الملخص:
تعالجُ هذه الدراسة صورة الأطلال والمرأة وتجلّياتها الجمالية في معلقة امرئ القيس باعتبارها نصّاً شعرياً متميّزاً بما فيها من قيمٍ تعبيرية متفردة؛ وذلك من خلال القراءة الفنية التي تسعى إلى تفسير وتحليل اللوحات الشعرية ، والكشف عن الأساليب التي اتّكأ عليها الشاعر في تصوير الأطلال الدارسة المستدعاة من عمق الذاكرة للتعبير عن مشاعر الحزن ، ومظاهر الدمار والخراب ، هذا بالإضافة إلى تصوير المفاتن الجمالية للمرأة والتي تشكّلت لوحةً فنيةً ذات أبعاد حسية مادية تنبضُ جمالاً وإشراقاً، حركةً وحيوية.
وقد اعتمدتِ الدراسةُ على المنهج القائم على استقراء النصِّ وتحليله للوقوف على العناصر والأدوات الفنيّة التي منحت الصورة قوّةً وتأثيراً، وقدرةً على النفاذ إلى أعماق النفس الإنسانية.
*- مصطلحات أساسية: صورة الأطلال والمرأة، التجليات الجمالية، معلقة امرئ القيس، تفسير اللوحات الشعرية
***
المقدّمة:
* سِيْرَةُ الشَّاعِر ومكانتُهُ الشِّعْرِيّة:
امرؤ القيس إمامُ الشعراء، وحاملُ لواء الشعر العربيِّ، وأشْعر شعراء العربِ قاطبةً، كان وما يزالَ مِحور اهتمام الدارسين، فألِّفتْ دراسات عديدة في إبداعه الشعريّ. وحَسْبُنا هنا ترجمةٌ مختصرة لحياة الشاعر.
مولده:
لم يشِرْ أحدٌ من القدماء إلى تاريخ ولادة امريء القيس، ” ونظنُّ أنّه ولد في أوائل القرن السادس للميلاد، وليس بين أيدينا أيّ شيء واضحٍ عن نشأته وكيف أمضى أيّامه الأولى”[1]. وممّا يُؤكِّد ذلك أنّ امرأ القيس كان في زمان أنو شِروان ملك الفُرس[2].
اسْمُه:
تعدّدتِ المصادر التي ذكرت اسم امريء القيس، ولا تكاد تختلف اختلافاً كبيراً، قال ابن قتيبة : ” هو امرؤ القيس بن حُجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المُرار بن معاوية بن ثَور، وهو كندة”[3]. أمّا أبوزيد القرشيّ فقال:هو ” امرؤ القيس بن حُجر بن عمرو بن الحرث بن حجر آكل المُرار بن عمرو بن معاوية بن الحرث بن معاوية بن ثور بن كندة”[4].
أمّا أمُّه فهي ” فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، أُخت كليب ومهلهل ابني ربيعة التغلبيينِ، وكليب هو الذي تقول فيه العرب: أعزُّ من كليب وائل، وبمقتله هاجت حربُ بكر وتغلب “[5] ، وهي الحرب التي عرفت في أيام العرب باسم ” حرب البسوس”.
لقبُه و كُنيتُه :
لُقِّبَ الشاعرُ بألقابٍ كثيرة، منها: الملك الضِّلِّيل، ولقِّب بذي القروح ؛ لأنّه لبس حُلَّةً مسمومة فأسرع السُّمُّ في جلده فتنفّط[6]. وأشهر ألقابه امرؤ القيس[7]. وقد كُنِّيَ امرؤ القيس بأبي وهب، وأبي زيد، وأبي الحارث[8].
قَبيلتُه :
يعود امرؤ القيس في نسبه إلى ملوك كندة، وكندة بطنٌ من بطون كهلان، وهي قبيلة عظيمة، واسم كندة ” ثور بن عُفير بن عُدي بن الحارث بن مرَّة بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عَريب بن زيد بن كهلان… ومن بطونهم العظيمة : معاوية بن كندة “[9].
مكانتُه الشِّعريّة :
يحتلُّ امرؤ القيس ذِروةً عاليةً من ذُرى الشعر العربي- بإجماع النقّاد- ولا شكِّ في فحولته، وسبقه الشعراء إلى تقاليد شعرية أرسى أصولها الفنية في بناء القصيدة العربية التقليدية ، فامرؤ القيس ” ما قال ما لم يقولوا ولكنّه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب، واتّبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتّبكاء في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء، وأجاد في التشبيه…”[10].
يأتي امرؤ القيس على رأس الطبقة الأولى من طبقات الشعراء الجاهليين، و أهل هذه الطبقة هم : امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، ونابغة بني ذبيان، واسمه زياد بن معاوية، وزهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رباح، والأعشى، وهو ميمون بن قيس[11]. وأشعر شعراء الطبقة الأولى امروء القيس، حيث قال لبيدُ بن ربيعة: ” أشعر الناس ذو القروح؛ يعني امرأ القيس “[12].
تتركَّزُ براعةُ امرئ القيس الشعرية – بصفة خاصة – في التشبيه فهو بحقٍّ سيّد فنّ التشبيه في العصر الجاهلي، وأحسن الجاهليين تشبيهاً، و” أوّل من بدأ بتشبيه شيئين بشيئين في بيتٍ واحدٍ ، امرؤ القيس، فقال :
كأنَّ قلوبَ الطّيرِ رطْباً ويابساً لدى وَكْرها العُنِّابُ والحَشَفُ البالي “[13] .
قصّة معلّقة امرئ القيس:
لمّا كان الأدبُ انعكاساً لحياة الأديب وبيئته، فإنّ معلقة امرئ القيس ما هي إلّا نتاج لتجربة الشاعر في الحياة وتعبيرٌ صادقٌ لشخصيته، ” وكون القصيدة صياغة لتجربة فردية يستدعي أن تكون القيم الفنّيّة المُودعة في القصيدة مُصطبغة أيضاً بالصبغة الفردية”[14] . وقد جاءت المعلقة معبِّرة عن مغامرة عاطفية للشاعر مع صاحبته عُنيزة وصواحبها في يوم ” دارة جلجل”، وقلّما نجد مصدراُ من مصادر الأدب خلا من سرد وقائع ذلك اليوم، والمصادرُ على تعدّدها تتفق في مضمون القصة، غير أنّنا سنكتفي برواية الأصمعي عن عبدالله بن رأْلان عن الفرزدق، قال عبدالله بن رألان : قلتُ يا الفرزدق كيف كان حديث يوم دارة جلجل؟.
قال: حدّثني جدّي وأنا يومئذٍ غلام حافظٌ لِما أسمعُ، أنّ امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمّه، يُقال لها عُنيزة، وأنّه طلبها زماناً فلم يصلْ إليها، محتالاً لطلب العزة من أهله، فلمْ يمكنه ذلك حتّى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. وذلك أنّ الحيّ ارتحلوا، فتقدّم الرجال، وخلّفوا النساء، تخلّف امرؤ القيس، فمكن في غَيابة من الأرض حتّى مرَّ به النساء، فإذا فتيات فيهنّ عنيزة، فلمّا رأينَ الغدير، قلْنَ: لو نزلنا في هذا الغدير واغتسلنا ليذهب عنّا الكَلال… فعدلن ودخلن الغدير، فأتاهنّ امرؤ القيس وهنّ غوافلُ فأخذ ثيابهنّ وقعد عليها وأقسم بالله الّا يعطيهن ثيابهن ولو ظللن في الغدير إلى الليل، حتى تخرج كلّ واحدة مجرّدة لتأخذ ثوبها، فأبين حتى ارتفع النهار، ثُمّ خرجتْ إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فمشت إليه فأخذته ولبسته، ثم تتابعن حتى بقيت عنيزة فناشدنه أن يضع لها ثوبها فأبى إلّا أن تخرج كما خرجن، فخرجت، فوضع لها ثوبها فأخذته ولبسته. ثمّ قال النسوة غدِّنا فقد حبستنا وجوَّعتنا، فنحر ناقته وأجّج ناراً عظيمة وبدأ يشوي اللحم والشحم وهنّ يأكلن حتى شبِعْن. ولمّا ارتحلوا قسمن متاعه بينهن، وبقيتْ عنيزة لم يُحمِّلْها شيئاً، فطلب منها امرؤ القيس أن تحمله فحملتْه على بعيرها، فكان يميل إليها ويدخل رأسه في خدرها ويُقبلها، فإذا مال هودجها، قالت : يا امرأ القيس قد عقرت بعيري، ولمّا شارف الحيَّ نزل فأقام… فقال في ذلك شعراً، فكان مما قال:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرى حبيب ومنزل بسِقط اللِّوى بين الدَّخول فحومل[15].
والمتأمّل لنصِّ القصة يلاحظ أنّ إشارات وردت في القصة يدعمها ما ورد في القصيدة، من ذلك قوله:
ألا ربّ يومٍ لك منهن صالحٍ ولا سيّما يومٍ بدارة جلجلِ
ويوم عقرت للعذارى مطيّتي فيا عجباً من كورها المُتحمِّلِ[16].
الصُّورةُ الشِّعريّة في المعلَّقة :
تزخَرُ معلّقةُ امرئ القيس بألوانٍ من الصُّور الفنية الرائعة المعبِّرة عن تجارب الشاعر ، وتتجلّى فيها أساليب البيان الرفيعة : ” تشبيهاتٌ جميلةٌ كثيرة، واستعارات بالغةٌ حدّ الجمال، وكناياتٌ أنيقةٌ ساحرةٌ، وسوى ذلك من أدوات التعبير”[17].
تقتضي القراءةُ الفنيةُ مواجهة المعلقةِ، وتحليل لوحاتها الفنيّة وصورها الشعرية تحليلاً يعتمد على التفسير الفنّي الذي تتكَشَّفُ من خلاله القيم الجمالية التي أودعها الشاعرُ في المعلّقة. والصورة الشعرية، هي : ” أثرُ الشاعر المُفْلق الذي يصفُ المَرْئيات وصْفاً يجعلُ قاريء شعره ما يدري أيَقْرأُ قصيدةً مسطورةً، أمْ يُشاهدُ منظراً من مناظر الوجود، والذي يَصِفُ الوجدانيّات وصْفاً يُخيَّلُ للقاريء أنّه يُناجي نفسَهُ، ويُحاورُ ضميره”[18].
وقد تعدَّدتِ الصورُ الشعرية بتعدد المواقف التي صوَّرها الشاعر، ومن الصور التي تجلَّتْ بوضوحٍ: صورة الأطلال، وصورة المرأة، وصورة الليل، وصورة الفرس والصيد، وصورة المطر والسيل.
صوْرةُ الأَطْلال:
إنّ أوّل صورة تقابلنا في القصيدة الجاهلية – غالباً – صورةُ الأطلال الدارسة والديار الخالية التي يقف عليها الشاعر ويستدعي تجاربَهُ الماضية بعد غيبتها عن حواسه عبر الذاكرة ثمّ يُصوِّرها، ومشهد الطللِ يرتبطُ برحيل المرأة وخراب الديار، وحلول الجدْبِ والفناء محلّ الخصْب والحياة. وقد وقف امرؤ القيس على الأطلال واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل، فقال :
قِفَا نَبْكِ من ذكْرى حَبِيبٍ ومنزلِ بِسِقط اللِّوى بين الدَّخُولِ فَحَوملِ
فَتُوضِحَ فالمِقْراةِ لمْ يعْفُ رَسْمُها لِمَا نسجتْها من جنوبٍ و شمألِ
ترَى بَعَرَ الأرْآمِ في عرَصاتــــــــــــــها وقِعانِها كأنّهُ حبُّ فلفلِ
كأنّي غداة البينِ يوم تحمّلوا لدى سمُراتِ الحيِّ ناقفُ حنظلِ
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهُم يقولون لا تهلكْ أسىً وتجمَّلِ
وإنّ شفائيَ عَبرةٌ مهراقٌةٌ فهلْ عند رسْمٍ دارسٍ منْ مُعَوَّلِ[19]
يبدأُ مشهدُ الطللِ بعبارة “قفا نبكِ “، وقد أعجب القدماءُ بهذا الابتداء وعدُّوه دليلاً على الاقتدار الفنّي، وهو من مبتكرات امرئ القيس، وفي المطلع تبدو صورةُ الشاعر واقفاً وهو يبكي، ويدعو رفيقيه أن يقفا معه ويشاطراه البكاء؛ لَمّا استبدّت لواعج الذكرى بقلبه. وماذا تحمل الذكرى في طيّاتها؟ تحملُ صورة الحبيبة التي رحلت، وديارها التي أضحتْ مقفرةً بعد أن كانت آهلةً عامرةً، فيصطدم الحاضر بالماضي وتحدث المفارقة بين ماضٍ جميل تنعّم فيه الشاعر بقرب الحبيب، وحاضر أليمٍ يتجرّع فيه مرارة البيْنِ. وقد وقف الشعراء الغابرين طويلاً ” على الأطلال- المكان الغائب- ليبكوا الإنسان الفتيِّ ، والذكريات الفتيّة والفرح والمرح والعبث”[20] . واستحضار المكان من أقصى الذاكرة يعني البعد النفسي والوجداني للمكان، “فإنّ الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تُعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديدة، ونظراً؛ لأنّ ذكرياتنا عن البيوت التي سكنّاها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإنّ هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة”[21]، وهذه الصورة الحزينة الباكية للشاعر ورفاقه في مكان حدّده الشاعر جغرافياً ؛ ليضفي على المشهد طابعاً واقعيّاً، ” والحالاتُ النفسيّة التي كانت تعتري الشعراء جميعاً والمشاعر التي كانوا يُحسّون بها حين وقوفهم على أطلال الديار كثيرة، وهي وعلى كثرتها تتّصف دائماً بالحزن والكآبة… على أنّ أشهر هذه الحالات التي تعتري الشعراء، وأكثرها دوراناً في الشعر حالة البكاء وذرف الدموع”[22].
هذه الديار التي تقعُ بين(الدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة) لم تنمحِ آثارُها ومعالمُها رغم تعاقب السنون عليها؛ لنسْج الريحينِ: ريح الجنوب، وريح الشمال في حركةٍ دوريّة يتجسَّدُ فيها صراع الطبيعة؛ ” فالطلل في الشعر العربي رمزٌ لعواطفٍ إنسانيّة وفرديّة عميقة، وبكاء الطلل لا يعْني بكاء المواد التي يتكوَّن منها لذاتها ” [23] وإنَّما ينبغي البحث عن معنى أعمق وراء المعنى الظاهري، فريح الجنوب ترمز إلى الحياة؛ لأنّها تنسِفُ التراب عن آثار الديار فتعيدها حيّة شاخصةً، أمّا ريح الشمال فتدفن الآثار بما تحمله من التراب، وبفعلها هذا تحكم عليها بالاندثار والفناء، ثُمَّ تأمّل هذا التضاد بين الريحين في فعلهما، ” فكلّما دفنته هذه بالرمل سفرتْ عنه الأًخرى الرمل وأظهرته”[24]، وقد لاحظ الشاعر هذه الحركة الدائمة فشبّه فعل الريحين في تعاقبهما بفعل نسج الثياب.
وقد أضْفى الشاعر على المشهد جمالاً في قوله(ترى بعر الأرآم…) عندما جعل هذه الديار الخالية من الإنسان مرتعاً للظباء البِيض الخالصة البياض، فنثرت بعرها في ساحات الديار وقيعانها، ولعلّ هذه الظباء صورة رمزيّة معادلة لصورة النساء اللائي رحلن، وكثيراً ما يقرن الشعراءُ المرأة بالظبي في تشبيهاتهم، وهنا تستوقفنا الصورة التشبيهيّة التي تجمع بعر الأرآم بحبّ الفلفل، ” فالفلفل ثمرة نبات خشبيّ متسلّق، وهو نوعان : أسود وأبيض، والفلفل حريق الطعم، وله رائحة عطريّة مميّزة، ويُستعمل تابلاً، وقد يستعمل في الطبّ مُنبّهاً “[25]، فما الذي يجمع بين بعر الأرآم وحبّ الفُلفُل؟.يحتاج هذا التشبيه إلى التأمُّل، والتشبيه وسيلة من وسائل البيان الرائعة، ” إنّك إذا مثّلت الشيء بالشيء فإنّما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبه به أو بمعناه…”[26] ، وعندما نتأمّل هذا التشبيه نلاحظ أنّه مُستمدٌّ من معطيات الطبيعة ، فالبعر معطىً من معطيات الحيوان(الظباء)، والفلفل معطى من معطيات النبات، وبذلك تتحدُ عناصر الطبيعة في تشكيل الصورة ، وقد شبّه الشاعر محسوساً بمحسوس، ووجه الشبه بينهما محسوس أيضاً، إذ أنّ صورة بعر الظباء المتناثرة على الرمل تشبه حبَّ الفلفل لوناً وصورةً وهيئةً ، في سواد اللون، واستدارة الشكل، وصِغر الحجم.
وفي لحظة الفراق -غداة الرحيل- يبدو الشاعر عند شجر الطلح ، ويصِفُ لنا حالته الكئيبة، ويشبّه نفسه وهو واجماً حزيناً، والدموعُ تنهمرُ من عينيه بالشخص الذي ينقُفُ الحنظل بأظفره ليستخرج حبّه، ولحرارة الحنظل تسيل دموعه، وفي هذا التشبيه تنعكسُ مؤثِّراتُ البيئة الصحراوية حيث يكثرُ نبات الحنظل. وقد ظل الشاعر في مكانه سادراً مذهولاً يبكي ويتحسّر، وهنا يأتيه أصحابه اللذين ركبوا على مطيّهم شهوداً على مأساته الكبرى، فيعزونه وينصحونه بالصبر والتجمّل، وأنّى له، وهل يجدي البكاءُ على دارٍ عبثتْ بها يدُ الزمان والخراب ؟.
عندما يتعمّقٌ الشعورُ بمرارة الفراق يستدعي الشاعر نساءً كنَّ على علاقة به، ثُمَّ تصرَّمت حبالُ الودِّ بينه وبينهنّ، فيقصّ علينا مغامراته معهن ” كأنّه يريدُ أن يستثير صاحبته فاطمة، وأن يزرع الغيرة في قلبها، فهو يذكر لها بعض صواحبه اللائي أبكينه وبرّح به حبّهن، مثل : أمّ الحويرث، وأمّ الرباب”[27]. وتزداد معاناة الشاعر فليجأ إلى أسلوب التجريد من خلال الحوار الداخلي أو النفسي، حيث يُجرِّدُ الشاعر من نفسه شخصاً آخر يخاطبه: إنّ عادتك في حبّ عنيزة (فاطمة) كعادتك من أمّ الحويرث وأمّ الرباب، وأنّ حظّك من وصالها ومعاناتك الوجد بها، كحظّك من وصالهما ومعاناتك الوجد بهما؛ ليفصح لنا وراء الآخر عن ذاته المنهارة التي عانت مرارة الفراق، وابتُليت بعذاب المرأة، ثُمّ تُعاود ذكرى (أم الحويرث، وأم الرباب) الشاعرَ فيرسم صورةً حسيّة ندركها بحاسة الشمِّ وذلك عندما وصف رائحتهما وطيبهما، فهما إذا قامتا فاحتْ رائحةُ المسكِ وانتشرت، وطيب ريّاهما مثل طيب نسيمٍ هبَّ على قَرنفُل وأتى بريّاها، وهنا يتجلّى المزج بين البعدين الطبيعي والحضاري في تشكيل الملامح الجمالية للمرأة، لأنّ المرأة التي تفوحُ منها رائحة المسك، إذ تقوم ففي ذلك إضفاءُ جمالٍ حضاريٍّ، إلى الجمال الطبيعيِّ.
يتكرّر مشهدُ البكاء (ففاضت دموع العين مني صبابة…)، حيث الدموع ” تفيض صبابةً وتولّهاً وخوفاً من لحظة الوقوف… والصَّرْم والبين، وللشاعر تاريخٌ طويلٌ مع الحبّ والفراق ومع المرأة التي صار ديدنها تعذيب شاعرنا”[28].
ينتقل امرؤ القيس من مشهد الطلل المُؤطّر بالحزن والخراب، إلى مشهد آخر مغاير يٌقدِّمُ عبره صورة لاهيةً عابثةً، ويمهِّدُ له بقوله:
ألا ربّ يومٍ لك منهنّ صالحٍ ولا سِيَّما يومٍ بدارةَ جُلجُلِ[29]
إنّ الأيّام التي ظفر فيها الشاعرُ بوصال النساء، والتنعّم بهنّ كثيرة، وأحسن تلك الأيّام يوم دارة جلجل، وهذا ” بيتٌ مفصليّ يربط بين الصورة الأولى والصورة التي تليها، ففي شطره الأوّل يُعزِّي الشاعرُ نفسه بأحداثٍ وقعتْ، رضِيتْ بها نفسُه… وفي الشطر الثاني يُمهد للصورة التالية لا بالحديث عنها حديثاً مباشراً، بل بتخصيص حدثٍ من تلك الأحداث التي فرح بها(لا سيما يوم دارة جلجل)، بذلك فالصورة التالية صورة لاهية عابثة”[30] تتجلَّى فيها صورة المرأة.
صُورةُ المرأة :
أفردَ الشعراءُ للمرأة مساحةً واسعةً في قصائدهم منذ الجاهلية إلى يوم الناس هذا، وجعلوها شغلَهم الشاغل، وصوّروا نجاحاتهم وإخفاقاتهم في حبّها، ومغامراتهم معها، ورسموا لوحاتٍ فنيَّةٍ لصُورتها الحسيّة، والمعنويّة ولم يتركوا شيئاً من ملامحها دون وصْفٍ، فوصفوا فرعها وجيدها، وجبينها وخدّها وعيْنَيْها، وفمها وريقها، وأناملها ومعاصمها، كما وصفوا ثيابها وحليها، وطيبها ونعومتها، ولومها وعتابها، وحياءها وخجلها…
وقد تمثَّل امرؤ القيس جمال المرأة تمثُّلاً جمالياً، تتجسّدُ فيه الماديّة والحسيّة، واللَّذة، فهو لا يحبّ المرأة على غرار حبّ العذريين القائم على العفّة، وإنما حبّه رغبة عارضة ونشوة عابرة تتبعها نشوة أخرى.
تبدأُ صورة المرأة في المعلّقة بسرد وقائع يوم الغدير، التي يعبّرُ عنها الشاعر بنزعة مُجونيّة صارخة، مع أنّ النساء في هذا المشهد هنّ عذارى، فقال امرؤ القيس:
ويوم عقرتُ للعذاري مطيّتي فيا عجباً من كورها المُتحمَّلِ
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها وشحمٍ كهُدّاب الدِّمقس المُفتَّلِ
ويوم دخلْتُ الخدر خدر عنيزة فقالتْ لك الويلاتُ إنّك مُرجلي
تقولُ وقد مَالَ الغبيط بنا معاً عقرْتَ بعيري يا امرأ القيس فانزلِ
فقلْتُ لها سيري وأرخي زمامه ولا تُبعديني من جناكِ المُعلّلِ[31].
ولا شكّ أنّ من يتأمّل هذه الأبيات يلاحظ أنها تؤكِّدُ ما ورد في القصة من إشارات عن حادثة دارة جلجل. وتتضحُ المفارقة بين صورة المرأة في المشهد السابق، وصورتها في هذا المقطع، فالمرأة في الصورة السابقة غير عذراء؛ فهي (أمّ الحويرث، وأمّ الرباب)، أمّا هنا فهي عذراءُ بِكْرٌ، ويتجلّى ذلك من خلال تكرار كلمة(عذارى) في البيتين : الأول والثاني من المقطع؛ فعُنَيزةُ وصواحبُها عذارى.
والصورةُ هنا يعتمدُ البناءُ فيها على الطابع القصصيّ، والاتجاه القصصي في الشعر العربي ” قد ظهر أوّل ما ظهر عند عنترة العبسي، ثُمّ مع امرئ القيس الذي يحدّثنا في أشعاره عن بعض النواحي القصصية في علاقته مع عنيزة، أو حين يحدثنا عن يوم عقر الناقة للعذارى، أو عن مغامرته في دارة جلجل”[32]. وعناصر القصّة التي تجلّت بقوّة في حكاية دارة جلجل، عنصر الحوار، ونلاحظ بوضوح الحوار المزدوج والذي يتمثّل في الحوار الخارجي بين الشاعر وعنيزة ، وذلك من خلال الضمائر المتّصلة بالأفعال؛ إذ نسمع صوت الشاعر في(عقرتُ …، دخلتُ…، فقلتُ…)، وفي مقابل صوت الشاعر نسمعُ صوتَ عنيزة بنبرةِ عتابٍ ووعيد في (فقالتْ :لك الويلات…، عقرْتَ بعيري…، فانزل…)، ويدخل عنصر الزمان في بناء هذه الحكاية، والزمن لم يكن زمناً واحداً، إنّه أزمنة متعددة تتداخل لتؤدِّي وظيفةً فنّيّة ضمن الحاضر والماضي، ويتجلّى ذلك من التأكيد على الزمن الماضي بتكرار كلمة ” يوم ” الدالَّة على الماضي، وهذا البعد الزمني الذي يسترجع الشاعرُ صورةَ عنيزة والعذارى عبره بمثابة عودة للزمن إلى الوراء من ناحية، واستحضار لزمن ماضٍ من ناحية ثانية.
يضعنا الشاعر أمام صورةٍ احتفاليّةٍ تمُوجُ حركةً، وتنبضُ حياةً، في قوله: ” فظلّ العذارى يرتمين…”، فنرى في المشهد العذارى وهنّ مفعماتٌ بالفرح يترامين باللحم والشحم ويناولنَ بعضهنّ بعضاً بعد أن شبعنَ، ثُمّ تأمّل تشبيه الشحم بهدّاب الدمقس، إذ أنّ شرائح الشحم تشبه حواشي ثوب حرير أبيض، وذلك من جهة شكلها، ولمعانها وبياضها. وقوله: ” ولا تبعديني من جناك المعلل” يتضمّنُ استعارة تصريحة، حيثُ يصوِّرُ الشاعرُ عنيزةَ في صورة شجرةٍ ريّان آتتْ ثِمارَها؛ ولعلّ اقتران المرأة بالشجرة يحملُ دلالات وايحاءات، فتغدو المرأة رمزاً للخصوبة مليئة بالإخصاب والنماء والخير والنِتاج؛ لأنّ نتاج المرأة وثمارها ولدها، وولد الإنسان يُسمّى جنىً. وارتباط المرأة بالطبيعة يعني السيطرة على الطبيعة التي لا تتمُّ إلّا بالخصوبة، وفي ذلك يقول إحسان سيركس : ” في هذه البيئة الصحراوية- التي كلّ شيء فيها قابل للتغير- تظلُّ المرأة أكثر إخلاصاً للثبات خلال التغير. إنّها كالطبيعة التي تظلّ مخلصة للتاريخ وهي في الوقت نفسه رمزٌ للخصب والطمأنينة…”[33].
ثُمّ يعمد الشاعر إلى تصوير مغامرته العاطفيّة مع عنيزة في يوم (الخباء)، وفيها يعرض الشاعر صورة فنيّة رائعة فيها القدرة على بعث الماضي ومعايشته في الزمن الحاضر، وفي اللوحة تُقدّم عنيزة في علاقتها الغراميّة بالشاعر، والتي تتضمّن في دلالاتها وصيغتها التعبيريّة اللهو والمتعة، يقول الشاعر:
وبَيْضَةِ خدرٍ لا يُرامُ خباؤها تمّعتُ من لهوٍ بها غير مُعْـــــجَــــلِ
تجاوزْتُ أحراساً إليها ومعشراً عليَّ حراصاً لو يُسرُّون قتــــــــــلي
إذا ما الثريّا في السماء تعرّضتْ تعرُّضَ أثناء الوِشاح المُفصَّــــــــلِ
فجئْتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابها لدى السِتْرِ إلّا لبسة المُتفضّـــــلِ
فقالتْ: يمين الله ما لك حيلة وما إن أرى عنك الغَواية تنجــــلي
خرجْتُ بها أمشي تجُرُّ وراءنا على أثرينا ذيلَ مرْطٍ مرحَّــــــلِ
فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطنُ خبتٍ ذي حقاف عقنقـــلِ
هصرتُ بفودي رأسها فتمايلتْ عليَّ هضيم الكشحِ ريّا المخلخـــــــلِ[34]
يبدأُ الشاعر هذه المغامرة بعرض الصورة الحسيّة التي تجسِّدُ صفات المرأة التي يصبو إليها، ويتمتّع بها، فتظهرُ في اللوحة صورة استعاريّة أنيقة، عندما شبّه الشاعر المرأة بالبيضة، ومعنى الكلام: وربّ امرأةِ في خدرها كالبيضة، وهنا تشعُّ الاستعارة، فتصبح قادرةً على الإيحاء بدلالات متعدّدة، ومن خصائصها : ” أنّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتّى تخرج من الصَدَفة الواحدة عدّة من الدّررِ، وتجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر، فإنّك لترى بها الجماد حيّاً ناطقاً، والأعجم فصيحاً… والمعاني الخفيّة باديةً جليّةً”[35].
تبدو عنيزةُ وهي مستكنّةٌ في خدرها مصونةٌ لا تبرز للشمس، ولا تظهر للناس كأنّها بيضةٌ في صفاءِ لونها وملاستها، وصونها عن الكسر، وسلامتها ، وفي القرآن الكريم شبّهت الحور العين، بالبَيض المكنون، في قوله عزّ وجلّ : ” وعندهم قاصرات الطرف عين* كأنّهنَّ بَيْضٌ مَكْنُونُ”[36]. يقول القُرطبي في تفسير الآية : ” شُبِّهنَ ببَيض النعام تُكنُّها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيضٌ في صُفرة وهو حسْنُ ألوان النساء… والعرب تشبِّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها، وتقول العرب إذا وصفتِ الشيء بالحسن والنظافة ، كأنّه بيض النعام المغطّى بالريش، وقيل : المكنون المصون عن الكسر؛ أي إنّهنّ عذارى”. وأن تكون عنيزة في خباءٍ لايُرام دلالة على أنّها ذات عزٍّ وشرفٍ، بيْدَ أنّ الشاعر يصدمنا في الشطرالثاني( تمتّعتُ من لهْوٍ بها غير معجلِ)، بما فيه من إيحاءات جنسيّة نستشفُّها من التمتع بها واللهو معها، ولعلّنا لا نستغربُ هذه الجرأة في البوح عن المسكوت عنه في شعر امرئ القيس.
إنّ هذه الصورة المشرقة الناصعة هي صورةٌ للمرأة الفاتنة التي يركب الأهوال في سبيلها،” إنّ امرأةً بهذا الجمال الساحر، وبهذا اللهو البارع، امرأةٌ مرغوبةٌ ومطلوبةٌ، ولو تعرّضتْ حياة عاشقها للخطر، كلّ شيء من بلوغها مشروع، وكلّ شيءٍ في سبيلها يهون مهما كلّفت الوسائل، ومهما تعدّدت المخاطر، بل يبدو التعرُّض لهذه المخاطر إعلان حُبٍّ صارخٍ وشوقٍ جامحٍ لا يستكين”[37]؛ لذلك نرى الشاعر في سبيل الوصول إلى عنيزة وهي في خبائها يتجشّم المصائب، ويتخطّى أبواباً إليها، وأحراساً أشدّاء يضمرون له العداوة، ويحرصون على قتله.
يختار الشاعرُ زمن المغامرة في قوله :”إذا ما الثريّا في السماء تعرّضت…” ، فزمان مجيئه خباء عنيزة ليلاً، وقت تعرض الثريا ، وفي قت غفلة رقبائها، ولا يخفى علينا في المشهد الأضواء التي تسرّبت داخل الخباء من خللِ الوشاح المفصّل، وعنيزة بداخله، مما يوحي كأنّه مؤثِّراتٌ ضوئيّة في مشهد سينمائ.
والمخيّلة الشعرية تضعنا أمام مشهد مجيء الشاعر ووقوفه لدى باب الخباء ليرى عنيزةَ من خلال الستر الشفّاف المسدل على باب الخباء ، وهي قد تجهّزت للنوم ؛ فخلعت ثيابها وتفضّلت بلباسِ النوم، وعندئذٍ نسمع صوتَ عنيزة مستنكرة الأمر، وتقسم بالله قائلة: مالك حيلةٌ، أتجيء والناس أحوالي؟ فهي تخاف أن تُفتضح والناس حواليها.
نلاحظ أنّ الحوار ينقطع، والمشهدُ يتوقّف، فرغم تمنُّعها لاندري ما الذي جرى ، غير أنّنا نرى في المشهد التالي لُطف استجابة عنيزة لرغبة الشاعر ، ويتحوّل المشهد إلى صورة حركيّة صامتة ؛ ” فالشاعر يتحرّك إلى حيث الحرية والأمان، والمرأة تهيئ له ذلك بالتحرّك معه أوّلاً ، ثمّ التعفية على أثرهما ثانياً، وإن بدت إيجابيّة المرأة أكثر في عمليّة التعفية بتوالي المفردات التي تُضفي أهميّة خاصة على المنطقة التي وراءهما(تجرُّ- وراء- أثرينا- ذيل)”[38]. ولعلّ المرأة التي تجرُّ ذيل كساءٍ موشّى لتُعفِّي الأثر ضربٌ من التمويه لئلاّ يُستدلّ عليهما، ولم يكن هذا المشهدُ إلّا تمهيداً للقائهما في أرضٍ مطمئنّة لعب الخيال الشعري دوراً في تشكُّلها ، حيث أنها مكان يشعرا فيه بالأمن والحماية فيبدو أشبهَ بالرحم وهنا تتحول الأحداثُ إلي تجاوب ؛ فالشاعر يجذبها من جانبي رأسها، وهي بدورها تتمايل نحوه، ثم يضفي الشاعر على الصورة بعداً حسيّاً من خلال تصوير مفاتنها الحسية المتمثلة في خصرها الضامر وساقها الممتليء. وتمتدّ هذه الصورة الحسية إلي قوله:
مهفهفةٌ بيضاءُ غير مُفاضةٍ ترائبها مصقولة كالسجنجلِ
كبكر المُقاناة البياض بصُفرةٍ غذاها نميرُ الماءِ غيرُ المحلَّلِ
تَصُدُّ وتُبدي عن أسِيلٍ وتتَّقي بناظرةٍ من وَحْش وجْرةَ مُطفلِ
وجِيدٍ كجيد الرئْم ليس بفاحشٍ إذا هي نصّتْه ولا بمعطّلِ
وفرعٍ يَزِينُ المتن أسودَ فَاحِمٍ أثيثٍ كقِنْوِ النخلة المُتعثكلِ
وكَشْحٍ لطيفٍ كالجديل مخصَّرٍ وساقٍ كأنبوب السقيِّ المُذلَّلِ
وتُضحي فَتِيتُ المسك فوق فراشها نؤوم الضُحى لم تنتطق عن تفضُّلِ
وتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنّه أساريعُ ظبيٍ أو مساويكُ إسْحلِ
تضيءُ الظلام بالعشاء كأنّها منارةُ مُمْسى راهبٍ مُتَبتِّلِ
إلى مِثلها يرنو الحليمُ صبابةً إذا ما اسبكرَّرتْ بين درْعٍ ومِجولِ[39]
ما يستوقفُنا في هذه الأبيات التي صور فيها امرؤ القيس محبوبته أنّ الشاعر قد رسم لها صورة حسية محْضاً، ” وقد راح يقف عند كلّ عضوٍ منها، من فرعها إلى أطرافها؛ فيُعطينا صورةً للمثل الأعلى لكل عضو، ومن مجموع ذلك تتكوّن صورةُ المثل الأعلى للجسم كلِّه، ومن هنا كان الشاعر حسِّيّاً في تصوُّره للجمال ، وتصويره له على السواء”[40].
تُعدُّ هذه الأبيات – في رأينا- أروعَ ما قاله امرؤ القيس في الغزل ، وتأتي روعتها من تصويره المرأة بأنّها لطيفة الخصر، ضامرة البطن ، غير عظيمة البطن ولا مسترخية اللحم ، وفي ذلك تجسيد لقوامها، ثُمّ تشبيه موضع القِلادة من صدرها في بريق لونه وصفائه بالمرآة الفضيّة، والمدقّق الممعن في هذه الصورة سيكتشفُ أنّ مكمن جمالها في أنّ الشاعر استعمل المرآة ؛ لأنّ المرآة تُشكِّل للإنسان أقصى ما يمكن أنْ يرى ويشتهي من الجمال ، أضفْ إلى ذلك أنّ المشبّه والمشبّه به يشتركان في التماسك والبريق والبياض والتلألؤ”[41] ، وهذا التشبيه من ضرب تشبيه الشيء بالشيء لوناً،” والتشبيهات على ضروبٍ مختلفة، فمنها: تشبيه الشيء بالشيء صورةً وهيئةً، ومنها تشبيهه به معنىً، ومنها تشبيهه حركةً، وبطئاً وسرعةً، ومنها تشبيهه به لوناً، ومنها تشبيهه به صوتاً، وربّما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعضٍ…”[42].
وتتجلّى الصورة التشبيهية الرائعة حين تبدو المرأة بيضاء تشوب بياضها صفرة، وقد شبهها الشاعر بلون بيض النعام تخالط بياضها صُفرةٌ يسيرة، وهو أحسن لون النساء عند العرب، وهنا تلتقي المرأة مرةً أخرى بالبيضة صفاءً ونقاءً وطهراً وصوناً.
ويبدو الخدُّ ملمحاً جمالياً من خلال الصورة الحركيّة المتمثلة في الصدِّ والإبداء” التي تهيء له أن يكون مصدر إشارة للرجل فيفهم منها مقصود المرأة، وهذه الخاصيّة الإشارية حوّلت الصياغة لتأخذ طابعها الإشاري… بمعنى اختزال التعبير في أقلّ مساحة لغويّة”[43]. فالمعشوقة تظهر خدّاً أسيلاً كالوذيلة ناعماً، وعيناً كعيون ظباء وجرة جمالاً حين تنظر إلى أطفالها، ” وخصّهنّ لنظرهنّ إلى أولادهنّ بالعطف والشفقة وهي أحسن عيوناً في تلك الحال منهنّ في سائر الأحوال”[44]. ثم تقترن المرأة في مفاتنها الحسية بالظباء إذ شبّه الشاعر جيدها بجيد الظبي، وتحدث المفارقة بينهما في أنّ جيد المحبوبة حين ترفعه غير معطّل من حُلي الزينة.
وفي إطار تشكيل صورة المرأة ينقلنا الشاعر إلى تصوير شعرها، فهي امرأة ذات شعرٍ أسود شديد السواد يزِين متنها، ولعلّ في شدّة سواد الشعر دلالة على الخصوبة، ثم يعقد تشبيهاً بين كثافة الشعر، وقِنو النخلة المُثْقَلة بالثمار، فذوائبها وغدائرها المطلقة مثنىً تارةً ، ومرسلاً تارة أخرى تشبه عناقيد الثمار، وقد ” أضفى الشاعر على شعر المرأة طابعاً مركّباً… ويبدو واضحاً حرص امرئ القيس على أن يكون لهذا الشعر مواصفات خاصة تُهيء له نوعاً من التناسب مع بعض الأعضاء الأخرى المجاورة ؛ فشدّة السواد تُحدث تقابلاً ومفارقةً مع بياض الوجه وإشراقه ، كما أنّ خواص الشعر ذاتها تعتمد على هذا التقابل في انسيابه على الظهر من ناحية وارتفاعه إلى أعلى من ناحية أخرى”[45].
ومن خلال خلال الكناية الرشيقة في قوله:” وتضحي فتيت المسك…” يقدم الشاعر صورةً للمرأة التي تنعم بالدعة وطيب العيش ، فلا تعالج أمورها ؛ لأنّ لها من يخدمها.
ومن مفاتنها الجمالية نعومة كفِّها، ورقّة أناملها، وفي سبيل تشبيه نعومة ملمسها يُحيلها الشاعر إلى عناصر الطبيعة تمازجاً، فهي كأنّها أساريع ظبي أو مساويك إسحل. وهاهي تشعُّ ضياءً وإشراقاً، فتُبدِّدُ بنور وجهها ظلام الليل كأنّه مصباح راهب متعبّد أوقده ليهتدي به عند الظلام. إنّ امرأةً بهذه المحاسن والمفاتن الجمالية إذا رآها الحليم فقدَ حلمه ووقاره ، ونظر إليها شوقاً وصبابةً.
وأخيراً نلاحظ أنّ السمةً الأسلوبية الطاغية في صورة المرأة هي التشبيهات المتراصّة التي تلمع في ثنايا المقطع كأنها قطعٌ من بلُّورٍ وماس بياضاً وإشراقاً؛ ” فجيدُ صاحبته كجيد الظبية، وعيناها كعيني بقرةوحشية ترنو إلى صغيرها في حنان ورقَّة، وشعرها الطويل الغزير كعناقيد النخلة المتداخلة، وأناملها الناعمة البيضاء كديدان الرمال الليّنة…أو كأغصان الإسحل الملساء…”[46].
النتائج:
اقتضت هذه الدراسة التي عُقدتْ بعنوان” تجليات صورة الأطلال والمرأة …” القراءة الفنيّة للنصوص التي جسّدت مظهر الأطلال ، ومفاتن المرأة ، ومحاولة استكشاف الرؤية الشعرية لظاهرة الأطلال، وملامح جمال المرأة عن طريق سَبْر أغوار هذه النصوص. وقد توصّلت الدراسة إلى نتائج ، هي :
تعددت الصور الشعرية في المعلّقة بتعدد المواقف التي عبَّر عنها الشاعر، وأكثرها تجلياً: صورة الأطلال والمرأة.
جاءتْ صورة الأطلال مُعبِّرةً عن الشعور بمرارة البينِ، مُجسِّدةً حالة الشاعر الكئيبة، مُؤطَّرة بالحزن العميق.
تجلَّتْ في بناء صورة المرأة عناصرُ القصّة بقوّة، ونلاحظها بوضوحٍ في عنصر الحوار، والزمان والمكان.
لجأَ الشاعرُ إلى تصوير تجاربه العاطفيّة من خلال خلق صورة فنيّة رائعة تمتلك القدرة على استدعاء الماضي ومعايشته في الزمن الحاضر.
اتَّكأ الشاعر في تشكيل صورة الأطلال والمرأة- غالباً- علي التشبيهات الفنية التي تلمع كأنّها قطعٌ من بلّورٍ جمالاً وإشراقاً.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
1- ابن الأثير : المثل السائر، المطبعة البهيّة، القاهرة .
2- ابن سلام الجمحي : طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر ، دار المدني، جده .
3- ابن طباطبا العلوي : عيِار الشعر، تحقيق عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط2،2005م.
4- ابن قتيبة :الشعر والشعراء ، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف القاهرة،.
5- أبوزيد القرشي :جمهرة أشعار العرب ، ط1، المطبعة الخيرية ، مصر.
6- إحسان سيركس : مدخل إلى الأدب الجاهلي، دار الطليعة، بيروت،1979م،ط1.
7 – إحسان عباس : فنّ الشعر، دار الشروق،عمان، الأردن،1992م،ط5.
8- أحمد عثمان أحمد : المعلّقات دراسة أسلوبية،دار طيبة ، القاهرة ،2007م .
9- الأنباري :شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، دارالمعارف،القاهرة،ط5.
10- الحسن بن عبدالله العسكري : المصون في الأدب ، تحقيق عبدالسلام محمد هارون ، مطبعة حكومة الكويت ،1984م، ط2.
11- خلدون سعيد صبح : البنية الجمالية للتشبيه في معلقة امرئ القيس، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد(84)،ج2.
12- زكي مبارك : الموازنة بين الشعراء، دار الجيل، بيروت،1993م،ط1.
13- الزوزني : شرح المعلّقات السبع، لجنة التحقيق ، الدار العالمية، بيروت،1992م.
14- سامي سويدان : في النص الشعري العربي، مقاربات منهجيّة،دار الآداب، بيروت،1989م، ط1.
-15 شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي –العصر الجاهلي،ط ، دار المعارف، القاهرة.
16- عبد الإله الصائغ : دلالة المكان في قصيدة النثر،الأهالي للطباعة والنشر، دمشق 1999م، ط1.
17- عبد القاهر الجرجاني : أسرار البلاغة، تعليق أحمد مصطفى، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1939م،ط3.
18- عبدالله الغذامي : القصيدة والنص المضاد، المركز الثقافي العربي،1994م،ط1.
19- عزّة حسن : شعر الوقوف على الأطلال من الجاهلية إلى القرن الثالث ، دمشق، 1968 م.
20– عزالدين إسماعيل :الأسس الجمالية في النقد العربي،دار الفكر العربي،القاهرة،1992م.
21- عمر رضا كحّالة : معجم قبائل العرب ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1997م، ط8 . 22- غاستون باشلار : جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات،1984م،ط2.
23– القرطبي : الجامع لأحكام القرآن”تفسير القرطبي” ، تحقيق أحمد البردوني، إبراهيم أطفيس، دار الكتب المصرية، القاهرة، ، 1964م، ط2.
24- محمد عبد المطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ، الشركة المصرية العامة ، القاهرة، 1996م، ط1.
25- محمد عبدالمنعم خفاجى : الحياة الأدبية في العصر الجاهلي،دار الجيل، بيروت،1992م،ط1.
26- معاذالسرطاوي: دراسات في الأدب العربي، دار مجدلاوي، عمان، الاردن،1988م،ط1.
27- يوسف خليف : أوراق في الشعر ونقده ، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة .
[1] – شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي –العصر الجاهلي،ط ،دار المعارف،القاهرة،ص236.
[2] – ابن قتيبة :الشعر والشعراء،تحقيق أحمد محمد شاكر،دار المعارف القاهرة، ج1،ص125.
[3] – المصدر نفسه، ج1،ص114.
[4] – أبوزيد القرشي :جمهرة أشعار العرب،ط1،المطبعة الخيرية،مصر،ص87.
[5] – ابن قتيبة : الشعر والشعراء،ج1،ص115.
[6] – المصدر نفسه، ج1، ص
[7] – شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي ، ص236.
[8] – المصدر نفسه ، ص236.
[9] – عمر رضا كحّالة : معجم قبائل العرب، مؤسسة الرسالة،بيروت 1997م،ط8، ج3، ص 998.
[10] – ابن سلام الجمحي : طبقات فحول الشعراء، ص 16.
[11] – المصدر نفسه، ص15.
[12] – ابن قتيبة : الشعر والشعراء، ج1،ص105.
[13] – الحسن بن عبدالله العسكري : المصون في الأدب، تحقيق عبدالسلام محمد هارون ، مطبعة حكومة الكويت،1984م، ط2،ص26.
[14] – عز الدين إسماعيل : الأسس الجمالية في النقد العربي،دار الفكر العربي،القاهرة،1992م،ص309.
[15] – الأنباري :شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، دارالمعارف،القاهرة،ط5،ص13-15.
[16] – الزوزني : شرح المعلّقات السبع، لجنة التحقيق ، الدار العالمية، بيروت،1992م،ص16-18.
[17] – محمد عبدالمنعم خفاجى : الحياة الأدبية في العصر الجاهلي،دار الجيل،بيروت،1992م،ط1،ص285.
[18] – زكي مبارك : الموازنة بين الشعراء،دار الجيل،بيروت،1993م،ط1،ص63.
[19] – الزوزني : شرح المعلّقات السبع، ص13-16.
[20] – عبد الإله الصائغ : دلالة المكان في قصيدة النثر، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق 1999م، ط1، ص38.
[21] – غاستون باشلار : جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات،1984م،ط2،ص37-38.
[22] – عزّة حسن : شعر الوقوف على الأطلال من الجاهلية إلى القرن الثالث ، دمشق،1968م،ص62-63.
[23] – إحسان عباس : فنّ الشعر، دار الشروق،عمان، الأردن،1992م،ط5،ص200.
[24] – عزة حسن : شعر الوقوف على الأطلال،ص53.
[25] – أحمد عثمان أحمد : المعلّقات دراسة أسلوبية،دار طيبة ، القاهرة ،2007م ، ص262.
[26] – ابن الأثير : المثل السائر، المطبعة البهيّة، القاهرة ، ج1 ، ص394.
[27] – شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي، ص249.
[28] – عبد الغذامي : القصيدة والنص المضاد، المركز الثقافي العربي،1994م،ط1،ص36.
[29] – الزوزني : شرح المعلقات السبع،ص16.
[30] – أحمد عثمان أحمد : المعلقات دراسة أسلوبية،ص264.
[31] – الزوزني : شرح المعلقات السبع،ص16-18.
[32] – معاذ السرطاوي : دراسات في الأدب العربي،دار مجدلاوي، عمان، الاردن،1988م،ط1،ص143.
[33] – إحسان سيركس : مدخل إلى الأدب الجاهلي، دار الطليعة، بيروت،1979م،ط1،ص230.
[34] – الزوزني : شرح المعلّقات السبع،ص21-24.
[35] – عبد القاهر الجرجاني : أسرار البلاغة، تعليق أحمد مصطفى، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1939م،ط3،ص86-87.
[36] – سورة الصافات : الآية 48-49.
[37] – سامي سويدان : في النص الشعري العربي،مقاربات منهجيّة، دار الآداب،بيروت،1989م،ط1،ص309.
[38] – محمد عبد المطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ، الشركة المصرية العامة ، القاهرة، 1996م، ط1، ص121.
[39] – الزوزني : شرح المعلقات السبع ، ص 24- 28.
[40] – عزالدين إسماعيل : الأسس الجمالية للنقد العربي ،ص111.
[41] – خلدون سعيد صبح : البنية الجمالية للتشبيه في معلقة امرئ القيس،مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق،مجلد(84)،ج2،ص453.
[42] – ابن طباطبا العلوي : عيِار الشعر، تحقيق عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2 ،2005م، ص23.
[43] – محمد عبد المطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ،ص139.
[44] – الزوزني : شرح المعلقات السبع، ص25.
[45] – محمد عبد المِطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ،ص137.
[46] – يوسف خليف : أوراق في الشعر ونقده ، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة ، ص72.
* د. عبد الرحمن فضل أحمد طه
أستاذ الأدب والنقد المساعد/جامعة الفاشر/ كليّة الآداب/ السودان
** مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 36 الصفحة 09.
تعالجُ هذه الدراسة صورة الأطلال والمرأة وتجلّياتها الجمالية في معلقة امرئ القيس باعتبارها نصّاً شعرياً متميّزاً بما فيها من قيمٍ تعبيرية متفردة؛ وذلك من خلال القراءة الفنية التي تسعى إلى تفسير وتحليل اللوحات الشعرية ، والكشف عن الأساليب التي اتّكأ عليها الشاعر في تصوير الأطلال الدارسة المستدعاة من عمق الذاكرة للتعبير عن مشاعر الحزن ، ومظاهر الدمار والخراب ، هذا بالإضافة إلى تصوير المفاتن الجمالية للمرأة والتي تشكّلت لوحةً فنيةً ذات أبعاد حسية مادية تنبضُ جمالاً وإشراقاً، حركةً وحيوية.
وقد اعتمدتِ الدراسةُ على المنهج القائم على استقراء النصِّ وتحليله للوقوف على العناصر والأدوات الفنيّة التي منحت الصورة قوّةً وتأثيراً، وقدرةً على النفاذ إلى أعماق النفس الإنسانية.
*- مصطلحات أساسية: صورة الأطلال والمرأة، التجليات الجمالية، معلقة امرئ القيس، تفسير اللوحات الشعرية
***
المقدّمة:
* سِيْرَةُ الشَّاعِر ومكانتُهُ الشِّعْرِيّة:
امرؤ القيس إمامُ الشعراء، وحاملُ لواء الشعر العربيِّ، وأشْعر شعراء العربِ قاطبةً، كان وما يزالَ مِحور اهتمام الدارسين، فألِّفتْ دراسات عديدة في إبداعه الشعريّ. وحَسْبُنا هنا ترجمةٌ مختصرة لحياة الشاعر.
مولده:
لم يشِرْ أحدٌ من القدماء إلى تاريخ ولادة امريء القيس، ” ونظنُّ أنّه ولد في أوائل القرن السادس للميلاد، وليس بين أيدينا أيّ شيء واضحٍ عن نشأته وكيف أمضى أيّامه الأولى”[1]. وممّا يُؤكِّد ذلك أنّ امرأ القيس كان في زمان أنو شِروان ملك الفُرس[2].
اسْمُه:
تعدّدتِ المصادر التي ذكرت اسم امريء القيس، ولا تكاد تختلف اختلافاً كبيراً، قال ابن قتيبة : ” هو امرؤ القيس بن حُجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المُرار بن معاوية بن ثَور، وهو كندة”[3]. أمّا أبوزيد القرشيّ فقال:هو ” امرؤ القيس بن حُجر بن عمرو بن الحرث بن حجر آكل المُرار بن عمرو بن معاوية بن الحرث بن معاوية بن ثور بن كندة”[4].
أمّا أمُّه فهي ” فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، أُخت كليب ومهلهل ابني ربيعة التغلبيينِ، وكليب هو الذي تقول فيه العرب: أعزُّ من كليب وائل، وبمقتله هاجت حربُ بكر وتغلب “[5] ، وهي الحرب التي عرفت في أيام العرب باسم ” حرب البسوس”.
لقبُه و كُنيتُه :
لُقِّبَ الشاعرُ بألقابٍ كثيرة، منها: الملك الضِّلِّيل، ولقِّب بذي القروح ؛ لأنّه لبس حُلَّةً مسمومة فأسرع السُّمُّ في جلده فتنفّط[6]. وأشهر ألقابه امرؤ القيس[7]. وقد كُنِّيَ امرؤ القيس بأبي وهب، وأبي زيد، وأبي الحارث[8].
قَبيلتُه :
يعود امرؤ القيس في نسبه إلى ملوك كندة، وكندة بطنٌ من بطون كهلان، وهي قبيلة عظيمة، واسم كندة ” ثور بن عُفير بن عُدي بن الحارث بن مرَّة بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عَريب بن زيد بن كهلان… ومن بطونهم العظيمة : معاوية بن كندة “[9].
مكانتُه الشِّعريّة :
يحتلُّ امرؤ القيس ذِروةً عاليةً من ذُرى الشعر العربي- بإجماع النقّاد- ولا شكِّ في فحولته، وسبقه الشعراء إلى تقاليد شعرية أرسى أصولها الفنية في بناء القصيدة العربية التقليدية ، فامرؤ القيس ” ما قال ما لم يقولوا ولكنّه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب، واتّبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتّبكاء في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء، وأجاد في التشبيه…”[10].
يأتي امرؤ القيس على رأس الطبقة الأولى من طبقات الشعراء الجاهليين، و أهل هذه الطبقة هم : امرؤ القيس بن حجر بن الحارث، ونابغة بني ذبيان، واسمه زياد بن معاوية، وزهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رباح، والأعشى، وهو ميمون بن قيس[11]. وأشعر شعراء الطبقة الأولى امروء القيس، حيث قال لبيدُ بن ربيعة: ” أشعر الناس ذو القروح؛ يعني امرأ القيس “[12].
تتركَّزُ براعةُ امرئ القيس الشعرية – بصفة خاصة – في التشبيه فهو بحقٍّ سيّد فنّ التشبيه في العصر الجاهلي، وأحسن الجاهليين تشبيهاً، و” أوّل من بدأ بتشبيه شيئين بشيئين في بيتٍ واحدٍ ، امرؤ القيس، فقال :
كأنَّ قلوبَ الطّيرِ رطْباً ويابساً لدى وَكْرها العُنِّابُ والحَشَفُ البالي “[13] .
قصّة معلّقة امرئ القيس:
لمّا كان الأدبُ انعكاساً لحياة الأديب وبيئته، فإنّ معلقة امرئ القيس ما هي إلّا نتاج لتجربة الشاعر في الحياة وتعبيرٌ صادقٌ لشخصيته، ” وكون القصيدة صياغة لتجربة فردية يستدعي أن تكون القيم الفنّيّة المُودعة في القصيدة مُصطبغة أيضاً بالصبغة الفردية”[14] . وقد جاءت المعلقة معبِّرة عن مغامرة عاطفية للشاعر مع صاحبته عُنيزة وصواحبها في يوم ” دارة جلجل”، وقلّما نجد مصدراُ من مصادر الأدب خلا من سرد وقائع ذلك اليوم، والمصادرُ على تعدّدها تتفق في مضمون القصة، غير أنّنا سنكتفي برواية الأصمعي عن عبدالله بن رأْلان عن الفرزدق، قال عبدالله بن رألان : قلتُ يا الفرزدق كيف كان حديث يوم دارة جلجل؟.
قال: حدّثني جدّي وأنا يومئذٍ غلام حافظٌ لِما أسمعُ، أنّ امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمّه، يُقال لها عُنيزة، وأنّه طلبها زماناً فلم يصلْ إليها، محتالاً لطلب العزة من أهله، فلمْ يمكنه ذلك حتّى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل. وذلك أنّ الحيّ ارتحلوا، فتقدّم الرجال، وخلّفوا النساء، تخلّف امرؤ القيس، فمكن في غَيابة من الأرض حتّى مرَّ به النساء، فإذا فتيات فيهنّ عنيزة، فلمّا رأينَ الغدير، قلْنَ: لو نزلنا في هذا الغدير واغتسلنا ليذهب عنّا الكَلال… فعدلن ودخلن الغدير، فأتاهنّ امرؤ القيس وهنّ غوافلُ فأخذ ثيابهنّ وقعد عليها وأقسم بالله الّا يعطيهن ثيابهن ولو ظللن في الغدير إلى الليل، حتى تخرج كلّ واحدة مجرّدة لتأخذ ثوبها، فأبين حتى ارتفع النهار، ثُمّ خرجتْ إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فمشت إليه فأخذته ولبسته، ثم تتابعن حتى بقيت عنيزة فناشدنه أن يضع لها ثوبها فأبى إلّا أن تخرج كما خرجن، فخرجت، فوضع لها ثوبها فأخذته ولبسته. ثمّ قال النسوة غدِّنا فقد حبستنا وجوَّعتنا، فنحر ناقته وأجّج ناراً عظيمة وبدأ يشوي اللحم والشحم وهنّ يأكلن حتى شبِعْن. ولمّا ارتحلوا قسمن متاعه بينهن، وبقيتْ عنيزة لم يُحمِّلْها شيئاً، فطلب منها امرؤ القيس أن تحمله فحملتْه على بعيرها، فكان يميل إليها ويدخل رأسه في خدرها ويُقبلها، فإذا مال هودجها، قالت : يا امرأ القيس قد عقرت بعيري، ولمّا شارف الحيَّ نزل فأقام… فقال في ذلك شعراً، فكان مما قال:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرى حبيب ومنزل بسِقط اللِّوى بين الدَّخول فحومل[15].
والمتأمّل لنصِّ القصة يلاحظ أنّ إشارات وردت في القصة يدعمها ما ورد في القصيدة، من ذلك قوله:
ألا ربّ يومٍ لك منهن صالحٍ ولا سيّما يومٍ بدارة جلجلِ
ويوم عقرت للعذارى مطيّتي فيا عجباً من كورها المُتحمِّلِ[16].
الصُّورةُ الشِّعريّة في المعلَّقة :
تزخَرُ معلّقةُ امرئ القيس بألوانٍ من الصُّور الفنية الرائعة المعبِّرة عن تجارب الشاعر ، وتتجلّى فيها أساليب البيان الرفيعة : ” تشبيهاتٌ جميلةٌ كثيرة، واستعارات بالغةٌ حدّ الجمال، وكناياتٌ أنيقةٌ ساحرةٌ، وسوى ذلك من أدوات التعبير”[17].
تقتضي القراءةُ الفنيةُ مواجهة المعلقةِ، وتحليل لوحاتها الفنيّة وصورها الشعرية تحليلاً يعتمد على التفسير الفنّي الذي تتكَشَّفُ من خلاله القيم الجمالية التي أودعها الشاعرُ في المعلّقة. والصورة الشعرية، هي : ” أثرُ الشاعر المُفْلق الذي يصفُ المَرْئيات وصْفاً يجعلُ قاريء شعره ما يدري أيَقْرأُ قصيدةً مسطورةً، أمْ يُشاهدُ منظراً من مناظر الوجود، والذي يَصِفُ الوجدانيّات وصْفاً يُخيَّلُ للقاريء أنّه يُناجي نفسَهُ، ويُحاورُ ضميره”[18].
وقد تعدَّدتِ الصورُ الشعرية بتعدد المواقف التي صوَّرها الشاعر، ومن الصور التي تجلَّتْ بوضوحٍ: صورة الأطلال، وصورة المرأة، وصورة الليل، وصورة الفرس والصيد، وصورة المطر والسيل.
صوْرةُ الأَطْلال:
إنّ أوّل صورة تقابلنا في القصيدة الجاهلية – غالباً – صورةُ الأطلال الدارسة والديار الخالية التي يقف عليها الشاعر ويستدعي تجاربَهُ الماضية بعد غيبتها عن حواسه عبر الذاكرة ثمّ يُصوِّرها، ومشهد الطللِ يرتبطُ برحيل المرأة وخراب الديار، وحلول الجدْبِ والفناء محلّ الخصْب والحياة. وقد وقف امرؤ القيس على الأطلال واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل، فقال :
قِفَا نَبْكِ من ذكْرى حَبِيبٍ ومنزلِ بِسِقط اللِّوى بين الدَّخُولِ فَحَوملِ
فَتُوضِحَ فالمِقْراةِ لمْ يعْفُ رَسْمُها لِمَا نسجتْها من جنوبٍ و شمألِ
ترَى بَعَرَ الأرْآمِ في عرَصاتــــــــــــــها وقِعانِها كأنّهُ حبُّ فلفلِ
كأنّي غداة البينِ يوم تحمّلوا لدى سمُراتِ الحيِّ ناقفُ حنظلِ
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهُم يقولون لا تهلكْ أسىً وتجمَّلِ
وإنّ شفائيَ عَبرةٌ مهراقٌةٌ فهلْ عند رسْمٍ دارسٍ منْ مُعَوَّلِ[19]
يبدأُ مشهدُ الطللِ بعبارة “قفا نبكِ “، وقد أعجب القدماءُ بهذا الابتداء وعدُّوه دليلاً على الاقتدار الفنّي، وهو من مبتكرات امرئ القيس، وفي المطلع تبدو صورةُ الشاعر واقفاً وهو يبكي، ويدعو رفيقيه أن يقفا معه ويشاطراه البكاء؛ لَمّا استبدّت لواعج الذكرى بقلبه. وماذا تحمل الذكرى في طيّاتها؟ تحملُ صورة الحبيبة التي رحلت، وديارها التي أضحتْ مقفرةً بعد أن كانت آهلةً عامرةً، فيصطدم الحاضر بالماضي وتحدث المفارقة بين ماضٍ جميل تنعّم فيه الشاعر بقرب الحبيب، وحاضر أليمٍ يتجرّع فيه مرارة البيْنِ. وقد وقف الشعراء الغابرين طويلاً ” على الأطلال- المكان الغائب- ليبكوا الإنسان الفتيِّ ، والذكريات الفتيّة والفرح والمرح والعبث”[20] . واستحضار المكان من أقصى الذاكرة يعني البعد النفسي والوجداني للمكان، “فإنّ الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تُعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديدة، ونظراً؛ لأنّ ذكرياتنا عن البيوت التي سكنّاها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإنّ هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة”[21]، وهذه الصورة الحزينة الباكية للشاعر ورفاقه في مكان حدّده الشاعر جغرافياً ؛ ليضفي على المشهد طابعاً واقعيّاً، ” والحالاتُ النفسيّة التي كانت تعتري الشعراء جميعاً والمشاعر التي كانوا يُحسّون بها حين وقوفهم على أطلال الديار كثيرة، وهي وعلى كثرتها تتّصف دائماً بالحزن والكآبة… على أنّ أشهر هذه الحالات التي تعتري الشعراء، وأكثرها دوراناً في الشعر حالة البكاء وذرف الدموع”[22].
هذه الديار التي تقعُ بين(الدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة) لم تنمحِ آثارُها ومعالمُها رغم تعاقب السنون عليها؛ لنسْج الريحينِ: ريح الجنوب، وريح الشمال في حركةٍ دوريّة يتجسَّدُ فيها صراع الطبيعة؛ ” فالطلل في الشعر العربي رمزٌ لعواطفٍ إنسانيّة وفرديّة عميقة، وبكاء الطلل لا يعْني بكاء المواد التي يتكوَّن منها لذاتها ” [23] وإنَّما ينبغي البحث عن معنى أعمق وراء المعنى الظاهري، فريح الجنوب ترمز إلى الحياة؛ لأنّها تنسِفُ التراب عن آثار الديار فتعيدها حيّة شاخصةً، أمّا ريح الشمال فتدفن الآثار بما تحمله من التراب، وبفعلها هذا تحكم عليها بالاندثار والفناء، ثُمَّ تأمّل هذا التضاد بين الريحين في فعلهما، ” فكلّما دفنته هذه بالرمل سفرتْ عنه الأًخرى الرمل وأظهرته”[24]، وقد لاحظ الشاعر هذه الحركة الدائمة فشبّه فعل الريحين في تعاقبهما بفعل نسج الثياب.
وقد أضْفى الشاعر على المشهد جمالاً في قوله(ترى بعر الأرآم…) عندما جعل هذه الديار الخالية من الإنسان مرتعاً للظباء البِيض الخالصة البياض، فنثرت بعرها في ساحات الديار وقيعانها، ولعلّ هذه الظباء صورة رمزيّة معادلة لصورة النساء اللائي رحلن، وكثيراً ما يقرن الشعراءُ المرأة بالظبي في تشبيهاتهم، وهنا تستوقفنا الصورة التشبيهيّة التي تجمع بعر الأرآم بحبّ الفلفل، ” فالفلفل ثمرة نبات خشبيّ متسلّق، وهو نوعان : أسود وأبيض، والفلفل حريق الطعم، وله رائحة عطريّة مميّزة، ويُستعمل تابلاً، وقد يستعمل في الطبّ مُنبّهاً “[25]، فما الذي يجمع بين بعر الأرآم وحبّ الفُلفُل؟.يحتاج هذا التشبيه إلى التأمُّل، والتشبيه وسيلة من وسائل البيان الرائعة، ” إنّك إذا مثّلت الشيء بالشيء فإنّما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبه به أو بمعناه…”[26] ، وعندما نتأمّل هذا التشبيه نلاحظ أنّه مُستمدٌّ من معطيات الطبيعة ، فالبعر معطىً من معطيات الحيوان(الظباء)، والفلفل معطى من معطيات النبات، وبذلك تتحدُ عناصر الطبيعة في تشكيل الصورة ، وقد شبّه الشاعر محسوساً بمحسوس، ووجه الشبه بينهما محسوس أيضاً، إذ أنّ صورة بعر الظباء المتناثرة على الرمل تشبه حبَّ الفلفل لوناً وصورةً وهيئةً ، في سواد اللون، واستدارة الشكل، وصِغر الحجم.
وفي لحظة الفراق -غداة الرحيل- يبدو الشاعر عند شجر الطلح ، ويصِفُ لنا حالته الكئيبة، ويشبّه نفسه وهو واجماً حزيناً، والدموعُ تنهمرُ من عينيه بالشخص الذي ينقُفُ الحنظل بأظفره ليستخرج حبّه، ولحرارة الحنظل تسيل دموعه، وفي هذا التشبيه تنعكسُ مؤثِّراتُ البيئة الصحراوية حيث يكثرُ نبات الحنظل. وقد ظل الشاعر في مكانه سادراً مذهولاً يبكي ويتحسّر، وهنا يأتيه أصحابه اللذين ركبوا على مطيّهم شهوداً على مأساته الكبرى، فيعزونه وينصحونه بالصبر والتجمّل، وأنّى له، وهل يجدي البكاءُ على دارٍ عبثتْ بها يدُ الزمان والخراب ؟.
عندما يتعمّقٌ الشعورُ بمرارة الفراق يستدعي الشاعر نساءً كنَّ على علاقة به، ثُمَّ تصرَّمت حبالُ الودِّ بينه وبينهنّ، فيقصّ علينا مغامراته معهن ” كأنّه يريدُ أن يستثير صاحبته فاطمة، وأن يزرع الغيرة في قلبها، فهو يذكر لها بعض صواحبه اللائي أبكينه وبرّح به حبّهن، مثل : أمّ الحويرث، وأمّ الرباب”[27]. وتزداد معاناة الشاعر فليجأ إلى أسلوب التجريد من خلال الحوار الداخلي أو النفسي، حيث يُجرِّدُ الشاعر من نفسه شخصاً آخر يخاطبه: إنّ عادتك في حبّ عنيزة (فاطمة) كعادتك من أمّ الحويرث وأمّ الرباب، وأنّ حظّك من وصالها ومعاناتك الوجد بها، كحظّك من وصالهما ومعاناتك الوجد بهما؛ ليفصح لنا وراء الآخر عن ذاته المنهارة التي عانت مرارة الفراق، وابتُليت بعذاب المرأة، ثُمّ تُعاود ذكرى (أم الحويرث، وأم الرباب) الشاعرَ فيرسم صورةً حسيّة ندركها بحاسة الشمِّ وذلك عندما وصف رائحتهما وطيبهما، فهما إذا قامتا فاحتْ رائحةُ المسكِ وانتشرت، وطيب ريّاهما مثل طيب نسيمٍ هبَّ على قَرنفُل وأتى بريّاها، وهنا يتجلّى المزج بين البعدين الطبيعي والحضاري في تشكيل الملامح الجمالية للمرأة، لأنّ المرأة التي تفوحُ منها رائحة المسك، إذ تقوم ففي ذلك إضفاءُ جمالٍ حضاريٍّ، إلى الجمال الطبيعيِّ.
يتكرّر مشهدُ البكاء (ففاضت دموع العين مني صبابة…)، حيث الدموع ” تفيض صبابةً وتولّهاً وخوفاً من لحظة الوقوف… والصَّرْم والبين، وللشاعر تاريخٌ طويلٌ مع الحبّ والفراق ومع المرأة التي صار ديدنها تعذيب شاعرنا”[28].
ينتقل امرؤ القيس من مشهد الطلل المُؤطّر بالحزن والخراب، إلى مشهد آخر مغاير يٌقدِّمُ عبره صورة لاهيةً عابثةً، ويمهِّدُ له بقوله:
ألا ربّ يومٍ لك منهنّ صالحٍ ولا سِيَّما يومٍ بدارةَ جُلجُلِ[29]
إنّ الأيّام التي ظفر فيها الشاعرُ بوصال النساء، والتنعّم بهنّ كثيرة، وأحسن تلك الأيّام يوم دارة جلجل، وهذا ” بيتٌ مفصليّ يربط بين الصورة الأولى والصورة التي تليها، ففي شطره الأوّل يُعزِّي الشاعرُ نفسه بأحداثٍ وقعتْ، رضِيتْ بها نفسُه… وفي الشطر الثاني يُمهد للصورة التالية لا بالحديث عنها حديثاً مباشراً، بل بتخصيص حدثٍ من تلك الأحداث التي فرح بها(لا سيما يوم دارة جلجل)، بذلك فالصورة التالية صورة لاهية عابثة”[30] تتجلَّى فيها صورة المرأة.
صُورةُ المرأة :
أفردَ الشعراءُ للمرأة مساحةً واسعةً في قصائدهم منذ الجاهلية إلى يوم الناس هذا، وجعلوها شغلَهم الشاغل، وصوّروا نجاحاتهم وإخفاقاتهم في حبّها، ومغامراتهم معها، ورسموا لوحاتٍ فنيَّةٍ لصُورتها الحسيّة، والمعنويّة ولم يتركوا شيئاً من ملامحها دون وصْفٍ، فوصفوا فرعها وجيدها، وجبينها وخدّها وعيْنَيْها، وفمها وريقها، وأناملها ومعاصمها، كما وصفوا ثيابها وحليها، وطيبها ونعومتها، ولومها وعتابها، وحياءها وخجلها…
وقد تمثَّل امرؤ القيس جمال المرأة تمثُّلاً جمالياً، تتجسّدُ فيه الماديّة والحسيّة، واللَّذة، فهو لا يحبّ المرأة على غرار حبّ العذريين القائم على العفّة، وإنما حبّه رغبة عارضة ونشوة عابرة تتبعها نشوة أخرى.
تبدأُ صورة المرأة في المعلّقة بسرد وقائع يوم الغدير، التي يعبّرُ عنها الشاعر بنزعة مُجونيّة صارخة، مع أنّ النساء في هذا المشهد هنّ عذارى، فقال امرؤ القيس:
ويوم عقرتُ للعذاري مطيّتي فيا عجباً من كورها المُتحمَّلِ
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها وشحمٍ كهُدّاب الدِّمقس المُفتَّلِ
ويوم دخلْتُ الخدر خدر عنيزة فقالتْ لك الويلاتُ إنّك مُرجلي
تقولُ وقد مَالَ الغبيط بنا معاً عقرْتَ بعيري يا امرأ القيس فانزلِ
فقلْتُ لها سيري وأرخي زمامه ولا تُبعديني من جناكِ المُعلّلِ[31].
ولا شكّ أنّ من يتأمّل هذه الأبيات يلاحظ أنها تؤكِّدُ ما ورد في القصة من إشارات عن حادثة دارة جلجل. وتتضحُ المفارقة بين صورة المرأة في المشهد السابق، وصورتها في هذا المقطع، فالمرأة في الصورة السابقة غير عذراء؛ فهي (أمّ الحويرث، وأمّ الرباب)، أمّا هنا فهي عذراءُ بِكْرٌ، ويتجلّى ذلك من خلال تكرار كلمة(عذارى) في البيتين : الأول والثاني من المقطع؛ فعُنَيزةُ وصواحبُها عذارى.
والصورةُ هنا يعتمدُ البناءُ فيها على الطابع القصصيّ، والاتجاه القصصي في الشعر العربي ” قد ظهر أوّل ما ظهر عند عنترة العبسي، ثُمّ مع امرئ القيس الذي يحدّثنا في أشعاره عن بعض النواحي القصصية في علاقته مع عنيزة، أو حين يحدثنا عن يوم عقر الناقة للعذارى، أو عن مغامرته في دارة جلجل”[32]. وعناصر القصّة التي تجلّت بقوّة في حكاية دارة جلجل، عنصر الحوار، ونلاحظ بوضوح الحوار المزدوج والذي يتمثّل في الحوار الخارجي بين الشاعر وعنيزة ، وذلك من خلال الضمائر المتّصلة بالأفعال؛ إذ نسمع صوت الشاعر في(عقرتُ …، دخلتُ…، فقلتُ…)، وفي مقابل صوت الشاعر نسمعُ صوتَ عنيزة بنبرةِ عتابٍ ووعيد في (فقالتْ :لك الويلات…، عقرْتَ بعيري…، فانزل…)، ويدخل عنصر الزمان في بناء هذه الحكاية، والزمن لم يكن زمناً واحداً، إنّه أزمنة متعددة تتداخل لتؤدِّي وظيفةً فنّيّة ضمن الحاضر والماضي، ويتجلّى ذلك من التأكيد على الزمن الماضي بتكرار كلمة ” يوم ” الدالَّة على الماضي، وهذا البعد الزمني الذي يسترجع الشاعرُ صورةَ عنيزة والعذارى عبره بمثابة عودة للزمن إلى الوراء من ناحية، واستحضار لزمن ماضٍ من ناحية ثانية.
يضعنا الشاعر أمام صورةٍ احتفاليّةٍ تمُوجُ حركةً، وتنبضُ حياةً، في قوله: ” فظلّ العذارى يرتمين…”، فنرى في المشهد العذارى وهنّ مفعماتٌ بالفرح يترامين باللحم والشحم ويناولنَ بعضهنّ بعضاً بعد أن شبعنَ، ثُمّ تأمّل تشبيه الشحم بهدّاب الدمقس، إذ أنّ شرائح الشحم تشبه حواشي ثوب حرير أبيض، وذلك من جهة شكلها، ولمعانها وبياضها. وقوله: ” ولا تبعديني من جناك المعلل” يتضمّنُ استعارة تصريحة، حيثُ يصوِّرُ الشاعرُ عنيزةَ في صورة شجرةٍ ريّان آتتْ ثِمارَها؛ ولعلّ اقتران المرأة بالشجرة يحملُ دلالات وايحاءات، فتغدو المرأة رمزاً للخصوبة مليئة بالإخصاب والنماء والخير والنِتاج؛ لأنّ نتاج المرأة وثمارها ولدها، وولد الإنسان يُسمّى جنىً. وارتباط المرأة بالطبيعة يعني السيطرة على الطبيعة التي لا تتمُّ إلّا بالخصوبة، وفي ذلك يقول إحسان سيركس : ” في هذه البيئة الصحراوية- التي كلّ شيء فيها قابل للتغير- تظلُّ المرأة أكثر إخلاصاً للثبات خلال التغير. إنّها كالطبيعة التي تظلّ مخلصة للتاريخ وهي في الوقت نفسه رمزٌ للخصب والطمأنينة…”[33].
ثُمّ يعمد الشاعر إلى تصوير مغامرته العاطفيّة مع عنيزة في يوم (الخباء)، وفيها يعرض الشاعر صورة فنيّة رائعة فيها القدرة على بعث الماضي ومعايشته في الزمن الحاضر، وفي اللوحة تُقدّم عنيزة في علاقتها الغراميّة بالشاعر، والتي تتضمّن في دلالاتها وصيغتها التعبيريّة اللهو والمتعة، يقول الشاعر:
وبَيْضَةِ خدرٍ لا يُرامُ خباؤها تمّعتُ من لهوٍ بها غير مُعْـــــجَــــلِ
تجاوزْتُ أحراساً إليها ومعشراً عليَّ حراصاً لو يُسرُّون قتــــــــــلي
إذا ما الثريّا في السماء تعرّضتْ تعرُّضَ أثناء الوِشاح المُفصَّــــــــلِ
فجئْتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابها لدى السِتْرِ إلّا لبسة المُتفضّـــــلِ
فقالتْ: يمين الله ما لك حيلة وما إن أرى عنك الغَواية تنجــــلي
خرجْتُ بها أمشي تجُرُّ وراءنا على أثرينا ذيلَ مرْطٍ مرحَّــــــلِ
فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطنُ خبتٍ ذي حقاف عقنقـــلِ
هصرتُ بفودي رأسها فتمايلتْ عليَّ هضيم الكشحِ ريّا المخلخـــــــلِ[34]
يبدأُ الشاعر هذه المغامرة بعرض الصورة الحسيّة التي تجسِّدُ صفات المرأة التي يصبو إليها، ويتمتّع بها، فتظهرُ في اللوحة صورة استعاريّة أنيقة، عندما شبّه الشاعر المرأة بالبيضة، ومعنى الكلام: وربّ امرأةِ في خدرها كالبيضة، وهنا تشعُّ الاستعارة، فتصبح قادرةً على الإيحاء بدلالات متعدّدة، ومن خصائصها : ” أنّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتّى تخرج من الصَدَفة الواحدة عدّة من الدّررِ، وتجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر، فإنّك لترى بها الجماد حيّاً ناطقاً، والأعجم فصيحاً… والمعاني الخفيّة باديةً جليّةً”[35].
تبدو عنيزةُ وهي مستكنّةٌ في خدرها مصونةٌ لا تبرز للشمس، ولا تظهر للناس كأنّها بيضةٌ في صفاءِ لونها وملاستها، وصونها عن الكسر، وسلامتها ، وفي القرآن الكريم شبّهت الحور العين، بالبَيض المكنون، في قوله عزّ وجلّ : ” وعندهم قاصرات الطرف عين* كأنّهنَّ بَيْضٌ مَكْنُونُ”[36]. يقول القُرطبي في تفسير الآية : ” شُبِّهنَ ببَيض النعام تُكنُّها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيضٌ في صُفرة وهو حسْنُ ألوان النساء… والعرب تشبِّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها، وتقول العرب إذا وصفتِ الشيء بالحسن والنظافة ، كأنّه بيض النعام المغطّى بالريش، وقيل : المكنون المصون عن الكسر؛ أي إنّهنّ عذارى”. وأن تكون عنيزة في خباءٍ لايُرام دلالة على أنّها ذات عزٍّ وشرفٍ، بيْدَ أنّ الشاعر يصدمنا في الشطرالثاني( تمتّعتُ من لهْوٍ بها غير معجلِ)، بما فيه من إيحاءات جنسيّة نستشفُّها من التمتع بها واللهو معها، ولعلّنا لا نستغربُ هذه الجرأة في البوح عن المسكوت عنه في شعر امرئ القيس.
إنّ هذه الصورة المشرقة الناصعة هي صورةٌ للمرأة الفاتنة التي يركب الأهوال في سبيلها،” إنّ امرأةً بهذا الجمال الساحر، وبهذا اللهو البارع، امرأةٌ مرغوبةٌ ومطلوبةٌ، ولو تعرّضتْ حياة عاشقها للخطر، كلّ شيء من بلوغها مشروع، وكلّ شيءٍ في سبيلها يهون مهما كلّفت الوسائل، ومهما تعدّدت المخاطر، بل يبدو التعرُّض لهذه المخاطر إعلان حُبٍّ صارخٍ وشوقٍ جامحٍ لا يستكين”[37]؛ لذلك نرى الشاعر في سبيل الوصول إلى عنيزة وهي في خبائها يتجشّم المصائب، ويتخطّى أبواباً إليها، وأحراساً أشدّاء يضمرون له العداوة، ويحرصون على قتله.
يختار الشاعرُ زمن المغامرة في قوله :”إذا ما الثريّا في السماء تعرّضت…” ، فزمان مجيئه خباء عنيزة ليلاً، وقت تعرض الثريا ، وفي قت غفلة رقبائها، ولا يخفى علينا في المشهد الأضواء التي تسرّبت داخل الخباء من خللِ الوشاح المفصّل، وعنيزة بداخله، مما يوحي كأنّه مؤثِّراتٌ ضوئيّة في مشهد سينمائ.
والمخيّلة الشعرية تضعنا أمام مشهد مجيء الشاعر ووقوفه لدى باب الخباء ليرى عنيزةَ من خلال الستر الشفّاف المسدل على باب الخباء ، وهي قد تجهّزت للنوم ؛ فخلعت ثيابها وتفضّلت بلباسِ النوم، وعندئذٍ نسمع صوتَ عنيزة مستنكرة الأمر، وتقسم بالله قائلة: مالك حيلةٌ، أتجيء والناس أحوالي؟ فهي تخاف أن تُفتضح والناس حواليها.
نلاحظ أنّ الحوار ينقطع، والمشهدُ يتوقّف، فرغم تمنُّعها لاندري ما الذي جرى ، غير أنّنا نرى في المشهد التالي لُطف استجابة عنيزة لرغبة الشاعر ، ويتحوّل المشهد إلى صورة حركيّة صامتة ؛ ” فالشاعر يتحرّك إلى حيث الحرية والأمان، والمرأة تهيئ له ذلك بالتحرّك معه أوّلاً ، ثمّ التعفية على أثرهما ثانياً، وإن بدت إيجابيّة المرأة أكثر في عمليّة التعفية بتوالي المفردات التي تُضفي أهميّة خاصة على المنطقة التي وراءهما(تجرُّ- وراء- أثرينا- ذيل)”[38]. ولعلّ المرأة التي تجرُّ ذيل كساءٍ موشّى لتُعفِّي الأثر ضربٌ من التمويه لئلاّ يُستدلّ عليهما، ولم يكن هذا المشهدُ إلّا تمهيداً للقائهما في أرضٍ مطمئنّة لعب الخيال الشعري دوراً في تشكُّلها ، حيث أنها مكان يشعرا فيه بالأمن والحماية فيبدو أشبهَ بالرحم وهنا تتحول الأحداثُ إلي تجاوب ؛ فالشاعر يجذبها من جانبي رأسها، وهي بدورها تتمايل نحوه، ثم يضفي الشاعر على الصورة بعداً حسيّاً من خلال تصوير مفاتنها الحسية المتمثلة في خصرها الضامر وساقها الممتليء. وتمتدّ هذه الصورة الحسية إلي قوله:
مهفهفةٌ بيضاءُ غير مُفاضةٍ ترائبها مصقولة كالسجنجلِ
كبكر المُقاناة البياض بصُفرةٍ غذاها نميرُ الماءِ غيرُ المحلَّلِ
تَصُدُّ وتُبدي عن أسِيلٍ وتتَّقي بناظرةٍ من وَحْش وجْرةَ مُطفلِ
وجِيدٍ كجيد الرئْم ليس بفاحشٍ إذا هي نصّتْه ولا بمعطّلِ
وفرعٍ يَزِينُ المتن أسودَ فَاحِمٍ أثيثٍ كقِنْوِ النخلة المُتعثكلِ
وكَشْحٍ لطيفٍ كالجديل مخصَّرٍ وساقٍ كأنبوب السقيِّ المُذلَّلِ
وتُضحي فَتِيتُ المسك فوق فراشها نؤوم الضُحى لم تنتطق عن تفضُّلِ
وتَعْطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنّه أساريعُ ظبيٍ أو مساويكُ إسْحلِ
تضيءُ الظلام بالعشاء كأنّها منارةُ مُمْسى راهبٍ مُتَبتِّلِ
إلى مِثلها يرنو الحليمُ صبابةً إذا ما اسبكرَّرتْ بين درْعٍ ومِجولِ[39]
ما يستوقفُنا في هذه الأبيات التي صور فيها امرؤ القيس محبوبته أنّ الشاعر قد رسم لها صورة حسية محْضاً، ” وقد راح يقف عند كلّ عضوٍ منها، من فرعها إلى أطرافها؛ فيُعطينا صورةً للمثل الأعلى لكل عضو، ومن مجموع ذلك تتكوّن صورةُ المثل الأعلى للجسم كلِّه، ومن هنا كان الشاعر حسِّيّاً في تصوُّره للجمال ، وتصويره له على السواء”[40].
تُعدُّ هذه الأبيات – في رأينا- أروعَ ما قاله امرؤ القيس في الغزل ، وتأتي روعتها من تصويره المرأة بأنّها لطيفة الخصر، ضامرة البطن ، غير عظيمة البطن ولا مسترخية اللحم ، وفي ذلك تجسيد لقوامها، ثُمّ تشبيه موضع القِلادة من صدرها في بريق لونه وصفائه بالمرآة الفضيّة، والمدقّق الممعن في هذه الصورة سيكتشفُ أنّ مكمن جمالها في أنّ الشاعر استعمل المرآة ؛ لأنّ المرآة تُشكِّل للإنسان أقصى ما يمكن أنْ يرى ويشتهي من الجمال ، أضفْ إلى ذلك أنّ المشبّه والمشبّه به يشتركان في التماسك والبريق والبياض والتلألؤ”[41] ، وهذا التشبيه من ضرب تشبيه الشيء بالشيء لوناً،” والتشبيهات على ضروبٍ مختلفة، فمنها: تشبيه الشيء بالشيء صورةً وهيئةً، ومنها تشبيهه به معنىً، ومنها تشبيهه حركةً، وبطئاً وسرعةً، ومنها تشبيهه به لوناً، ومنها تشبيهه به صوتاً، وربّما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعضٍ…”[42].
وتتجلّى الصورة التشبيهية الرائعة حين تبدو المرأة بيضاء تشوب بياضها صفرة، وقد شبهها الشاعر بلون بيض النعام تخالط بياضها صُفرةٌ يسيرة، وهو أحسن لون النساء عند العرب، وهنا تلتقي المرأة مرةً أخرى بالبيضة صفاءً ونقاءً وطهراً وصوناً.
ويبدو الخدُّ ملمحاً جمالياً من خلال الصورة الحركيّة المتمثلة في الصدِّ والإبداء” التي تهيء له أن يكون مصدر إشارة للرجل فيفهم منها مقصود المرأة، وهذه الخاصيّة الإشارية حوّلت الصياغة لتأخذ طابعها الإشاري… بمعنى اختزال التعبير في أقلّ مساحة لغويّة”[43]. فالمعشوقة تظهر خدّاً أسيلاً كالوذيلة ناعماً، وعيناً كعيون ظباء وجرة جمالاً حين تنظر إلى أطفالها، ” وخصّهنّ لنظرهنّ إلى أولادهنّ بالعطف والشفقة وهي أحسن عيوناً في تلك الحال منهنّ في سائر الأحوال”[44]. ثم تقترن المرأة في مفاتنها الحسية بالظباء إذ شبّه الشاعر جيدها بجيد الظبي، وتحدث المفارقة بينهما في أنّ جيد المحبوبة حين ترفعه غير معطّل من حُلي الزينة.
وفي إطار تشكيل صورة المرأة ينقلنا الشاعر إلى تصوير شعرها، فهي امرأة ذات شعرٍ أسود شديد السواد يزِين متنها، ولعلّ في شدّة سواد الشعر دلالة على الخصوبة، ثم يعقد تشبيهاً بين كثافة الشعر، وقِنو النخلة المُثْقَلة بالثمار، فذوائبها وغدائرها المطلقة مثنىً تارةً ، ومرسلاً تارة أخرى تشبه عناقيد الثمار، وقد ” أضفى الشاعر على شعر المرأة طابعاً مركّباً… ويبدو واضحاً حرص امرئ القيس على أن يكون لهذا الشعر مواصفات خاصة تُهيء له نوعاً من التناسب مع بعض الأعضاء الأخرى المجاورة ؛ فشدّة السواد تُحدث تقابلاً ومفارقةً مع بياض الوجه وإشراقه ، كما أنّ خواص الشعر ذاتها تعتمد على هذا التقابل في انسيابه على الظهر من ناحية وارتفاعه إلى أعلى من ناحية أخرى”[45].
ومن خلال خلال الكناية الرشيقة في قوله:” وتضحي فتيت المسك…” يقدم الشاعر صورةً للمرأة التي تنعم بالدعة وطيب العيش ، فلا تعالج أمورها ؛ لأنّ لها من يخدمها.
ومن مفاتنها الجمالية نعومة كفِّها، ورقّة أناملها، وفي سبيل تشبيه نعومة ملمسها يُحيلها الشاعر إلى عناصر الطبيعة تمازجاً، فهي كأنّها أساريع ظبي أو مساويك إسحل. وهاهي تشعُّ ضياءً وإشراقاً، فتُبدِّدُ بنور وجهها ظلام الليل كأنّه مصباح راهب متعبّد أوقده ليهتدي به عند الظلام. إنّ امرأةً بهذه المحاسن والمفاتن الجمالية إذا رآها الحليم فقدَ حلمه ووقاره ، ونظر إليها شوقاً وصبابةً.
وأخيراً نلاحظ أنّ السمةً الأسلوبية الطاغية في صورة المرأة هي التشبيهات المتراصّة التي تلمع في ثنايا المقطع كأنها قطعٌ من بلُّورٍ وماس بياضاً وإشراقاً؛ ” فجيدُ صاحبته كجيد الظبية، وعيناها كعيني بقرةوحشية ترنو إلى صغيرها في حنان ورقَّة، وشعرها الطويل الغزير كعناقيد النخلة المتداخلة، وأناملها الناعمة البيضاء كديدان الرمال الليّنة…أو كأغصان الإسحل الملساء…”[46].
النتائج:
اقتضت هذه الدراسة التي عُقدتْ بعنوان” تجليات صورة الأطلال والمرأة …” القراءة الفنيّة للنصوص التي جسّدت مظهر الأطلال ، ومفاتن المرأة ، ومحاولة استكشاف الرؤية الشعرية لظاهرة الأطلال، وملامح جمال المرأة عن طريق سَبْر أغوار هذه النصوص. وقد توصّلت الدراسة إلى نتائج ، هي :
تعددت الصور الشعرية في المعلّقة بتعدد المواقف التي عبَّر عنها الشاعر، وأكثرها تجلياً: صورة الأطلال والمرأة.
جاءتْ صورة الأطلال مُعبِّرةً عن الشعور بمرارة البينِ، مُجسِّدةً حالة الشاعر الكئيبة، مُؤطَّرة بالحزن العميق.
تجلَّتْ في بناء صورة المرأة عناصرُ القصّة بقوّة، ونلاحظها بوضوحٍ في عنصر الحوار، والزمان والمكان.
لجأَ الشاعرُ إلى تصوير تجاربه العاطفيّة من خلال خلق صورة فنيّة رائعة تمتلك القدرة على استدعاء الماضي ومعايشته في الزمن الحاضر.
اتَّكأ الشاعر في تشكيل صورة الأطلال والمرأة- غالباً- علي التشبيهات الفنية التي تلمع كأنّها قطعٌ من بلّورٍ جمالاً وإشراقاً.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
1- ابن الأثير : المثل السائر، المطبعة البهيّة، القاهرة .
2- ابن سلام الجمحي : طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر ، دار المدني، جده .
3- ابن طباطبا العلوي : عيِار الشعر، تحقيق عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط2،2005م.
4- ابن قتيبة :الشعر والشعراء ، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف القاهرة،.
5- أبوزيد القرشي :جمهرة أشعار العرب ، ط1، المطبعة الخيرية ، مصر.
6- إحسان سيركس : مدخل إلى الأدب الجاهلي، دار الطليعة، بيروت،1979م،ط1.
7 – إحسان عباس : فنّ الشعر، دار الشروق،عمان، الأردن،1992م،ط5.
8- أحمد عثمان أحمد : المعلّقات دراسة أسلوبية،دار طيبة ، القاهرة ،2007م .
9- الأنباري :شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، دارالمعارف،القاهرة،ط5.
10- الحسن بن عبدالله العسكري : المصون في الأدب ، تحقيق عبدالسلام محمد هارون ، مطبعة حكومة الكويت ،1984م، ط2.
11- خلدون سعيد صبح : البنية الجمالية للتشبيه في معلقة امرئ القيس، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد(84)،ج2.
12- زكي مبارك : الموازنة بين الشعراء، دار الجيل، بيروت،1993م،ط1.
13- الزوزني : شرح المعلّقات السبع، لجنة التحقيق ، الدار العالمية، بيروت،1992م.
14- سامي سويدان : في النص الشعري العربي، مقاربات منهجيّة،دار الآداب، بيروت،1989م، ط1.
-15 شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي –العصر الجاهلي،ط ، دار المعارف، القاهرة.
16- عبد الإله الصائغ : دلالة المكان في قصيدة النثر،الأهالي للطباعة والنشر، دمشق 1999م، ط1.
17- عبد القاهر الجرجاني : أسرار البلاغة، تعليق أحمد مصطفى، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1939م،ط3.
18- عبدالله الغذامي : القصيدة والنص المضاد، المركز الثقافي العربي،1994م،ط1.
19- عزّة حسن : شعر الوقوف على الأطلال من الجاهلية إلى القرن الثالث ، دمشق، 1968 م.
20– عزالدين إسماعيل :الأسس الجمالية في النقد العربي،دار الفكر العربي،القاهرة،1992م.
21- عمر رضا كحّالة : معجم قبائل العرب ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1997م، ط8 . 22- غاستون باشلار : جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات،1984م،ط2.
23– القرطبي : الجامع لأحكام القرآن”تفسير القرطبي” ، تحقيق أحمد البردوني، إبراهيم أطفيس، دار الكتب المصرية، القاهرة، ، 1964م، ط2.
24- محمد عبد المطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ، الشركة المصرية العامة ، القاهرة، 1996م، ط1.
25- محمد عبدالمنعم خفاجى : الحياة الأدبية في العصر الجاهلي،دار الجيل، بيروت،1992م،ط1.
26- معاذالسرطاوي: دراسات في الأدب العربي، دار مجدلاوي، عمان، الاردن،1988م،ط1.
27- يوسف خليف : أوراق في الشعر ونقده ، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة .
[1] – شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي –العصر الجاهلي،ط ،دار المعارف،القاهرة،ص236.
[2] – ابن قتيبة :الشعر والشعراء،تحقيق أحمد محمد شاكر،دار المعارف القاهرة، ج1،ص125.
[3] – المصدر نفسه، ج1،ص114.
[4] – أبوزيد القرشي :جمهرة أشعار العرب،ط1،المطبعة الخيرية،مصر،ص87.
[5] – ابن قتيبة : الشعر والشعراء،ج1،ص115.
[6] – المصدر نفسه، ج1، ص
[7] – شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي ، ص236.
[8] – المصدر نفسه ، ص236.
[9] – عمر رضا كحّالة : معجم قبائل العرب، مؤسسة الرسالة،بيروت 1997م،ط8، ج3، ص 998.
[10] – ابن سلام الجمحي : طبقات فحول الشعراء، ص 16.
[11] – المصدر نفسه، ص15.
[12] – ابن قتيبة : الشعر والشعراء، ج1،ص105.
[13] – الحسن بن عبدالله العسكري : المصون في الأدب، تحقيق عبدالسلام محمد هارون ، مطبعة حكومة الكويت،1984م، ط2،ص26.
[14] – عز الدين إسماعيل : الأسس الجمالية في النقد العربي،دار الفكر العربي،القاهرة،1992م،ص309.
[15] – الأنباري :شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، دارالمعارف،القاهرة،ط5،ص13-15.
[16] – الزوزني : شرح المعلّقات السبع، لجنة التحقيق ، الدار العالمية، بيروت،1992م،ص16-18.
[17] – محمد عبدالمنعم خفاجى : الحياة الأدبية في العصر الجاهلي،دار الجيل،بيروت،1992م،ط1،ص285.
[18] – زكي مبارك : الموازنة بين الشعراء،دار الجيل،بيروت،1993م،ط1،ص63.
[19] – الزوزني : شرح المعلّقات السبع، ص13-16.
[20] – عبد الإله الصائغ : دلالة المكان في قصيدة النثر، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق 1999م، ط1، ص38.
[21] – غاستون باشلار : جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات،1984م،ط2،ص37-38.
[22] – عزّة حسن : شعر الوقوف على الأطلال من الجاهلية إلى القرن الثالث ، دمشق،1968م،ص62-63.
[23] – إحسان عباس : فنّ الشعر، دار الشروق،عمان، الأردن،1992م،ط5،ص200.
[24] – عزة حسن : شعر الوقوف على الأطلال،ص53.
[25] – أحمد عثمان أحمد : المعلّقات دراسة أسلوبية،دار طيبة ، القاهرة ،2007م ، ص262.
[26] – ابن الأثير : المثل السائر، المطبعة البهيّة، القاهرة ، ج1 ، ص394.
[27] – شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي، ص249.
[28] – عبد الغذامي : القصيدة والنص المضاد، المركز الثقافي العربي،1994م،ط1،ص36.
[29] – الزوزني : شرح المعلقات السبع،ص16.
[30] – أحمد عثمان أحمد : المعلقات دراسة أسلوبية،ص264.
[31] – الزوزني : شرح المعلقات السبع،ص16-18.
[32] – معاذ السرطاوي : دراسات في الأدب العربي،دار مجدلاوي، عمان، الاردن،1988م،ط1،ص143.
[33] – إحسان سيركس : مدخل إلى الأدب الجاهلي، دار الطليعة، بيروت،1979م،ط1،ص230.
[34] – الزوزني : شرح المعلّقات السبع،ص21-24.
[35] – عبد القاهر الجرجاني : أسرار البلاغة، تعليق أحمد مصطفى، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1939م،ط3،ص86-87.
[36] – سورة الصافات : الآية 48-49.
[37] – سامي سويدان : في النص الشعري العربي،مقاربات منهجيّة، دار الآداب،بيروت،1989م،ط1،ص309.
[38] – محمد عبد المطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ، الشركة المصرية العامة ، القاهرة، 1996م، ط1، ص121.
[39] – الزوزني : شرح المعلقات السبع ، ص 24- 28.
[40] – عزالدين إسماعيل : الأسس الجمالية للنقد العربي ،ص111.
[41] – خلدون سعيد صبح : البنية الجمالية للتشبيه في معلقة امرئ القيس،مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق،مجلد(84)،ج2،ص453.
[42] – ابن طباطبا العلوي : عيِار الشعر، تحقيق عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2 ،2005م، ص23.
[43] – محمد عبد المطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ،ص139.
[44] – الزوزني : شرح المعلقات السبع، ص25.
[45] – محمد عبد المِطلب : قراءة ثانية في شعر امرئ القيس ،ص137.
[46] – يوسف خليف : أوراق في الشعر ونقده ، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة ، ص72.
* د. عبد الرحمن فضل أحمد طه
أستاذ الأدب والنقد المساعد/جامعة الفاشر/ كليّة الآداب/ السودان
** مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 36 الصفحة 09.