عسكرياً جديداً قد وقع. ولكن في التاسعة صباحاً فتح باب العنبر، ونودي على أسماء المساجين من أصحاب الرأي، واتفق الجميع بسرعة على الموقف أثناء تلاوة الأحكام.
كان الضابط الكبير ينادي على اسم السجني، ويتلو عليه الحكم الصادر ضده، فيهتف فور سماع الحكم عليه: "عاش كفاح الشعب المصري"! ويهتف السجين الآخر: "عاشت الحرية ويسقط الإرهاب"!
كان الجمع يشعرون أنهم انتقلوا إلى حكم عسكري فاشي اختفى منه القانون والعدل والنظام. وقول مصطفى طيبة: لم يصدر حكم واحد بالبراءة! وارتفعت أصوات زملائنا في الزنازين المغلقة، وهم يرددون نشيد بلادي .. بلادي!
وحكم على مصطفى طيبة بالأشغال الشاقة عشر سنوات، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم الملكي! وهي التهمة التي قبض عليه من أجلها في عهد فاروق، وبطبيعة الحال فلم يكن في وسعه القيام بمحاولة قلب نظام الحكم في عهد الثورة، لأنه كان في السجن لا حول له ولا قوة.
وهذا يؤكد تلك الحقيقة التي أشرنا إليها، وهي أن ثورة يوليو بعد أن أسقطت نظام الحكم الملكي، تبنت كل شعاراته وسياساته، وقامت بتنفيذها بوسائل أكثر فاعلية ووحشية! فقد وقفت وحشية إسماعيل صدقي عند حد الحكم بالأشغال الشاقة لمدة عشرة أعوام، ولكن وحشية الثورة وصلت بهذا الحكم إلى الإعدام!
ويقول مصطفى طيبة إنه لم يكن وحده في الحكم عليه بالأشغال الشاقة عشرة أعوام، بل كان معه عشر آخرون، وتراوحت أحكام السجن على الباقين بين عشر وخمس سنوات.
وجاءت إجراءات تحويل المتهمين إلى محكوم عليهم بالأشغال الشاقة، لتصور هوية الثورة الفاشية. فقد كان هؤلاء سجناء سياسيين، أي أصحاب رأي، ولكن الثورة عاملتهم كمجرمين! فيقول مصطفى طيبة إنهم خلعوا الملابس العادية، ولبسوا ملابس الأشغال الشاقة: بدلة زرقاء ممزقة بالية، بها أعداد كبيرة من حشرات القمل والبق!
ويدق في كل قدم حلقة بها سلسلة من الحديد تتصل بالحلقة الأخرى، ووزنها 4 كيلو جرام! وتعلق في الوسط بواسطة حلقة أخرى تعلق في حزام جلدي!
وكان الحكم معناه أن يظل السجين السياسي المحكوم عليه بالأشغال الشاقة، مقيداً بهذه القيوم، لا يخلعها أبداً: سواء في نومه أو في يقظته، أو حتى عند الاستحمام!
"وعلى باب سجن مصر الخارجي كانت تنتظر عربتان، ركبت أنا وخمسة زملاء إحداها، وركب الخمسة الآخرون العربة الأخرى، وسارت العربة الأولى إلى ليمان أبي زعبل، واتحهت العربة الأخرى إلى ليمان طرة، وخلال الرحلة من سجن مصر إلى ليمان أبي زعبل كنا ننشد نشيد: بلادي .. بلادي، وننشد أيضاً: "أخي ما الحديد إذا ألبسونا الحديد، لقد جهلونا إذ حسبونا عبيد"!
37- سجناء الرأي في موكب العبيد ! (الوفد في 28 إبريل 1997)
رأينا في مقالنا السابق كيف انتقلت مصر مع ثورة يوليو "المجيدة"! من بلد يسوده القانون ـ حتى لو كان هذا القانون قانون إسماعيل صدقي! ـ إلى بلد تسوده الفوضى والانقسامات بين ضباط الثورة. وكيف انتهت المرحلة الأولى في محاكمة مصطفى طيبة بالقبض على القاشي وعلى المحامي! وهو ما يمثل قمة الفوضى وسيادة شريعة الغاب! ثم جاءت المرحلة الثانية من محاكمته على يد جزار شهير هو اللواء فؤاد الدجوي، الذي ألغى كل إجراءات المحكمة السابقة أمام القائمقام أحمد شوقي بعد القبض عليه، وبدأ إجراءات جديدة انتهت بالحكم على مصطفى طيبة بالأشغال الشاقة عشرة أعوام بتهمة محاولة قلب نظام الحكم الملكي!، وهي التهمة التي قبض عليه من أجلها في عهد فاروق قبل الثورة!
وعلى الرغم من أن مصطفى طيبة وزملائه كانوا سجناء رأي، فإن الثورة عاملتهم كمجرمين، فألبستهم ملابس الشغل الشاقة، ودقت في أقدامهم حلقت من الحديد تتصل ببعضها البعض بسلسلة من الحديد وزنها 4 كيلو جرامات، وتعلق في الوسط بواسطة حلق أخرى تعلق في حزام حديدي.
ويواصل مصطفى طيبة مذكراته فيقول: "كنا أمام ليمان أبو زعبل، وعلى باب الليمان كان يقف المأمور ومعه ثلاث ضباط، وأكثر من عشرة سجانة. ومن بعيد سمعنا أصوات قيود مئات المساجين العائدين من الجبل!
"كان موكب العبيد يقترب منا تدريجياً، وفي الأفق كان شعاع الشمس الأخير يختفي، والظلام يزحف مع زحف موكب المساجين العائدين بعد نهار كامل من الشغل في تقطيع أحجار البازلت في الجبل، ويحيط بهم عشرات الجنود، وهم يحملون المدافع الرشاشة، وعدد من الضباط يمتطون خيولهم.
"إذن سنكون من الغد في موكب العبيد هذا! وهل يطول بنا العمل عشر سنوات على هذه الحال؟ وهل نحتمل هذا العذاب اليومي؟".
وفي الزنزانة يوم 12 يناير 1954 أمضى مصطفى طيبة الليلة الأولى كأي مجرم قاتل من معتادي الإجرام وليس كمسجون سياسي من أصحاب الرأي! كان الجو شتاء في عز البرد، و "لسعات أسفلت أرض الزنزانة تخترق "البرش" الذي أجلس عليه، فأشهب واقفاً، وتحتك السلاسل الحديدية بقدمي العاريتين، أمسكها بيدي، أزيحها عن قدمي، أفرض بطانية مهترئة ممزقة على البرش، وأجلس.
"ولكن أنَّى لبرش منسوج من الليف وعليه هذه البطانية أن يحمي جسمي الذي أحاول تمديده من البرد القارص؟ أنفخ في يدي، وتبعث أنفاسي فيهما الدفء، ولكن جسمي كله يكاد يتجمد، كتفاي، وظهري، وصدري وقدماي، من أين يأتيهما الدفء؟ جسم شبه عار، قيد بسلاسل حديدية، وتحاصره جدران الزنزانة الأسمنتية، وأرضها الأسفلتية، والهواء البارد يصب على رأسي لسعاته الثلجية من نافذة الزنزانة العلوية، هكذا طوال الليل، محاولات يائسة للبحث عن أقل دفء، أقف تارة وأجلس تارة أخرى، وأمدد جسمي المنهك مرة ثالثة، والبرد لا يرحم! لا أذكر كم دقيقة نمت، ولا كيف نمت! وهل كان نوماً أو كان نوماً أو كان سقوطاً في غيبوبة!"
وهنا يصبح الالتحاق بموكب العبيد، والعمل في الجبل، أمنية كل سجين سياسي! لأنه يعني الخروج للشمس والهواء! كما يصبح الانتقال من ليمان أبو زعبل إلى ليمان طرة أمنية عزيزة غالية أيضاً!
فالعمل في ليمان أبو زعبل هو تكسير حجر البازلت، ولكن العمل في ليمان طره هو تكسير الحجر الجيري، وهو أقل صلابة من الحجر البازلت.
وكما يرى القارئ فإن المسائل نسبية، حتى في الأشغال الشاقة! وحتى في الاختيار بين الحبس في الزنزانة والعمل في موكب العبيد، أو في الاختيار بين تكسير حجر البازلت وتكسير الحجر الجيري! وفي الاختيار بين قضاء مدة الأشغال الشاقة في ليمان أبو زعبل أو قضائها في ليمان طرة!
مصطفى طيبة يتحدث عن ليمان أبو زعبل باحتقار، فهو مخصص لأصحاب السوابق، وسجناء الرأي ليسوا من أرباب السوابق.
وفي وسط الظلام الحالك الذي فرضه حكم ثورة يوليو، وفي الوقت الذي كان الصراع دائماً خارج الليمان بين القوى الوطنية والتقدمية وبين ضباط يوليو في أزمة مارس 1954 الشهيرة، انطلقت دعابة داخل ليمان أبو زعبل من أحد السجانة، نقلب سجناء الرأي من ظلام اليأس إلى نور الأمل. وكان الذي أطلق هذه الدعابة هو أحد السجانة، عندما سأله أحد سجناء الرأي عن الأخبار خارج الليمان؟ فإذا به يرد بأن النحاس باشا قد رأس الوزارة وأنه في حالة طيبة! ويصاب سجناء الرأي بالذهول ويسألون الحارس المداعب: هل النحاس باشا رئيس الحكومة؟ ويرد الرجل متصنعاً الجد: أيوه طبعا، أمال مين؟
ويروي مصطفى طيبة كيف هزتهم من الفرح هذه الدعابة التي أتقنها صاحبها، ونقلتهم من اليأس إلى الأمل، فيقول: "رحنا طول الليل نحلل الموقف السياسي. معقول جداً أن يعود الوفد إلى الحكم؟ ربما رضخت سلطة 23 يوليو لضغط الشعب، وتولى النحاس رئاسة الحكومة.
"مكثنا طوال الليل نحلل الموقف السياسي بعد أن تولى الوفد الحكم، وكأنه أصبح حقيقة! وخرجنا بطبيعة الحال بنتيجة منطقية، هي أن الوفد سيعتمد في حكمه على إطلاق الحريات السياسية والديمقراطية! وبدا أمل الإفراج عنا في الأفق، ثم رحنا في نوم عميف نحلم بالإفراج عنا .. بالحرية.
"وفي الصباح الباكر سمعنا صوتاً عالياً يطلب أن نستعد للخروج، وصاح أحدنا في سعادة بالغة:
- مش قلت لكم: إفراج؟ يحيا الوفد.
"فتحت الزنزانتان وخرجنا منهما، ولكن للعمل في الجبل، ومع ذلك لم نفقد الأمل في أن يكون النحاس باشا قد تولى الحكم بالفعل، وسوف يفرج هنا. ولكن أحدا لم يصرح بما في نفسه لزميله.
"سرنا في نهاية طابور العبيد في طريقنا إلى الجبل، ومن حسن حظنا أن ضابط العمل في ذلك اليوم كان صديقنا، وعندما اقترب منا سألنا: إزي الحال؟ ورددنا عليه: "الحمدلله، إيه حكاية النحاش باشا؟ ولم يملك الرجل نفسه من الضحك، وقال: "نحاس باشا مين ؟ انت بتحلم ؟ وتبددت كل أحلامنا، وكل التحليلات السياسية راحت هباء"
ولم يدر مصطفى طيبة وزملائه ان ضباط يوليو في ذلك الحين كانوا قد ضربوا القوى الوطنية والتقدمية، التي طالبت بعودة الجيش إلى ثكناته، وبالحرية والديموقراطية والحياة الدستورية. وأن هؤلاء الضباط انقضوا على من مدوا أيديهم إليهم وساعدوهم بالفتاوى الدستورية، فاعتدوا بالضرب على الدكتور عبد الرازق السنهوري في قلب دار مجلس الدولة، وفرضوا الرقابة الكثيفة على الصحف، وزجوا بالأحرار في السجون، وارتكبوا مذبحة الجامعة، وقضوا قضاءاً مبرماً على العصر الليبرالي في مصر.
ومع ذلك فقد كان من حسن حظ مصطفى طيبة ورفاقه أنهم كانوا مسجونين، وليسوا معتقلين!. كما كان من حسن حظهم أنهم كانوا محكوما عليهم بالأشغال الشاقة عشر سنوات، وليسوا معتقلين بإرادة عبد الناصر. وقد يدهش القارئ لهذا القول! فهل يكون من حسن حظ أي صاحب رأي أن يكون محكوماً عليه بالأشغال الشاقة وليس معتقلاً؟
إن هذه الحقيقة هي إحدى هزليات نظام حكم عبد الناصر التي نكشف عليها الستار في هذه الحلقات، وهي أن المحكوم عليه بالأشغال الشاقة من عتاة المجرمين كان أسعد حظاً بكثير من المعتقل بأمر عبد الناصر! فالسجين الأول يخضع للائحة السجون ويخضع للقانون، ولكن المعتقل بأمر عبد الناصر يخضع فقط للائحة زبانية التعذيب!
لقد كان سجين الرأي في نظر النظام الناصري أخطر على الدولة من القاتل وتاجر المخدرات وتاجر الرقيق الأبيض.
ومن هنا كان مصطفى طيبة ورفاقه من سعداء الحظ الذين حكم عليهم النظام الناصري بعشر سنوات أشغال شاقة بتهمة محاولة قلب نظام الحكم الملكي، (أي النظام الذي قلبته الثورة بالفعل!) فقد كان من حقهم أن يطالبوا بمطالب، ويضربوا عن الطعام، ويفرضوا أوضاعاً أقل سوءاً، ولكن المعتقلين بأمر عبد الناصر لم يكن من حقهم أي شيء.
ولذلك، عندما طلب معتقل، هو المهندس سيد عبد الله، من قائد معتقل الأوردي طلباً بسيطاً هو عبارة عن لبس أحذية أثناء تكسير حجارة البازلت في وادي العقارب، بدلا من العمل حفاة الأقدام وسط حيات "الطريشة" ذات الأجراس التي كانت تهاجم المعتقلين ـ "انهال عليه قائد المعتقل ضرباً بعصا أخذها من أحد العساكر وهو يصرخ كالثور الهائج: "أنا ماعنديش مسجون يطلب حاجة. إزاى تتجرأ يا كلب؟ كويس انكم لسه عايشين (فتحي عبد الفتاح: شيوعيون وناصريون ص 106 – 107).
كذلك فإن المحكوم بالأشغال الشاقة هو أسعد حظاً بكثير من المعتقل بأمر عبد الناصر، فالسجين الأول تحكمه لائحة تنظم عمله في الجبل ت أياً كان الليمان الذي يمضي عقوبته فيه. ـ أي سواء كان ليمان أبو زعبل أو ليمان طرة.
فالمريض لا يعمل، وساعات العمل محدودة بينها فترة راحة، وأيام الجمع والأعياد أجازات، وكذلك أيام الأمطار والعواصف. كما ان الوضع الطبقي للسجين يحدد درجة عملهن فالنزيل الثري قد لا يعمل غطلاقاً، إذ يدفع رشوة للحراس فيتركونه وشأنه، ويدفع مرتبات للسجناء الفقرا ليعملوا بدله ويقدموا "المقطوعية" من الحجارة المقررة عليه والتي يسلمها للحارس ليسجل عددها.
هذه ـ إذن ـ هي المميزات التي يتمتع بها سجين ليمان أبو زعبل أو ليمان طرة، سواء كان من كبار تجار المخابرات أو صغارهم، أو النزلاء الذين اعتادوا الإجرام والقتل العادي وجنايات الاختلاس والسرقة ـ أما المعتقلون بأمر عبد الناصر فليس لهم شيء من هذه المميزات، كما أنهم لا يتمتعون بالعمل في ليمان أبو زعبل أو ليمان طرة، وإنما ينزلون في الأوردي، والأوردي ـ كما وصفه إلهام سيف النصر ـ "دنيا أخرى غير الليمان" على الرغم من أنه ملحق به".
وهذا وحده يكشف طبيعة النظام الناصري، ووجهه الفاشي القبيح. فقد اختص عبد الناصر سجناء الرأي بليمان خاص، يمارس فيه زبانيته عذاباً جماعياً لم يشهده تاريخ بشر، لنه كان تعذيباً للتعذيب وليس لأي شيء آخر، فلم يكن تعذيباً للحصول على اعترافات من الشيوعيين بانتمائهم للفكر الشيوعي، لأنهم لم يكونوا ينكرون هذا الانتماء، بل كانوا يفاخرون به في المحاكم، ولم يكن تعذيباً لحمل المعتقل على العدول عن اعتراف أو مبدأ أو مذهب مما سجل لنا التاريخ، ولم يكن تعذيباً عقاباً على جريمة ارتكبت، أو لإقامة الحد، أو لأي سبب معروف، وإنما كان تعذيباً للتعذيب، ولإرضاء شهوة التعذيب!
ومن أجل هذا لا نستطيع أن نسلك النظام الناصري في سلك النظم الاستبدادية التي مرت بمصر، فهذه النظم ـ حتى في أسوأ صورها ـ كانت تعذب لسبب من الأسباب، ولكنها لم تعذب بدون سبب اللهم إلا شهوة التعذيب. لقد كان النظام الناصري نظاماً فاشياً منذ البداية، وكانت رسالته الأولى هي القضاء على الشيوعية وإنهاء الحياة الديمقراطية، وتلك هي رسالة النظام الفاشية في عصرنا الحديث.
38- رحلة إلى ما وراء الشمس ! (الوفد في 5 مايو 1997)
كانت هزيمة القوى الديموقراطية والتقدمية في أزمة مارس 1954، واستقرار الحكم في يد عبد الناصر، بداية صفحة من الهزائم العسكرية، وصفحة أخرى أكثر قتامة في تاريخ علاقة ثورة يوليو بحقوق الإنسان، وقد بدأت كما ذكرنا بالانقلاب على القوى التي أحسنت الظن بالثورة في بدايتها وساعدتها متصورة أنها ثورة حقيقية، وكان على رأس هذه القوى مجلس الدولة برياسة الدكتور عبد الرازق السنهوري، الذي ارتكب جريمة ديموقراطية فظيعة عندما أصدرت الجمعية العمومية لقسم الرأي يوم 31 يوليو 1952 قرارها بعدم دستورية دعوة مجلس النواب الوفدي المنحل إلى يوم الانعقاد، فكان هذا القرار هو الخطوة الأولى في الطريق الذي طوله ألف ميل من دكتاتورية ثورة يوليو.
فلقد كان على مجلس الدولة وعلى الدكتور عبد الرازق السنهوري أن يدفع ثمن هذه الجريمة الديمقراطية يوم 29 مارس 1954 عندما أرسلت الثورة بلطجيتها من جنود البوليس الحربي المتخفين في ثياب مدنية تحت قيادة حسين عرفة مدير المباحث الجنائية العسكرية، إلى مجلس الدولة أثناء عقد اجتماع الجمعية العمومية لمجلس الدول، فاقتحموا الاجتماع، واندفعوا إلى الدكتور عبد الرازق السنهوري وأعضاء الجمعية العمومية من المستشارين، فانهالوا عليه وعليهم ضرباً، ونقل الدكتور السنهوري إلى المستشفى، بعد ان دفع ثمن قرار يوم 31 يوليو 1952 غالياً.
وبذلك أنهت ثورة يوليو أسطورة قدسية القضاء، وكانت تلك هي المقدمة الطبيعية لما عرف بعد ذلك باسم مذبحة القضاء بعد بضعة سنوات!
وقد تلى ذلك مباشرة متابعة ثورة يوليو لخصومها في الرأي من القوى الوطنية والتقدمية، بمزيد من الاعتداء على حقوق الإنسان. فأصدرت يوم 14 إبريل 1954 قرارات بحرمان هؤلاء من تولي الوظائف العامة، ومن كافة الحقوق السياسية، ومن تولي مجالس إدارة النقابات والهيئات، لمدة عشرة سنوات! وطبق هذا القرار على 22 وزيراً وفدياً، و8 وزراء سعديين، و8 وزراء دستوريين! والطريف أنه طبق أيضاً على ستة من أعضاء لجنة إعداد الدستور الذي خدعت به الثورة الشعب، وكان على رأس هؤلاء الدكتور عبد الرازق السنهوري نفسه، فسقط بهذا القرار من منصبه في رئاسة مجلس الدولة.
وتابعت ثورة يوليو بعد ذلك مهمتها الفاشية. فبعد أن قضت على الديموقراطية، أخذت في تصفية الشيوعية، فاعتقلت يوم 31 مايو 1954 252 شيوعيا، وصدرت الأحكام يوم 24 يوليو 1954 بعشر سنوات اشغال شاقة على الدكتور شريف حتاتة ومحمد شطا وحليم طوسون، وثماني سنوات أشغال شاقة على زكي مراد ومحمد خليل قاسم، والسجن خمس سنوات على أحمد طه ومحسن محمد حسن وعبد اللطيف جمال، وسعد كامل وزوجته، وزوجة الشاعر كمال عبد الحليم ومصطفى كمال صدقي، والسجن ثلاث سنوات على إبراهيم حسين وسي البكار وهما وفديان، وبالسجن سنتين على بكر سيف النصر وهو وفدي أيضاً.
في ذلك الوقت رأت الثورة نقل سجناء الرأي في ليمان طرة إلى الواحات الخارجة، وهو ما أزعج لحد كبير مصطفى طيبة ورفاقه، وقد وصف الساعات القليلة التي سبقت ترحيله إلى ما وراء الشمس ـ على حد قوله ـ بأنها "كانت أقسى اللحظات التي مرت بنا خلال السنوات السابقة التي قضيناها في سجن مصر وليمان أبو زعبل وليمان طره.
كدنا نصل إلى يقين بأننا ذاهبون إلى مكان لا تمتد إليه إلا يد البطش والإرهاب والتعذيب حتى الموت .. هكذا قضينا الساعات الأولى من صباح يوم ترحيلنا".
ثم يقول: الواحات الخارجة! من هو الفاشي التي تفتق ذهنه الشرير عن فكرة نفينا في قلب الصحراء؟ كان الفاشست يلقون بالمناضلين الوطنيين إلى أفران الموت، وهؤلاء الفاشست هل يسوقوننا إلى الموت جوعاً وعطشاً؟ هل دبروا لنا الموت بسم الثعابين في الصحراء؟ وانتبهنا فجأة على صوت سجان شرير يقول: "لدغة" الطريشة هنا هي والقبر على طول!".
وترتفع أصواتنا تنشد بكل التحدي: "شتتونا في المنافي، واملئوا منا السجون، سوف تأتيكم ليالي، برقها عصف المنون!، ثم تنضم أصواتنا إلى أصوات زملائنا في الزنزانة المجاورة: "بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي"! وتفتح الزنازين، وتستمر أصواتنا جميعاً تردد من الأعماق: "مصر أنت اليوم حرة، فوق جبين الدهر درة، يا بلادي عيشي حرة، واسلمي رغم الأعادي". وبين صفين من السجانة الذين يحملون البنادق والرشاشات، تعلو هتافاتنا بحياة مصر وشعب مصر، وبالديموقراطية، والحريات السياسية .. دماؤنا فداك يا مصر. "كانت هتافاتنا وأناشيدنا من أجل رفع روحنا المعنوية".
ويرسم مصطفى طيبة صورة بشعة لمعاملة ثورة يوليو لسجناء الرأي عند إعدادهم للترحيل إلى الواحات، توضح كيف كانت هذه الثورة الفاشية تعامل سجين الرأي، الذي لا يملك من سلاح غير فكره، معاملة من يملك ترسانة من الأسلحة تخشى ان يستعملها ضدها!
فيقول: "قسمونا إلى مجموعات، كل مجموعة منا من خمسة زملاء، ينادون عليهعم باسلام من كشف في يد المدير، وبعد ان يتجمع الخمسة، يحيط بهم 4 سجانة وضابط، ويذهبون إلى ورشة الحدادة في الليمان، حيث يجري دق السلاسل في أقدامهم، في سلسلة طويلة".
ثم يذهبون إلى "الزنزانة" في القطار، التي تكدست فيها خمس مجموعات ـ أي 25 زميلاً في زنزانة لا تزي مساحتها على 2 × 1,5 متراً،جدرانها من أسياخ الحديد الصلب وسقفها ألواح سميكة من الحديد، وكذا أرضيتها العارية تماماً إلا من الأوساخ والقاذورات.
"وبعد أن انتهوا من عملية تكبيل كل الزملاء وتكديسهم في زنازين القطار، وقبل ان يتحرك القطار نحو رحلة المجهول، شهدنا من خلال القضبان مشهداً بشعاً ترك في أعماقي جرحاً لن يندمل أبداً".
"كان أصحاب "الكابات الحمراء" على الرؤوس والنياشين الكثيرة على الصدور، ومعهم "الأفنديات" ومدير السجن، يقفون بعيداص في ركن من أركان حوش الليمان، وكان عدد من السجناء يحمل "العروسة" التي تستخدم لجلد المسجونين، وينصبونها في وسط حوش الليمان.
"وبعد قليل، شاهدنا اثنين من زملائنا المسجونين، وقد كبلت أقدامهم وأيديهم بالسلاسل، يجرهم السجانة، وعلى رأسهم المأمور. وعند العروسة أصدر المأمور أمراً بفك سلاسل أحد الزميلين، وإعادة تقييده بـ "العروسة"، ثم أصدر أمراً بالجلد!
"أكثر من ربع ساعة كان سجانان يتبادلان ضرب الزميل بالكرباج على الظهر العاري تماماً. ولم تصدر عن الرجل آهة واحدة أو صرخة. ثم أعادوا تكبيله من رجليه ويديه بالقيود الحديدية!
"وتكرر هذا المشهد مع الزميل المسجون الآخر. لو أن هذه السياط نزلت على ظهري ما تألمت مثلما تألمت، وكنت أرى الألم يعتصر زملائي الذين يشاركوني القيد الحديدي، كا نتبادل الألم ولا نستطيع عمل أي شيء.
"وتنتهي عملية جلد الزميلين، ونشاهدهما يساقان مرة أخرى إلى زنازين "التأديب"، أيديهم مكبلة بالقيود، وأرجلهم مقيدة بالسلاسل، ومن ورائهم نشهد موكب الضباط الكبار والأفندية يسير ناحية مكاتب الإدارة، وتزعق صفارة القاطرة إيذاناً ببدء الرحلة إلى "ما وراء الشمس!".
هذه الصورة الصادقة المروعة لمحنة سجناء الرأي في عهد عبد الناصر، كانت ىتحدث بينما كان يصيح صيحاته المعروفة: "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد!" أي في الوقت الذي كان يمارس استعباداً لمعارضيه في الرأي لم يسبق له مثيل حتى في العصر الاستعماري.
ويرسم مصطفى طيبة صورة أخرى لمشاعر الجماهير المصرية إزاء السجن الذي فرضته ثورة يوليو على الشعب المصري، فيقول إنه عندما وصل قطار السجن الذي يقلهم إلى محطة مصر، وشعرت الجماهير بهم، صاحت امرأة صيحة مدوية بددت السكون الرهيب الذي فرضه البوليس على الناس والمكان في عز الظهيرة.
- الدستور ... الدستور.
"وكأنما أصابت هذه الكلمة الناس الواقفين في أنحاء المحطة بمس كهربائي، وإذا بأصوات عديدة تعلو في قوة أصوات اهتزت لها مباني محطة مصر: " الدستور .. الدستور!".
وترتفع أصواتنا في الزنزانات في صوت واحد: الحرية، الدستور، الأحزاب!
"وفي لحظة واحدة، تختل كل إجراءات الأمن المشددة، ولا يستطيع البوليس المدجج بالسلاح أن يوقف زحف الجماهير التي تعاطفت معنا، لقد تنوعت الهتافات: الدستور، الديمواقراطية، الحرية للشعب. وتوحدت أصواتنا بأصوات الأهالي والجماهير وهي تردد نشيدنا الخالد: بلادي، بلادي، لك حبي وفؤادي.
"ويواصل القطار رحلته ماراً بمحطات الجيزة والفيوم ثم بني سويف وباقي المحطات حتى أسيوط، وفي كل محطة نجد جنود البوليس والمخبرين منتشرين في أرجائها. وعندما دخل القطار محطة أسيوط كان الظلام يزحف ويبدد آشعة الشمس، وكانت حناجرنا قد أجهدت، لقد أدت مهمتها على طول الطريق من القاهرة إلى أسيوط، حيث يوجد بشر، وزرع، وخضرة، وحياة. فالطريق من أسيوط حتى محطة "المواصلة" ليس به سوى الرمال والكثبان والنباتات الشيطانية المنتشرة على سفوح الجبال والتلال.
"كاد الليل أن ينتصف عندما وصل القطار إلى محطة الواحات الخارجة، لكي تبدأ رحلة السيارات إلى "جناح" حيث يقع السجن الجديد.
وهناك في محطة السكة الحديدية كانت تنتظر مفاجأة لسجناء الرأي لم تكن تخطر ببال، هذه المفاجأة هي أنه كان من المستحيل نزولهم من القطار وهم مكبلون بالسلاسل الحديدية بتلك الطريقة التي كبلوا بها!.
فعندما بدأت محاولة نزول أول خمسة أشخاص، وكان بينهم مصطفى طيبة، تبين أن سلم زنزانة القطار التي ينزلون منها، يبعد عن الأرض بحوالي متر على الأقل، ولم يكن يزيد طول السلسلة بين كل سجين وآخر عن نصف متر، ومعنى هذا أن مجرد نزول السجين الأول من على ارتفاع متر سوف يجر زملاءه الأربعة، الأمر الذي يعرض الجميع على الأقل لكدمات وجروح، بسبب سقوطهم على شريط السكة الحديدية أو الأحجار التي بجانبه.
على هذا النحو بدا أن الطريقة الوحيدة لنزول سجناء الرأي من زنزانات القطار هي قطع السلاسل الحديدية! وعندما يترددضابط السجن يقول له مصطفى طيبة: "هو فيه حد مجنون يفكر في الهرب من هنا؟" ويجد ضابط السجن نفسه أمام الأمر الواقع، ولكن قطع السلاسل يلزم فيه استعدادات، أي شاكوش وأجنة وسندال وحداد، وكلها غير موجودة. وتصدر الأوامر إلى بعض الجنود بالذهاب إلى المعسكر، وهو على بعد ساعة، لإحضار حداد ومعه الآلات اللازمة لقطع السلاسل الحديدية.
وعندما يحضر الحداد تبرز مشكلة أخرى، فلا يكاد يدرس الموقف حتى يقول للضابط: يا بيه، في كل رجل "حجلة"، ودي تخينة قوي وتأخذ وقت على ما تنقطع، لكن السلاسل سهل تاخد وقت أقل، فهل نقطع السلاسل ولا نقطع الحجلة؟ ولا يجد الضابط مفراً من قطع السلاسل، بما يترتب على ذلك من أن كل "سجين رأي" سوف يحتفظ بقطعة سلسلة و"حجلة" في كل قدم من قدميه!.
وينتهي الحداد من عمله، ويسير سجناء الرأي إلى العربات، وكل منهم يجر في قدم من قدميه سلسلة معلقة في حجلة، وتنطلق السيارات وسط صحراء واسعة وسكون رهيب لا يمزقه إلا عواء الذئاب والثعالب. ومن بعيد وعلى ضوء مصابيح السيارات العالية تبدو أنوار السجن، ويعلق مصطفى طيبة على ذلك قائلا:
"في لحظة تجسد أمامي صور معسكرات النازية، وأغلب الظن أن هؤلاء "الفاشست" لن يستخدموا نفس الأساليب التقليدية للتعذيب، وربما كانت خطتهم تقوم على إلقائنا في الصحراء نهباً للذئاب والثعالب والثعابين.
"فأي فاشي حقير هذا الذي دبر لنا الموت بهذه الطريقة الدنسة؟ إن كل أفران النازي ومعسكراتهم، وكل أساليبهم الوحشية تتوارى خجلاً أمام هذه الفكرة الشيطانية!
39- الحياة بين ليمان طره وسجن "جناح" ! (الوفد في 12 / 5 / 1997)
""أي فاشي حقير هذا الذي دبر لنا الموت بهذه الطريقة الدنسة؟ إن كل أفران النازي ومعسكراتهم، وكل أساليبهم الوحشية تتوارى خجلاً أمام هذه الفكرة الشيطانية: الموت بلدغة "طريشة" قضاء وقدراً"!
هذا هو ما كتبه مصطفى طيبة في مذكراته التي صدرت في جزئين تحت عنوان: "رسائل سجين سياسي إلى حبيبته"، وهو ينتقل من ليمان طره إلى سجن "جناح" بالواحات الخارجة مع زملائه من سجناء الرأي.
كانت كل جريمة مصطفى طيبة وزملائه من أمثال الدكتور شريف حتاتة وحليم طوسون ووليم اسحق وزكي مراد وصلاح حافظ ومحمد شطا ولمعي يوسف وسعد ياسيلي والدكتور فؤاد مرسي، هي مجرد الخلاف في الرأي مع ضباط يوليو، ولم تكن الجريمة لتدبيرهم مؤامرة لقلب الثورة وإقامة ثورة البروليتاريا، أو لاغتيال عبد الناصر أو أحد من ضباط الثورة، كما فعل الإخوان المسلمون.
والأغرب من ذلك حقاً كما ذكرنا ـ هو أن الشيوعيين كانوا يؤيدون عبد الناصر ونظام حكمه، ويعلنون ذلك في كل مناسبة وفي كل محاكماتهم، ومع ذلك فإن مجرد الخلاف في الرأي كان كافياً في نظر عبد الناصر لمصادرة حرياتهم والتنكيل بهم ونفيهم في أنأى بقعة من مصر!
فلم يكن يماثل عداء عبد الناصر للشيوعيين سوى عداء هتلر للشيوعيين! ولم يكن إحساسه بخطر فكرهم على نظامه أقل من إحساس هتلر بخطر فكر الشيوعيين على نظامه، ولذلك كانت حربه عليهم حرباً لا هوادة فيها، في الوقت الذي كانت الشيوعيون يعيشون تحت تهويمات حكمه الوطني وإنجازاته، وتتعالى صيحاتهم من ظلام سجنهم الدامس بحياته! بل إنه في الوقت الذي كانت سياط جلاديه وزبانيته تنهال على ظهورهم، لم يكفوا عن الإيمان به على النحو الذي جعل الكثيرون من المحللين السياسيين يربطون بين موقف الشيوعيين من عبد الناصر وموقف "القط من خنَّاقُة"!
والأغرب من ذلك أنهم، حتى اليوم، واقعين تحت وهم أن حكم عبد الناصر كان حكماً تقدمياً، على الرغم من أنهم خير من يعرفون حقيقته كما شاهدوها في سجونه ومعتقلاته، وهم اليوم أيضاً يعقدون محالفة مع الناصريين الذين أذلوهم، تحت وهم تقدمية النظام الناصري، على الرغم مما يعرفون ـ بالتجربة ومن واقع النظريات السياسية ـ أن التأميم لا يعني الإشتراكية، وإن ما ألحقه هؤلاء الناصريون بمصر من هزائم عسكرية، ومن إهدار للحريات السياسية، ومن فشل في إدرة القطاع العام بعد تسليمه لأصحاب الثقة من أقاربهم وأصحابهم، ومن تحويل مصر إلى سجن كبير ـ يضعهم على رأي أسوأ القوى السياسية التي شهدها تاريخ مصر الطويل!
وتعتبر مذكرات مصطفى طيبة، وهو شيوعي، شاهد عدل على نظام عبد الناصر وعلى صفته الفاشية. فيصف كيف جاء إلى السجن في إبريل 1958، بعد إعلان الوحدة مع سوريا، سجين يدعى محمد مختار جمعة، كان ـ كما يقول ـ "مجنداً في الجيش حين ألقوا القبض عليه. عذبته المخابرات العامة، ونفخته و "جلدته"ـ وحرقت ظهره بالحديد المحمي، وخلعت أظافره، ووضعوه عارياً في الماء المغلي، لكي يعترف على زملائه، فلم يعترف وحين ضاقوا ببطولته ذرعاً، قرروا إرساله إلى سجن "جناح" بالواحات الخارجة.
ويذكر كيف كتب الدكتور شريف حتاتة مذكرة إلى المسئولين، بدءاً من رئيس الجمهورية حتى مدير مصلحة السجون، وإلى الصحف والنقابات المهنية والعمالية المختلفة، "تسنتنكر نفينا في الصحراء، ومحاولة اغتيالنا بواسطة الحيات والثعابين، وتطلب نقلنا من هذا المنفى" ـ ولكن دون سميع أو مجيب!
ويقول غنه طوال إقامته وزملائه في السجن، لم يتمنوا في حياتهم شيئاً أكثر من خلع القيود الحديدية عنهم، كباقي خلق الله من المسجونين العاديين! لقد كانت أمنية غالية أن نستحم، ولو مرة واحدة، دون أن نجر القيود الحديدية في أقدامنا، بعد الجهود المصنية التي نبذلها عند خلع الملابس، ثم عند ارتدائها بعد الاستحمام. كنا قد تعودنا على السلاسل الحديدية في أقدامنا، كما تعودنا على صوت رنينها أثناء قيامنا أو جلوسنا أو سيرنا، أو حتى خلال نومنا، لكنا كنا نعاني عند كل استحمام، سواء أثناء خلع الملابس أو أثناء ارتدائها!
ثم يعقد المقارنة الغريبة بين معاملة نظام عبد الناصر لسجناء الرأي ومعاملته للمسجونين العاديين من تجار المخدرات والقوادين واللصوص والقتلة، فيقول:
"كان عدد شهور السنة في الأحكام القضائية عند كل المسجونين 9 شهور فقط، أما عندنا فشهور السنة 12 شهراً بالتمام والكمال! وكان كل المسجونين يخرجون في مناسبات أعياد الثورة، والفطر والأضحى، عند قضائهم نصف المدة، ولكن لم يخرج أحد منا في أي مناسبة من هذه المناسبات! ولأنهم يعشقوننا ومغرمون "صبابة" بنا، فقد كانوا عند انقضاء مدة عقوبتنا يستضيفوننا سنوات أخرى فوق مدة العقوبة القانونية!
ويقول إنه خلال سنوات السجن الماضية كان الفول المدمس الذي يأكلونه، ليس مدمساً وإنما مسلوقاً، وكانت الفولة الواحدة بها عدد لا يحصى من ثقوب السوس، وفي كثير من الأحيان كنا نضبط السوس متلبساً بجريمة استمراره في الحياة رغم تعرضه لأقصى درجات حرارة غليان الماه! ومع الوقت أخذ الكثيرون يأكلون السوس "بلذة" على اعتبار أنه في نهاية الأمر "بروتين"! وخرجوا بمقولة أن الفرق بين لحم السوس وأي لحم آخر، هو نفس الفرق بين لحم الأرنب ولحم القطة!
وقد تحدث مصطفى طيبة عن معاناة أخرى لم يشهدها معتقل في التاريخ. لقد كان المعتقل الذي قذف بهم إليه عبد الناصر عبارة عن بقعة نائية في قلب الصحراء ليست معدة أصلا لاستقبال معتقلين، ولا تحتوي على أية مرافق من المرافق اللازمة للحياة، لذلك فسرعان ما اكتشف المعتقلون من سجناء الرأي أن هذا المعتقل ليس فيه مياه شرب من أي نوه غير جرادل مياه نفدت مياهها، وكان عليهم أن يجلبوا الماء اللازم، ولكنهم عرفوا أن "العين" التي يجلب منها الماء تبعد عن السجن خمسة كيلو مترات، ومعنى هذا الكلام أن جلب الماء من "العين" سير مسافة 10 كيلو مترات ذهاباً وإياباً! وبطبيعة الحال فإن الجردل المليئ لن يصل إلى السجن كاملاً، وغنما سيصل نصفه فقط في أحسن الظروف.
وبعلق مصطفى طيبة على ذلك قائلاً: "لقد اختاروا لنا هذه القطعة من الأرض في قلب الصحراء، بعيدة عن مصادر المياه وأحاطوها بالأسلاك الشائكة، ثم القوا بداخلها أجولة من الفول والعدس والأرز والدقيق والفاصوليا الناشفة، وعددا من الخيام، وكميات من الخشب والصاج والمواسير، وقالوا لنا: "ابنوا سجنكم بأنفسكم"!
وفي أثناء بناء سجناء الرأي سجنهم بأنفسهم في قلب الصحراء، أتت الأخبار بصدام عبد الناصر مع الاستعمار في النصف الثاني من يوليو 1956، وعندئذ اجتمع سجناء الرأي الوطنيون وقرروا كتابة بيان يسجلون فيه بوضوح موقفهم المؤيد لعبد الناصر بدون شروط. ويقول مصطفى إن مأمور السجن وضباطه فوجئوا بهذا الموقف! فلم يكن في تصوراتهم أن مسجونين يمكن أن يرسلوا لسجانيهم تأييداً ومساندة، بلا أي شروط! ويتحمس المأمور لهذا الموقف الوطني، ويعلن أنه سوف يسافر إلى القاهرة لتوصيل البيان إلى رئاسة الجمهورية وإلى مدير مصلحة السجون.
ويكتب مصطفى طيبة قائلاً: "ربما كانت هذه أول تجربة يواجهها مسجونون سياسيون .. يقفون إلى جانب السلطة، يؤيدونها ويساندونها، دون أن يفرج عنهم، وربما كانت هذه أول مرة تتلقى فيها سلطة وطنية تأييداً أو مساندة من أشد معارضيها حتى الأمس القريب".
ويأتي مأمور السجن يوم 26 يوليو 1956 وهو يحمل برقية من رئاسة الجمهورية موجهة إلى مأمور سجن "جناح" بالواحات، لتوجيه الشكر إلى كل من وقعوا على بيان التأييد. الأمر الذي يشيع موجة من التفاؤل بقرب الإفراج عنهم.
وفي الوقت نفسه يحمل المأمور معه جهاز راديو كبير لسماع خطاب تأميم قناة السويس، ولا يكاد عبد الناصر يعلن تأميم شركة قناة السويس حتى يمتزج هدير تصفيق الجماهير في ميدان المنشية بالإسكندرية بهدير تصفيق سجناء الرأي في صحراء الواحات الخارجة! ويقول مصطفى طيبة: "كانت هذه أول مرة تشهد فيها صحراء الواحات الخارجة هتافاً يشق عنان السماء بحياة ناصر وثورة 23 يوليو!
"وبعد الخطاب انتظمت جموعنا مع جموع الجن من الإخوان المسلمين في مظاهرة صاخبة ظلت تجوب المعسكر أكثر من نصف ساعة، وبلغ تأثر المأمور والضباط والجنود إلى درجة كبيرة جعلتهم ينضون إلينا ويهتفون معنا، ثم يعانقوننا في ود وإنسانيبة. وسارع سجناء الرأي إلى إرسال برقية إلى عبد الناصر في نفس الليلة يعلنون فيها تأييدهم ومساندتهم!
ولكن تمضي شهور أغسطس وسبتمبر وعشرون يومأص من أكتوبر 1956، وسجناء الرأي يتوقعون الإفراج عنهم، بعد أن اختفى كل مبرر سياسي لاستمرار وجودهم في السجن، وعلى حد قول مصطفى طيبة: "أن تسجن لأنك تعارض النظام شيء مفهوم ومقبول، ولكن أن تسجن وأنت تؤيد وتساند هذا النظام مسألة لا تقبلها!".
وقد نسي مصطفى طيبة وزملاؤه أن نظام عبد الناصر لا يضع في اعتباره هذه المفاهيم السياسية، فهو نظام فاشي يحكم البلاد بمهارة بوسيلتين: المعتقلات لمعارضيه في الرأي، والقرارات الحماسية البراقة المدوية، التي تخطف أبصار الجماهير المصرية وتدفعها إلى الهتاف بحياة عبد الناصر، مهما ترتب عليه من خسائر وطنية جسيمة تؤثر على مستقبل البلاد!
وهو ما حدث مع إعلان تأميم شركة قناة السويس، فقد بقي لعبد الناصر الهتاف والحماس الشعبي حتى وفاته، وبقي لمصر الخسائر الهائلة التي ترتبت على تأميم القناة، وهي مرور الملاحة الإسرائيلية من شرم الشيخ، وانفتاحها على أسواق أفريقيا وآسيا، وتحول ميناء إيلات إلى ميناء دولي!
كذلك عندما أعلن عبد الناصر إغلاق مضيقي تيران في مايو 1967، فقد بقي لاسمه مجد قرار الإغلاق، وبقي لمصر خزي الهزيمة العسكرية الثقيلة في حرب يونيه 1967، وعودة إسرائيل إلى احتلال سيناء مرة أخرى ثانية في مدة لا تزيد على عشر سنوات.
وهو نفس ما حدث لهتلر وموسوليني، فقد هزت انتصاراتهما السياسية على معسكر الحلفاء قبل الحرب العالمية الثانية قلوب الشعبين الألماني والإيطالي، وبقيت لألمانيا وإيطاليا الهزيمة العسكرية الثقيلة التي أصابتهما عند نهاية الحرب!
وعلى هذا النحو فإن بيانات التأييد لعبد الناصر من سجناء سجن "جناح" بالواحات الخارجة بسبب قرار تأميم شركة قناة السويس، ثم بيانات التأييد الأخرى عند وقوع العدوان الثلاثي ـ كل هذه البيانات لم يكن لها تأثير في نفس عبد الناصر يدفعه إلى الإفراج عنهم للمشاركة في شرف الدفاع عن أرض الوطن.
بل إن عبد الناصر كان يحمل المزيد لمن كانوا خارج السجن من زملائهم الذين اشتركوا بالفعل في المعركة أثناء العدوان الثلاثي وبعده بشهور، فسرعان ما قام باعتقالهم، وأرسل بهم إلى الواحات في أوائل عام 1957، بعد أن ألصق بهم عددا من الاتهامات في ديسمبر 1956!
والطريف أنه كان من بين من اعتقلوا في سنة 1957 المهندس الدكتور فايق فريد، وهو أحد المهندسين الذين تمكنوا من تجهيز عربة إذاعة بديلة عندما ضرب الأعداء محطة الإذاعة المصرية في أبو زعبل!
بل إنه في الوقت الذي كان سجناء الرأي في سجن جناح في صحراء الواحات الخارجة يتوقعون الإفراج عنهم لمجرد إرسال بيانات التأييد لعبد الناصر، كان عبد الناصر يعتقل الشيوعيين الذين شاركوا في الدفاع عن بور سعيد بعد أن تبعثرت القوات العسكرية المصرية نتيجة انهار القيادة المسئولة!
وكانت الحجة هي الخوف من أن يحاول الشيوعيون تقوية صفوفهم وتجنيد عناصر جديدة وخلف نفوذ لهم بين الجماهير بعد أن اشتركوا في المقاومة الشعبية!
وعلى هذا النحو فإن كل ما كان سجناء الرأي يعتقدون أنه يقربهم من باب الحرية، كان يقربهم أكثر من أبواب معتقلات عبد الناصر! لقد كانت حساباتهم تقوم على الدفاع عن الوطن، في حين كانت حسابات عبد الناصر تقوم على الدفاع عن نظام حكمه، واستبقاء زعامته دون شريك من أية قوة وطنية!
40- هل كان نظام عبد الناصر فاشياً أو دكتاتورياً يستخدم أدوات فاشية ؟ (الوفد في 19 / 5 / 1997)
أن تسجن لأنك تعارض النظام شيء مفهوم، أما أن تسجن وأنت تؤيد النظام فهو الأمر المحير في نظام عبد الناصر، هذا ما كتبه مطفى طيبة في ذكريات سجنه، فقد هتف الشيوعيون في سجن بالواحات الخارجة بحياة عبد الناصر عند سماعهم صوته وهو يعلن تأميم شركة قناة السويس، وسارعوا بإرسال برقية تأييد حارة له في نفس الليلة، كما أرسلوا بيانات تأييد أخرى عند وقوع العدوان الثلاثي على مصر، وأعربوا عن رغبتهم في الخروج للموت دفاعاً. ولكن عبد الناصر كانت له حسابات أخرى.
لقد كانت حسابات عبد الناصر تدعوه إلى زيادة التنكيل بالشيوعيين كلما وقفوا موقفاً وطنياً يمكن أن يجلب لهم تأييد الرأي العام، ولذلك عندما تمكن المهندس الدكتور فايق فريد وزمؤه فور ضرب قوات العدوان الثلاثي محطة القاهرة بأبي زعبل، من تجهيز عربة إذاعة بديلة تحل محل محطة الإذاعة المضروبة، وتعلو فيها من جديد صيحة "هنا القاهرة"، لم ينقذه هذا العمل الوطني من الاعتقال! وعندما تصدى الشيوعيون في بور سعيد للدفاع عن المدينة بعد انهيار القيادة المسئولة وتبعثر القوات العسكرية أمام قوات الغزو، كان هذا العمل الوطني الجليل في حد ذاته هو الذي فتح لهم أبواب السجن على مصراعيها! لقد كانت فلسفة عبد الناصر في ذلك فلسفة بسيطة ليس فيها غموض ولا تعقيد، وهي تقوم على أن كل من يملك القدرة على تأييده، فإنه يملك من الناحية الأخرى القدرة على معارضته، ويستوجب ذلك ـ بالتالي ـ التخلص منه! وهذه الفلسفة قالها عبد الناصر بنفسه لفتحي رضوان عندما توسط لديه للإفراج عن ابن أخته سعد كامل الكاتب والمناضل المعروف. فلقد ساق فتحي رضوان وقتذاج الحجج على أن سعد كامل له مواقف تأييد لعبد الناصر، أخذ يعددها، ولكن عبد الناصر قاطعه قائلاً إن من يستطيع تأييدي يستطع معارضتي! وهي فلسفة الطغاة في كل زمان ومكان! فعندما استعطف أبو مسلم الخرساني أبا جعفر المنصور للإبقاء على حياته بحجة أن سيفه كان على الدوام في خدمته، كان رد أبو جعفر المنصور أن السيف الذي يستطيع أن يكون في خدمته هو نفسه السيف الذي يستطيع أن ينقلب عليه!
وقد كانت تلك هي جريمة الشيوعيون الكبرى التي استحقوا عليها التنكيل والتعذيب، فلأنهم كانوا يستطيعون التأييد فإنهم كانوا يستطيعون المعارضة، وهي جريمة كافية في نظر عبد الناصر لاعتقالهم والتنكيل بهم. فلم يحدث أبداً أن تآمر الشيوعيون على نظام عبد الناصر، ولم يسبق أن حاولوا الانقضاض عليه كما فعل الإخوان المسلمون، وإنما كانت كل جريمتهم أنهم وهم يؤيدون عبد الناصر يستطيعون معارضته، وعبد الناصر يحسب حساب المعارضة أكثر مما يحسب حساب التأييد، ومن ثم فهو لا يقبل بالتعايش إلا مع كل من لا يقدر على التأييد أو المعارضة، أي الذين لا رأي لهم إلا رأي الزعيم!
ولذلك فقد تخلص من جميع القوى السياسية التي حملت عبء النضال الوطني قبل الثورة، لأنه كان لها رأي! فقد تخلص من الوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين، بل تخلص من زملائه من الضباط الأحرار الذين كان لهم رأي، تخلص من خالد محي الدين ومن يوسف صديق، ثم من زملائه في مجلس قيادة الثورة الذين كان لهم رأي مثل عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، فالرأي الآخر هو عدو عبد الناصر اللدود.
وهذا يثير القضية التي كتبها الكاتب الكبير عبد الستار الطويلة في عدد الوفد يوم 12 مايو 1997، ردا على هذه السلسلةمن المقالات عن ثورة يولوي وحقوق الإنسان. فقد اعترف في مقاله بأن ما ورد في هذه المقالات "صحيح مائة بالمائة، وبالحرف" ـ على حد قوله. وهو أمر طبيعي من الأستاذ عبد التاسر الطويلة، فقد كان هو نفسه أحد ضحايا معتقلات عبد الناصر، بل ربما كان أكثرهم إحساساً بجناية هذه المعتقلات على حياة صاحب الرأي المعارض وعلى روحه ونفسيته، إذ تعرض لتربة رهيبة أشرنا إليها في أحد هذه المقالات، على رصيف محطة "المواصلة"، وهو في طريقه وزملاؤه إلى الواحات وهم مربوطين بسلسلة واحدة، عندما تحرك القطار بعد نزوله وبعض زملائه من العربة، وأخذ يجرهم على الرصيف ثم على الفلنكات وهم يصطدمون بالزلط وخشب الفلنكات، يتوقعون أن تسحبهم عجلات القطار لتطحنهم جميعاً ومعهم زملاؤهم الذين كانوا ما يزالون في العربة، وصيحات الجميع لا يسمعها سائق القطار، ولم ينقذهم إلا تنبه خفير إحدى المزارع المجاورة فأطلق أعيرة نارية نبهت السائق إلى المأساة!
لقد كانت القضية التي أثارها الأستاذ عبد الستار الطويلة هي اعتراضه على ما توصلت إليه عن اقتناع، من واقع هذه السلسلة من المقالات من أن النظام الناصري لم يكن نظاماً تقدمياً وإنما كان نظاماً فاشياً.
وقد استند في اعتراضه على افتراض نظري سليم هو أن الفاشية ـ كما قال ـ "هي الحكم الدكتاتوري للقمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية التي تفشل في استمرار حكمها عن طريق الوسائل الديموقراطية، فتجنح إلى الديكتاتورية، "ولم يكن عبد الناصر ـ كما قال ـ ممثلاً للاحتكارات المصرية، بل هو ضرب الرأسمالية في مقتل، والأصح أن يقال إن نظام عبد الناصر الدكتاتوري كان يستخدم الأساليب الفاشية، وكانت الكارثة على نظامه وعلى مصر سنوات طويلة بسبب ضربه للحريات حتى لم بعد له تأييد جماهيري، وأنصاره ليسوا إلا مجموعة من الدراويش التي تتصارع على ميراث موهوم، بل هم يضرونه ضرراً بالغاً برفضهم الاعتراف بخطأ موقفه من الديموقراطية، وبالتالي لا يستمع أحد لأي محاولة للدفاع عن منجزاته الجيدة".
هذا ما كتبه الكاتب الكبير عبد الستار الطويلة في خطأ وصفي نظام عبد الناصر بأنه نظام فاشي، وأن الصحيح القول بأنه نظام دكتاتوري يستخدم أساليب فاشية.
وقد كان هذا بالفعل رأيي قبل كتابة هذه السلسلة من المقالات، ولكني لم أملك إلا الانحياز إلى وجهة نظر الدكتور لويس عوض عندما سخر من الشيوعيين المصريين والعرب الذين اعتبروا عبد الناصر رائداً من رواد الإشتراكية! لمجرد أنهم رأوا في نظام القطاع العام، وفي بعض التشريعات العمالية والتأمينات الاجتماعية، وفي التعاون أو التقارب مع الاتحاد السوفيتي "ملامح اشتراكية" وطلب فحص الإشتراكية الناصري، هل كانت اشتراكية حقيقية أو كانت "اشتراكية وطنية"؟ أي فاشية.
ولتحديد الإجابة على هذا السؤال أعلن الدكتور لويس عوض أن عبد الناصر سوف يدخل التاريخ باثنين من أهم منجزاته، وهما: تصفية الشيوعية و تصفية الديموقراطية ـ ليس فقط في مصر بل وفي العالم العربي لحد ما. وبالتالي فقد حصر الدكتور لويس عوض اشتراكية عبد الناصر في سلك الإشتراكية الوطنية، أي النازية، إذ هي النوع الوحيد من الاشتراكيات الذي يعادي كلا من الشيوعية والديموقراطية بنفس الدرجة، وهي النوع الوحيد الذي ظهر في ألمانيا هتلر، وإيطاليا موسوليني، وأسبانيا فرنكو.
هذا الاستناد الذي قام به الدكتور لويس عوض لتحديد فاشية نظام عبد الناصر، أقوى في رأيي من الاستناد الذي لجأ إليه الأستاذ عبد الستار الطويلة لسبب بسيط هو أنه يمثل روح الفاشية الحقيقية التي تعادي الشيوعية والديموقراطية بشراسة على نحو يدفعها إلى استخدام أساليب القهر والتعذيب وإهدار حقوق الإنسان للقضاء على خصومها في الرأي.
أما الاستناد إلى اعتماد الفاشية على ما أسماه عبد الستار الطويلة بـ "القمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية"، وفي الصفة الغائبة في النظام الناصري، فليست بذات بال في رأيي، غذ يتفق كل من النظام الفاشي في شكله الإيطالي أو في شكله النازي مع النظام الأمريكي والنظم الرأسمالية في الغرب في هذه الصفة، في الاعتماد على القمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية، وغنما الذي يفرق بينها جميعاً هو الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، فهي في النظم الفاشية مهدرة، ولكنها في النظم الرأسمالية الليبرالية قائمة ومستتبة.
وفي نظري أنه لا يمثل فارقاً كبيراً أن يستند نظام هتلر على القمم العليا على القمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية، و يستولي عبد الناصر بنفسه على وسائل الإنتاج ويضمها إليه جميعاً ويطوعها لمصلحة نظامه ولمصلحة استمراره وبقائه.
وبمعنى آخر، أنه إذا اتفقنا على أن نظام عبد الناصر لم يكن نظاماً اشتراكياً مما عرفته النظم الإشتراكية، وإنما كان في أحسن صوره "رأسمالية دولة"، فإنه لا يمثل فارقاً كبيراً أن تكون الدولة هي التي تملك وسائل الإنتاج، ما دام أن جوهر نظام الحكم هو الاستبداد، ومصادرة حرية الرأي، وتجاوز ذلك إلى الانتقام من المخالفين في الرأي عن طريق اعتقالهم، والزج بهم في معسكرات تعذيب، والاستعانة بزبانية متخصصين في هذا النوع الذي عرفته معسكرات النازي.
وهذا الذي قام به النظام الناصري يعترف جميع الشيوعيين الذين تعرضوا للتعذيب أنه لم يحدث إلا في النظام النازي، بل إنه تفوق على ما كان يحدث في معسكرات التعذيب التي أقامها هتلر لسجناء الرأي.
ففي كتاب الدكتور فتحي عبد الفتاح يصف زبانية التعذيب في عصر عبد الناصر بأنهم ـ على حد قوله ـ "تفوقوا في بعض الأمور على أساتذة النازي في معتقلات" "داخاو" و "بوخنفالد" و "أوشفيتز". ويضرب المثل بأحد هذه الزبانية وهو يونس مرعي الذي كانت هوايته المفضلة أن يقف على تل عال ويقذف سجناء الرأي الذين يعملون تحت الجبل بالدبش متعمداً أن يصيب رؤوسهم!
ويقول: "ثمانية أشهر وهم يضربون المعتقلين طوال الأربع وعشرن ساعة: في طابور الرياضة في الصباح، والعنابر في منتصف الليل، وفي الفجر حين يتسلمون الجراية، أو حتى حينما يشكو أحدهم من مرض! صورة بشعة لا يمكن أن يتصورها إلا مخبول نزع عقله فراح يعربد حراً طليقاً من أي منطق ومن أية ذرة إنسانية!
ويتحدث الدكتور لويس عوض، ويونس مرعي يلقيه على الأرض ويضربه بحذاءه مثلما يضرب حشرة! والدكتور فؤاد مرسي أستاذ القانون بكلية الحقوق وملابسه تخلع عنه ليضرب على المناطق الحساسة في جسده! والدكتور إسماعيل صبري عبد الله والزبانية يأمرونه بأن يدور في حلقة كالثور لتنهال عليه ضربات الكرابيج والشوم! ويقول إنه طوال ثمانية أشهر كان الدكتور لويس عوض يفزع من النوم ليلاً ليصيح: أين نحن؟ لا يمكن أن نكون قد رجعنا ألف عام إلى الوراء؟
على هذا النحو كان عليّ أن أقتنع بأن النظام الناصري كان فاشياً لا يفترق من حيث الجوهر عن نظام هتلر أو موسوليني، وإن كان الخلاف الوحيد هو في نوع الرأسمالية التي يقوم عليها، هل هي رأسمالية احتكارات أو رأسمالية دولة؟
وقد كان النظام الفاشي لعبد الناصر يستند على رأسمالية الدولة، وهي أسوأ بكثير من رأسمالية الاحتكارات، لأنها تهيء للدولة وللحاكم الدكتاتور سلطة وقوة لا يتمتع بها الحاكم الفاشي في نظام رأسمالية الاحتكارات، ففي النظام النازي تشترك الاحتكارات في الحكم مع الحاكم الدكتاتور، ولكن في رأسمالية الدولة فإن الحاكم الدكتاتور يحكم وحده بلا شريك، وتكون يده محررة من كل قيد ليحمي حكمه من أية آراء مخالفة.
وهنا أود أن أنبه إلى أن هذا الكلام لا ينفي زعامة عبد الناصر، وإنما يضعها في إطارها النظري الصحيح! كما أن البعض فهم مما ذكرته عن فاشية نظام عبد الناصر ومعسكرات التعذيب التي نصبها لمعارضيه، أنني أنكر عليه كل إنجاز وطني، وهذا فهم خاطئ وغير معقول، فقد سبق لي أن قلب للنظام النازي في ألمانيا حقق لها من المكاسب الوطنية ما لم يتحقق لها من قبل، بل حقق لها التفوق على النظم الديموقراطية في كثير من الإنجازات، ولكن هذه الإنجازات كانت على حساب الإنسان الألماني، لقد جعل هتلر ألمانيا عظيمة وجعل الإنسان الألماني صغيراً بعد أن جعله يعيش تحت شعور الخوف والإرهاب.
وقد حقق نظام عبد الناصر الفاشي إنجازات كبيرة في حقل التصنيع، وحركة التحرر الوطني العالمية، وبناء السد العالي، ونقل الجيش المصري إلى عصر الصاروخ، وناضل ضد الاستعمار ومن أجل الوحدة العربية، ولكن الكثير من هذه الإنجازات سقط بسبب الدكتاتورية.
فقد سقطت الوحدة العربية، وأما القوات المسلحة الجديدة فلم تمنع احتلال إسرائيل سيناء مرتين، وإعادة الاستعمار إلى المنطقة العربية أقوى ما يكون تحت اسم التعاون وحماية الوطن من الأعداء العرب! كما حدث بعد احتلال العراق للكويت، وأما القطاع العام فهو في طريقه للزوال بعد مشروعات الخصخصة! وهكذا يثبت التاريخ أنه لا شيء يدوم إلا إذا قام على أساس احترام حقوق الإنسان وعلى أساس الديموقراطية وإرادة الشعوب.
.../...
41- الرحلة الجهنمية من سجن جناح إلى سجن المحـــاريق (الوفد في 26 / 5 / 1997)
31- د . لويس عوض .. وفوازير عبد الناصر ! (الوفد في 17 / 3 / 1997)
تصحيح تاريخ الشعوب عملية مستمرة كلما سمحت بها الوثائق التاريخية التي تظهر تباعاً، أو تكشفت حقائق جدد. والشعوب الحية لا تتردد في تصحيح تاريخها أولاً بأول حرصاً على تكوين ضميرها القومي تكويناً صحيحاً، وعلى سلامة ذاكرتها القومية، وبناء مستقبلها على أساس سليم يستفيد من تجارب الماضي.
وهذا ما نراه حالياً في روسيا ودول شرق أوروبا التي لم تتجه اتجاهها الحالي الاقتصادي والسياسي إلا بعد أن قامت أولاً بتصحح تاريخها وفقاً لما تكشفت عنه الأحداث، وأعادت تقييم تجربتها السابقة في إطار المتغيرات الدولية والمحلية.
وهذا التصحيح، وما يترتب عليه من تغيير، يؤدي بالضرورة إلى تغيير المصطلحات والمفاهيم وفقاً لحركة التاريخ، فما يطلق عليه اتجاه تقدمي قد يتحول مع التصحيح إلى اتجاه رجعي، وما يطلق عليه اسم يساري، يتحول مع التصحيح إلى اتجاه يميني!
وهذا ما يحدث حالياً في روسيا، فبعد أن كان الاتجاه الشيوعي يطلق عليه اسم اتجاه يساري، يعني أنه اتجاه تقدمي، صار اليوم يطلق عليه اسم اتجاه يميني، بمعنى أنه اتجاه رجعي يعود بروسيا ودول أوروبا الشرقية إلى الوراء ولا يمضي بها إلى الأمام!
وما نقوم به اليوم على صفحات جريدة "الوفد" الغراء من دراسة حول موقف ثورة يوليو من حقوق الإنسان، هو محاولة لتصحيح تاريخ مصر في فترة حكم ما عرفت باسم "ثورة 23 يوليو".
على أنه يجب أن أعترف بأن ما أقوم به ليس جديداً، بل له سوابق من مفكرين مصريين حاولوا إعادة تقييم تجربة ثورة يوليو توصلاً إلى حقيقة هويتها.
وقد كان من هؤلاء المفكرين الدكتور لويس عوض في كتابه "أقنعة الناصرية السبعة" الذي كتبه بذكاء وحذر شديدين بقدر ما سمحت له الظروف التي كتب فيها بعد عودته من جامعة كاليفورنيا عام 1975، واستطاع أن يقول فيه كل ما أراد قوله عبر جسور ذكية أقامها بمهارة لموازنة الأفكار الخطيرة التي طرحها ولم يكن لها سابقة في نقد هذه الثورة من مفكر يساري.
فقد طالب المصريين "بالنظر إلى فترة 1952 – 1970 نظرة موضوعية تعطي لعبد الناصر ونظامه ما له وما عليه، وقال إن أكثر الذين يحاسبون عبد الناصر في ذلك الوقت، لا يحق لهم أن يحاسبوه" لأنهم كانوا أدوات له في كثير مما ارتكب من أخطاء! وهم الذين وطدوا له فيما أخطأ وعوقوا سبيله كلما أصاب!
وفي الوقت نفسه هاجم الذين "ينتفضون غضباً إن سمعوا رجلاً يتوجع من مكروه أصابه في عهد عبد الناصر، ويزمجرون غيظاً إن خدش له أحد طرفاً! كأن شخص عبد الناصرغدا مقدساً له رهبوت الأنبياء! دون أن يدركوا أنهم ينتهون في النهاية – دون أن يعلموا – بالدفاع عن صلاح نصر وليس عن عبد الناصر!".
وقال إنه من الضروري أن نحاكم الماضي في موضوعية ودون تشنج، فقد كان من أخطاء ثورة يوليو أنها اشتغلت بتحطيم مقومات ثورة 1952 نفسها! حتى إنها طمست في عقول أجيالها الفرق بين سعد زغلول ومصطفى النحاس من جهة، وبين محمد محمود وإسماعيل صدقي من جهة أخرى!وبين العرش من جهة، والشارع المصري من جهة أخرى! وأذابت الفوارق بين الرجعية والتقدمية حتى بدت ثلاثون عاماً من كفاح الشعب العظيم من أجل الاستقلال الوطني والديمقراطية السياسية والاجتماعية، وكأنها ثلاثون عاماً من حكم الإرهاب!
ثم بدأ الدكتور لويس عوض في هدم ثورة يوليو وإعلان إفلاسها من الناحية الأيديولوجية (النظرية) فقال: إن الثورة بدأت في عام 1952 برفع ثلاثة شعارات – على غرار "الثالوث الفرنسي" في الثورة الفرنسية وهو ثالوث: "الحرية والمساواة والإخاء" الذي أعلنته الثورة الفرنسية أصلا ليحل في الوجدان الفرنسي محل "الثالوث المسيحي" (الأب والابن والروح القدس)، ويصبح عقيدة للقيادة الجديدة، أو محل "ثالوث الكنيسة الكاثوليكية": الإيمان والأمل والإحسان. وقد شاعت عادة "التثليث الإنساني" بدلا من "التثليث الإلهي" في أكثر الثورات والنظم الانقلابية منذ ذلك الحين، فأعلن هتلر أن رسالة المرأة هي "الأطفال والكنيسة والمطبخ" وأعلن زعماء مصر الفتاة في مصر في الثلاثينيات (أحمد حسين وفتحي رضوان) أن شعارهم هو: "الله والوطن والملك"، وسك الماريشال بيتان على العملة الفرنسية شعار فرنسا الجديد تحت الحكم النازي وهو "العمل والأسرة والوطن"، بدلا من "الحرية والمساواة والإخاء".
وهذا ما فعلته ثورة يوليو، فأعلنت في عام 1952 أن شعارها هو: "الاتحاد والنظام والعمل"! وفي سنة 1962 ومع الميثاق أعلنت شعاراً آخر هو "حرية واشتراكية ووحدة"!
وقال الدكتور لويس عوض إنه في أزمة مارس "حين سألنا الثورة قائلين: "الاتحاد والنظام والعمل" كلام جميل، ولكن هذه "واجبات الإنسان" فأين هي "حقوق الإنسان" التي تعد الثورة بها المواطنين إذا قاموا بواجباتهم؟ جاء الرد في عام 1956 في دستور 1956، ثم في المبادئ الثلاثة المعلنة في الميثاق في عام 1962. فهذه المبادئ الستة والمبادئ الثلاثة هي "العقد الاجتماعي" الذي عاهدت الثورة عليه المصريين وأرادت المصريين أن يتعاهدوا عليه.
ولكن إذا نظرنا إلى المبادئ الستة، وهي القضاء على الاستعمار، والقضاء على الإقطاع، والقضاء على الاحتكار الرأسمالي، وإقامة جيش وطني، وغقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. نرى انها تدل – بترتيب بندها – على سلم الأولويات في ذهن عبد الناصر وصحبه، وعلى أن الثورة ظلت لعشر سنوات على الأقل حتى عام 1962 "ترى أعداءها قبل أن ترى غايتها"!
فالمبادئ الثلاثة الأولى هي مبادئ تحطيم. وليست مبادئ نظام، أما المبادئ الثلاثة الأخيرة، وهي إقامة جيش وطني وقوي، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، فهي لا تعني شيئاً محدداً، باستثناء مبدأ الجيش الوطني القوي!
"إن هذه المبادئ إنما هو عموميات في عموميات! فماذا تكون هذه "العدالة الاجتماعية"؟ وما تعريفها؟ وما أسسها وحدودها؟
"أهي عدالة اجتماعية كما يراها من يملكون، أم عدالة اجتماعية كما يراها من لا يملكون؟ أهي عدالة أصحاب المائة فدان، أم عدالة الفلاحين الحفاة الذين فلحوا لهم الأرض؟ أهي عدالة صاحب المصنع أو المتجر، أو عدالة الأجراء العاملين في مصنعه أو متجره؟ أهي عدالة صاحب العمارة أم عدالة سكان العمارة؟ أهي عدالة الإحسان والوازع الخلقي أم عدالة الحقوق الطبيعية؟ أهي عدالة المنتج أم عدالة المستهلك؟
"وبالمثل، فماذا تكون هذه الديمقراطية السليمة؟ ومن الذي يحدد إن كانت هذه الديمقراطية أو تلك سليمة أو غير سليمة؟
"نحن نعرف أن معنى الديمقراطية الحرفي هو "حكم الشعب"، وأن سبيلها التقليدي هو اختيار الشعب من يراه من الوكلاء السياسيين، ليمثلوه ويعبروا عن مصالحه، وليحكموا ويحققوا مصالحه. فهل تكون الديمقراطية سليمة إذا حمينا الشعب من خطأ الاختيار، وبالعزل السياسي لمن نقدر أنهم أعداء الشعب؟
"ومن الذي يقدر إن كان هذا الرجل أو ذاك عدو الشعب أم صديق الشعب؟ نحن أم الشعب نفسه؟
"هل نحن متفقون على أن الشعب يحاج إلى وصاية أجهزة الاتحاد القومي والإتحاد الإشتراكي والمخابرات والمباحث الذين يستطلعون دخائل الناس ودخائل الأمور ولا يقفون عند ظاهر الحال؟".
ثم ينتقل الدكتور لويس عوض إلى الإشتراكية التي وعدت بها الثورة المواطنين، فيسخر منها قائلاً: إنها شيء غامض!، لأنه بحسب – تعريفه في الميثاق – مطاط يتسع لكل شيء: ففيه مكان للقطاع العام، وفيه مكان للقطاع الخاص! وفيه وعد بتذويب الفوارق ولكن كيف يكون: هل يكون بنسبة واحد للعامل إلى مائة لرئيس مجلس إدارة المؤسسة؟ أو واحد للعامل إلى مائة ألف لبعض المقاولين؟
ثم إن الثورة تقول إن هذه الإشتراكية "منبثقة من واقعنا"! دون أن تحدد هذا الواقع كما تؤكد أن اشتراكيتنا ليست اشتراكية مستوردة، أي أنها ليست كاشتراكية الخواجات في الاتحاد السوفيتي (الشيوعية) أو فيألمانيا الهتلرية (النازية) أو كاشتراكية حزب العمال البريطاني (الفاشبية)!
لهذا السبب – كما يقول الدكتور لويس عوض – حارت عقول المفكرين في "الميثاق"! فمن قائل إنه يرسي أسس الإشتراكية العلمية (الماركسية)! ومن قائل إنه يحترم الرسالات السماوية وإنه يرسي أسس الإشتراكية الدينية! ومن قائل: بل هو يرسي أسس الإشتراكية العربية! ولولا الحياء لقالوا: إنه يرسي أسس "الإشتراكية الوطنية، أي النازية! وهكذا دخلنا في عالم "الفوازير"! وأصبحت اشتراكيتنا كذلك اللغز الذي جاء في الأمثال:
"يعدي البحر ما يتبلش"!
لذلك يرى الكتور لويس عوض أنه من الظلم لعبد الناصر ونظامه أن نقول إنه وعد الناس ببناء اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ثم عجز عن تحقيقه! لأنه ـ باختصار ـ لم يع بشيء إلا في أعم عمومه، وهو: "مجتمع الكفاية والعدل"! ولكن هذا الشعار ليس فيه جديد! فقد كانت ترفعه أحزاب ما قبل الثورة، من الوفد إلى الأحرار الدستوريين إلى أحزاب السراي! بل إن الملك فاروق نفسه كان يؤنب النحاش باشا بحجة أنه لم يوفر للشعب "الغذاء والكساء" لكي يبرر طرده من الحكم!
ثم يسخر الدكتور لويس عوض من الشيوعيين المصريين والعرب الذين دافعوا عن عبد الناصر كرائد من رواد الإشتراكية، لمجرد أنهم رأوا في نظام القطاع العام وفي بعض التشريعات العمالية والتأمينات الاجتماعية وفي التعاون أو التقارب من الاتحاد السوفيتي "ملامح اشتراكية"! ويقول: إن هذا أمر جد خطير! وغنه "لابد من بحثه بحثاً علمياً واقتصادياً لمعرفة جوهر هذه "الإشتراكية الناصرية، وهل كانت اشتراكية حقيقية أو كانت "اشتراكية وطنية – أي فاشية؟".
ويبرر الدكتور لويس عوض أهمية فحص اشتراكية عبد الناصر، تبريراً يقطر سخرية، إذ ينفي عن هذه الإشتراكية صفتها كاشتراكية مما عرفته النظم الإشتراكية، فيبنيه على أن عبد الناصر ـ في نظره ـ سيدخل التاريخ باثنتين من اهم منجزاته، وهما: تصفية الشيوعية، وتصفية الديمقراطية، ليس فقط في مصر بل وفي العالم العربي لحد ما! فأي نوع من الاشتراكيات تدخل اشتراكية عبد الناصر بهذين الإنجازين؟
على هذا النحو حصر الدكتور لويس عوض اشتراكية عبد الناصر في سلك الإشتراكية الوطنية ـ أي النازية! فهي النوع الوحيد من الاشتراكيات الذي يعادي كلا من الشيوعية والديمقراطية بنفس الدرجة، وهي النوع الوحيد من الإشتراكية الذي ظهر في ألمانيا الهتلرية وإيطاليا موسوليني وأسبانيا فرانكو وجميع الفاشيات التي ظهرت في التاريخ!
32- عندما وقعت مصر في قبضة الحكومة الخفية والمخابرات والاتحاد السوفيتي ! الوفد في 24 / 3 / 1997
تحديد هوية ثورة يوليو هي عملية حيوية، وتعد من صميم العمل التاريخي، فمن الضروري لكل شعب أن يعرف تاريخه في صورته الصحيحة بعيداً عن التزييف والتضليل. وبالنسبة للشعب المصري خاصة فقد كان تاريخه عرضة للتشويه على يد ثورة يوليو، كما عرضه للطمس في كثير من أجزائه، حتى إن جيل ثورة يوليو شب وهو لا يعرف شيئاً عن الحركة الوطنية التي قادها الوفد منذ عام 1919 إلى عام 1952، بعد أن أسقطت الثورة من هذا التاريخ اسم أكبر زعيم شعبي عرفته مصر بعد سعد زغلول وهو مصطفى النحاس، وذلك في الوقت الذي رفعت اسم عبد الناصر إلى مقام البطولة والزعامة المتفردة التي لم يسبق لها مثيل، وأسبغت على حكمه من صفات التقدمية والإشتراكية والديمقراطية ما جعل منه أفضل حكم على العصور! وخدعت بذلك الشعب المصري وخدعت التاريخ فشبت الأجيال المصرية منذ ذلك الحين مغيبة الوعي تنظر إلى تاريخها بنفس المنظار الذي صنعته لها ثورة يوليو لتفهم تاريخها بالمقلوب!
ومن هنا فإن ما نقوم به على صفحات هذه الجريدة الغراء "الوفد" هو عمل تصحيحي مهم لتاريخ مصر، لا نستخدم فيه شيئاً سوى سلاح الحقائق التاريخية غير القابلة للشك أو النقض، ولا نبتغي منه غير وجه الحقيقة التاريخية المجردة.
وكنا في مقالنا السابق قد تعرضنا لمراجعة الدكتور لويس عوض لثورة يوليو، وكيف بيّن إفلاسها من الناحية الأيديولوجية (النظرية) عندما نقد شعاراتها الأولى عن "الاتحاد والنظام والعمل" قائلا إنها تحدثت عن واجبات الإنسان لا حقوق الإنسان! ونقد المبادئ الستة للثورة قائلاً إن المبادئ الثلاثة الأولى منها هي "مبادئ تحطيم" "لا مبادئ نظام" وأما المبادئ الثلاثة الباقية فهي – باستثناء مبدأ بناء الجيش الوطني القوي – عبارة عن عموميات في عموميات! وسخر من مبدأ الديمقراطية السليمة الذي نادت به الثورة، وال إنها وضعت الشعب تحت حماية أجهزة الاتحاد القومي والإتحاد الإشتراكي والمخابرات والمباحث! كما سخر من الإشتراكية التي وعدت بها الثورة المواطنين، وقال إنها شيء غامض ومطاط يتسع لكل شيء، وقد حارت فيها عقول المفكرين، ودخلت في عالم "الفوازير" وإن أحداً لا يعلم هل كانت اشتراكية حقيقية أو كانت "اشتراكية وطنية" (نازية) ! ثم حصر الدكتور لويس عوض اشتراكية عبد الناصر في سلك النازية بناء على أن عبد الناصر سوف يدخل التاريخ باثنين من أهم منجزاته، وهما: تصفية الشيوعية، وتصفية الديمقراطية!
وقد انتقل الدكتور لويس عوض إلى الحديث عن قرارات التأميم التي أعلنها عبد الناصر في يوليو 1961، والتي كانت العمود الفقري للقطاع العام، فقال إن هذه التأميمات وصفت خطأ "بالنظام الاشتراكي"، وما هي في حقيقتها إلى رأسمالية دولة! وحتى يوضح هذه النقطة قال: إن الفرق الوحيد بين الإشتراكية ورأسمالية الدولة فيما يتصل بالملكية العامة لوسائل الإنتاج والخدمات وأدواتهما، هو ما يتعلق بموضوع أيلولة فائض القيمة من هذا الاستثمار العام.
ففي الإشتراكية، "حيث الشعب مؤلَّه" – على حد قوله – يتحتم أن يئول فائض القيمة – أي ربح رأس المال العام وثمرته – إلى الشعب في صورة خدمات عامة، كالتعليم العام، والصحة العامة، والمواصلات العامة، والترفيه العام ـ وباختصار الإشتراكية تحتم أن تئول ثمار عمل الشعب وموارده الطبيعية إلى كل بحسب عمله أولا، وإلى كل بحسب حاجته (ثانيا).
أما في رأسمالية الدولة، حيث الدولة مؤلهة من دون الشعب، فثمار عمل الشعب وموارده الطبيعية تصب في خزائن الدولة لتنفقها بحسب تقدير ولاة الأمور القائمين بحكم الدولة، لما فيه خير الدولة! إن رأوا إنفاقها على مجد الدولة، أنفقوا على مجد الدولة! حتى ولو ضاعت في حروب وفتوحات! وإن رأوا إنفاقها على بناء صفوة المجتمع ومجتمع الصفوة، أنفقوها على ذلك! ولو ضاعت على الطبقات الحاكمة ولم يصل للشعب منها إلا الفتات!
كذلك تتميز الإشتراكية عن رأسمالية الدولة بالرقابة الشعبية ومسئولية الحاكم وطبقته الحاكمة أمام الشعب، وهو ما لا نراه في رأسمالية الدولة حيث نرى الحاكم غير المسئول أمام الشعب! بل نراه هو الذي يسائل كل من دونه ولا يسائله أحد! وهو ما يميز نظام عبد الناصر!
وتناول الدكتور لويس عوض التنمية الاقتصادية في نظام عبد الناصر، فقال إنها قامت على نظرية الاكتفاء الذاتي، أي أن تنتج الصناعة المصرية من الإبرة إلى الصاروخ! وهي قاعدة الاقتصاد الفاشي والنازي والشيوعي وكل نظام شمولي، ولا يمكن تطبيقها إلا في ظل الحماية الجمركية العنيفة الشاملة، وخفض استيراد السلع المصنوعة أو منعه، وفي ظل تجميد الصراع الطبقي (أو ما سمي بتحالف قوى الشعب العاملة!)
وهو ما قامت به الدول الاستعمارية الطامحة مثل ألمانيا النازية واليابان للسيطرة الصناعية، ولكن نجاح هذا النظام يرتبط بقدرة الصناعة الوطنية على الوقوف على قدميها، لأن كل حماية مصطنعة لا تقوم على بلوغ الإنتاج نفسه حد الكفاية إنما تكون على حساب المواطن المستهلك والعامل المنتج، وهما جسم المجتمع الأكبر الذي ما أنشئت الحماية إلا من أجله.
وقال إن دراسة حالة الاقتصاد المصري في عهد عبد الناصر تقف دونها توافر البيانات الصحيحة! وعندما أصدر الدكتور علي الجريتلي كتاب "التاريخ الاقتصادي من 1952 إلى 1966"، صادره عبد الناصر أو رجاله! ولم ير النور إلا بعد أن سقطت مراكز القوى! ولا يمكن معرفة هل تدر منشئات القطاع العام ربحا على مستوى الاستثمار الرأسمالي أو تخسر؟، وإذا كانت تربح فكيف ينفق ربحها: على القيادة أم على القاعدة؟
أكد أن منشئات القطاع العام المؤممة من المصالح الأجنبية قبل الثورة كانت ـ قطعا ـ استثمارات رابحة، وإلا أفلس أصحابها من الخواجات! فهل لا تزال تربح بعد التأميم بنفس النسبة؟ أو بنسبة أقل؟ أو ترى بعضها ينتج بالخسارة؟ هذه أسئلة يتعذر الإجابة عنها.
فعلى حد قوله "لقد كان تلفيق البيانات الخاصة بالإنتاج والخدمات والأرباح، سمة من سمات إدارة القطاع العام طوال عهد الثورة! كذلك إخفاء الحقائق والتستر على الأخطاء والخسائر والكوارث! وكان المنطق السائد هو رسم صورة وردية لحالة الإنتاج والتوزيع في كل فرع من فروع القطاع العام، لإثبات نجاح البيروقراطية والتكنو قراطية المصرية، ولو بإشاعة الأكاذيب! وكانت الدولة من جهة، والإتحاد الإشتراكي من جهة أخرى يشجعان هذا المنطق، لقمع التشكيك في القطاع العام ـ أي رأسمالية الدولة أو الإشتراكية سمها كما شئت!
وقال الدكتور لويس عوض إن مشكلة القطاع العام هي أن اكتشاف اللصوص فيه أصعب من اكتشافهم في القطاع الخاص حيث لكل رأس مال حارس يسهر عليه شخصياً ويصونه من الضيع، أما القطاع العام فمالكه الحقيقي، الذي هو الشعب، لا يملك حق التفتيش في دفاتره! لأن إدارته متحصنة داخل قلعة منيعة، هي قلعة الحكم ذاتها من إداريين وبيروقراطيين وفنيين!
وتساءل الدكتور عوض عن أسباب عجز مصر عن سداد ديونها الخارجية للدول الإشتراكية والرأسمالية؟ وقال إنه غما إنتاج القطاع العام لم يكن كافياً لتكوين الاحتياطي المطلوب تحويله إلى الدول الدائنة، ـ وفي هذه الحالة تكون الصورة العامة للقطاع العام صورة فاشلة بنسبة النقص في سداد أقساط الديون ـ وإما أن إنتاج القطاع العام كان كافياً لسداد الديون ولكن هذا الإنتاج أكله الإنفاق على حروبنا الخاسرة وعلى أحلامنا السياسية الضائعة! وفي هذه الحالة فإن اللوم يقع على قيادتنا السياسية والاقتصادية التي خلطت ميزانية الحرب بميزانية الحرب بميزانية التنمية!
وقال الدكتور لويس عوض "إنه مما لا شك فيه أن النظام المغلق الي أسسه عبد الناصر جعل من المستحيل معرفة ما كان يجري داخل مؤسسات القطاع العام وشركاته، وداخل إدارة النقد الأجنبي إلخ، وجعل العقاب على الانحرافات أو سوء التصرفات غير ممكن، لنهما كثيراً ما كانا يتمان بأمر من "الحكومة الخفية"! التي لم تكن مسئولة أمام أحد إلا عبد الناصر وحده!
وضرب المثل بفضيحة محصول القطن الذي أكلت الدودة منه ما قيمته 70 مليون جنيه عام 1961، ومع ذلك تاهت المسئولية بين وزارة الزراعة التي قالت إنها طلبت استيراد المبيدات اللازمة، وإدارة النقد الأجنبي التي قالت إن "جهة ما"! تصرفت في رصيد العملة الأجنبية!
وقال إنه وسط هذا الانغلاق سقط على القطاع العام ظلان رهيبان، هما: ظل المخابرات العامة، وظل الإتحاد الإشتراكي، كسلطات تحقيق وإدانة وإرهاب باسم نزاهة الحكم!، وكثرت الشكاوى الكيدية، ولم تعد تسمع لأحد كلمة إلا إذا كان موضع ثقة هاتين السلطتين غير المسئولتين!
وقال الدكتور لويس عوض غنه في ظل غلق باب الاستيراد إلا بإذن الدولة، راجت السوق السوداء في السلع الاستهلاكية المستوردة والمحلية، وفي قطع الغيار، وشاع الاكتناز للمضاربة فيها، "وتصاهر الأوغاد في القطاع العام والقطاع الخاص لسلخ جلد المستهلك"! وراجت سوق تهريب السلع الأجنبية في مجتمع الندرة، أي من الشام أيام الوحدة، ثم من غزة بعد الانفصال، ثم من ليبيا بعد هزيمة 1967 وثورة الفاتح من سبتمبر، ثم من السعودية والكويت ومن كل مكان بعد الانفتاح!
وتحدث الدكتور لويس عوض عن إدارة القطاع العام في عهد عبد الناصر، فوصفها بأنها إدارة مختلة نشأت في تاريخ مبكر من عهد عبد الناصر، واشتهرت باسم "أهل الثقة وأهل الخبرة"، عندما ما لم تجد الثورة سبيلاً لحماية نفسها إلا بالاعتماد على "الضباط الأحرار" ومن لاذ بهم من ضباط الصف الثاني، أو المدنيين المتقربين على أساس الولاء الشخصي، ودون قيد فني أو شرط فكري!
ومن هنا سلمت الثورة كل قطاعات الإنتاج والخدمات إلى مجموعة من القيادات العسكرية أو شبه العسكرية، وجعلت كل تعيين أو ترقية بقوة القانون من الدرجة الخامسة فصاعداً لا يتم إلا بموافقة المخابرات العامة ومكاتب الأمن! وكذلك الوضع في بعض القطاعات الحساسة كأجهزة الإعلام وبعض المستويات العليا كمجالس الإدارات، وعضوية الاتحاد القومي أو عضوية الإتحاد الإشتراكي.
وبذلك ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ جعلت الثورة "الجنسية المصرية" في المرتبة الثانية بعد "الجنسية الثورية"! واعتبرت كل مواطن مصري عدواً للثورة مالم يحصل على شهادة أو تأشيرة من مسئول بأنه عكس ذلك!
وقال إنه من بين من تخيرتهم الثورة من الإداريين والفنيين نسبة عظيمة من الجهال، خربي الذمة، والمستهترين، وعباد النفس، والمعارف، والأقارب بدرجة ساعدت على تخريب الإنتاج والخدمات في أكثر قطاعات الحياة في بلادنا"!
واستشهد الدكتور لويس عوض بحدث لعبد الناصر للصحفي الإنجليزي بيتر مانسفيلد، اعتبره "من أخطر وثائق الثورة التي تمكن من فهم منهج عبد الناصر في إدارة البلاد، وفيه اعترف عبد الناصر بأنه عندما عجز عن إبعاد زملائه من الضباط الأحرار عن الجيش عن طريق فصلهم من القوات المسلحة أو إحالتهم إلى المعاش أو الاستيداع، وهم لا يزالون في سن الخدمة العامة، وزعهم على الإدارات الحكومية وعلى المؤسسات والشركات العامة، لتسييرها من ناحية ولمراقبة أمن الدولة فيها من ناحية أخرى، وبهذا "كافأتهم على تضحيتهم، وخدمت جيش مصر بتنقيته من المشتغلين بالسياسة"!
وعلق الدكتور لويس عوض على هذه الوثيقة قائلاً: إذا كان عبد الناصر قد طهر جيش مصر منا لضباط السياسيين، ووقاها شر الانقلابات العسكرية، فإنه في الوقت نفسه أساء إلى الحياة المدنية وإلى إدارة الإنتاج المصري والخدمات المصري، بفرض العديد من الضباط ناقصي الخبرة، ومحدودي الثقافة، على حياتنا المدنية، وقد كان منهم فئة فاسدة الخلق، طغت وبغت، وأرهبت الأهلين لنهب المصادرات والحراسات والمال العام، أو لإشباع عقدها السادية في بعض الأحيان"!
33- د . لويس عوض وفاتورة حساب التجربة الناصرية ! (الوفد في 31 / 3 / 1997)
كنا وصلنا في عرض تقييم الدكتور لويس عوض التجربة الناصرية إلى نتيجة هامة من نتائج الحكم العسكري الفاشي الذي أرساه عبد الناصر، وهي انتقال السيطرة العسكرية من السيطرة على الجيش إلى السيطرة على وسائل الإنتاج، عندما سلمت الثورة كل قطاع من قطاعات الإنتاج والخدمات إلى مجموعة من ضباط الثورة الذين رأى عبد الناصر تطهير الجيش منهم لتامينه من الانقلابات العسكرية، وبذلك ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ يكون عبد الناصر قد طهر جيش مصر من الضباط السياسيين ووقاها شر الانقلابات العسكرية، وأساء إلى الحياة المدنية وإلى إدارة الإنتاج المصري والخدمات المصرية، بفرض العديد من الضباط ناقصي الخبرة محدودي الثقافة على حياتنا المدنية!
وفي الوقت نفسه، وإلى جانب هذه الإدارة العاجزة، تفشى الإرهاب من القاعدة تحت اسم "الرقابة الشعبية"! فقد كان باسم هذه الرقابة أن كثرت الشكاوى الكيدية في الرؤساء من فنيين وإداريين، واتهامهم بالانحرافالإداري أو المالي والسياسي، فتتحرك المخابرات العامة وتجري التحقيقات وفي بعض الأحيان تلفق القضايا للكوادر العليا في الإنتاج والخدمات!
وكان أبطال هذه المهازل ـ أو المآسي ـ وأدواتهما، هم أعضاء لجان الإتحاد الإشتراكي في مؤسسات القطاع العام وشركاته، ممن اشتغلوا بالإشتراكية اجتباء للمنافع الخاصة وللسيطرة الشخصية في مواقع عملهم.
وقد نجم عن ذلك ضياع هيبة الرؤساء وسلطتهم في محاسبة المرءوسين على الإهمال أو الفساد واستغلال النفوذ، وأصبح الطريق ممهداً امام فاسدي الخلق من الموظفين، فما عليهم إلا الاشتغال بالسياسة الثورية، وإقامة الجسور بينهم وبين مراكز القوى، عن طريق كتابة التقارير! ليصبحوا الحكام الحقيقيين لبعض المؤسسات والشركات، واكتسبوا ما أسماه الدكتور لويس عوض بـ "قوة الجستابو"! فأصيبت بعض القطاعات باشلل أو بالفوضى، وانعدام معايير الحساب!
وقال الدكتور لويس عوض إن عبد الناصر، "هذا الضابط المتعجرف الذي وقف يوم الاعتداء عليه في ميدان المنشية، يهين الشعب المصري ذا الجهاد المتصل، قائلاً: "أنا علمتكم العزة والكرامة"! عاد فوصف الشعب المصري في الميثاق بأنه "المعلم العظيم"! ولكنه وثورته "دمرا بعض أسس المجتمع المصري الراقية، التي بناها المصريون خلال المئتي سنة الأخيرة، نتيجة احتكاكهم المباشر بالحضارة الأوربية".
وقد عدد الدكتور لويس عوض من هذه الأسس الراقية التي دمرها عبد الناصر ونظامه: مبدأ القومية المصرية، ومبدأ الحق الطبيعي، والحقوق والحريات الديمقراطية مثل: فصل الدين عن الدولة، وفصل السلطات، وسيادة القانون، وسيادة الأمة على الحكومة، وحرية الاجتماع، والتفكير، والتعبير، والعمل، والاختيار، وحرية التنظيم، والتمثيل، والتوكيل السياسي .. الخ.
وهكذا ـ وكما يقول الدكتور لويس عوض ـ زعزعت الناصرية إيمان المصرين بهويتهم المصرية، وبشخصيتهم المصرية، ومحت اسم مصر، ودعت المصريين إلى فقدان أنفسهم في كيان سياسي أكبر هو كيان الأمة العربية الممتدة من الخليج إلى المحيط! وبعد أن كانت العروبة في سنتي 1953 و 1954 ـ أيام فلسفة الثورة ـ مجرد دائرة من الدوائر الثلاث التي تقع مصر في تقاطعها، وتستخدمها رصيداً لقوتها ولقوة المنطقة العربية، أصبحت مصر مركز دائرة واحدة هي دولة الوحدة العربية. كذلك نسفت الناصرية أكثر الحقوق والحريات الديمقراطية، وقبلت من حزب البعث فلسفة القومية العربية، ولم تجعلها دين الدولة الرسمي فحسب، بل جعلتها المصدر الرئيسي للسياسة والتشريع والقيم الفكرية والاجتماعية، وأعطت الدولة حق إلزام الناس بها، وحق تلقين الأجيال الجديدة بها، وتنشئتهم عليها كما لو كانت من مقولات الوحي التي لا تناقش!
وبالمثل اضطلعت الثورة الناصرية بحل كافة التنظيمات السياسية، وتحريم كافة التجمعات المنظمة، وتجريم كافة التجمعات غير المنظمة، وإقامة حياتنا السياسية على مبدأ تحالف قوى الشعب العاملة داخل وعاء واحد تسيطر عليه الدولة، وهو: هيئة التحرير، فالاتحاد القومي، ثم الإتحاد الإشتراكي.
وفي الوقت نفسه، وكما يقول الدكتور لويس عوض. اقتلعت الثورة الناصرية حق الأفراد والجماعات والطبقات في التفكير السياسي، وحريتها في العمل السياسي، وبذلك جردت هذه الثورة المصريين من حقوقهم السياسية، وعزلت الشعب المصري برمته عزلاً سياسياً! اللهم إلا من سار في مسيرتها بالولاء الشخصي.
كذلك ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ ألغت الثورة الفرق بين الدولة والحكومة، فغدت الحكومة هي الدولة، والحكومة هي الدولة! كما ألغت الفرق بين الشعب ووكلائه المعبرين عن إرادته، لأنها جردت الشعب المصري من حق توكيله للمثليه السياسيين المختارين له من قبل الثورة، وأنكرت التعارض بين مصالح الطبقات!
وفي عهد عبد الناصر، انهارت نظرية القانون نفسها! فتحول القانون من معيار موضوعي واضح يستمد من العرف العام ومن الضمير العام ومن المصلحة العامة، إلى قرارات وإجراءات فردية تقديرية تتخذ، مستمدة من الظروف الموقوتة والاحتياجات الطارئة! وابتكر سوفسطائيو الثورة نظرية "الفقه الثوري" و "الشرعية الثورية"، ليبرروا هذه الإجراءات والقرارات الاستثنائية، بدلا من أن يبصروا الحاكم بأن الفقه الثوري والشرعية الثورية، معناهما وضع فلسفة تشريعية جديدة، موضوعية المعايير، مستمدة، لا من سلطات الحاكم التقديرية، ولكن من العرف العام والضمير العام والمصلحة العامة للطبقات التي قامت الثورة لترد لها أهليتها القانونية، وللغايات التي قامت الثورة لتحقيقها.
"أما حرية التعبير" ـ كما يقول الدكتور لويس عوض ـ اندمجت فيها السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، ومعها السلطة الرابعة (الصحافة) وغدت كلها الأذرع الأربع للزعيم الذي تجسدت فيه إرادة الولة"!
"بل إن وظائف الجيش والبوليس، اختلط بعضها ببعضها الآخر بعد ‘لان عضوية الجيش في تحالف قوى الشعب، لأنه غدا ـ بهذا ـ مسئولاً مسئولية رسمية عن حماية النظام الداخلي، لأنه طرف من أطرافه"!
وسخر الدكتور لويس عوض من التوسع المصري في البلاد العربية في عهد عبد الناصر ومن مقارنة عبد الناصر بمحدم علي قائلا: "إنك إذا أردت أن تجرب تجربة محمد علي، فلابد ان يكون لديك إبراهيم باشا والكولونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي)! أما أن تجرب تجربة محدم علي باشا ومعك الصاغ عبد الحكيم عامر، الذي كلما خسر حرباً انتقل إلى رتبة أعلى!، فهذا أقصر الطرق إلى الكوارث القومية"!
وتساءل: كيف ائتمن عبد الناصر المشير عامر على قيادة الجيوش، وهو لا يستطيع أن يقود كتيبة؟ وقال إنه بعد أن خسر عبد الحكيم عامر معركة الوحدة مع سوريا، كان ينبغي على عبد الناصر أن يقيله، ويجرده من رتبته العسكرية، لا حرصا على الوحدة، ولكن حرصاً على هيبة مصر التي أضاعها بغفلته! وبعد أن خسر عبد الحكيم عامر حرب اليمن كان ينبغي أن يفعل فيه عبد الناصر أشياء كثيرة، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذه الأشياء، حتى خسر عبد الحكيم عامر حرب 1967! وعندئذ تحرك عبد الناصر وطلب إليه أن يستقيل، بدلاً من انيحيله إلى المحاكمة العسكرية، لأن مسئولية الهزيمة اقتربت من عبد الناصر شخصياً! وكان لابد من تقديم قربان للشعب المصري الغاضب، ولكن عبد الحكيم عامر رفض الاستقالة وأصر أن يجر معه عبد الناصر إلى الهاوية، ومنطقه: إن كانت هناك مسئولية فكلانا مسئول، وكلانا ينبغي أن ينصرف.
وسخر الدكتور لويس عوض من تبرير محمد حسنين هيكل تمسك عبد الناصر بعبد الحكيم عامر قائداً عاماً لجيوشه بأن "عبد الناصر، كان يحب عبد الحكيم عامر، من كل زملاء عبد الناصر كان أحبهم على قلبه!" وتساءل: وما يهم الشعب المصري والشعوب العربية إن كان عبد الناصر يحب عبد الحكيم عامر أو لا يحبه؟ المهم هو: هل كان عبد الحكيم عامر يصلح لعمله أو لا يصلح؟ ولكن نتائج الحروب الكثيرة التي خاضتها مصر والتي خسرتها بطريقة مشينة، بسبب الغفلة والارتباك، وربما بسبب الجهل أيضاً، تدل على أن عبد الحكيم عامر لم يكن يصلح.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تمسك عبد الناصر بعبد الحكيم عامر؟ لقد تمسك به لأن المشير لم يكن من أطماعه أن ينازع عبد الناصر مكان الزعامة، لأن الزعامة رهبانية وهو محب للحياة! وكان نظام عبد الناصر بحاجة إلى حراسة الجيش سياسياً وعسكرياً، وقد أدى عبد الحكيم عامر لعبد الناصر هذه المهمة ووقاه شر الانقلابات العسكرية! ولذا لم يتخل عبد الناصر عنه، متغاضياً عن أخطائه الكثيرة، وكان عليه أن يدرك أن من يحاول اقتحامات محمد علي، ويلوح دائماً "بأكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط"، ينبغي عليه أن يحسن اختيار جنرالاته!
وقال الدكتور لويس عوض إن الأمر لم يتوقف على سوء اختيار عبد الناصر لجنرالاته، بل إن مخابراته العسكرية أيضاً كانت ـ في مجموعها العام ـ دون المستوى الذي يمكنها من جمع المعلومات الصحيحة عن العدو وتحليلها ـ أو لعلها مشغولة بأمور أخرى! ـ ولذلك قدمت لعبد الناصر صورة مضللة عن الموقف في القناة سنة 1956، وفي سوريا سنة 1961، وفي اليمن بين 1962 و 1967، وفي سيناء 1967! ـ على غرار ما كان يفعله رؤساء المؤسسات والقطاع العام!
وقد سخر الدكتور لويس عوض من مقارنة عبد الناصر بمحمد علي، وحذوه حذو محمد علي في صنع السلاح المصري، وقال "إن من أراد تجييش الجيوش على نهج محمد علي؛ وحذوه حذو محمد علي في صنع السلاح المصري على أرض مصرية وبأيد مصرية، كان يجب عليه أن يحسن اختيار خبراء السلاح"، ولكنا سمعنا عن صواريخ الظافر والقاهر، ولم نلمس لها نتيجة! وكان من العجائب أن سمعنا أن المصانع الحربية تنتج أفران البوتاجاز وما شابهها من الدوات المنزلية!
أما خبراء تصنيع السلاح الأجانب، فلعلة ما، كما يقول الدكتور لويس عوض ـ لم تستعن مصر بدولة من الدول الصديقة العريقة في تصنيع السلاح، كالسويد وتشيكوسلوفاكيا وإيطاليا، وإنما اجتذبت حثالة النازيين، الذين تبين فيما بعد أنهم كانوا جواسيس إسرائيل! وكانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هي المورد الأول لهؤلاء النازيين! بعد أن حصلت أمريكا وروسيا على خيرة العلماء الألمان ولم يبق لمصر وللعالم الثالث إلا شذاذ الآفاق!
وهاجم الدكتور لويس عوض تبريرات الناصريين لهزيمة يونيه 1967، قائلاً: صوروا "مصرع مصر والناصرية في 1967، كأنه مجرد جريمة من جرائم الاستعمار العالمي بلا زيادة ولا نقصان! وكأننا كنا فيه مجرد ذبيحة بريئة من ذبائح الدول العظمى، لا مسئولية علينا في شيء مما حدث!".
وشبه الدكتور لويس عوض نظرية التحالف الطبقي بالإكراه التي اتبعها عبد الناصر في "الاتحاد القومي"، بمنهج الفاشية والنازية، يعرف أن أساس الفاشية والنازية هو نظرية الاتحاد القومي بين طبقات المجتمع الواحد لتصفيبة الصراع الطبقي الداخلي، وإسقاط التنقاضات الطبقية في الخارج، وهي من أصل كلمة "الفاسكيس" اللاتينية، بمعنى عصبة العصى التي يصعب تحطيمها ـ وقال إن هذا ما عمله موسوليني للشعب الإيطالي، وهتلر للشعب الألماني، كرد على نظرية الطبقات، وهو ما فعله عبد الناصر للشعب المصري!
34- رسالة مصطفى أمين إلى عبد الناصر (الوفد في 7 / 4 / 1997)
في مقالاتي السابقة عن انتهاك عبد الناصر لحقوق الإنسان، تعمدت ان أروي تجربة اليسار مع عبد الناصر، لأنها الوحيدة التي لا يستطيع حملة قميص عبد الناصر إنكارها، بحكم التحالف بينهم وبين اليساريين، الذي نسي فيه اليساريون ما لاقوه على يد عبد الناصر مما لم يشهده تاريخ التعذيب على مر العصور، لأنه كان تعذيباً بدون أي هدف أو غاية يراد تحقيقها، وإنما كان ـ كما كتب الدكتور رفعت السعيد ـ تعذيباً للتعذيب!
على أنه منذ أيام، وبمناسبة مرض الأستاذ مصطفى أمين، رأت جريدة الناصريين إهداءه باقة ورد ممثلة في محاكمته أيام عبد الناصر بتهمة الجاسوسية! وظنت الجريدة الساذجة أن شعبنا في أيام مبارك مازال يعيش في أيام الحكم الدكتاتوري لعبد الناصر! وأنه سوف يصدق تلك "الفبركة" الدموية التي لفقها نظام عبد الناصر لمصطفى أمين! ولكن شعبنا ضحك لما فعلته الجريدة، فما زال مصطفى أمين يكتب كقلم من الأقلام الشريفة التي تدافع عن الحرية والديمقراطية في بلدنا، مرتفعا فوق التهمة التي لفقها نظام عبد الناصر. على أنه كان من واجب الصحيفة، مادام أنها أثارت هذه القضية، أن تستكملها برواية ما ارتكبه النظام الناصري من جرائم في حقوق الإنسان في هذه القضية، وما وفره لمصطفى أمين من حقوق الدفاع عن النفس على أساس أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته أمام محاكمة عادلة، ولكن الجريدة لسوء حظها أهملت هذا الجانب، الأمر الذي يمنحني الفرصة كاملة، لتعريف القارئ الكريم بهذا الجانب، نقلاً عن رسالة أرسلها مصطفى أمين لعبد الناصر من سجن الاستئناف يوم 7 ديسمبر 1965، ترسم صورة كاملة لطريقة ثورة يوليو في احترام حقوق الإنسان! وأرجو من القاري أن يحبس أنفاسه وهو يقرأ رسالة مصطفى أمين لعبد الناصر، مع قبول اعتذاري لما فيها من اختصار غير مخل. تقول الرسالة:
"قبض عليّ يوم 21 يوليو (1965)، ووضعوا في يدي الحديد! وحملوني في سيارة من الإسكندرية إلى القاهرة، ووضعوا على عيني عصابة سوداء! وأدخلوني على صلاح نصر، فقال لي: إن الرئيس هو الذي أمر بالقبض عليك لاتصالك بالأمريكي أوديل!
"قلت له: إن اتصالي بأوديل لم يكن سراً عليك! وأنت تسألني من شهور عن أسماء الأمريكيين الذي أجتمع بهم من موظفي السفارة، فذكرت لك أسمائهم جميعاً، وفي مقدمتهم أوديل؟. وطلبت مني أن أسأله عن بعض معلومات عن موقف أمريكا من مصر، وجئت في مكتبك هنا، وأبلغتك بما قاله.
"ثم أخذوني إلى زنزانة في سجن المخابرات، ونزعوا ثيابي، وأصبحت عارياً تماماً! ووجهوا إلي مصابيح كشافة كادت تعمي عيني! وراحوا يضربونني، وصلبوني على الحائط، وثبتوا كل يد في قيد من الحديد بأعلى الجدار، ثم راحوا يرفسونني!
"وتدموا، ونزعوا بأيديهم شعر العانة!، واستأنفوا الضرب، والصفع، والرفس بالأيدي وبالأقدام وبالعصي!
"ثم فكوا القيد من يدي، وربطوا جهازي التناسلي بسلك، وجذبوني منه! وداروا بي حول الغرفة عدة مرات! ففقد بصري الرؤية، وتحولت وجوه الزبانية إلى أشباح ثم سقطت مغشياً عليّ.
"وأيقظوني، وبدءوا يضربونني من جديد، ويشدون شعر بطني وعانتي! وكان العذاب مريعاً، قاسياً، ومع ذلك تحملته. ولكنني لم أحتمل عندما شتموا أمي وقالوا إنها "شرموطة"! عندئذ بكيت.
"ولم يشفقوا على حالتي المرضية، ولم يشفقوا على سني، ولم يشفقوا على دموعي، واستمروا في إهاناتهم، وفي ضربهم وركلهم!
"ولم يكن التعذيب يوماً واحداً، لقد استمر أيام يوليو العشرة، وإلى أواخر أغسطس. كل يوم أعرى، وأضرب وأصلب، وأتلقى الإهانات والعذاب!
"وقال لي الزبانية أثناء التعذيب: أنني كنت ابلغك (عبد الناصر) بأخبار المخابرات، ورجال المشير الخاصة، وبعض مسائل خاصة عن حياة المشير الخاصة. فأقسمت لهم أنني لم أفعل ذلك. ولكنهم لم يصدقوا، وأصروا على أن معلوماتهم تؤكد ذلك، وهددوني بأن صلاح نصر سيقتلني بسم لا يمكن أن يكتشفه أي طبيب شرعي في العالم!
"وأخذني حمزة البسيوني إلى السجن الحربي، وأدخلوني غرفة تعذيب سوداء، بلا نوافذ، وأطلقوا علي عددا من الكلاب البوليسية الهائجة، كانت تهجم وتمزق ملابسي، وتركوني تحت رحمة الكلاب.
"ودخل حمزة البسيوني، وقال إنه سيدفنني بالحياة هناك، وإنه دفن بنفسه عشرات من الأحياء! وقال إنه سيقتلني في السجن الحربي ويقول إنني هربت!
"ويخرج حمزة البسيوني، وتدخل الكلاب! وتتكرر عملية التعذيب!
ثم يدخل عملاق يرتدي ملابس الجلاد، يدور حولي وكأنه يعاينني قبل تنفيذ حكم الإعدام!
"ونقلوني من الجسن الحربي بسيارة، معصوب العينين، إلى بناء المخابرات، حيث بدأ الجحيم من جديد: جردوني من ملابسي، وصلبوني، وضربوني. كانوا يتفننون في وسائل التعذيب!
"وأحضروا ثلاثة حراس يلازمونني بالنهار، وثلاثة حراس يلازمونني بالليل، مهمتهم أن يمنعوني أن أنام أو أغمض عيني، فإذا أغمضت عيني دفعوني بقبضات مسدساتهم حتى لا أنام!
"عدة ليال لم اذق فيها طعم النوم، عدة أيام حرمت فيها من الطعام، وعدة أيام في شهر يوليو وشهر أغسطس لم أذق فيها طعم الماء! واضطررت ان أشرب من ماء التواليت من شدة العطش! وكانوا يجيئون بكوب ماء مثلجة، ويضعونه على المائدة أمامي، فإذا قدمت يدي لأتناول الكوب، ألقاه الضابط على الأرض!
"فإذا انكفأت على الأرض اشرب الماء، ضربوني ومنعوني من الشرب، أو رفسوني حتى أسقط مغمى عليّ!
"ولم يكن اهتمامهم بالقضية أو التحقيق! كل ما كان يهمهم المسائل النسائية: سؤال عن نساء معينات! سؤال عن سيدة معينة! وهل كان بيني وبينها علاقة؟ وهل قالت إن بينها وبين شخصية كبيرة في الدولة علاقة؟ وهل أخبرت الرئيس بما سمعته عن ههذ العلاقة، أو علاقات غرامية أخرى للشخصية الكبيرة؟ ساعات طويلة؟ وأحاديثهم عن الجنس! وعن أنواع النساء! وعن مسائل لا يجوز ان يتحدث فيها رجل محترم.
"ولكنني كنت أذهل من اهتمام هذه الأجهزة بمثل هذه المسائل القذرة، وبكل تفاصيلها! وعندما أرفض أن أتحدث في مثل هذه المسائل القذرة يتهموني بأنني غير متعاون! ويهددوني بالتعذيب لأنني لا أريد أن أقول لهم ام أدوية يتوهمون أنني أستعملها في العلاقات الجنسية!
"وقد قال لي أحد الزبانية مرة: إنني سأحضر إلى هنا سكرتيرتك، وبناتك وسأترك العساكر يعتدون عليهن أمام عينيك.
"وفعلا أحضروا سكرتيرتي في الليل، إلى غرفة بجوار الغرفة التي كنت بها، وجعلوني أسمع بأذني صراخها، وسمعتهم يهددونها بإحضار بناتها والاعتداء عليهن أمامها!
"وكنت أسمع طوال الليل أصوات أطفال يضربون بالسياط، ويبكون ويتأوهون ويصرخون! ثم أسمع أصوات استغاثة من الزنزانات، وبكاء، وسياط تضرب، وعصي تحطم الظهور!
فإذا توسلت إليهم أن ينقذوني من هذه الأصوات، قالوا لي إنك فقدت عقلك! وغنه لا توجد أصوات! وغنك تتخيل أشياء لا وجود لها! ثم جاءوا بمن يشهدون على أنه لا يوجد أي أصوات!
"ثم بعد ذلك يستأنفون إخراج هذه الأصوات المرعبة التي تحطم الأعصاب!
"لم أتحمل كل هذا التعذيب، وتوسلت إلى أحد الزبانية أن يعطيني مسدساً أقتل به نفسي!، ولكنهم لم يرحموني، واستمر التعذيب كل يوم، ولم أعد أعرف متى يبدأ ومتى ينتهي، وكنت أفزع كلما سمعت صوت أقدام تقترب من زنزانتي، كان معنى اقتراب الأقدام أن الزبانية جاءوا ليأخذوني ويصلبوني من جديد!
"واصطبوني إلى غرفة التعذيب، وشاهدت بنفسي عملية تعذيب مفجعة لأشخاص لا أعرفهم. وجاء أحد الزبانية، وقال لي: إن هناك سبع عمليات للتعذيب! وإن كل ما تعرضت له هو العملية الأولى! وهددني بأنني إذا لم أكتب ما يريدون، فإنني سأمر على العمليات السبع كلها!
"وجاءت النيابة، واستمر التعذيب! كانوا يضربونني قبل التحقيق وبعد التحقيق! بل ويحدث أحياناً أن يأخذوني أثناء التحقيق إلى غرفة مجاورة ويضربوني، ثم يعيدوني لاستئناف التحديد!
والغريب أنني لم أستطع أن أنفرد بوكيل النيابة لحظة واحدة! كان ثلاثة من ضباط المخبرات يحضرون كل تحقيق، وكانوا يجلسون أمامي وورائي، فإذا لم يعجبهم كلامي زغدوني! وأشاروا لي! أو سحبوني إلى خارج الغرفة وضربوني، وأعادوا التحقيق!
"ونهاية التحقيق، أحضروا أشرطة قالوا أنها بصوتي! وعرفت على الفور أنها ملفقة، فقد قاموا بعملية مونتاج، فغيروا وبدول وعكسوا ونقلوا وحذفوا! وعلى الفور اكتشفت عملية التزييف، وشاء الله أن تظهر حقائق واضحة تثبت التزييف، وأردت أن تظهر هذه الأدلة، فأخذوني وضربوني وعلقوني من جديد، ومنعوا علي الطعام ومنعوني من النوم، ومن شرب الماء والتدخين!
"وكان الزبانية يهددوني ويقولون لي: لو فتحت فمك عن التعذيب في المحكمة أو أمام أي أحد، فسنقتلك، وسنصدر قانون يمنع المحامي أن يذكر أن هناك تعذيباً يسمح بالطعن في الأدلة التي نقدمها.
"وكنت أنتقل ذهاباً وإياباً بين غرفة مريحة فيها سرير وطعام وماء، وغرفة تعذيب أعلق فيها على الحائط! فإذا كتبت ما يريدون فإنني أستطيه أن أنام على سرير، وأن آكل، وأن أشرب الماء، وإذا رفضت أن أكتب ما يريدون، بدأت عملية التعذيب من جديد!
"إنني أعرف أن أعضاء هذه العصابة أقوياء، وأعرف أنهم استطاعوا أن يحطموني، وأن يلوثوني، وأن يلفقوا لي هذه القضية، وأن يدوسوني بأقدامهم، وأن يمنعوني من أن أرفع صوتي للدفاع عن نفسي، ولكني أعرف أن الله أكبر منهم جميعاً.
"المهم أن تعلم يا سيادة الرئيس أن هذا الجهاز هو جهاز فاسد، وأنه مليء بالجرام، وأنه يلفق التهم، وأنه يعمل لتضليلك وخاعك والكذب عليك، وأنه يخفي عنك الحقائق، وأن مهمته أن يلوث كل من يتصور أنه سيقول لك في يوم من الأيام حقيقة الفساد.
"إنني اخترت من تثق به ليسلمك هذا الخطاب، راجياً أن تحقق بنفسك، لا لتنقذني، فقد يكون القوت قد فات، ولكن لكي تنقذ مصر والمصريين من هذه العصابة"!
"انتهت رسالة مصطفى أمين إلى عبد الناصر، والمفارقة فيها أنه يشكو العصابة لرئيس العصابة! وأنه يتصور أن عبد الناصر كان غافلاً عما يفعل الظالمون! مع أنه كان رأس النظام الفاشي الذي أرسى هذه القواعد، وجند لها الزبانية المؤهلين لتطبيقها، وقام بتعيينهم، وحمايتهم من تدخل القانون!
ولكن المزعج أن هؤلاء الزبانية مازالوا يعيشون بيننا إلى اليوم! ولهم صحفهم، ودعاتهم وأقلامهم، وهم يضللون شبابنا، ويخرجون الأفلام التي تمجد عبد الناصر وتظهره في صورة المناضل العظيم، ويخفون الجانب المظلم من نظامه الفاشي الذي امتهن كرامة مفكري مصر وصحفييها وسياسييها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فلم يترك واحداً منهم إلا بعد أن ترك بصمته على ظهره بسياط زبانيته، وبعث الرعب المزمن في قلوبهم، حتى إنهم حتى اليوم يسبحون بحمد النظام الذي أذلهم وبث في قلوبهم الرعب!
ولكن التاريخ لا ينسى، وهو ما نحاول أن نثبته في هذه الدراسة التاريخية!
35- وفي عهد عبد الناصر تحسر الشيوعيون على أيام إسماعيل صدقي ! (الوفد في 14 / 4 / 1997)
"من سجن مصر، إلى ليمان طره، إلى تخشيبة الوايلي. إلى معتقل القلعة، إلى سجن الواحات الخارجة، إلى ليمان أبو زعبل، إلى تخشيبة مصر الجديدة، إلى سجن الاستئناف، إلى تخشيبة السيدة زينب، إلى سجن المحاريق إلى سجن القناطر الخيرية"!
هذه هي رحلة يساري مصري في العصر الرشيد .. عصر الكرامة لعبد الناصر! على مدى اثني عشر عاماً كاملة، نهديها إلى اليسار المصري المتحالف اليوم مع الناصريين، فيما أسميته تحالف المجلودين مع الجلادين! أما هذا اليساري المصري فهو مصطفى طيبة، الذي سجل عن ذكرياته عن سنوات السجن والاعتقال والعذاب وفقدان الآدمية في كتاب من جزئين تحت عنوان: "رسائل سياسي إلى حبيبته" صدر عام 1980، ونهديها إلى الناصريين الذين كرسوا جريدتهم "العربي" للدفاع عن حقوق الإنسان في عهد مبارك، وهم أبعد بتاريخهم الأسود عن التصدي لهذه القضية التي تذركوا لها طوال عصر عبد الناصر، فامتهنت حقوق الإنسان في هذا العصر كما لم تمتهن في أي عصر من عصور مصر، وقضى المناضلون حياتهم في سجون ومعتقلات عبد الناصر بدون محاكمات وبدون أحكام، وإنما فقط بأوامر من الزعيم الفاشي الكبير!
لقد عاش اليساريون في عهود الوفد الليبرالية يحكمهم القانون الذي يطبق عليهم كما يطبق على جميع القوى السياسية. وحتى عندما كانت مؤامرات القصر تفلح في إبعاد الوفد عن الحكم، ويفرض القصر دكتاتوريته وسيطرته على الحياة السياسية في مصر، كانت هناك حدود لهذه الدكتاتورية وتلك السيطرة! فقد كان هناك نظام له ملامح مميزة، ولكنه قانون يعرف فيه كل منهم حقوقه وواجباته!
ولدينا في توضيح هذه الحقائق رواية مصطفى أمين عن عهود الوفد، ورواية مصطفى طيبة الذي شاء حظه أن يدخل السجن في عهد الملكية المستبدة في الأيام السابقة على ثورة يوليو، ويستمر في السجن بعد الثورة، ويعقد المقارنة بين عهد الملكية المستبدة التي كان يحكم بقانون إسماعيل صدقي وعهد عبد الناصر الذي غاب فيه القانون!
إن هذه المقارنة التاريخية مهمة في تأكيد الصورة الفاشية لنظام عبد الناصر، وهي جديرة بأن يعرفها القراء والجيل الجديد الذي يضلله الناصريون بشعارات هم أبعد ما يكونون عن تطبيقها، وهم آخر من يتجرأ من البشر على المناداة بها!
ورواية مصطفى عن عهود الوفد كتبها أثناء تجربته الدامية في سجون عبد الناصر، وتمضي على النحو الآتي:
"عرفت وأنا في سجن المخابرات أن مصطفى النحاس توفي إلى رحمة الله، وحزنت كثيراً عليه، وأسفت أنني لا أستطيع أن اكتب رثاء له. لقد أحببت هذا الرجل وحاربته، وسجنت من اجله، وفصلت من المدارس، من اجله، واختلفت معه في الرأي وهاجمته وهو رئيس حكومة، فلم يفكر في أن يضعني في السجن!
"ولو كنت كتبت اليوم عن سكرتير احد الوزراء ما كتبت عن رئيس الحكومة مصطفى النحاس، لشنقوني، أو أعدموني رمياً بالرصاص!
"ولقد قبض علي في عهد النحاس سنة 1951 ستاً وعشرين مرة، ولكني كنت أدفع بكفالة، وأخرج من السجن! ولم يفكر النحاس في أن يدبر لي تهمة، او يحاكمني على جريمة أن برئ منها!
" من حق النحاس علي أن أشيد به وأنا مسجون، وأن أذكره كرجل قاد كفاح هذه الأمة، وضحى في سبيلها، ونفي من اجلها، وحمل الزعامة بعد سعد زغلول. وحزنت أن الصحف لم تخصص الصفحات للحديث عن تاريخ هذا الرجل وأمجاده التي هي تاريخ شعب مصر وأمجاد شعب مصر.
"وشعرت أن الزبانية هنا فزعوا من خروج الشعب كله لتحية الزعيم الكبير الراحل، واعتبروا هذه الجنازة الشعبية الهائلة ثورة على النظام، وانقضاضاً على الحكم! وقال لي أحدهم. غن الأمر صدر بالقبض على كل من سار في المظاهرة! قلت له ساخراً: هل ستقبضون على ثلاثة ملايين؟ إن السجون والمعتقلات مزدحمة ولا يوجد فيها أماكن خالية! قال لي ساخراً: هل كنت ستشترك في تشييع الجنازة؟ قلت: لولا أنني مسجون لسرت في الجنازة! قال ضاحكاً: وكنا قبضنا عليك!
"ثم ذكر لي الزبانية أشياء أذهلتني! قالوا إن الأوامر صدرت بالقبض على مئات الوفديين المعروفين، بتهمة أنهم مشوا في الجنازة! ولم أكن أعلم أن الوفاء أصبح جريمة في هذا البلد!".
كانت هذه هي رواية مصطفى أمين عن عهود الوفد. اما رواية مصطفى طيبة، التي يتحسر فيها على انون إسماعيل صدقي الذي صدر أثناء حكم القصر! فقد رواها من واقع اعتقاله في عهد فاروق يوم 18 يوليو 1952،قبل فيام ثورة يوليو بخمسة أيام فقط، وفي أثناء فرض الأحكام العرفية بعد حريق القاهرة، بتهمة تأسيس وإدارة الحزب الشيوعي المصري"، واستمر اعتقاله بعد قيام الثورة لمدة اثنى عشر عاماً! بتهمة قلب نظام الحكم!
فيسجل أنه عندما كان التحقيق يجري معه في ظل الأحكام العرفية قبل الثورة، حين بدأ رئيس النيابة التحقيق معه، وكان القيد الحديدي في معصمه، طلب منه فك قيده الحديدي "احتراماً للسلطة القضائية"! فإذا بالرجل يختلط في وجهه الغضب بحمرة الخجل ليكسو وجهه بلون غريب جسد كل ما يعانيه الرجل من مذلة ومهانة"! وكانت هذه الملحوظة كافية لفك القيد الحديدي!
وعندما قامت الثورة ظن مصطفى طيبة انه سوف يفرج عنه، حيث أكد المحامون له ان النيابة لا تملك دليلاً واحداً ضده. كما جاءت تصريحات الثورة، في شهر أغسطس بأن كل المسجونين السياسيين الذين اعتقلوا قبل 23 يوليو، سوف يفرج عنهم فوراً ـ لتؤكد هذا الشعور.
على أنه ظل في السجن! ثم صدر قانون يعطي الحق للذين يرون أن سياسيون ولم يفرج عنهم، بتقديم تظلمات أمام محكمة خاصة شكلت لهذا الغرض. "فتقدمنا بتظلمات، وبعد عدد من الجلسات أصدرت المحكمة حكماً برفض تظلماتنا! وقال في حيثيات الحكم إن الشيوعيين ليسوا سياسيين! وغنما هم اقتصاديون! وأنهم يصبحون سياسيين في حالة واحدة فقط، هي حالة استيلائهم على السلطة"!
ويقول مصطفى طيبة إنه، قبل نظر قضية التظلمات السياسية كان قرار الاتهام قد وصله، فوجد نفسه هو وزميله مصطفى كمال خليل، اللذين اعتقلا قبل 23 يوليو في قرار واحد، مع 21 آخرين قبضت عليهم ثورة يوليو، في قرار واحد، وكان الاتهام الموجه للجميع هو محاولة قلب نظام الحكم!
أي اثنان متهمان بقلب نظام الحكم الملكي، والباقون متهمون بقلب نظام ثورة يولي! فلقد تولت ثورة يوليو مهاك نظام الحكم الملكي في البطش بالشعب، ولكن بطريقة أكثر كفاءة! فأخذت توجه ضرباتها إلى الوفد، وفي الوقت نفسه أخذت توجه ضرباتها إلى الطبقة العاملة، فأعدمت خميس والبقري وأدخلت الحركة النقابية الشقوق! ونظراً لعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، فإنها أولت الشيوعيين عناية خاصة تضاءلت إلى جوارها عناية إسماعيل صدقي والنظام الملكي! فعلى حد قول مصطفى طيبة:
"بعد أيام من رفض تظلماتنا، سحبت قضيتنا من أمام محكمة الجنايات العسكرية (وأعضاؤها مستشارون) كي ينظرها "مجلس عسكري" (أعضاؤه عسكريون)! وبرئاسة القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن، نائب أحكام عسكري، وبإجراءات مجلس عسكري!
كانت هذه أول قضية شيوعية شكل لها مجلس عسكري خاص، الأمر الذي يوضح الفرق بين الحكم الملكي في أسوأ عهوده تحت الأحكام العرفية، وثورة يوليو الفاشية! ويقول مصطفى طيبة إنه في ذلك الحين نشرت روز اليوسف خبراً يقول بأن الدوائر الأمريكية ارتاحت لتشكيل مجلس عسكري لمحاكمة الشيوعيين!
وقد كان على أثر ذلك أن ثار السؤال: بأي قانون سوف يحاكم الشيوعيون؟ وعلى قول مصطفى طيبة:
"ظللنا أياماً قبل بدء المحاكمة نسأل: بأي قانون سوف نحاكم؟ هل بقانون صدقي، الذي أقصى عقوبة فيه هي 10 سنوات أشغال شاقة؟ او بقانون محاكم الثورة، والذي تصل أحكامه إلى الإعدام؟
"وأصبح قانون صدقي الذي صدر عام 1946 ـ وهو قانون غير دستوري لأنه صدر في غيبة البرلمان ـ حلما نتمناه!"
ويصور مصطفى طيبة الفوضى التي سادت في ذلك الحين بعد غياب القانون، فيقول: "مضت أيام لم تصلنا أي إجابة على هذا السؤال! حتى المحامين الذين وكلوا للدفاع عنا لم يعرفوا إجابة على هذا السؤال! أكثر من ذلك، لم نكن نعرف، ولا المحامون يعرفون: أين سنحاكم؟
هل في إحدى قاعات المحاكم الجنائية، او أحد معسكرات الجيش؟ ووصلتنا إشاعات تقول بأن النية متجهة إلى محاكمات سريعة في أحد معسكرات الجيش، وإصدار عدد من الأحكام بالإعدام، وتنفيذها فوراً رمياً بالرصاص! على هذا النحو أصبح الحكم الملكي ـ في أسوأ عهوده تحت الأحكام العرفية ـ أملاً بعيد المنال للشيوعيين بعد وقوع البلاد في الفوضى التي أحدثتها ثورة يوليو الفاشية، ويقول مصطفى طيبة: "هكذا عشنا أكثر من عشرة أيام نهباً للإشاعات والأخبار المتضاربة، ولم نعرف وفق أي قانون سنحاكم إلا من نائب الأحكام البكباشي حسن سري قبل أن تبدا أول جلسة للمحاكمة!
كان شبح محاكمة خميس والبقري وما قضت به من إعدامهما مخيماً على مصطفى طيبة وزملائه، ولذلك حين حملتهم سيارات السجن وسط المدافع وفي أيديهم القيود الحديدية إلى مكان المحاكمة، كانوا يظنون أنهم متجهين إلى إحدى معسكرات الجيش، "نحاكم هناك زي خميس والبقري"! فلما علموا من مأمور الحرس أنهم متجهون إلى محكمة الاستئناف بباب الخلق، صاح الجميع فرحاً! فقد كان ذلك يعني الإفلات من مصير خميس والبقري!
ولكن اليأس كان مخيماً على المحامين التقدميين، لدرجة أنهم تنحوا عن الدفاع تحت الاعتقاد بأن "الأحكام صادرة بالفعل من قبل المحاكمة". ولا أمل في أي دفاع.
وفي ذلك يقول مصطفى طيبة: "جاء عدد كبير من المحامين التقدمييم والوطنيين. كان من التقدميين أسماء لامعة، ولمعت أكثر في الستينيات، وكنت أعرفهم جميعاً، وللأسف كان موقفهم مخزيا: واحد منهم تنحى عن الدفاع عني. وآخرون تنحوا أيضاً. ولما سالت عن السبب قالوا:
"أصل مافيش فايدة. الأحكام صادرة .. صادرة"!
"الذين دافعوا عنا كانوا متطوعين من بين الوفديين: سليمان غنام، وأحمد الحضري، ومن بين رجال المحاماة البارزين، موريس أرقش، وعادل أمين وغيرهم. وجاءني الدكتور مدحت في قفص الاتهام يطلب مني ـ في شبه رجاء ـ ان أقبل انتدابه للدفاع عني مع الأستاذ سليمان غنام"!
36- عندما انتهت المحاكمة بالقبض على القاضي والمحامي !! (الوفد في 21 / 4 / 1996)
لعل كلام المناضل اليساري مصطفى طيبة الذي نشرناه في المقال السابق، الذي أبدى فيه تحسره على أيام إسماعيل صدقي، يمثل قمة المأساة التي عاشها اليساريون في عصر عبد الناصر! وهو العصر الذي يدافعون عنه اليوم بغير عذر مقبول، مما أعطى البعض من كبار الكتاب الإيحاء بأن عصر عبد الناصر كان عصراً شيوعياً، مستندين في ذلك إلى تأميمه وسائل الإنتاج في يولية 1961! على أن الدكتور لويس عوض نبه إلى أن تأميم وسائل الإنتاج لا يعني الشيوعية، وبرر ذلك بأن عبد الناصر سوف يدخل التاريخ بإنجازين هما:
تصفية الشيوعية، وتصفية الديموقراطية، وهذان الإنجازان يضعانه تاريخياً في سلك الإشتراكية الوطنية، أي النازية!
وقد وصف مصطفى طيبة الفوضى واليأس الذي انتاب المحامين اليساريين حتى إنهم تنحوا عن الدفاع على أساس اقتناعهم بأن "الأحكام صادرة .. صادرة من قبل المحاكمة، ومافيش فايدة"، ولكن المحامين الوفديين تصدوا للدفاع عن الشيوعيين، وكانت ثقتهم في البراءة كبيرة، فقد كانوا واقعين في وهم أن هناك قانوناً سوف تحترمه ثورة يوليو! ولسبب آخر سربه أحد المحامين لمصطفى طيبة، فقد قال له: أنت براءتك مائة في المئة! وعندما استفسر منه مصطفى طيبة عن السبب، قال له: إن التهمة الموجهة إليك هي قلب نظام الحكم الملكي، وها هم الضباط قد قلبوا نظام الحكم الملكي الذي أن متهم بمحاولة قلبه، ومن ثم فإما أن تطلع أنت براءة، وإنما أن يدخل ضباط يوليو السجن مع!
على أن الأمور لم تكن بهذه البساطة، لأنها كانت تتطلب وجود حد أدنى من النظام والقانون، ولم يكن شيء من ذلك متوافراً، لأن مصطفى طيبة لم يلبث أن عرف أن القاضي الذي أخذ في محاكمته قد قبض عليه، بل قبض أيضاً على المحامي الذي كان يدافع عنه! وبذلك أصبح القاشي والمحامي والمتهم في السجن في ذلك العهد "المجيد"!
وتمضي رواية مصطفى طيبة المثيرة على النحو الآتي:
"قال لي الأستاذ سليمان غنام رحمه الله: "موقفك في القضية سليم جداً. لو طبق الانون فالحكم بالنسبة لك سيكن براءة! قلت ضاحكاً: هل السبب هو المنطق؟ قال ضاحكاً: أنا باقول: القانون، مش المنطق! قلت: يا أستاذ غنام، أنت موكل للدفاع عن الديموقراطية والحريات السياسية، وكل ما نريده هو أن يسمع الرأي العام دفاعك عن الحرية"
"وصاح الحاجب: محكمة! ودخل القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن رئيس المحكمة، وضابطان برتبة صاغ، وبعدها دخل حسن سري نائب الأحكام ثم علي نور الدين المدعي.
"وتقدم المحامون: سليمان غنام، وأحمد الحضري، وموريس أرقش، وعادل أمين يطلبون تأجيل المحاكمة حتى ينظر مجلس الدولة في المذكرة التي تقدموا بها يطعنون في دستورية تشكيل المجلس العسكري. ورفعت الجلسة للمداولة.
"وانعقدت المحكمة بعد نصف ساعة، وأعلن الرئيس قرار المحكمة الاستمرار في نظر القضية المعروضة حتى يصدر مجلس الدولة قراره بشأن اعتراض الدفاع على تشكيلها".
وعلى هذا النحو اتؤنفت المحاكمة، جلسات صباحية ومسائية، واستمرت شهرين كاملين".
"على أنه قبل أن تصل إجراءات المحاكمة إلى نهايتها بأيام، قبض على القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن رئيس المحكمة، وعلى المرحوم الأستاذ سليمان غنام! وهكذا انتهت المحاكمة بالقبض على رئيس المحكمة وعلى المحامي الذي يدافع عني"!
ويفسر مصطفى طيبة القبض على القاضي بالآتي: "الحقيقة كلنا غير قادرين على تفسير موقف أحمد شوقي عبد الرحمن! كان يهتم اهتماماً ملحوظاً بكل الجوانب القانونية، وكان يصر على علنية الجلسات رغم طلب المدعي مراراً بعقد الجلسات سرية، كما كان يطالب بنشر ما يدور بالمحاكمة في الصحف. وبالطبع لم تكن الصحف تنشر شيئاً فيما عدا جريدة "المصري" التي كانت تتحايل على نشر بعض ما يدور في جلسات المحاكمة. وكان القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن يثبت في محضر الجلسات أن الصحف عليها أن تنشر، ليكون الرأي العام رقيباً على ما يدور، وكان يطلب يومياً من نائب الأحكام الاتصال بالصحف ويطلب منها النشر، وكثيراً ما لام مندوبي الصحافة الذين يحضرون الجلسات"!
ومعنى هذا الكلام أن القائمقام أحمد شوقي كان مهتماً بإقامة العدل وتطبيق حكم الانون! وفي الحقيقة أنه لا يحتسب على ثوار يوليو، فعلى الرغم من أنه كان أكبر المشتركين رتبة بعد اللواء محمد نجيب، وكان قائد الكتيبة 13 مشاة التي قامت بحماية مدخل العباسية من ناحية كلية البوليس، واحتلت رئاسة الحدود، فإنه كان ديموقراطي النزعة، وكان من مؤيدي اللواء محمد نجيب، وبعد انتهاء أزمة مارس بانتصار عبد الناصر، حوكم أمام محكمة الثورة وصدر عليه الحكم بالسجن لعشر سنوات!
والمهم هو أنه بعد القبض على القاضي والمحامي أعيد مصطفى طيبة إلى سجن مصر في انتظار محاكمة جديدة أمام مجلس عسكري جديد برئاسة اللواء فؤاد الدجوي في أكتوبر 1954. وكان اعتقاد الجميع أن المحاكمة الجديدة سوف تبدأ من حيث انتهت المحاكمة الأولى، على نحو ما يحدث في المحاكم الجنائية، ولكنها بدأت بإجراءات جديدة بعد أن ألغى المجلس الجديد إجراءات المجلس السابق!
وفي ذلك يقول مصطفى طيبة: هذا النوع من المحاكمات، لا يقدم ضمانات: لا للقاضي، ولا للمحامي، ولا للمتهم!
وتسائل المتهمون: أين القاضي السابق القائمقام أحمد شوقي عبد الرحمن؟ وتساءل ] مصطفى طيبة: أين الأستاذ سليمان غنام؟ ويتقدم محام من مكتب الأستاذ غنام، ويقول: الأستاذ سليمان غنام قبض عليه، وهو يطلب السماح بحضوره للدفاع عن المتهم! وتقرر المحكمة انتداب محام آخر، ويصرخ مصطفى طيبة: أنا أرفض أي محام تنتدبه المحكمة، ومصر على الأستاذ غنام!
ويعترض المتهمون الثلاث والعشرون على تشكيل المجلس العسكري من حيث الشكل والموضوع، وتواجه الثورة ذلك بإطلاق إشاعات مرعبة بأن القضية ستحول إلى محكمة الثورة، الأمر الذي يعني الإعدام! ويقول مصطفى طيبة: "أزعجتنا هذه الشائعات، فبقانون إسماعيل صدقي غير الدستوري فإن أقصى عقوبة علينا هي عشرة أعوام شاقة، بينما قانون محكمة الثورة يصل إلى الإعدام!
وتستمر المحكمات عدة جلسات، ويعلن الدجوي انتهاء المحاكمة في النصف الثاني من نوفمبر 1953 ، وفي يوم 12 يناير تعلن الأحكام بشكل درامي على النحو الذي يرويه مصطفى طيبة على النحو الآتي:
"في يوم 12 يناير 1954 أعلنت حالة الطوارئ في السجن كله، وفي كل المنطقة المحيطة به، لسبب لم نعرفه ولم يعرفه أحد أيضاً إلا بعد أن وقف 23 زميلاً في طابور ليتلو ضابط كبير في الجيش الحكم الصادر عليهم. وكان يوماً مثيراً.
وقد كتبت جريدة المصري في يوم 13 يناير 1954 وصف الطريقة التي أعلنت بها الأحكام، تعبيرا عن موقف الوفد من الحريات السياسية والديموقراطية. ووفقاً لكلام مصطفى طيبة:
"لقد ظلت زنازين السجنكلها مغلقة حتى الساعة التاسعة صباحاً، على الرغم من أنها تفتح عادة في السابعة، واختفى صوت المنادي الذي ينادي يومياً على أسماء المساجين الذين يستحقون الزياة، وأغلقت الدكاكين والقهاوي المحيطة بالسجن، وبدا الأمر كما لو كان انقلاباً عسكرياً جديداً قد وقع. ولكن في التاسعة صباحاً فتح باب العنبر، ونودي على أسماء المساجين من أصحاب الرأي، واتفق الجميع بسرعة على الموقف أثناء تلاوة الأحكام.
كان الضابط الكبير ينادي على اسم السجني، ويتلو عليه الحكم الصادر ضده، فيهتف فور سماع الحكم عليه: "عاش كفاح الشعب المصري"! ويهتف السجين الآخر: "عاشت الحرية ويسقط الإرهاب"!
كان الجمع يشعرون أنهم انتقلوا إلى حكم عسكري فاشي اختفى منه القانون والعدل والنظام. وقول مصطفى طيبة: لم يصدر حكم واحد بالبراءة! وارتفعت أصوات زملائنا في الزنازين المغلقة، وهم يرددون نشيد بلادي .. بلادي!
وحكم على مصطفى طيبة بالأشغال الشاقة عشر سنوات، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم الملكي! وهي التهمة التي قبض عليه من أجلها في عهد فاروق، وبطبيعة الحال فلم يكن في وسعه القيام بمحاولة قلب نظام الحكم في عهد الثورة، لأنه كان في السجن لا حول له ولا قوة.
وهذا يؤكد تلك الحقيقة التي أشرنا إليها، وهي أن ثورة يوليو بعد أن أسقطت نظام الحكم الملكي، تبنت كل شعاراته وسياساته، وقامت بتنفيذها بوسائل أكثر فاعلية ووحشية! فقد وقفت وحشية إسماعيل صدقي عند حد الحكم بالأشغال الشاقة لمدة عشرة أعوام، ولكن وحشية الثورة وصلت بهذا الحكم إلى الإعدام!
ويقول مصطفى طيبة إنه لم يكن وحده في الحكم عليه بالأشغال الشاقة عشرة أعوام، بل كان معه عشر آخرون، وتراوحت أحكام السجن على الباقين بين عشر وخمس سنوات.
وجاءت إجراءات تحويل المتهمين إلى محكوم عليهم بالأشغال الشاقة، لتصور هوية الثورة الفاشية. فقد كان هؤلاء سجناء سياسيين، أي أصحاب رأي، ولكن الثورة عاملتهم كمجرمين! فيقول مصطفى طيبة إنهم خلعوا الملابس العادية، ولبسوا ملابس الأشغال الشاقة: بدلة زرقاء ممزقة بالية، بها أعداد كبيرة من حشرات القمل والبق!
ويدق في كل قدم حلقة بها سلسلة من الحديد تتصل بالحلقة الأخرى، ووزنها 4 كيلو جرام! وتعلق في الوسط بواسطة حلقة أخرى تعلق في حزام جلدي!
وكان الحكم معناه أن يظل السجين السياسي المحكوم عليه بالأشغال الشاقة، مقيداً بهذه القيوم، لا يخلعها أبداً: سواء في نومه أو في يقظته، أو حتى عند الاستحمام!
"وعلى باب سجن مصر الخارجي كانت تنتظر عربتان، ركبت أنا وخمسة زملاء إحداها، وركب الخمسة الآخرون العربة الأخرى، وسارت العربة الأولى إلى ليمان أبي زعبل، واتحهت العربة الأخرى إلى ليمان طرة، وخلال الرحلة من سجن مصر إلى ليمان أبي زعبل كنا ننشد نشيد: بلادي .. بلادي، وننشد أيضاً: "أخي ما الحديد إذا ألبسونا الحديد، لقد جهلونا إذ حسبونا عبيد"!
37- سجناء الرأي في موكب العبيد ! (الوفد في 28 إبريل 1997)
رأينا في مقالنا السابق كيف انتقلت مصر مع ثورة يوليو "المجيدة"! من بلد يسوده القانون ـ حتى لو كان هذا القانون قانون إسماعيل صدقي! ـ إلى بلد تسوده الفوضى والانقسامات بين ضباط الثورة. وكيف انتهت المرحلة الأولى في محاكمة مصطفى طيبة بالقبض على القاشي وعلى المحامي! وهو ما يمثل قمة الفوضى وسيادة شريعة الغاب! ثم جاءت المرحلة الثانية من محاكمته على يد جزار شهير هو اللواء فؤاد الدجوي، الذي ألغى كل إجراءات المحكمة السابقة أمام القائمقام أحمد شوقي بعد القبض عليه، وبدأ إجراءات جديدة انتهت بالحكم على مصطفى طيبة بالأشغال الشاقة عشرة أعوام بتهمة محاولة قلب نظام الحكم الملكي!، وهي التهمة التي قبض عليه من أجلها في عهد فاروق قبل الثورة!
وعلى الرغم من أن مصطفى طيبة وزملائه كانوا سجناء رأي، فإن الثورة عاملتهم كمجرمين، فألبستهم ملابس الشغل الشاقة، ودقت في أقدامهم حلقت من الحديد تتصل ببعضها البعض بسلسلة من الحديد وزنها 4 كيلو جرامات، وتعلق في الوسط بواسطة حلق أخرى تعلق في حزام حديدي.
ويواصل مصطفى طيبة مذكراته فيقول: "كنا أمام ليمان أبو زعبل، وعلى باب الليمان كان يقف المأمور ومعه ثلاث ضباط، وأكثر من عشرة سجانة. ومن بعيد سمعنا أصوات قيود مئات المساجين العائدين من الجبل!
"كان موكب العبيد يقترب منا تدريجياً، وفي الأفق كان شعاع الشمس الأخير يختفي، والظلام يزحف مع زحف موكب المساجين العائدين بعد نهار كامل من الشغل في تقطيع أحجار البازلت في الجبل، ويحيط بهم عشرات الجنود، وهم يحملون المدافع الرشاشة، وعدد من الضباط يمتطون خيولهم.
"إذن سنكون من الغد في موكب العبيد هذا! وهل يطول بنا العمل عشر سنوات على هذه الحال؟ وهل نحتمل هذا العذاب اليومي؟".
وفي الزنزانة يوم 12 يناير 1954 أمضى مصطفى طيبة الليلة الأولى كأي مجرم قاتل من معتادي الإجرام وليس كمسجون سياسي من أصحاب الرأي! كان الجو شتاء في عز البرد، و "لسعات أسفلت أرض الزنزانة تخترق "البرش" الذي أجلس عليه، فأشهب واقفاً، وتحتك السلاسل الحديدية بقدمي العاريتين، أمسكها بيدي، أزيحها عن قدمي، أفرض بطانية مهترئة ممزقة على البرش، وأجلس.
"ولكن أنَّى لبرش منسوج من الليف وعليه هذه البطانية أن يحمي جسمي الذي أحاول تمديده من البرد القارص؟ أنفخ في يدي، وتبعث أنفاسي فيهما الدفء، ولكن جسمي كله يكاد يتجمد، كتفاي، وظهري، وصدري وقدماي، من أين يأتيهما الدفء؟ جسم شبه عار، قيد بسلاسل حديدية، وتحاصره جدران الزنزانة الأسمنتية، وأرضها الأسفلتية، والهواء البارد يصب على رأسي لسعاته الثلجية من نافذة الزنزانة العلوية، هكذا طوال الليل، محاولات يائسة للبحث عن أقل دفء، أقف تارة وأجلس تارة أخرى، وأمدد جسمي المنهك مرة ثالثة، والبرد لا يرحم! لا أذكر كم دقيقة نمت، ولا كيف نمت! وهل كان نوماً أو كان نوماً أو كان سقوطاً في غيبوبة!"
وهنا يصبح الالتحاق بموكب العبيد، والعمل في الجبل، أمنية كل سجين سياسي! لأنه يعني الخروج للشمس والهواء! كما يصبح الانتقال من ليمان أبو زعبل إلى ليمان طرة أمنية عزيزة غالية أيضاً!
فالعمل في ليمان أبو زعبل هو تكسير حجر البازلت، ولكن العمل في ليمان طره هو تكسير الحجر الجيري، وهو أقل صلابة من الحجر البازلت.
وكما يرى القارئ فإن المسائل نسبية، حتى في الأشغال الشاقة! وحتى في الاختيار بين الحبس في الزنزانة والعمل في موكب العبيد، أو في الاختيار بين تكسير حجر البازلت وتكسير الحجر الجيري! وفي الاختيار بين قضاء مدة الأشغال الشاقة في ليمان أبو زعبل أو قضائها في ليمان طرة!
مصطفى طيبة يتحدث عن ليمان أبو زعبل باحتقار، فهو مخصص لأصحاب السوابق، وسجناء الرأي ليسوا من أرباب السوابق.
وفي وسط الظلام الحالك الذي فرضه حكم ثورة يوليو، وفي الوقت الذي كان الصراع دائماً خارج الليمان بين القوى الوطنية والتقدمية وبين ضباط يوليو في أزمة مارس 1954 الشهيرة، انطلقت دعابة داخل ليمان أبو زعبل من أحد السجانة، نقلب سجناء الرأي من ظلام اليأس إلى نور الأمل. وكان الذي أطلق هذه الدعابة هو أحد السجانة، عندما سأله أحد سجناء الرأي عن الأخبار خارج الليمان؟ فإذا به يرد بأن النحاس باشا قد رأس الوزارة وأنه في حالة طيبة! ويصاب سجناء الرأي بالذهول ويسألون الحارس المداعب: هل النحاس باشا رئيس الحكومة؟ ويرد الرجل متصنعاً الجد: أيوه طبعا، أمال مين؟
ويروي مصطفى طيبة كيف هزتهم من الفرح هذه الدعابة التي أتقنها صاحبها، ونقلتهم من اليأس إلى الأمل، فيقول: "رحنا طول الليل نحلل الموقف السياسي. معقول جداً أن يعود الوفد إلى الحكم؟ ربما رضخت سلطة 23 يوليو لضغط الشعب، وتولى النحاس رئاسة الحكومة.
"مكثنا طوال الليل نحلل الموقف السياسي بعد أن تولى الوفد الحكم، وكأنه أصبح حقيقة! وخرجنا بطبيعة الحال بنتيجة منطقية، هي أن الوفد سيعتمد في حكمه على إطلاق الحريات السياسية والديمقراطية! وبدا أمل الإفراج عنا في الأفق، ثم رحنا في نوم عميف نحلم بالإفراج عنا .. بالحرية.
"وفي الصباح الباكر سمعنا صوتاً عالياً يطلب أن نستعد للخروج، وصاح أحدنا في سعادة بالغة:
- مش قلت لكم: إفراج؟ يحيا الوفد.
"فتحت الزنزانتان وخرجنا منهما، ولكن للعمل في الجبل، ومع ذلك لم نفقد الأمل في أن يكون النحاس باشا قد تولى الحكم بالفعل، وسوف يفرج هنا. ولكن أحدا لم يصرح بما في نفسه لزميله.
"سرنا في نهاية طابور العبيد في طريقنا إلى الجبل، ومن حسن حظنا أن ضابط العمل في ذلك اليوم كان صديقنا، وعندما اقترب منا سألنا: إزي الحال؟ ورددنا عليه: "الحمدلله، إيه حكاية النحاش باشا؟ ولم يملك الرجل نفسه من الضحك، وقال: "نحاس باشا مين ؟ انت بتحلم ؟ وتبددت كل أحلامنا، وكل التحليلات السياسية راحت هباء"
ولم يدر مصطفى طيبة وزملائه ان ضباط يوليو في ذلك الحين كانوا قد ضربوا القوى الوطنية والتقدمية، التي طالبت بعودة الجيش إلى ثكناته، وبالحرية والديموقراطية والحياة الدستورية. وأن هؤلاء الضباط انقضوا على من مدوا أيديهم إليهم وساعدوهم بالفتاوى الدستورية، فاعتدوا بالضرب على الدكتور عبد الرازق السنهوري في قلب دار مجلس الدولة، وفرضوا الرقابة الكثيفة على الصحف، وزجوا بالأحرار في السجون، وارتكبوا مذبحة الجامعة، وقضوا قضاءاً مبرماً على العصر الليبرالي في مصر.
ومع ذلك فقد كان من حسن حظ مصطفى طيبة ورفاقه أنهم كانوا مسجونين، وليسوا معتقلين!. كما كان من حسن حظهم أنهم كانوا محكوما عليهم بالأشغال الشاقة عشر سنوات، وليسوا معتقلين بإرادة عبد الناصر. وقد يدهش القارئ لهذا القول! فهل يكون من حسن حظ أي صاحب رأي أن يكون محكوماً عليه بالأشغال الشاقة وليس معتقلاً؟
إن هذه الحقيقة هي إحدى هزليات نظام حكم عبد الناصر التي نكشف عليها الستار في هذه الحلقات، وهي أن المحكوم عليه بالأشغال الشاقة من عتاة المجرمين كان أسعد حظاً بكثير من المعتقل بأمر عبد الناصر! فالسجين الأول يخضع للائحة السجون ويخضع للقانون، ولكن المعتقل بأمر عبد الناصر يخضع فقط للائحة زبانية التعذيب!
لقد كان سجين الرأي في نظر النظام الناصري أخطر على الدولة من القاتل وتاجر المخدرات وتاجر الرقيق الأبيض.
ومن هنا كان مصطفى طيبة ورفاقه من سعداء الحظ الذين حكم عليهم النظام الناصري بعشر سنوات أشغال شاقة بتهمة محاولة قلب نظام الحكم الملكي، (أي النظام الذي قلبته الثورة بالفعل!) فقد كان من حقهم أن يطالبوا بمطالب، ويضربوا عن الطعام، ويفرضوا أوضاعاً أقل سوءاً، ولكن المعتقلين بأمر عبد الناصر لم يكن من حقهم أي شيء.
ولذلك، عندما طلب معتقل، هو المهندس سيد عبد الله، من قائد معتقل الأوردي طلباً بسيطاً هو عبارة عن لبس أحذية أثناء تكسير حجارة البازلت في وادي العقارب، بدلا من العمل حفاة الأقدام وسط حيات "الطريشة" ذات الأجراس التي كانت تهاجم المعتقلين ـ "انهال عليه قائد المعتقل ضرباً بعصا أخذها من أحد العساكر وهو يصرخ كالثور الهائج: "أنا ماعنديش مسجون يطلب حاجة. إزاى تتجرأ يا كلب؟ كويس انكم لسه عايشين (فتحي عبد الفتاح: شيوعيون وناصريون ص 106 – 107).
كذلك فإن المحكوم بالأشغال الشاقة هو أسعد حظاً بكثير من المعتقل بأمر عبد الناصر، فالسجين الأول تحكمه لائحة تنظم عمله في الجبل ت أياً كان الليمان الذي يمضي عقوبته فيه. ـ أي سواء كان ليمان أبو زعبل أو ليمان طرة.
فالمريض لا يعمل، وساعات العمل محدودة بينها فترة راحة، وأيام الجمع والأعياد أجازات، وكذلك أيام الأمطار والعواصف. كما ان الوضع الطبقي للسجين يحدد درجة عملهن فالنزيل الثري قد لا يعمل غطلاقاً، إذ يدفع رشوة للحراس فيتركونه وشأنه، ويدفع مرتبات للسجناء الفقرا ليعملوا بدله ويقدموا "المقطوعية" من الحجارة المقررة عليه والتي يسلمها للحارس ليسجل عددها.
هذه ـ إذن ـ هي المميزات التي يتمتع بها سجين ليمان أبو زعبل أو ليمان طرة، سواء كان من كبار تجار المخابرات أو صغارهم، أو النزلاء الذين اعتادوا الإجرام والقتل العادي وجنايات الاختلاس والسرقة ـ أما المعتقلون بأمر عبد الناصر فليس لهم شيء من هذه المميزات، كما أنهم لا يتمتعون بالعمل في ليمان أبو زعبل أو ليمان طرة، وإنما ينزلون في الأوردي، والأوردي ـ كما وصفه إلهام سيف النصر ـ "دنيا أخرى غير الليمان" على الرغم من أنه ملحق به".
وهذا وحده يكشف طبيعة النظام الناصري، ووجهه الفاشي القبيح. فقد اختص عبد الناصر سجناء الرأي بليمان خاص، يمارس فيه زبانيته عذاباً جماعياً لم يشهده تاريخ بشر، لنه كان تعذيباً للتعذيب وليس لأي شيء آخر، فلم يكن تعذيباً للحصول على اعترافات من الشيوعيين بانتمائهم للفكر الشيوعي، لأنهم لم يكونوا ينكرون هذا الانتماء، بل كانوا يفاخرون به في المحاكم، ولم يكن تعذيباً لحمل المعتقل على العدول عن اعتراف أو مبدأ أو مذهب مما سجل لنا التاريخ، ولم يكن تعذيباً عقاباً على جريمة ارتكبت، أو لإقامة الحد، أو لأي سبب معروف، وإنما كان تعذيباً للتعذيب، ولإرضاء شهوة التعذيب!
ومن أجل هذا لا نستطيع أن نسلك النظام الناصري في سلك النظم الاستبدادية التي مرت بمصر، فهذه النظم ـ حتى في أسوأ صورها ـ كانت تعذب لسبب من الأسباب، ولكنها لم تعذب بدون سبب اللهم إلا شهوة التعذيب. لقد كان النظام الناصري نظاماً فاشياً منذ البداية، وكانت رسالته الأولى هي القضاء على الشيوعية وإنهاء الحياة الديمقراطية، وتلك هي رسالة النظام الفاشية في عصرنا الحديث.
38- رحلة إلى ما وراء الشمس ! (الوفد في 5 مايو 1997)
كانت هزيمة القوى الديموقراطية والتقدمية في أزمة مارس 1954، واستقرار الحكم في يد عبد الناصر، بداية صفحة من الهزائم العسكرية، وصفحة أخرى أكثر قتامة في تاريخ علاقة ثورة يوليو بحقوق الإنسان، وقد بدأت كما ذكرنا بالانقلاب على القوى التي أحسنت الظن بالثورة في بدايتها وساعدتها متصورة أنها ثورة حقيقية، وكان على رأس هذه القوى مجلس الدولة برياسة الدكتور عبد الرازق السنهوري، الذي ارتكب جريمة ديموقراطية فظيعة عندما أصدرت الجمعية العمومية لقسم الرأي يوم 31 يوليو 1952 قرارها بعدم دستورية دعوة مجلس النواب الوفدي المنحل إلى يوم الانعقاد، فكان هذا القرار هو الخطوة الأولى في الطريق الذي طوله ألف ميل من دكتاتورية ثورة يوليو.
فلقد كان على مجلس الدولة وعلى الدكتور عبد الرازق السنهوري أن يدفع ثمن هذه الجريمة الديمقراطية يوم 29 مارس 1954 عندما أرسلت الثورة بلطجيتها من جنود البوليس الحربي المتخفين في ثياب مدنية تحت قيادة حسين عرفة مدير المباحث الجنائية العسكرية، إلى مجلس الدولة أثناء عقد اجتماع الجمعية العمومية لمجلس الدول، فاقتحموا الاجتماع، واندفعوا إلى الدكتور عبد الرازق السنهوري وأعضاء الجمعية العمومية من المستشارين، فانهالوا عليه وعليهم ضرباً، ونقل الدكتور السنهوري إلى المستشفى، بعد ان دفع ثمن قرار يوم 31 يوليو 1952 غالياً.
وبذلك أنهت ثورة يوليو أسطورة قدسية القضاء، وكانت تلك هي المقدمة الطبيعية لما عرف بعد ذلك باسم مذبحة القضاء بعد بضعة سنوات!
وقد تلى ذلك مباشرة متابعة ثورة يوليو لخصومها في الرأي من القوى الوطنية والتقدمية، بمزيد من الاعتداء على حقوق الإنسان. فأصدرت يوم 14 إبريل 1954 قرارات بحرمان هؤلاء من تولي الوظائف العامة، ومن كافة الحقوق السياسية، ومن تولي مجالس إدارة النقابات والهيئات، لمدة عشرة سنوات! وطبق هذا القرار على 22 وزيراً وفدياً، و8 وزراء سعديين، و8 وزراء دستوريين! والطريف أنه طبق أيضاً على ستة من أعضاء لجنة إعداد الدستور الذي خدعت به الثورة الشعب، وكان على رأس هؤلاء الدكتور عبد الرازق السنهوري نفسه، فسقط بهذا القرار من منصبه في رئاسة مجلس الدولة.
وتابعت ثورة يوليو بعد ذلك مهمتها الفاشية. فبعد أن قضت على الديموقراطية، أخذت في تصفية الشيوعية، فاعتقلت يوم 31 مايو 1954 252 شيوعيا، وصدرت الأحكام يوم 24 يوليو 1954 بعشر سنوات اشغال شاقة على الدكتور شريف حتاتة ومحمد شطا وحليم طوسون، وثماني سنوات أشغال شاقة على زكي مراد ومحمد خليل قاسم، والسجن خمس سنوات على أحمد طه ومحسن محمد حسن وعبد اللطيف جمال، وسعد كامل وزوجته، وزوجة الشاعر كمال عبد الحليم ومصطفى كمال صدقي، والسجن ثلاث سنوات على إبراهيم حسين وسي البكار وهما وفديان، وبالسجن سنتين على بكر سيف النصر وهو وفدي أيضاً.
في ذلك الوقت رأت الثورة نقل سجناء الرأي في ليمان طرة إلى الواحات الخارجة، وهو ما أزعج لحد كبير مصطفى طيبة ورفاقه، وقد وصف الساعات القليلة التي سبقت ترحيله إلى ما وراء الشمس ـ على حد قوله ـ بأنها "كانت أقسى اللحظات التي مرت بنا خلال السنوات السابقة التي قضيناها في سجن مصر وليمان أبو زعبل وليمان طره.
كدنا نصل إلى يقين بأننا ذاهبون إلى مكان لا تمتد إليه إلا يد البطش والإرهاب والتعذيب حتى الموت .. هكذا قضينا الساعات الأولى من صباح يوم ترحيلنا".
ثم يقول: الواحات الخارجة! من هو الفاشي التي تفتق ذهنه الشرير عن فكرة نفينا في قلب الصحراء؟ كان الفاشست يلقون بالمناضلين الوطنيين إلى أفران الموت، وهؤلاء الفاشست هل يسوقوننا إلى الموت جوعاً وعطشاً؟ هل دبروا لنا الموت بسم الثعابين في الصحراء؟ وانتبهنا فجأة على صوت سجان شرير يقول: "لدغة" الطريشة هنا هي والقبر على طول!".
وترتفع أصواتنا تنشد بكل التحدي: "شتتونا في المنافي، واملئوا منا السجون، سوف تأتيكم ليالي، برقها عصف المنون!، ثم تنضم أصواتنا إلى أصوات زملائنا في الزنزانة المجاورة: "بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي"! وتفتح الزنازين، وتستمر أصواتنا جميعاً تردد من الأعماق: "مصر أنت اليوم حرة، فوق جبين الدهر درة، يا بلادي عيشي حرة، واسلمي رغم الأعادي". وبين صفين من السجانة الذين يحملون البنادق والرشاشات، تعلو هتافاتنا بحياة مصر وشعب مصر، وبالديموقراطية، والحريات السياسية .. دماؤنا فداك يا مصر. "كانت هتافاتنا وأناشيدنا من أجل رفع روحنا المعنوية".
ويرسم مصطفى طيبة صورة بشعة لمعاملة ثورة يوليو لسجناء الرأي عند إعدادهم للترحيل إلى الواحات، توضح كيف كانت هذه الثورة الفاشية تعامل سجين الرأي، الذي لا يملك من سلاح غير فكره، معاملة من يملك ترسانة من الأسلحة تخشى ان يستعملها ضدها!
فيقول: "قسمونا إلى مجموعات، كل مجموعة منا من خمسة زملاء، ينادون عليهعم باسلام من كشف في يد المدير، وبعد ان يتجمع الخمسة، يحيط بهم 4 سجانة وضابط، ويذهبون إلى ورشة الحدادة في الليمان، حيث يجري دق السلاسل في أقدامهم، في سلسلة طويلة".
ثم يذهبون إلى "الزنزانة" في القطار، التي تكدست فيها خمس مجموعات ـ أي 25 زميلاً في زنزانة لا تزي مساحتها على 2 × 1,5 متراً،جدرانها من أسياخ الحديد الصلب وسقفها ألواح سميكة من الحديد، وكذا أرضيتها العارية تماماً إلا من الأوساخ والقاذورات.
"وبعد أن انتهوا من عملية تكبيل كل الزملاء وتكديسهم في زنازين القطار، وقبل ان يتحرك القطار نحو رحلة المجهول، شهدنا من خلال القضبان مشهداً بشعاً ترك في أعماقي جرحاً لن يندمل أبداً".
"كان أصحاب "الكابات الحمراء" على الرؤوس والنياشين الكثيرة على الصدور، ومعهم "الأفنديات" ومدير السجن، يقفون بعيداص في ركن من أركان حوش الليمان، وكان عدد من السجناء يحمل "العروسة" التي تستخدم لجلد المسجونين، وينصبونها في وسط حوش الليمان.
"وبعد قليل، شاهدنا اثنين من زملائنا المسجونين، وقد كبلت أقدامهم وأيديهم بالسلاسل، يجرهم السجانة، وعلى رأسهم المأمور. وعند العروسة أصدر المأمور أمراً بفك سلاسل أحد الزميلين، وإعادة تقييده بـ "العروسة"، ثم أصدر أمراً بالجلد!
"أكثر من ربع ساعة كان سجانان يتبادلان ضرب الزميل بالكرباج على الظهر العاري تماماً. ولم تصدر عن الرجل آهة واحدة أو صرخة. ثم أعادوا تكبيله من رجليه ويديه بالقيود الحديدية!
"وتكرر هذا المشهد مع الزميل المسجون الآخر. لو أن هذه السياط نزلت على ظهري ما تألمت مثلما تألمت، وكنت أرى الألم يعتصر زملائي الذين يشاركوني القيد الحديدي، كا نتبادل الألم ولا نستطيع عمل أي شيء.
"وتنتهي عملية جلد الزميلين، ونشاهدهما يساقان مرة أخرى إلى زنازين "التأديب"، أيديهم مكبلة بالقيود، وأرجلهم مقيدة بالسلاسل، ومن ورائهم نشهد موكب الضباط الكبار والأفندية يسير ناحية مكاتب الإدارة، وتزعق صفارة القاطرة إيذاناً ببدء الرحلة إلى "ما وراء الشمس!".
هذه الصورة الصادقة المروعة لمحنة سجناء الرأي في عهد عبد الناصر، كانت ىتحدث بينما كان يصيح صيحاته المعروفة: "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد!" أي في الوقت الذي كان يمارس استعباداً لمعارضيه في الرأي لم يسبق له مثيل حتى في العصر الاستعماري.
ويرسم مصطفى طيبة صورة أخرى لمشاعر الجماهير المصرية إزاء السجن الذي فرضته ثورة يوليو على الشعب المصري، فيقول إنه عندما وصل قطار السجن الذي يقلهم إلى محطة مصر، وشعرت الجماهير بهم، صاحت امرأة صيحة مدوية بددت السكون الرهيب الذي فرضه البوليس على الناس والمكان في عز الظهيرة.
- الدستور ... الدستور.
"وكأنما أصابت هذه الكلمة الناس الواقفين في أنحاء المحطة بمس كهربائي، وإذا بأصوات عديدة تعلو في قوة أصوات اهتزت لها مباني محطة مصر: " الدستور .. الدستور!".
وترتفع أصواتنا في الزنزانات في صوت واحد: الحرية، الدستور، الأحزاب!
"وفي لحظة واحدة، تختل كل إجراءات الأمن المشددة، ولا يستطيع البوليس المدجج بالسلاح أن يوقف زحف الجماهير التي تعاطفت معنا، لقد تنوعت الهتافات: الدستور، الديمواقراطية، الحرية للشعب. وتوحدت أصواتنا بأصوات الأهالي والجماهير وهي تردد نشيدنا الخالد: بلادي، بلادي، لك حبي وفؤادي.
"ويواصل القطار رحلته ماراً بمحطات الجيزة والفيوم ثم بني سويف وباقي المحطات حتى أسيوط، وفي كل محطة نجد جنود البوليس والمخبرين منتشرين في أرجائها. وعندما دخل القطار محطة أسيوط كان الظلام يزحف ويبدد آشعة الشمس، وكانت حناجرنا قد أجهدت، لقد أدت مهمتها على طول الطريق من القاهرة إلى أسيوط، حيث يوجد بشر، وزرع، وخضرة، وحياة. فالطريق من أسيوط حتى محطة "المواصلة" ليس به سوى الرمال والكثبان والنباتات الشيطانية المنتشرة على سفوح الجبال والتلال.
"كاد الليل أن ينتصف عندما وصل القطار إلى محطة الواحات الخارجة، لكي تبدأ رحلة السيارات إلى "جناح" حيث يقع السجن الجديد.
وهناك في محطة السكة الحديدية كانت تنتظر مفاجأة لسجناء الرأي لم تكن تخطر ببال، هذه المفاجأة هي أنه كان من المستحيل نزولهم من القطار وهم مكبلون بالسلاسل الحديدية بتلك الطريقة التي كبلوا بها!.
فعندما بدأت محاولة نزول أول خمسة أشخاص، وكان بينهم مصطفى طيبة، تبين أن سلم زنزانة القطار التي ينزلون منها، يبعد عن الأرض بحوالي متر على الأقل، ولم يكن يزيد طول السلسلة بين كل سجين وآخر عن نصف متر، ومعنى هذا أن مجرد نزول السجين الأول من على ارتفاع متر سوف يجر زملاءه الأربعة، الأمر الذي يعرض الجميع على الأقل لكدمات وجروح، بسبب سقوطهم على شريط السكة الحديدية أو الأحجار التي بجانبه.
على هذا النحو بدا أن الطريقة الوحيدة لنزول سجناء الرأي من زنزانات القطار هي قطع السلاسل الحديدية! وعندما يترددضابط السجن يقول له مصطفى طيبة: "هو فيه حد مجنون يفكر في الهرب من هنا؟" ويجد ضابط السجن نفسه أمام الأمر الواقع، ولكن قطع السلاسل يلزم فيه استعدادات، أي شاكوش وأجنة وسندال وحداد، وكلها غير موجودة. وتصدر الأوامر إلى بعض الجنود بالذهاب إلى المعسكر، وهو على بعد ساعة، لإحضار حداد ومعه الآلات اللازمة لقطع السلاسل الحديدية.
وعندما يحضر الحداد تبرز مشكلة أخرى، فلا يكاد يدرس الموقف حتى يقول للضابط: يا بيه، في كل رجل "حجلة"، ودي تخينة قوي وتأخذ وقت على ما تنقطع، لكن السلاسل سهل تاخد وقت أقل، فهل نقطع السلاسل ولا نقطع الحجلة؟ ولا يجد الضابط مفراً من قطع السلاسل، بما يترتب على ذلك من أن كل "سجين رأي" سوف يحتفظ بقطعة سلسلة و"حجلة" في كل قدم من قدميه!.
وينتهي الحداد من عمله، ويسير سجناء الرأي إلى العربات، وكل منهم يجر في قدم من قدميه سلسلة معلقة في حجلة، وتنطلق السيارات وسط صحراء واسعة وسكون رهيب لا يمزقه إلا عواء الذئاب والثعالب. ومن بعيد وعلى ضوء مصابيح السيارات العالية تبدو أنوار السجن، ويعلق مصطفى طيبة على ذلك قائلا:
"في لحظة تجسد أمامي صور معسكرات النازية، وأغلب الظن أن هؤلاء "الفاشست" لن يستخدموا نفس الأساليب التقليدية للتعذيب، وربما كانت خطتهم تقوم على إلقائنا في الصحراء نهباً للذئاب والثعالب والثعابين.
"فأي فاشي حقير هذا الذي دبر لنا الموت بهذه الطريقة الدنسة؟ إن كل أفران النازي ومعسكراتهم، وكل أساليبهم الوحشية تتوارى خجلاً أمام هذه الفكرة الشيطانية!
39- الحياة بين ليمان طره وسجن "جناح" ! (الوفد في 12 / 5 / 1997)
""أي فاشي حقير هذا الذي دبر لنا الموت بهذه الطريقة الدنسة؟ إن كل أفران النازي ومعسكراتهم، وكل أساليبهم الوحشية تتوارى خجلاً أمام هذه الفكرة الشيطانية: الموت بلدغة "طريشة" قضاء وقدراً"!
هذا هو ما كتبه مصطفى طيبة في مذكراته التي صدرت في جزئين تحت عنوان: "رسائل سجين سياسي إلى حبيبته"، وهو ينتقل من ليمان طره إلى سجن "جناح" بالواحات الخارجة مع زملائه من سجناء الرأي.
كانت كل جريمة مصطفى طيبة وزملائه من أمثال الدكتور شريف حتاتة وحليم طوسون ووليم اسحق وزكي مراد وصلاح حافظ ومحمد شطا ولمعي يوسف وسعد ياسيلي والدكتور فؤاد مرسي، هي مجرد الخلاف في الرأي مع ضباط يوليو، ولم تكن الجريمة لتدبيرهم مؤامرة لقلب الثورة وإقامة ثورة البروليتاريا، أو لاغتيال عبد الناصر أو أحد من ضباط الثورة، كما فعل الإخوان المسلمون.
والأغرب من ذلك حقاً كما ذكرنا ـ هو أن الشيوعيين كانوا يؤيدون عبد الناصر ونظام حكمه، ويعلنون ذلك في كل مناسبة وفي كل محاكماتهم، ومع ذلك فإن مجرد الخلاف في الرأي كان كافياً في نظر عبد الناصر لمصادرة حرياتهم والتنكيل بهم ونفيهم في أنأى بقعة من مصر!
فلم يكن يماثل عداء عبد الناصر للشيوعيين سوى عداء هتلر للشيوعيين! ولم يكن إحساسه بخطر فكرهم على نظامه أقل من إحساس هتلر بخطر فكر الشيوعيين على نظامه، ولذلك كانت حربه عليهم حرباً لا هوادة فيها، في الوقت الذي كانت الشيوعيون يعيشون تحت تهويمات حكمه الوطني وإنجازاته، وتتعالى صيحاتهم من ظلام سجنهم الدامس بحياته! بل إنه في الوقت الذي كانت سياط جلاديه وزبانيته تنهال على ظهورهم، لم يكفوا عن الإيمان به على النحو الذي جعل الكثيرون من المحللين السياسيين يربطون بين موقف الشيوعيين من عبد الناصر وموقف "القط من خنَّاقُة"!
والأغرب من ذلك أنهم، حتى اليوم، واقعين تحت وهم أن حكم عبد الناصر كان حكماً تقدمياً، على الرغم من أنهم خير من يعرفون حقيقته كما شاهدوها في سجونه ومعتقلاته، وهم اليوم أيضاً يعقدون محالفة مع الناصريين الذين أذلوهم، تحت وهم تقدمية النظام الناصري، على الرغم مما يعرفون ـ بالتجربة ومن واقع النظريات السياسية ـ أن التأميم لا يعني الإشتراكية، وإن ما ألحقه هؤلاء الناصريون بمصر من هزائم عسكرية، ومن إهدار للحريات السياسية، ومن فشل في إدرة القطاع العام بعد تسليمه لأصحاب الثقة من أقاربهم وأصحابهم، ومن تحويل مصر إلى سجن كبير ـ يضعهم على رأي أسوأ القوى السياسية التي شهدها تاريخ مصر الطويل!
وتعتبر مذكرات مصطفى طيبة، وهو شيوعي، شاهد عدل على نظام عبد الناصر وعلى صفته الفاشية. فيصف كيف جاء إلى السجن في إبريل 1958، بعد إعلان الوحدة مع سوريا، سجين يدعى محمد مختار جمعة، كان ـ كما يقول ـ "مجنداً في الجيش حين ألقوا القبض عليه. عذبته المخابرات العامة، ونفخته و "جلدته"ـ وحرقت ظهره بالحديد المحمي، وخلعت أظافره، ووضعوه عارياً في الماء المغلي، لكي يعترف على زملائه، فلم يعترف وحين ضاقوا ببطولته ذرعاً، قرروا إرساله إلى سجن "جناح" بالواحات الخارجة.
ويذكر كيف كتب الدكتور شريف حتاتة مذكرة إلى المسئولين، بدءاً من رئيس الجمهورية حتى مدير مصلحة السجون، وإلى الصحف والنقابات المهنية والعمالية المختلفة، "تسنتنكر نفينا في الصحراء، ومحاولة اغتيالنا بواسطة الحيات والثعابين، وتطلب نقلنا من هذا المنفى" ـ ولكن دون سميع أو مجيب!
ويقول غنه طوال إقامته وزملائه في السجن، لم يتمنوا في حياتهم شيئاً أكثر من خلع القيود الحديدية عنهم، كباقي خلق الله من المسجونين العاديين! لقد كانت أمنية غالية أن نستحم، ولو مرة واحدة، دون أن نجر القيود الحديدية في أقدامنا، بعد الجهود المصنية التي نبذلها عند خلع الملابس، ثم عند ارتدائها بعد الاستحمام. كنا قد تعودنا على السلاسل الحديدية في أقدامنا، كما تعودنا على صوت رنينها أثناء قيامنا أو جلوسنا أو سيرنا، أو حتى خلال نومنا، لكنا كنا نعاني عند كل استحمام، سواء أثناء خلع الملابس أو أثناء ارتدائها!
ثم يعقد المقارنة الغريبة بين معاملة نظام عبد الناصر لسجناء الرأي ومعاملته للمسجونين العاديين من تجار المخدرات والقوادين واللصوص والقتلة، فيقول:
"كان عدد شهور السنة في الأحكام القضائية عند كل المسجونين 9 شهور فقط، أما عندنا فشهور السنة 12 شهراً بالتمام والكمال! وكان كل المسجونين يخرجون في مناسبات أعياد الثورة، والفطر والأضحى، عند قضائهم نصف المدة، ولكن لم يخرج أحد منا في أي مناسبة من هذه المناسبات! ولأنهم يعشقوننا ومغرمون "صبابة" بنا، فقد كانوا عند انقضاء مدة عقوبتنا يستضيفوننا سنوات أخرى فوق مدة العقوبة القانونية!
ويقول إنه خلال سنوات السجن الماضية كان الفول المدمس الذي يأكلونه، ليس مدمساً وإنما مسلوقاً، وكانت الفولة الواحدة بها عدد لا يحصى من ثقوب السوس، وفي كثير من الأحيان كنا نضبط السوس متلبساً بجريمة استمراره في الحياة رغم تعرضه لأقصى درجات حرارة غليان الماه! ومع الوقت أخذ الكثيرون يأكلون السوس "بلذة" على اعتبار أنه في نهاية الأمر "بروتين"! وخرجوا بمقولة أن الفرق بين لحم السوس وأي لحم آخر، هو نفس الفرق بين لحم الأرنب ولحم القطة!
وقد تحدث مصطفى طيبة عن معاناة أخرى لم يشهدها معتقل في التاريخ. لقد كان المعتقل الذي قذف بهم إليه عبد الناصر عبارة عن بقعة نائية في قلب الصحراء ليست معدة أصلا لاستقبال معتقلين، ولا تحتوي على أية مرافق من المرافق اللازمة للحياة، لذلك فسرعان ما اكتشف المعتقلون من سجناء الرأي أن هذا المعتقل ليس فيه مياه شرب من أي نوه غير جرادل مياه نفدت مياهها، وكان عليهم أن يجلبوا الماء اللازم، ولكنهم عرفوا أن "العين" التي يجلب منها الماء تبعد عن السجن خمسة كيلو مترات، ومعنى هذا الكلام أن جلب الماء من "العين" سير مسافة 10 كيلو مترات ذهاباً وإياباً! وبطبيعة الحال فإن الجردل المليئ لن يصل إلى السجن كاملاً، وغنما سيصل نصفه فقط في أحسن الظروف.
وبعلق مصطفى طيبة على ذلك قائلاً: "لقد اختاروا لنا هذه القطعة من الأرض في قلب الصحراء، بعيدة عن مصادر المياه وأحاطوها بالأسلاك الشائكة، ثم القوا بداخلها أجولة من الفول والعدس والأرز والدقيق والفاصوليا الناشفة، وعددا من الخيام، وكميات من الخشب والصاج والمواسير، وقالوا لنا: "ابنوا سجنكم بأنفسكم"!
وفي أثناء بناء سجناء الرأي سجنهم بأنفسهم في قلب الصحراء، أتت الأخبار بصدام عبد الناصر مع الاستعمار في النصف الثاني من يوليو 1956، وعندئذ اجتمع سجناء الرأي الوطنيون وقرروا كتابة بيان يسجلون فيه بوضوح موقفهم المؤيد لعبد الناصر بدون شروط. ويقول مصطفى إن مأمور السجن وضباطه فوجئوا بهذا الموقف! فلم يكن في تصوراتهم أن مسجونين يمكن أن يرسلوا لسجانيهم تأييداً ومساندة، بلا أي شروط! ويتحمس المأمور لهذا الموقف الوطني، ويعلن أنه سوف يسافر إلى القاهرة لتوصيل البيان إلى رئاسة الجمهورية وإلى مدير مصلحة السجون.
ويكتب مصطفى طيبة قائلاً: "ربما كانت هذه أول تجربة يواجهها مسجونون سياسيون .. يقفون إلى جانب السلطة، يؤيدونها ويساندونها، دون أن يفرج عنهم، وربما كانت هذه أول مرة تتلقى فيها سلطة وطنية تأييداً أو مساندة من أشد معارضيها حتى الأمس القريب".
ويأتي مأمور السجن يوم 26 يوليو 1956 وهو يحمل برقية من رئاسة الجمهورية موجهة إلى مأمور سجن "جناح" بالواحات، لتوجيه الشكر إلى كل من وقعوا على بيان التأييد. الأمر الذي يشيع موجة من التفاؤل بقرب الإفراج عنهم.
وفي الوقت نفسه يحمل المأمور معه جهاز راديو كبير لسماع خطاب تأميم قناة السويس، ولا يكاد عبد الناصر يعلن تأميم شركة قناة السويس حتى يمتزج هدير تصفيق الجماهير في ميدان المنشية بالإسكندرية بهدير تصفيق سجناء الرأي في صحراء الواحات الخارجة! ويقول مصطفى طيبة: "كانت هذه أول مرة تشهد فيها صحراء الواحات الخارجة هتافاً يشق عنان السماء بحياة ناصر وثورة 23 يوليو!
"وبعد الخطاب انتظمت جموعنا مع جموع الجن من الإخوان المسلمين في مظاهرة صاخبة ظلت تجوب المعسكر أكثر من نصف ساعة، وبلغ تأثر المأمور والضباط والجنود إلى درجة كبيرة جعلتهم ينضون إلينا ويهتفون معنا، ثم يعانقوننا في ود وإنسانيبة. وسارع سجناء الرأي إلى إرسال برقية إلى عبد الناصر في نفس الليلة يعلنون فيها تأييدهم ومساندتهم!
ولكن تمضي شهور أغسطس وسبتمبر وعشرون يومأص من أكتوبر 1956، وسجناء الرأي يتوقعون الإفراج عنهم، بعد أن اختفى كل مبرر سياسي لاستمرار وجودهم في السجن، وعلى حد قول مصطفى طيبة: "أن تسجن لأنك تعارض النظام شيء مفهوم ومقبول، ولكن أن تسجن وأنت تؤيد وتساند هذا النظام مسألة لا تقبلها!".
وقد نسي مصطفى طيبة وزملاؤه أن نظام عبد الناصر لا يضع في اعتباره هذه المفاهيم السياسية، فهو نظام فاشي يحكم البلاد بمهارة بوسيلتين: المعتقلات لمعارضيه في الرأي، والقرارات الحماسية البراقة المدوية، التي تخطف أبصار الجماهير المصرية وتدفعها إلى الهتاف بحياة عبد الناصر، مهما ترتب عليه من خسائر وطنية جسيمة تؤثر على مستقبل البلاد!
وهو ما حدث مع إعلان تأميم شركة قناة السويس، فقد بقي لعبد الناصر الهتاف والحماس الشعبي حتى وفاته، وبقي لمصر الخسائر الهائلة التي ترتبت على تأميم القناة، وهي مرور الملاحة الإسرائيلية من شرم الشيخ، وانفتاحها على أسواق أفريقيا وآسيا، وتحول ميناء إيلات إلى ميناء دولي!
كذلك عندما أعلن عبد الناصر إغلاق مضيقي تيران في مايو 1967، فقد بقي لاسمه مجد قرار الإغلاق، وبقي لمصر خزي الهزيمة العسكرية الثقيلة في حرب يونيه 1967، وعودة إسرائيل إلى احتلال سيناء مرة أخرى ثانية في مدة لا تزيد على عشر سنوات.
وهو نفس ما حدث لهتلر وموسوليني، فقد هزت انتصاراتهما السياسية على معسكر الحلفاء قبل الحرب العالمية الثانية قلوب الشعبين الألماني والإيطالي، وبقيت لألمانيا وإيطاليا الهزيمة العسكرية الثقيلة التي أصابتهما عند نهاية الحرب!
وعلى هذا النحو فإن بيانات التأييد لعبد الناصر من سجناء سجن "جناح" بالواحات الخارجة بسبب قرار تأميم شركة قناة السويس، ثم بيانات التأييد الأخرى عند وقوع العدوان الثلاثي ـ كل هذه البيانات لم يكن لها تأثير في نفس عبد الناصر يدفعه إلى الإفراج عنهم للمشاركة في شرف الدفاع عن أرض الوطن.
بل إن عبد الناصر كان يحمل المزيد لمن كانوا خارج السجن من زملائهم الذين اشتركوا بالفعل في المعركة أثناء العدوان الثلاثي وبعده بشهور، فسرعان ما قام باعتقالهم، وأرسل بهم إلى الواحات في أوائل عام 1957، بعد أن ألصق بهم عددا من الاتهامات في ديسمبر 1956!
والطريف أنه كان من بين من اعتقلوا في سنة 1957 المهندس الدكتور فايق فريد، وهو أحد المهندسين الذين تمكنوا من تجهيز عربة إذاعة بديلة عندما ضرب الأعداء محطة الإذاعة المصرية في أبو زعبل!
بل إنه في الوقت الذي كان سجناء الرأي في سجن جناح في صحراء الواحات الخارجة يتوقعون الإفراج عنهم لمجرد إرسال بيانات التأييد لعبد الناصر، كان عبد الناصر يعتقل الشيوعيين الذين شاركوا في الدفاع عن بور سعيد بعد أن تبعثرت القوات العسكرية المصرية نتيجة انهار القيادة المسئولة!
وكانت الحجة هي الخوف من أن يحاول الشيوعيون تقوية صفوفهم وتجنيد عناصر جديدة وخلف نفوذ لهم بين الجماهير بعد أن اشتركوا في المقاومة الشعبية!
وعلى هذا النحو فإن كل ما كان سجناء الرأي يعتقدون أنه يقربهم من باب الحرية، كان يقربهم أكثر من أبواب معتقلات عبد الناصر! لقد كانت حساباتهم تقوم على الدفاع عن الوطن، في حين كانت حسابات عبد الناصر تقوم على الدفاع عن نظام حكمه، واستبقاء زعامته دون شريك من أية قوة وطنية!
40- هل كان نظام عبد الناصر فاشياً أو دكتاتورياً يستخدم أدوات فاشية ؟ (الوفد في 19 / 5 / 1997)
أن تسجن لأنك تعارض النظام شيء مفهوم، أما أن تسجن وأنت تؤيد النظام فهو الأمر المحير في نظام عبد الناصر، هذا ما كتبه مطفى طيبة في ذكريات سجنه، فقد هتف الشيوعيون في سجن بالواحات الخارجة بحياة عبد الناصر عند سماعهم صوته وهو يعلن تأميم شركة قناة السويس، وسارعوا بإرسال برقية تأييد حارة له في نفس الليلة، كما أرسلوا بيانات تأييد أخرى عند وقوع العدوان الثلاثي على مصر، وأعربوا عن رغبتهم في الخروج للموت دفاعاً. ولكن عبد الناصر كانت له حسابات أخرى.
لقد كانت حسابات عبد الناصر تدعوه إلى زيادة التنكيل بالشيوعيين كلما وقفوا موقفاً وطنياً يمكن أن يجلب لهم تأييد الرأي العام، ولذلك عندما تمكن المهندس الدكتور فايق فريد وزمؤه فور ضرب قوات العدوان الثلاثي محطة القاهرة بأبي زعبل، من تجهيز عربة إذاعة بديلة تحل محل محطة الإذاعة المضروبة، وتعلو فيها من جديد صيحة "هنا القاهرة"، لم ينقذه هذا العمل الوطني من الاعتقال! وعندما تصدى الشيوعيون في بور سعيد للدفاع عن المدينة بعد انهيار القيادة المسئولة وتبعثر القوات العسكرية أمام قوات الغزو، كان هذا العمل الوطني الجليل في حد ذاته هو الذي فتح لهم أبواب السجن على مصراعيها! لقد كانت فلسفة عبد الناصر في ذلك فلسفة بسيطة ليس فيها غموض ولا تعقيد، وهي تقوم على أن كل من يملك القدرة على تأييده، فإنه يملك من الناحية الأخرى القدرة على معارضته، ويستوجب ذلك ـ بالتالي ـ التخلص منه! وهذه الفلسفة قالها عبد الناصر بنفسه لفتحي رضوان عندما توسط لديه للإفراج عن ابن أخته سعد كامل الكاتب والمناضل المعروف. فلقد ساق فتحي رضوان وقتذاج الحجج على أن سعد كامل له مواقف تأييد لعبد الناصر، أخذ يعددها، ولكن عبد الناصر قاطعه قائلاً إن من يستطيع تأييدي يستطع معارضتي! وهي فلسفة الطغاة في كل زمان ومكان! فعندما استعطف أبو مسلم الخرساني أبا جعفر المنصور للإبقاء على حياته بحجة أن سيفه كان على الدوام في خدمته، كان رد أبو جعفر المنصور أن السيف الذي يستطيع أن يكون في خدمته هو نفسه السيف الذي يستطيع أن ينقلب عليه!
وقد كانت تلك هي جريمة الشيوعيون الكبرى التي استحقوا عليها التنكيل والتعذيب، فلأنهم كانوا يستطيعون التأييد فإنهم كانوا يستطيعون المعارضة، وهي جريمة كافية في نظر عبد الناصر لاعتقالهم والتنكيل بهم. فلم يحدث أبداً أن تآمر الشيوعيون على نظام عبد الناصر، ولم يسبق أن حاولوا الانقضاض عليه كما فعل الإخوان المسلمون، وإنما كانت كل جريمتهم أنهم وهم يؤيدون عبد الناصر يستطيعون معارضته، وعبد الناصر يحسب حساب المعارضة أكثر مما يحسب حساب التأييد، ومن ثم فهو لا يقبل بالتعايش إلا مع كل من لا يقدر على التأييد أو المعارضة، أي الذين لا رأي لهم إلا رأي الزعيم!
ولذلك فقد تخلص من جميع القوى السياسية التي حملت عبء النضال الوطني قبل الثورة، لأنه كان لها رأي! فقد تخلص من الوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين، بل تخلص من زملائه من الضباط الأحرار الذين كان لهم رأي، تخلص من خالد محي الدين ومن يوسف صديق، ثم من زملائه في مجلس قيادة الثورة الذين كان لهم رأي مثل عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، فالرأي الآخر هو عدو عبد الناصر اللدود.
وهذا يثير القضية التي كتبها الكاتب الكبير عبد الستار الطويلة في عدد الوفد يوم 12 مايو 1997، ردا على هذه السلسلةمن المقالات عن ثورة يولوي وحقوق الإنسان. فقد اعترف في مقاله بأن ما ورد في هذه المقالات "صحيح مائة بالمائة، وبالحرف" ـ على حد قوله. وهو أمر طبيعي من الأستاذ عبد التاسر الطويلة، فقد كان هو نفسه أحد ضحايا معتقلات عبد الناصر، بل ربما كان أكثرهم إحساساً بجناية هذه المعتقلات على حياة صاحب الرأي المعارض وعلى روحه ونفسيته، إذ تعرض لتربة رهيبة أشرنا إليها في أحد هذه المقالات، على رصيف محطة "المواصلة"، وهو في طريقه وزملاؤه إلى الواحات وهم مربوطين بسلسلة واحدة، عندما تحرك القطار بعد نزوله وبعض زملائه من العربة، وأخذ يجرهم على الرصيف ثم على الفلنكات وهم يصطدمون بالزلط وخشب الفلنكات، يتوقعون أن تسحبهم عجلات القطار لتطحنهم جميعاً ومعهم زملاؤهم الذين كانوا ما يزالون في العربة، وصيحات الجميع لا يسمعها سائق القطار، ولم ينقذهم إلا تنبه خفير إحدى المزارع المجاورة فأطلق أعيرة نارية نبهت السائق إلى المأساة!
لقد كانت القضية التي أثارها الأستاذ عبد الستار الطويلة هي اعتراضه على ما توصلت إليه عن اقتناع، من واقع هذه السلسلة من المقالات من أن النظام الناصري لم يكن نظاماً تقدمياً وإنما كان نظاماً فاشياً.
وقد استند في اعتراضه على افتراض نظري سليم هو أن الفاشية ـ كما قال ـ "هي الحكم الدكتاتوري للقمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية التي تفشل في استمرار حكمها عن طريق الوسائل الديموقراطية، فتجنح إلى الديكتاتورية، "ولم يكن عبد الناصر ـ كما قال ـ ممثلاً للاحتكارات المصرية، بل هو ضرب الرأسمالية في مقتل، والأصح أن يقال إن نظام عبد الناصر الدكتاتوري كان يستخدم الأساليب الفاشية، وكانت الكارثة على نظامه وعلى مصر سنوات طويلة بسبب ضربه للحريات حتى لم بعد له تأييد جماهيري، وأنصاره ليسوا إلا مجموعة من الدراويش التي تتصارع على ميراث موهوم، بل هم يضرونه ضرراً بالغاً برفضهم الاعتراف بخطأ موقفه من الديموقراطية، وبالتالي لا يستمع أحد لأي محاولة للدفاع عن منجزاته الجيدة".
هذا ما كتبه الكاتب الكبير عبد الستار الطويلة في خطأ وصفي نظام عبد الناصر بأنه نظام فاشي، وأن الصحيح القول بأنه نظام دكتاتوري يستخدم أساليب فاشية.
وقد كان هذا بالفعل رأيي قبل كتابة هذه السلسلة من المقالات، ولكني لم أملك إلا الانحياز إلى وجهة نظر الدكتور لويس عوض عندما سخر من الشيوعيين المصريين والعرب الذين اعتبروا عبد الناصر رائداً من رواد الإشتراكية! لمجرد أنهم رأوا في نظام القطاع العام، وفي بعض التشريعات العمالية والتأمينات الاجتماعية، وفي التعاون أو التقارب مع الاتحاد السوفيتي "ملامح اشتراكية" وطلب فحص الإشتراكية الناصري، هل كانت اشتراكية حقيقية أو كانت "اشتراكية وطنية"؟ أي فاشية.
ولتحديد الإجابة على هذا السؤال أعلن الدكتور لويس عوض أن عبد الناصر سوف يدخل التاريخ باثنين من أهم منجزاته، وهما: تصفية الشيوعية و تصفية الديموقراطية ـ ليس فقط في مصر بل وفي العالم العربي لحد ما. وبالتالي فقد حصر الدكتور لويس عوض اشتراكية عبد الناصر في سلك الإشتراكية الوطنية، أي النازية، إذ هي النوع الوحيد من الاشتراكيات الذي يعادي كلا من الشيوعية والديموقراطية بنفس الدرجة، وهي النوع الوحيد الذي ظهر في ألمانيا هتلر، وإيطاليا موسوليني، وأسبانيا فرنكو.
هذا الاستناد الذي قام به الدكتور لويس عوض لتحديد فاشية نظام عبد الناصر، أقوى في رأيي من الاستناد الذي لجأ إليه الأستاذ عبد الستار الطويلة لسبب بسيط هو أنه يمثل روح الفاشية الحقيقية التي تعادي الشيوعية والديموقراطية بشراسة على نحو يدفعها إلى استخدام أساليب القهر والتعذيب وإهدار حقوق الإنسان للقضاء على خصومها في الرأي.
أما الاستناد إلى اعتماد الفاشية على ما أسماه عبد الستار الطويلة بـ "القمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية"، وفي الصفة الغائبة في النظام الناصري، فليست بذات بال في رأيي، غذ يتفق كل من النظام الفاشي في شكله الإيطالي أو في شكله النازي مع النظام الأمريكي والنظم الرأسمالية في الغرب في هذه الصفة، في الاعتماد على القمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية، وغنما الذي يفرق بينها جميعاً هو الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، فهي في النظم الفاشية مهدرة، ولكنها في النظم الرأسمالية الليبرالية قائمة ومستتبة.
وفي نظري أنه لا يمثل فارقاً كبيراً أن يستند نظام هتلر على القمم العليا على القمم العليا من الاحتكارات الرأسمالية، و يستولي عبد الناصر بنفسه على وسائل الإنتاج ويضمها إليه جميعاً ويطوعها لمصلحة نظامه ولمصلحة استمراره وبقائه.
وبمعنى آخر، أنه إذا اتفقنا على أن نظام عبد الناصر لم يكن نظاماً اشتراكياً مما عرفته النظم الإشتراكية، وإنما كان في أحسن صوره "رأسمالية دولة"، فإنه لا يمثل فارقاً كبيراً أن تكون الدولة هي التي تملك وسائل الإنتاج، ما دام أن جوهر نظام الحكم هو الاستبداد، ومصادرة حرية الرأي، وتجاوز ذلك إلى الانتقام من المخالفين في الرأي عن طريق اعتقالهم، والزج بهم في معسكرات تعذيب، والاستعانة بزبانية متخصصين في هذا النوع الذي عرفته معسكرات النازي.
وهذا الذي قام به النظام الناصري يعترف جميع الشيوعيين الذين تعرضوا للتعذيب أنه لم يحدث إلا في النظام النازي، بل إنه تفوق على ما كان يحدث في معسكرات التعذيب التي أقامها هتلر لسجناء الرأي.
ففي كتاب الدكتور فتحي عبد الفتاح يصف زبانية التعذيب في عصر عبد الناصر بأنهم ـ على حد قوله ـ "تفوقوا في بعض الأمور على أساتذة النازي في معتقلات" "داخاو" و "بوخنفالد" و "أوشفيتز". ويضرب المثل بأحد هذه الزبانية وهو يونس مرعي الذي كانت هوايته المفضلة أن يقف على تل عال ويقذف سجناء الرأي الذين يعملون تحت الجبل بالدبش متعمداً أن يصيب رؤوسهم!
ويقول: "ثمانية أشهر وهم يضربون المعتقلين طوال الأربع وعشرن ساعة: في طابور الرياضة في الصباح، والعنابر في منتصف الليل، وفي الفجر حين يتسلمون الجراية، أو حتى حينما يشكو أحدهم من مرض! صورة بشعة لا يمكن أن يتصورها إلا مخبول نزع عقله فراح يعربد حراً طليقاً من أي منطق ومن أية ذرة إنسانية!
ويتحدث الدكتور لويس عوض، ويونس مرعي يلقيه على الأرض ويضربه بحذاءه مثلما يضرب حشرة! والدكتور فؤاد مرسي أستاذ القانون بكلية الحقوق وملابسه تخلع عنه ليضرب على المناطق الحساسة في جسده! والدكتور إسماعيل صبري عبد الله والزبانية يأمرونه بأن يدور في حلقة كالثور لتنهال عليه ضربات الكرابيج والشوم! ويقول إنه طوال ثمانية أشهر كان الدكتور لويس عوض يفزع من النوم ليلاً ليصيح: أين نحن؟ لا يمكن أن نكون قد رجعنا ألف عام إلى الوراء؟
على هذا النحو كان عليّ أن أقتنع بأن النظام الناصري كان فاشياً لا يفترق من حيث الجوهر عن نظام هتلر أو موسوليني، وإن كان الخلاف الوحيد هو في نوع الرأسمالية التي يقوم عليها، هل هي رأسمالية احتكارات أو رأسمالية دولة؟
وقد كان النظام الفاشي لعبد الناصر يستند على رأسمالية الدولة، وهي أسوأ بكثير من رأسمالية الاحتكارات، لأنها تهيء للدولة وللحاكم الدكتاتور سلطة وقوة لا يتمتع بها الحاكم الفاشي في نظام رأسمالية الاحتكارات، ففي النظام النازي تشترك الاحتكارات في الحكم مع الحاكم الدكتاتور، ولكن في رأسمالية الدولة فإن الحاكم الدكتاتور يحكم وحده بلا شريك، وتكون يده محررة من كل قيد ليحمي حكمه من أية آراء مخالفة.
وهنا أود أن أنبه إلى أن هذا الكلام لا ينفي زعامة عبد الناصر، وإنما يضعها في إطارها النظري الصحيح! كما أن البعض فهم مما ذكرته عن فاشية نظام عبد الناصر ومعسكرات التعذيب التي نصبها لمعارضيه، أنني أنكر عليه كل إنجاز وطني، وهذا فهم خاطئ وغير معقول، فقد سبق لي أن قلب للنظام النازي في ألمانيا حقق لها من المكاسب الوطنية ما لم يتحقق لها من قبل، بل حقق لها التفوق على النظم الديموقراطية في كثير من الإنجازات، ولكن هذه الإنجازات كانت على حساب الإنسان الألماني، لقد جعل هتلر ألمانيا عظيمة وجعل الإنسان الألماني صغيراً بعد أن جعله يعيش تحت شعور الخوف والإرهاب.
وقد حقق نظام عبد الناصر الفاشي إنجازات كبيرة في حقل التصنيع، وحركة التحرر الوطني العالمية، وبناء السد العالي، ونقل الجيش المصري إلى عصر الصاروخ، وناضل ضد الاستعمار ومن أجل الوحدة العربية، ولكن الكثير من هذه الإنجازات سقط بسبب الدكتاتورية.
فقد سقطت الوحدة العربية، وأما القوات المسلحة الجديدة فلم تمنع احتلال إسرائيل سيناء مرتين، وإعادة الاستعمار إلى المنطقة العربية أقوى ما يكون تحت اسم التعاون وحماية الوطن من الأعداء العرب! كما حدث بعد احتلال العراق للكويت، وأما القطاع العام فهو في طريقه للزوال بعد مشروعات الخصخصة! وهكذا يثبت التاريخ أنه لا شيء يدوم إلا إذا قام على أساس احترام حقوق الإنسان وعلى أساس الديموقراطية وإرادة الشعوب.
.../...
41- الرحلة الجهنمية من سجن جناح إلى سجن المحـــاريق (الوفد في 26 / 5 / 1997)