قراءة في القصة الوجيزة، شبّاك الليل للكاتبة اللبنانية خديجة كنعان]
النص:
"شبّاك الليل
أمامَ شباكِ اللّيل، تجلسُ لتقضمَ قلبها قبلَ التّفاحة".
القراءة
إذا كان التكثيف هو الشرط الأهمّ الذي يعطي للسّرد الوجيز (القصة القصيرة جداّ) تمايزه عن الأجناس السردية الأخرى، فإن التكثيف ليس عملية اختصار بعدد الكلمات، ولا الإكثار من نقاط الحذف، والوقفات التي تقطّع الحدث، تجعل الحبكة عبارة عن مجموعة من القفزات الموزّعة بتباعدات كبيرة في الزمن السردي.
التكثيف هو ضغط الحكاية بأقصى طاقة، من خلال آلياتٍ وتقنياتٍ وأساليبَ إبداعيةٍ يبتكرها الكاتب لهذا باستخدام لغةٍ إيحائيةٍ مرنةٍ ومطواعة.
من هذه الأساليب: المشهدية، والترميز والإحالات الانزياحيّة المتنوّعة من التناصّ أو الاستعارة، وكل ذلك يتطلب مهارةً عاليةً من الكاتب، ودرايةً بأساليب البلاغة، والأهمّ من ذلك، فكرٌ شموليٌّ يجعل الكاتب في حالة همٍّ دائمٍ بقضايا كونيّة أو فلسفيّة، أكثر اتساعاً وأشدّ عمقاً، تتجاوز السطحيّ والمبتذل، ولديه من الثقافة الموسوعية في الفلسفة والأسطورة والفنون المختلفة، ما يجعله يطوّع اللغة ويضغط الموضوعات الكبيرة بجمل قليلةٍ مشحونةٍ بالدلالات.
"أمامَ شباكِ اللّيل، تجلسُ لتقضمَ قلبها قبلَ التّفاحة."
بجملتين صغيرتين، تعرض الكاتبة قصةً وجيزةً جداً، بشكل صورة مشهدية التقطها خيالها من نهر الحياة، لتحمّلها أفكاراً عميقة، تصل، في بعدها الزمني، إلى بداية الخلق، إلى الزمن الأول الذي تمايز فيه الذكر عن الأنثى، آدم وحواء، وفي بعدها الدلالي إلى آفاق تأويليةٍ لا تنتهي.
من خلال فكّ رموز النص، وتفكيك تناصّاته للوصول إلى دلالاتها، وبالتالي
شباك الليل:
شباك، أو نافذة، هي الفرجة الصغيرة في الجدار، ينفتح على المحيط الخارجي، وهي كلمة ذات أبعاد دلالية كثيرة.
الشبّاك هو الحاجز الشفّاف، يفصل بين ما هو داخليّ وما هو خارجي.
الشباك هو نافذة السّجن، رمز للتوق إلى الحرية، ليكون من الأجدى أن تدعى نافذة الحريّة؛ شبّاك الحلم.
هو البرزخ الصغير يفصل بين حياتين، حالتين، زمنين....
أما الليل، فله دلالاتٌ تصل إلى زمن الأسطورة، الليل في الأسطورة الفرعونية يرمز إلى الموت... العدم.
الليل هو السكون، الصورة النقيضة للنهار الذي هو الحياة، بكل ما فيها، من صخبٍ ومشاعرَ متناقضة، وألم {وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً} (سورة النبأ، الآيتان 10ـ 11 ). ليكتمل المشهد في الجملة التالية: تقضم قلبها قبل التفاحة.
"تقضم قلبها"، انزياح استعاري مهمّ جداً؛ يقضم المرء قلبه، صورةٌ تدلّ على أقصى الألم، أو أقصى الندم، أو انتقاماً منه لطيبته وحبّه لمن لا يستحق؛ ولكن أن تربط ذلك بالتفاحة، فهي إشارة تزيده أهمّيّةً، تجعل الأسئلة تتوارد ليكمل القارئ إكمال النص حسب تجربته...
تفاحة حوّاء التي تقول القصص أنها أنزلتها وزوجها من الجنة، وبسببها وُصمَت حواء بالإغواء، وحمل آدم الخطيئة، وبها بدأ تاريخ البشر، تاريخ الرجل والمرأة، وصراع الأخوين الذي أودى بحياة هابيل بسبب حبّ امرأة.
هل تنتقم البطلة من حواء الطيبة التي بداخلها، والتي حمّلتها الأسطورة وزر الخطيئة الأولى؟
هل تحاكم حوّاء التي بداخلها، التي خضعت لإغواء شيطانها، كما فعلت حوّاء الأولى؟
هل؟ وهل وهل....
بذلك تكتمل المشهدية وينتهي النص، وبانتهائه تبدأ الحكاية/ الحكايات، التي يولّدها كلّ قارئ، بتأويله الخاص لدلالات النص وإيحاءاته.
منذر فالح الغزالي
بون 23/12/2022
النص:
"شبّاك الليل
أمامَ شباكِ اللّيل، تجلسُ لتقضمَ قلبها قبلَ التّفاحة".
القراءة
إذا كان التكثيف هو الشرط الأهمّ الذي يعطي للسّرد الوجيز (القصة القصيرة جداّ) تمايزه عن الأجناس السردية الأخرى، فإن التكثيف ليس عملية اختصار بعدد الكلمات، ولا الإكثار من نقاط الحذف، والوقفات التي تقطّع الحدث، تجعل الحبكة عبارة عن مجموعة من القفزات الموزّعة بتباعدات كبيرة في الزمن السردي.
التكثيف هو ضغط الحكاية بأقصى طاقة، من خلال آلياتٍ وتقنياتٍ وأساليبَ إبداعيةٍ يبتكرها الكاتب لهذا باستخدام لغةٍ إيحائيةٍ مرنةٍ ومطواعة.
من هذه الأساليب: المشهدية، والترميز والإحالات الانزياحيّة المتنوّعة من التناصّ أو الاستعارة، وكل ذلك يتطلب مهارةً عاليةً من الكاتب، ودرايةً بأساليب البلاغة، والأهمّ من ذلك، فكرٌ شموليٌّ يجعل الكاتب في حالة همٍّ دائمٍ بقضايا كونيّة أو فلسفيّة، أكثر اتساعاً وأشدّ عمقاً، تتجاوز السطحيّ والمبتذل، ولديه من الثقافة الموسوعية في الفلسفة والأسطورة والفنون المختلفة، ما يجعله يطوّع اللغة ويضغط الموضوعات الكبيرة بجمل قليلةٍ مشحونةٍ بالدلالات.
"أمامَ شباكِ اللّيل، تجلسُ لتقضمَ قلبها قبلَ التّفاحة."
بجملتين صغيرتين، تعرض الكاتبة قصةً وجيزةً جداً، بشكل صورة مشهدية التقطها خيالها من نهر الحياة، لتحمّلها أفكاراً عميقة، تصل، في بعدها الزمني، إلى بداية الخلق، إلى الزمن الأول الذي تمايز فيه الذكر عن الأنثى، آدم وحواء، وفي بعدها الدلالي إلى آفاق تأويليةٍ لا تنتهي.
من خلال فكّ رموز النص، وتفكيك تناصّاته للوصول إلى دلالاتها، وبالتالي
شباك الليل:
شباك، أو نافذة، هي الفرجة الصغيرة في الجدار، ينفتح على المحيط الخارجي، وهي كلمة ذات أبعاد دلالية كثيرة.
الشبّاك هو الحاجز الشفّاف، يفصل بين ما هو داخليّ وما هو خارجي.
الشباك هو نافذة السّجن، رمز للتوق إلى الحرية، ليكون من الأجدى أن تدعى نافذة الحريّة؛ شبّاك الحلم.
هو البرزخ الصغير يفصل بين حياتين، حالتين، زمنين....
أما الليل، فله دلالاتٌ تصل إلى زمن الأسطورة، الليل في الأسطورة الفرعونية يرمز إلى الموت... العدم.
الليل هو السكون، الصورة النقيضة للنهار الذي هو الحياة، بكل ما فيها، من صخبٍ ومشاعرَ متناقضة، وألم {وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً} (سورة النبأ، الآيتان 10ـ 11 ). ليكتمل المشهد في الجملة التالية: تقضم قلبها قبل التفاحة.
"تقضم قلبها"، انزياح استعاري مهمّ جداً؛ يقضم المرء قلبه، صورةٌ تدلّ على أقصى الألم، أو أقصى الندم، أو انتقاماً منه لطيبته وحبّه لمن لا يستحق؛ ولكن أن تربط ذلك بالتفاحة، فهي إشارة تزيده أهمّيّةً، تجعل الأسئلة تتوارد ليكمل القارئ إكمال النص حسب تجربته...
تفاحة حوّاء التي تقول القصص أنها أنزلتها وزوجها من الجنة، وبسببها وُصمَت حواء بالإغواء، وحمل آدم الخطيئة، وبها بدأ تاريخ البشر، تاريخ الرجل والمرأة، وصراع الأخوين الذي أودى بحياة هابيل بسبب حبّ امرأة.
هل تنتقم البطلة من حواء الطيبة التي بداخلها، والتي حمّلتها الأسطورة وزر الخطيئة الأولى؟
هل تحاكم حوّاء التي بداخلها، التي خضعت لإغواء شيطانها، كما فعلت حوّاء الأولى؟
هل؟ وهل وهل....
بذلك تكتمل المشهدية وينتهي النص، وبانتهائه تبدأ الحكاية/ الحكايات، التي يولّدها كلّ قارئ، بتأويله الخاص لدلالات النص وإيحاءاته.
منذر فالح الغزالي
بون 23/12/2022