«في هذا الفجر النعمة هي أن تكون حيًا
لكن أن تكون شابًا فهذه هي الجنة بعينها».
هكذا وصف الشاعر الإنجليزي الرومانتيكي وردزورث عاصفة الباستيل وثورة الحرية والمساواة والإخاء الفرنسية في الرابع عشر من يوليو سنة 1789. قطيعة مع الماضي، منحت الحرية للكل بالتساوي، صار كل فرد مواطنًا، والغناء من حق الجميع. لكن، كالعادة، لا يدوم الفرح طويلًا؛ إذْ انفجر كرنڤال الدم خارج الحدود الفرنسية للتوسع في الثورة، وفي الداخل حيث ابتكر طبيب اليعاقبة المبجل چوزيف چيلوتين المقصلةَ؛ آلة القتل السريعة والمضمونة، كما يقول هو نفسه، والتي حملت اسمه: الچيلوتين. سيكشف التاريخ فيما بعد أن جثث المخالفين للنظام الجديد ذهبت من ساحة الإعدام بدون رؤوسها، إلى دروس التشريح. مثل الكثيرين، رفض وردزورث انحراف الثورة، لكنه، مثل الكثيرين أيضًا، لم يفقد إيمانه بأن العالم لن يكون كما كان أبدًا.
في القرن التاسع عشر انفجرت ثورتان: الثورة الصناعية في إنجلترا وثورة الحرية والمساواة في فرنسا. الكهرباء في الشوارع، والقطارات تدور بالفحم في البر، والسفن الثقيلة في البحر، والمصانع السلاح الكبيرة، وأحياء العمال في ليڤربول، وموانيء جديدة، وأمراض جديدة. ضغوط هائلة تستدعي طبًا جديدًا، لم يكن هو نفسه يستطيع أن يهرب من مسيرة العلم: بيكون، وهارڤي، وجاليليو، وديكارت، ونيوتن؛ علم جديد تمامًا، نشره عصر التنوير، وعلى عصر الثورة أن يحوله من خيال في الكتب إلى واقع معاش ومحسوس وملموس. استفاد الطب بشكل مباشر وغير مباشر من هذا التحول الدرامي في الواقع: لا طب دون فسيولوجيا وكيمياء، أو على الطب أن يتحول من صنعة أو فن إلى علم صارم ودقيق. ما هو بالضبط أو كيف يتحقق على الأرض، لم يكن هناك اتفاق، لكن الرصاصة الذهبية انطلقت، وأصابت الهدف.
اُنتزعت في فرنسا المستشفيات من الكنيسة، وتضاعف عددها، وتضاعف عدد الأسرة المتاحة للمرضى إلى عشرين ألف سرير في مستشفيات باريس وحدها، وهو ما يفوق عدد الأسرة المتاحة في عموم إنجلترا. امتلأت المستشفيات بالمرضى، ورفعت المستشفيات الفرنسية شعارًا جديدًا: «اقرأ قليلًا، ناظر كثيرًا»، وافعل أكثر. ظهر ما يعرف بالطب السريري-التشريحي، أي العمل يوميًا إلى جوار سرير المريض، ثم فحص الموتى منهم تشريحيًا من أجل تعميق فهمنا لطبيعة المرض وسبب الوفاة، وأصبحت مستشفيات فرنسا قبلة التدريب العملي للأطباء من كل بلدان أوروبا. وفي الوقت نفسه ولد المختبر، ووضع كلود برنار أسس علم الفسيولوجيا، والعلم التجريبي، وأسس علم الأنسجة، واكتشف الألماني فيرشوڤ الخلية وأسس علم الأمرض (باثولوجي)، ثم اكتشفت البكتريا والفيروسات. انفتح عالم الكائنات الدقيقة، وتحققت صوفية باراسيلسوس في دراسة الكون الصغير في الواقع وفي المعمل، عبر خيال لا يخلو من الدافع الأخلاقي للارتقاء بالاستخدام الأمثل للعقل والتفكير المنطقي كما وصفه اسبينوزا في فلسفته عن الأخلاق، ولا يخلوا أيضًا من رومانسية الموت المبكر للمستكشفين الجدد، عالم شجاع، ليس جديدًا تمامًا بعد، يحرر مرضى العقل من السلاسل، يكتب تاريخًا جديدًا للجنون، من التشريح الأدبي للملنخوليا، إلى التجريب في السيكولوجيا، وتشريح الجهاز العصبي (نيورولوجي). قطيعة، تبدو، كاملة مع الطب الرومانسي الذي يؤمن بأن الطبيعة خيرة، وأن دور الطبيب هو مساعدة الطبيعة في استعادة قوتها الخيرة ومنح الشفاء. أصبح الطب علميًا في التشخيص، وفهم طبيعة الأمراض لكنه كان ما يزال يعاني قصورًا لا يستهان به في الوسائل المتاحة للعلاج.
إذن ولدت العيادة وتكاثرت المستشفيات وأسرة المرضى، لقد انعكست الرحلة، وتحول الطبيب من جوال يحمل حقيبة أدواته ويذهب إلى مرضاه في البيوت إلى محترف يجلس في عيادته ينتظر مرضاه. وفي الوقت نفسه تخلصت لغة الطب في القرن التاسع عشر – وكنتيجة مباشرة للاحترافية المتزايدة في العلم والمهنة – من اللغة المتوافق عليها والمفهومة من قبل الجميع، وواصل الطب رحلته الداخلية في كهف الإنسان – ذلك المجهول – جسدًا وروحًا. أصبح الإنسان «موضوعًا» للفعل الطبي، مفعولًا به، انتقل من مركز الفعل إلى هامشه، في تبادل مبهم للمواقع، كأن ما يحدث له لا يخصه، وليس مطلوبًا منه أن يفهمه. تحول المريض من إنسان إلى «حالة» في حديث الأطباء، وإلى «رقم» يطبع على ملفه في المستشفى الكبير. لكن حملة المشاعل المتفائلين، لا ينظرون إلا لنصف الكوب الممتلئ دائمًا. يتناسون أو يتجاهلون أن لكل ثورة ضحاياها، وأن لكل قمر جانبه المظلم. أصبحت أشد مخاوف الرومانسيين من الطب والأطباء حقيقة واقعية، لا يراها إلا صاحب قلب سليم، وحس مرهف مثل الطبيب الشاب جورج بوشنر (1813-1837) في مسرحيته التي مات وتركها ناقصة «ڤويتسوك» (1837).
يمثل بوشنر حالة خاصة في تاريخ الأدب والطب معًا؛ فهو ينتمي من جهة إلى أدباء المنفى – ولد في ألمانيا، ولأنه ثوري واشتراكي مطارد من قبل السلطات، درس الطب في ستراسبورغ، وتوفي في الرابعة والعشرين من عمره في زيورخ كضحية لمرض التيفود – ومن جهة أخرى ينتمي مثل جوستاف فلوبير (1821-1880) إلى أبناء الأطباء حيث كان والده جراحًا في جيوش نابليون، ثم طبيبًا في دامشتاد. تدور مسرحية بوشنر الأخيرة هذه حول العسكري جون كريستيان ڤويتسوك الذي ارتكب جريمة قتل بدافع الغيرة وحكم عليه بالإعدام. تستند المسرحية إلى قصة حقيقة، نشرت وقائعها في المجلة الطبية التي كان والد بوشنر مشتركًا فيها، واطلع عليها جورج، وأضاف لها تجربة طبية عرفت باسم «تجربة لب البازلاء» وهي تجربة أجراها في الواقع أحد الكيمائيين في جامعة جيسن، والتي يجبر فيها الجنود على أكل البازلاء فقط لمدة ثلاثة أشهر. النتائج تشير إلى إصابة الإنسان بنوع من الهلاوس، وضمور العضلات، وعدم القدرة على التحكم في عضلة التبول وهو ما جرى للعسكري ڤويتسوك في النص المسرحي. المسرحية في مجملها نقد عنيف للاستبداد الذي يتلاعب بالفقراء والمعدمين، ولمنظومة الطب الجديدة التي تحول البشر إلى فئران تجارب.
بوشنر نفسه يمثل حالة قياسية للقرن التاسع عشر: طبيب ثوري لم ينج من الولع الجديد بالتجريب وفهم الجهاز العصبي (كانت أطروحته للدكتوراة عن تشريح الجهاز العصبي لأسماك الباريا) ولم تنقصه الفلسفة أيضًا؛ إذْ كانت أطروحته في الفلسفة عن شاعر حركة الاندفاع والعاصفة جاكوب لينتس، ومات بعد أيام معدودة من تسلمه العمل كأستاذ للفلسفة بجامعة زيورخ. كسر ڤيتسوك قواعد الدراما الأرسطية، وجعل من الفقير المعدم بطلًا دراميًا، وعند تتبع تطور المسرح الحديث يمكن القول إن ڤويتسك هي أهم دراما مسرحية في القرن التاسع عشر، نُسيت طويلًا ثم استعادها الطبيعيون، والتعبيريون، والمسرح الملحمي والوثائقي. كان بوشنر المسرحي مقدمة ضرورية لإبسن، وتشيكوف، وسترانيندبرج، وبريخت، وعُرِضَت مسرحيته هذه مئات المرات على مسارح الدنيا، وتحولت إلى أوبرا أيضًا، وأصبحت ركنًا أساسيًا في أي دراسة تعنى بموضع الجنون في الأدب. ولم يفت نقاد الأدب وعلماء النفس أن يطرحوا السؤال البديهي: هل كان بوشنر قلقًا على مستقبل البشر؟ أم مريضًا بـ«فرط الجنون» حسب رؤية ابن سينا لمرض «الفصام»؟ (بأثر رجعي وقبل صياغة المصطلح نفسه «شيزوفرنيا» على يد السويسري إيوچين بلولر في مطلع القرن العشرين)؟
إذن، في مطلع القرن جاء الطبيب بوشنر برؤية جديدة للأدب ولوضع الإنسان في الدراما، ثم جاء فلوبير ابن الطبيب، والذي تربى بين البيت وقاعة التشريح والمشفى، في منتصف القرن، برؤية جديدة للأسلوب الروائي، ولموضع الروائي في عملية الكتابة نفسها، ولضرورة امتلاكه لما أطلق عليه «المنظور الإكلينيكي» (clinical gaze)، والذي يعني أن يمتلك الروائي معرفة دقيقة وكلية بشخوصه، وفي الوقت نفسه لا يتورط عاطفيًا مع هذه الشخوص، تمامًا كما يفعل الطبيب مع المريض. لم يكن بإمكان فلوبير الوصول إلى هذا المنظور قبل ثورة الطب الإكلينيكي في النصف قرن الذي سبق كتابته لمدام بوڤاري، ولم يكن بإمكانه أن يصل إلى هذه الرؤية بدون التربية العاطفية في بيت مليء بالأطباء.
يتمثل التطبيق النموذجي لقاعدة المنظورالإكلينيكي هذه في «ميدلمارش: دراسة في حياة الريف» (1871/1872) لصاحبتها ماري-آن إيڤانز المعروفة أدبيا بـ«جورج إليوت». «ميدلمارش» تحفة الأدب الإنجليزي في وصف الحياة في الريف، كما يوضح العنوان الفرعي للرواية نفسها. هنا نسجل الظهور الثاني لطبيب الريف في الرواية، لكن وفق رؤية أخلاقية اسبينوزية بامتياز: طبيب طموح، من أصل طيب، فقير لا يطمح للمال بل لاكتشاف تشريحي جديد يخلد به اسمه مثل بيشا، أو أن يكون قديسًا مكرسًا نفسه للوقاية من الأمراض مثل إدوارد جينر مكتشف التطعيم ضد الجدري. ومن أجل هذه الغاية ينتقل باختياره من المدينة إلى القرية، من أجل العمل منعزلًا عن السلطة المتكبرة للأطباء الكبار. لا تعنينا كثيرًا النهاية الحزينة والمنطقية للطموح، لكن تعنينا الخلفية الطبية العظيمة للكاتبة التي تدرك الفارق الدقيق بين الطب الإكلينيكي الفرنسي، والطب الإنجليزي الذي يفضًل الأكاديميا على سرير المريض. الثقافة الموسوعية والجهد المعرفي للروائية واضح تمامًا، لكنّ التحول العميق، والفاعلية الحقيقية في الواقع اليومي المعيش لمؤسسة الطب الحديثة، والصورة الأخلاقية الجديدة تمامًا للأطباء، فرضت نفسها بالضرورة على إليوت، يضاف إلى ذلك ارتباطها بشريكها في الحياة چورچ هنري لويس، الذي لم يكن طبيبًا لكنه كان مولعًا بالعلم، وبالفسيولوجيا الجديدة وقتها على وجه التحديد، وله اقتراحات عديدة في وظيفة الأعصاب التي رأى أنها جميعًا متشابهة من حيث التركيب، لكنها تختلف باختلاف الوظيفة التي يؤديها العضو الطرفي المتصل بالدماغ، وهو ما صار مقبولًا من علماء الفسيولوجيا في ذلك الوقت. لا نستطيع أن نفهم «ميدلمارش» دون الإحاطة بهذه الروافد الفلسفية (تَرجمتْ جورج اليوت «أخلاق» اسبينوزا إلى الإنجليزية، لكن الترجمة لم تنشر إلا بعد سنوات من «ميدلمارش») والطبية التي أحاطت بالشخوص، وبالوصف الدقيق للحياة في الريف الإنجليزي في القرن التاسع عشر.
في الوقت الذي خرجت فيه «ميدلمارش» إلى النور، كان الفرنسي إميل زولا يكتب سلسلته الروائية «روجون ماكار» (Rougon Maquart) وبعنوان فرعي أيضًا: «التاريخ الطبيعي والاجتماعي لأسرة تحت حكم الإمبراطورية الثانية». يتألف العمل الكبير من عشرين رواية على غرار الكوميديا الإنسانية لبلزاك، ويؤسس لما يعرف بالطبيعية في الأدب. يبين زولا أن القصد من الرواية الطبيعية أن تكون «تجريبية» بالمعنى المحدد الذي شرحه كلود برنار مؤسس علم الفسيولوجيا في كتابه: «مقدمة في الطب التجريبي». وإذا كانت تجارب كلود برنار في الفسيولوجيا، فإن تجارب الطبيعيين ستكون في السيكولوجيا والدور الذي تؤديه البيئة الطبيعية أو الوسط الاجتماعي في تشكل الأفراد عبر المراقبة النزيهة للعالم والتحليل التجريبي للنفس البشرية. لم تكن فسيولوجيا كلود برنار التجريبية الرافد الوحيد في الرواية الطبيعية، فقد مثل بروسبير لوكا طبيب الأمراض العقلية بمستشفى بيكاتر بباريس رافدًا لا يقل أهمية عن كلود برنار بعمله الأساس: «دراسة فلسفية وفسيولوجية في الوراثة الطبيعية»، وهي الدراسة التي ذكرها زولا بنفسه كمرجع اعتمد عليه في بناء هذه السلسلة الطويلة من الروايات التي تبدأ بزواج ادليد روجون المولودة بإعاقة عقلية من موكار الذي لا يعاني من إعاقات جسدية واضحة. يكتب زولا لناشره: هذه رواية ترصد العلاقة بين روابط الدم والبيئة المحيطة، من أجل دراسة الحياة في ظل الإمبراطورية الثانية من البداية وحتى اللحظة الراهنة. وطوال الروايات العشرين يحافظ زولا بصرامة على توارث الإعاقة وتأثيرها على مسيرة ومصير الأفرع الثلاثة لهذا الزواج.
المؤكد أن هذه الروايات ليس كل ما أنتجه القرن التاسع عشر في مجال الرواية، لكنها الروايات الأساسية والمؤسسة في عصر الثورة ذاك، وبالنسبة لنا، فهي ليست علامات في علاقة بين الطب والأدب، بل محطات حقيقة لـ«الطب في الأدب».
في نهاية القرن ظهرت رواية الخيال العلمي، لكن رواية الخيال الطبي تأخرت مائة عام، قصيرة في عمر الزمن، طويلة في عمر الفن والأدب. فكيف رد أنصاف الآلهة الجدد الجميل، وهل ظلت العلاقة كما هي في القرن العشرين الطويل، أم أنها بطريقة ما، تغيرت؟
إبراهيم بجلاتي
لكن أن تكون شابًا فهذه هي الجنة بعينها».
هكذا وصف الشاعر الإنجليزي الرومانتيكي وردزورث عاصفة الباستيل وثورة الحرية والمساواة والإخاء الفرنسية في الرابع عشر من يوليو سنة 1789. قطيعة مع الماضي، منحت الحرية للكل بالتساوي، صار كل فرد مواطنًا، والغناء من حق الجميع. لكن، كالعادة، لا يدوم الفرح طويلًا؛ إذْ انفجر كرنڤال الدم خارج الحدود الفرنسية للتوسع في الثورة، وفي الداخل حيث ابتكر طبيب اليعاقبة المبجل چوزيف چيلوتين المقصلةَ؛ آلة القتل السريعة والمضمونة، كما يقول هو نفسه، والتي حملت اسمه: الچيلوتين. سيكشف التاريخ فيما بعد أن جثث المخالفين للنظام الجديد ذهبت من ساحة الإعدام بدون رؤوسها، إلى دروس التشريح. مثل الكثيرين، رفض وردزورث انحراف الثورة، لكنه، مثل الكثيرين أيضًا، لم يفقد إيمانه بأن العالم لن يكون كما كان أبدًا.
في القرن التاسع عشر انفجرت ثورتان: الثورة الصناعية في إنجلترا وثورة الحرية والمساواة في فرنسا. الكهرباء في الشوارع، والقطارات تدور بالفحم في البر، والسفن الثقيلة في البحر، والمصانع السلاح الكبيرة، وأحياء العمال في ليڤربول، وموانيء جديدة، وأمراض جديدة. ضغوط هائلة تستدعي طبًا جديدًا، لم يكن هو نفسه يستطيع أن يهرب من مسيرة العلم: بيكون، وهارڤي، وجاليليو، وديكارت، ونيوتن؛ علم جديد تمامًا، نشره عصر التنوير، وعلى عصر الثورة أن يحوله من خيال في الكتب إلى واقع معاش ومحسوس وملموس. استفاد الطب بشكل مباشر وغير مباشر من هذا التحول الدرامي في الواقع: لا طب دون فسيولوجيا وكيمياء، أو على الطب أن يتحول من صنعة أو فن إلى علم صارم ودقيق. ما هو بالضبط أو كيف يتحقق على الأرض، لم يكن هناك اتفاق، لكن الرصاصة الذهبية انطلقت، وأصابت الهدف.
اُنتزعت في فرنسا المستشفيات من الكنيسة، وتضاعف عددها، وتضاعف عدد الأسرة المتاحة للمرضى إلى عشرين ألف سرير في مستشفيات باريس وحدها، وهو ما يفوق عدد الأسرة المتاحة في عموم إنجلترا. امتلأت المستشفيات بالمرضى، ورفعت المستشفيات الفرنسية شعارًا جديدًا: «اقرأ قليلًا، ناظر كثيرًا»، وافعل أكثر. ظهر ما يعرف بالطب السريري-التشريحي، أي العمل يوميًا إلى جوار سرير المريض، ثم فحص الموتى منهم تشريحيًا من أجل تعميق فهمنا لطبيعة المرض وسبب الوفاة، وأصبحت مستشفيات فرنسا قبلة التدريب العملي للأطباء من كل بلدان أوروبا. وفي الوقت نفسه ولد المختبر، ووضع كلود برنار أسس علم الفسيولوجيا، والعلم التجريبي، وأسس علم الأنسجة، واكتشف الألماني فيرشوڤ الخلية وأسس علم الأمرض (باثولوجي)، ثم اكتشفت البكتريا والفيروسات. انفتح عالم الكائنات الدقيقة، وتحققت صوفية باراسيلسوس في دراسة الكون الصغير في الواقع وفي المعمل، عبر خيال لا يخلو من الدافع الأخلاقي للارتقاء بالاستخدام الأمثل للعقل والتفكير المنطقي كما وصفه اسبينوزا في فلسفته عن الأخلاق، ولا يخلوا أيضًا من رومانسية الموت المبكر للمستكشفين الجدد، عالم شجاع، ليس جديدًا تمامًا بعد، يحرر مرضى العقل من السلاسل، يكتب تاريخًا جديدًا للجنون، من التشريح الأدبي للملنخوليا، إلى التجريب في السيكولوجيا، وتشريح الجهاز العصبي (نيورولوجي). قطيعة، تبدو، كاملة مع الطب الرومانسي الذي يؤمن بأن الطبيعة خيرة، وأن دور الطبيب هو مساعدة الطبيعة في استعادة قوتها الخيرة ومنح الشفاء. أصبح الطب علميًا في التشخيص، وفهم طبيعة الأمراض لكنه كان ما يزال يعاني قصورًا لا يستهان به في الوسائل المتاحة للعلاج.
إذن ولدت العيادة وتكاثرت المستشفيات وأسرة المرضى، لقد انعكست الرحلة، وتحول الطبيب من جوال يحمل حقيبة أدواته ويذهب إلى مرضاه في البيوت إلى محترف يجلس في عيادته ينتظر مرضاه. وفي الوقت نفسه تخلصت لغة الطب في القرن التاسع عشر – وكنتيجة مباشرة للاحترافية المتزايدة في العلم والمهنة – من اللغة المتوافق عليها والمفهومة من قبل الجميع، وواصل الطب رحلته الداخلية في كهف الإنسان – ذلك المجهول – جسدًا وروحًا. أصبح الإنسان «موضوعًا» للفعل الطبي، مفعولًا به، انتقل من مركز الفعل إلى هامشه، في تبادل مبهم للمواقع، كأن ما يحدث له لا يخصه، وليس مطلوبًا منه أن يفهمه. تحول المريض من إنسان إلى «حالة» في حديث الأطباء، وإلى «رقم» يطبع على ملفه في المستشفى الكبير. لكن حملة المشاعل المتفائلين، لا ينظرون إلا لنصف الكوب الممتلئ دائمًا. يتناسون أو يتجاهلون أن لكل ثورة ضحاياها، وأن لكل قمر جانبه المظلم. أصبحت أشد مخاوف الرومانسيين من الطب والأطباء حقيقة واقعية، لا يراها إلا صاحب قلب سليم، وحس مرهف مثل الطبيب الشاب جورج بوشنر (1813-1837) في مسرحيته التي مات وتركها ناقصة «ڤويتسوك» (1837).
يمثل بوشنر حالة خاصة في تاريخ الأدب والطب معًا؛ فهو ينتمي من جهة إلى أدباء المنفى – ولد في ألمانيا، ولأنه ثوري واشتراكي مطارد من قبل السلطات، درس الطب في ستراسبورغ، وتوفي في الرابعة والعشرين من عمره في زيورخ كضحية لمرض التيفود – ومن جهة أخرى ينتمي مثل جوستاف فلوبير (1821-1880) إلى أبناء الأطباء حيث كان والده جراحًا في جيوش نابليون، ثم طبيبًا في دامشتاد. تدور مسرحية بوشنر الأخيرة هذه حول العسكري جون كريستيان ڤويتسوك الذي ارتكب جريمة قتل بدافع الغيرة وحكم عليه بالإعدام. تستند المسرحية إلى قصة حقيقة، نشرت وقائعها في المجلة الطبية التي كان والد بوشنر مشتركًا فيها، واطلع عليها جورج، وأضاف لها تجربة طبية عرفت باسم «تجربة لب البازلاء» وهي تجربة أجراها في الواقع أحد الكيمائيين في جامعة جيسن، والتي يجبر فيها الجنود على أكل البازلاء فقط لمدة ثلاثة أشهر. النتائج تشير إلى إصابة الإنسان بنوع من الهلاوس، وضمور العضلات، وعدم القدرة على التحكم في عضلة التبول وهو ما جرى للعسكري ڤويتسوك في النص المسرحي. المسرحية في مجملها نقد عنيف للاستبداد الذي يتلاعب بالفقراء والمعدمين، ولمنظومة الطب الجديدة التي تحول البشر إلى فئران تجارب.
بوشنر نفسه يمثل حالة قياسية للقرن التاسع عشر: طبيب ثوري لم ينج من الولع الجديد بالتجريب وفهم الجهاز العصبي (كانت أطروحته للدكتوراة عن تشريح الجهاز العصبي لأسماك الباريا) ولم تنقصه الفلسفة أيضًا؛ إذْ كانت أطروحته في الفلسفة عن شاعر حركة الاندفاع والعاصفة جاكوب لينتس، ومات بعد أيام معدودة من تسلمه العمل كأستاذ للفلسفة بجامعة زيورخ. كسر ڤيتسوك قواعد الدراما الأرسطية، وجعل من الفقير المعدم بطلًا دراميًا، وعند تتبع تطور المسرح الحديث يمكن القول إن ڤويتسك هي أهم دراما مسرحية في القرن التاسع عشر، نُسيت طويلًا ثم استعادها الطبيعيون، والتعبيريون، والمسرح الملحمي والوثائقي. كان بوشنر المسرحي مقدمة ضرورية لإبسن، وتشيكوف، وسترانيندبرج، وبريخت، وعُرِضَت مسرحيته هذه مئات المرات على مسارح الدنيا، وتحولت إلى أوبرا أيضًا، وأصبحت ركنًا أساسيًا في أي دراسة تعنى بموضع الجنون في الأدب. ولم يفت نقاد الأدب وعلماء النفس أن يطرحوا السؤال البديهي: هل كان بوشنر قلقًا على مستقبل البشر؟ أم مريضًا بـ«فرط الجنون» حسب رؤية ابن سينا لمرض «الفصام»؟ (بأثر رجعي وقبل صياغة المصطلح نفسه «شيزوفرنيا» على يد السويسري إيوچين بلولر في مطلع القرن العشرين)؟
إذن، في مطلع القرن جاء الطبيب بوشنر برؤية جديدة للأدب ولوضع الإنسان في الدراما، ثم جاء فلوبير ابن الطبيب، والذي تربى بين البيت وقاعة التشريح والمشفى، في منتصف القرن، برؤية جديدة للأسلوب الروائي، ولموضع الروائي في عملية الكتابة نفسها، ولضرورة امتلاكه لما أطلق عليه «المنظور الإكلينيكي» (clinical gaze)، والذي يعني أن يمتلك الروائي معرفة دقيقة وكلية بشخوصه، وفي الوقت نفسه لا يتورط عاطفيًا مع هذه الشخوص، تمامًا كما يفعل الطبيب مع المريض. لم يكن بإمكان فلوبير الوصول إلى هذا المنظور قبل ثورة الطب الإكلينيكي في النصف قرن الذي سبق كتابته لمدام بوڤاري، ولم يكن بإمكانه أن يصل إلى هذه الرؤية بدون التربية العاطفية في بيت مليء بالأطباء.
يتمثل التطبيق النموذجي لقاعدة المنظورالإكلينيكي هذه في «ميدلمارش: دراسة في حياة الريف» (1871/1872) لصاحبتها ماري-آن إيڤانز المعروفة أدبيا بـ«جورج إليوت». «ميدلمارش» تحفة الأدب الإنجليزي في وصف الحياة في الريف، كما يوضح العنوان الفرعي للرواية نفسها. هنا نسجل الظهور الثاني لطبيب الريف في الرواية، لكن وفق رؤية أخلاقية اسبينوزية بامتياز: طبيب طموح، من أصل طيب، فقير لا يطمح للمال بل لاكتشاف تشريحي جديد يخلد به اسمه مثل بيشا، أو أن يكون قديسًا مكرسًا نفسه للوقاية من الأمراض مثل إدوارد جينر مكتشف التطعيم ضد الجدري. ومن أجل هذه الغاية ينتقل باختياره من المدينة إلى القرية، من أجل العمل منعزلًا عن السلطة المتكبرة للأطباء الكبار. لا تعنينا كثيرًا النهاية الحزينة والمنطقية للطموح، لكن تعنينا الخلفية الطبية العظيمة للكاتبة التي تدرك الفارق الدقيق بين الطب الإكلينيكي الفرنسي، والطب الإنجليزي الذي يفضًل الأكاديميا على سرير المريض. الثقافة الموسوعية والجهد المعرفي للروائية واضح تمامًا، لكنّ التحول العميق، والفاعلية الحقيقية في الواقع اليومي المعيش لمؤسسة الطب الحديثة، والصورة الأخلاقية الجديدة تمامًا للأطباء، فرضت نفسها بالضرورة على إليوت، يضاف إلى ذلك ارتباطها بشريكها في الحياة چورچ هنري لويس، الذي لم يكن طبيبًا لكنه كان مولعًا بالعلم، وبالفسيولوجيا الجديدة وقتها على وجه التحديد، وله اقتراحات عديدة في وظيفة الأعصاب التي رأى أنها جميعًا متشابهة من حيث التركيب، لكنها تختلف باختلاف الوظيفة التي يؤديها العضو الطرفي المتصل بالدماغ، وهو ما صار مقبولًا من علماء الفسيولوجيا في ذلك الوقت. لا نستطيع أن نفهم «ميدلمارش» دون الإحاطة بهذه الروافد الفلسفية (تَرجمتْ جورج اليوت «أخلاق» اسبينوزا إلى الإنجليزية، لكن الترجمة لم تنشر إلا بعد سنوات من «ميدلمارش») والطبية التي أحاطت بالشخوص، وبالوصف الدقيق للحياة في الريف الإنجليزي في القرن التاسع عشر.
في الوقت الذي خرجت فيه «ميدلمارش» إلى النور، كان الفرنسي إميل زولا يكتب سلسلته الروائية «روجون ماكار» (Rougon Maquart) وبعنوان فرعي أيضًا: «التاريخ الطبيعي والاجتماعي لأسرة تحت حكم الإمبراطورية الثانية». يتألف العمل الكبير من عشرين رواية على غرار الكوميديا الإنسانية لبلزاك، ويؤسس لما يعرف بالطبيعية في الأدب. يبين زولا أن القصد من الرواية الطبيعية أن تكون «تجريبية» بالمعنى المحدد الذي شرحه كلود برنار مؤسس علم الفسيولوجيا في كتابه: «مقدمة في الطب التجريبي». وإذا كانت تجارب كلود برنار في الفسيولوجيا، فإن تجارب الطبيعيين ستكون في السيكولوجيا والدور الذي تؤديه البيئة الطبيعية أو الوسط الاجتماعي في تشكل الأفراد عبر المراقبة النزيهة للعالم والتحليل التجريبي للنفس البشرية. لم تكن فسيولوجيا كلود برنار التجريبية الرافد الوحيد في الرواية الطبيعية، فقد مثل بروسبير لوكا طبيب الأمراض العقلية بمستشفى بيكاتر بباريس رافدًا لا يقل أهمية عن كلود برنار بعمله الأساس: «دراسة فلسفية وفسيولوجية في الوراثة الطبيعية»، وهي الدراسة التي ذكرها زولا بنفسه كمرجع اعتمد عليه في بناء هذه السلسلة الطويلة من الروايات التي تبدأ بزواج ادليد روجون المولودة بإعاقة عقلية من موكار الذي لا يعاني من إعاقات جسدية واضحة. يكتب زولا لناشره: هذه رواية ترصد العلاقة بين روابط الدم والبيئة المحيطة، من أجل دراسة الحياة في ظل الإمبراطورية الثانية من البداية وحتى اللحظة الراهنة. وطوال الروايات العشرين يحافظ زولا بصرامة على توارث الإعاقة وتأثيرها على مسيرة ومصير الأفرع الثلاثة لهذا الزواج.
المؤكد أن هذه الروايات ليس كل ما أنتجه القرن التاسع عشر في مجال الرواية، لكنها الروايات الأساسية والمؤسسة في عصر الثورة ذاك، وبالنسبة لنا، فهي ليست علامات في علاقة بين الطب والأدب، بل محطات حقيقة لـ«الطب في الأدب».
في نهاية القرن ظهرت رواية الخيال العلمي، لكن رواية الخيال الطبي تأخرت مائة عام، قصيرة في عمر الزمن، طويلة في عمر الفن والأدب. فكيف رد أنصاف الآلهة الجدد الجميل، وهل ظلت العلاقة كما هي في القرن العشرين الطويل، أم أنها بطريقة ما، تغيرت؟
إبراهيم بجلاتي