ــ 1 / 2 -
في مرحلة ما من حياتنا كانت الليالي العربية حلما أكثر من كونها قصة. عندما كنا في ظل ذلك الامتزاج المضبب للهوية الذي لم نزل نحياه في الأحلام. ليس أنفسنا بل علاء الدين, ولكن ليس علاء الدين بل أنفسنا الذي يحدق في شجرة الفاكهة المحملة بالمجوهرات ويتزوج ابنة الوزير ويهيمن علي مقادير المصباح وطاقاته, نعاني وننتصر مع السندباد ونتذوق التقلبات ونحياها مع قمر الزمان, ونتمتع بالمحبة المتناقضة ونبحر فوق البساط المسحور ونمتطي الحصان الطائر.
هذه السطور المترجمة تمثل اقتباسا واحدا من بين اقتباسات عديدة, يستعين بها الناقد والباحث الكبير الدكتور محسن جاسم الموسوي في إنجاز مشروعه الضخم عن ألف ليلة وليلة المتمثل في كتابه الجديد ـــ المثير للتأمل العميق وجدل الحوار والمتعة معا ــ مجتمع ألف ليلة وليلة. وهي مهمة لايتصدي لها غير أمثاله من الباحثين الجادين, المزودين بعمق الرؤية ونفاذ البصيرة وحداثية المنهج واتساع أفق المعرفة, والاحتشاد الطويل لموضوع يستغرق من صاحبه سنوات متصلة من المقاربات البحثية والنقدية تمثلت في كتابيه السابقين: ثارات شهرزاد: فن السرد العربي الحديث والوقوع في دائرة السحر: ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي وفي العديد من مقالاته ودراساته التي تتابعت عبر السنوات العشرين الأخيرة وكأنها كانت بمثابة التهيئة لهذا المشروع الضخم المتمثل في كتابه الجديد مجتمع ألف ليلة وليلة, من بينها مقالاته:ليس بالحكي وحده تشتغل شهرزاد وصيغ الكتابة في ألف ليلة وليلة والفضاء المباشر لحكايات ألف ليلة وليلة ــ وقد نشرت جميعها في مجلة فصول القاهرية, وتقديم مجتمع ألف ليلة وليلة ــ في مجلة الحياة الثقافية الفرنسية, والخارق في ألف ليلة وليلة
ــ في مجلة الفكر العربي المعاصر, وألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي ــ في مجلة الأقلام العراقية.
نحن إذن مع باحث من طراز فريد. يحتشد لموضوعه بكل ما يتسع له الجهد والوقت, ويستوعب ـــ من قبل أن يخط حرفا واحدا ــ ماقام به السابقون عربا وأجانب. مصادره العربية تبدأ بطبعة بولاق لألف ليلة وليلة(1252 هجرية) مقابلة وتصحيح الشيخ محمد قطة العدوي ولاتغفل الطبعتين: اليسوعية والشعبية, وألف ليلة وليلة في أصوله العربية الأولي تحقيق الدكتور محسن مهدي, وعشرات المصادر الأخري التي تضم الأمهات من كتب التراث العربي فضلا عن المراجع الحديثة التي لاتغفل الدراسة المهمة للدكتورة سهير القلماوي عن ألف ليلة وليلة( دار المعارف1966)., ثم المصادر الأجنبية وفي مقدمتها دراسة الدكتورة فريال غزول التي تتضمن تحليلا بنيويا لليالي العربية وميا جيرهارد وستانلي لين بول وتودورف. وهو ما جعل من كتاب محسن الموسوي ــ كما يقول عنه الدكتور حمادي صمود أستاذ البلاغة والأدب في الجامعة التونسية, محاولة عميقة جادة لبناء مجتمع ألف ليلة وليلة, بما يعتمل داخله من سلط متصارعة وقوي خفية متنازعة تحرك الحكي فيه وتبني كيانه السردي وتحرك وراء ذلك كله المجتمع الذي هو سياقه الحاضن والفضاء الذي يرتع فيه.
وهي محاولة رجل عالم بأسرار الحكي في أمهاتها النظرية, له بألف ليلة وليلة إلف قديم نعرفه عنه بما كان نشر باللسانين الإنجليزي والعربي من كتب ومقالات أصبح بعضها مراجع لاغني عنها وممرات إلي هذا الأثر المدهش لامناص من اجتيازها.
إنه مساهمة جادة في بيان الصلة الدقيقة المضنية بين الوقع والواقع والنص وحياته. ولاشك عندنا ــ يقول حمادي صمود ــ أن دراسة كهذه لاتستقيم لصاحبها إلا بالخبرة الراقية والسنوات الطويلة.
وهي عندنا اضافة حقيقية إلي ما نعرف عن ألف ليلة وليلة وإلي بعض قضايا الأدب النظرية كقضية التحويل ــ مثلا ــ التي تعتني بالكيفيات التي بموجبها يحول الأدب الموجودات إلي هيئات, قد أخرجها صاحبها إخراجا لايغرق في الأكاديميات الكابحة أحيانا لمغامرة الكتابة ولذة الافتراض وحرية التعامل مع النص والذهاب في تأويله مذاهب مخصبة.
ولعل من أطرف ما في هذا الكتاب سعة اطلاع صاحبه علي النقد الحديث, علي نهج المدرسة الأنجلوسكسونية, وهي تتعامل مع النصوص تعاملا يختلف اختلافا كبيرا عما تعودنا عليه في المدرسة الفرنسية, ثم إنه قدم كل ذلك في لغة سهلة دالة مطمعة لما قد يبدو علي التحليل من بساطة ظاهرة لم تتأت لصاحبها إلا بالخبرة والألفة.
وهي شهادة لها قيمتها من ناقد وباحث تونسي كبير, كان قريبا من المؤلف وهو يعمل علي إنجاز كتابه خلال إقامته في تونس وعمله أستاذا بالجامعة الفرنسية, قبل أن ينتقل مؤخرا للعمل في الجامعة الأمريكية بإمارة الشارقة.
والطريف أنني التقيت بالدكتور محسن الموسوي في القاهرة منذ ثلاث سنوات عندما جاء مدعوا للمشاركة في مهرجان القاهرة الأول للرواية العربية, وكان اللقاء مناسبة لحوار ثقافي وأدبي في برنامج لإذاعة لندن العربية.
يومها كان مشغولا جدا بكتابه الذي لم يكن قد رأي النور مجتمع ألف ليلة وليلة والمنهج الذي استراح إليه في تأليفه, والقضايا العديدة والخطيرة التي سوف يثيرها, والجهد الذي استغرق منه سنوات متصلة لإنجاز الكتابة بالصورة التي ارتضاها له. وعندما تفضل بإهدائي نسخة من كتابه فور صدوره, أدركت جسامة ما كان مقدما عليه, وقدرته الفذة علي استدعاء موهبته الروائية وقدرته علي الحكي ــ وهو الذي أصدر ثلاث روايات يتضمنها سجل مؤلفاته باللغة العربية هي العقدة(1988) ودرب الزعفران(1989) وأوتار القصب(1990) ــ مما مكنه من روعة البناء الأدبي لمجتمع ألف ليلة وليلة,وأضيف إليها من مجموعات القصص المدونة علي مر العصور الشيء الكثير وأن الجزء المترجم عن الهزار افسانة البهلوية أقل الأجزاء شأنا وأحقرها حجما. ومن القصص مالها أصول هندية قديمة معروفة, ومنها ماهو مأخوذ من أخبار العرب وقصصهم الحديثة نسبيا. ثم هناك موضوع الموطن حيث تمثل القصص بيئات شتي خيالية وواقعية. وأكثر البيئات الواقعية بروزا مصر ثم العراق وسورية.
واختلف الباحثون حول تقسيم القصص حسب الموطن.
وقد أظهرت الدراسة اختلاف أساليب القصص وطرق المعالجة باختلاف الموضوع لاصطباغه بالمنبع الذي عنه أخذ. ويقسم ليتمان الليالي إلي موضوعات ــ في آخر نسخة من دائرة المعارف الإسلامية ــ علي أساس مختلف.
كذلك تدرس من حيث النسخ والترجمات دراسة دقيقة.
ومازالت الليالي عند الغرب تدل علي كثير من خيال الشرق وسحره ومازالت عند الغرب كتابا من كتب العامة.
لم يكن الدكتور محسن الموسوي بعيدا عن هذا كله, وهو يؤكد منذ السطور الأولي في كتابه أن حكايات ألف ليلة وليلة تكتسب أهمية متزايدة كلما تعقدت أوجه الحياة وسبلها وتنوعت وسائل الاتصال المسموعة والمرئية, وهي تبحث في خزينة الحكاية وأشكالها ومادتها في صورة جياشة بالتدفق والحياة والقدرة علي التلوين والتوقف عند الدلالات العامة والتفاصيل الجزئية, فامتزج التاريخ بالتخيل, والحضور العجائبي بالعناصر الخارقة كالعفاريت والجن والمردة, جامعا بين الطلاسم في الفضاء والمحكي والاثار إلانسية في مملكة العفاريت والفجيعة الجسدية ــ والجنسية علي وجه الخصوص ــ ومبدأ المصادفة بين المقدر والمكتوب, والمنامات, والأزقة والمتاهات ووسطاء العشق, والمعيش والخارق وتبادل الأدوار لنيل المعشوق, والعشق بين العامة والخاصة, والكتابة الطلسمية, وأصول اسفار السندباد والوجوه الكثيرة للحكي, وغيرها من المداخل التي تشكل اقتحاما جسورا لفضاء هذا العالم الذي يعيد المؤلف تكوينه وتشكيله, مستعينا بخبرة السنوات, ومخزون المعرفة والوعي, والمرجعية الثقافية: السياسية والاجتماعية والسيكلوجية, والرؤية النقدية النافذة التي لاتتوقف عن التساؤل, والتحليق بالقاريء إلي آفاق العديد من الاحتمالات والتوقعات.
ألف ليلة وليلة هو الكتاب العربي في الذاكرة الإنسانية شرقا وغربا, عبر العديد من الآداب والثقافات,
تقول عنه الموسوعة العربية الميسرة: نسخ الكتاب المعروفة مرتبة علي هذا النحو: كلكتا الأولي, ثم بولاق, ثم كلكتا الثانية, ثم برسلاو وأخيرا بولاق الثانية. وكلها حديثة لاترجع إلي أقدم من أول القرن التاسع عشر مما جعل البحث في أصلها عسيرا للغاية. وقد شغل المستشرقون ببحث هذا الأصل والعثور علي نص قديم يذكرها مثل نص ابن النديم في الفهرست الذي يعد مفتاحا للبحث.
ذكر ابن النديم أنها مترجمة عن أصل بهلوي ( أي فارس قديم) اسمه الهزار إفسانة أي الألف خرافة.
ولما كان هذا الأصل نفسه غير موجود فإن البحث عن أصل الليالي يزداد غموضا. منذ ترجمها بتصرف كبير الكاتب الفرنسي أنطوان جالان ذاي في أوروبا وترجمت عن جالان مرارا طوال القرن الـ18, وفي آخر القرن19 ترجمت عن الأصل ومازالت إلي اليوم تصدر لها ترجمات مصورة فاخرة. أهم من ترجمها برتون ولين وليتمان ومردروس قلدت الليالي بصور كثيرة واستنفدت في تأليف القصص ــ وبخاصة للأطفال ــ وكذلك المسرحيات الحديثة, وألهمت رسامين وموسيقيين.
ثم تتعرض الموسوعة لأهم نقاط البحث حول ألف ليلة وليلة وفي مقدمتها الأصل باعتبار أنها ألفت علي مراحل, وفضاءاتها لتعيد إخراجها في هذا الثوب أو ذاك. ثم حين يعلق علي التأثير الذي تركته ترجمة أنطوان جالان إلي الفرنسية في القاريء الأجنبي: سرعان ما اجتاحت الحكاية ببدايتها ونهايتها المعروفة وسطا كان يتلهف إلي ما يعوزه ويحتاج إليه من روي وغرابة وطرافة وحيلة واجتهاد وخليط من الشخوص والحرفيين والوسطاء والتجار والصاغة والسراق والخلفاء والأمراء والقوادين والنخاسين والرقيق والجن الطيب والشرير, وكأن الحكايات ليست غير قمقم من قماقم النبي سليمان انفتحت لتوها عن مردة يملأون الفضاء الخارجي حضورا, دخانا أولا, قبل استردادهم لأنفسهم مخلوقات لا مرئية تستجيب لصاحب السر كلما استدعت الحاجة إلي ذلك. ويبدو أن جالان قد فتح القمقم وامتلك السر وأصبح المردة في عهدته يأتمرون بأمره, فأوقعوا العباد في قبضته يحركهم كيف يشاء, ولكن فوق كل ذي علم عليم.
وفي محاولة من المؤلف للتنقيب عن مؤلفين لألف ليلة, فإنه يقوم بعملية مسح شاملة و مراجعة نقدية للموقف من المحكي في العصر الوسيط متعرضا لأشكال السرد في العصر العباسي التي تجمع بين المقامة والروي والقصص والتندر وفي مقدمتها الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي الذي سامر به أبو حيان الوزير أبا عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي سبعا وثلاثين ليلة: كانت مسامرته فيها محاولة للاستجابة لرغبة ما أو نزولا عند تساؤل أو مسعي من أبي حيان لعرض مالديه من نوادر وملح وطرائف مختلفة كتلك التي تناولتها الجارية تودد في ألف ليلة وليلة.
خاصة أن أبا حيان يظهر معرفة واسعة بالقينات والإماء والشواعر في بغداد حين يقول: ولقد أحصينا ــ ونحن جماعة في الكرخ ــ أربعمائة وستين جارية في الجانبين, ومائه وعشرين حرة, وخمسة وتسعين من الصبيان البدور, يجمعون بين الحذق والحسن والظرف والعشرة هذا سوي من كنا لانظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه, وسوي ماكنا نسمعه ممن لايتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت, أو ثمل في حال, وخلع العذار في هوي قد حالفه وأضناه, وترنم وأوقع, وهز رأسه وصعد أنفاسه وأطرب جلاسه..فهل كان أبو حيان التوحيدي ــ علي هذه الصورة التي نطالعها في كتاب الإمتاع والمؤانسة ــ واحدا من المؤلفين المجهولين لألف ليلة وليلة أم هم الآخرون من أمثال الجاحظ وثعلب والمسعودي والأصمعي والثعالبي وابن الجوزي والجهشياري والإبشيهي والطقطقي والبيهقي وقدامه بن جعفر وغيرهم؟
في مرحلة ما من حياتنا كانت الليالي العربية حلما أكثر من كونها قصة. عندما كنا في ظل ذلك الامتزاج المضبب للهوية الذي لم نزل نحياه في الأحلام. ليس أنفسنا بل علاء الدين, ولكن ليس علاء الدين بل أنفسنا الذي يحدق في شجرة الفاكهة المحملة بالمجوهرات ويتزوج ابنة الوزير ويهيمن علي مقادير المصباح وطاقاته, نعاني وننتصر مع السندباد ونتذوق التقلبات ونحياها مع قمر الزمان, ونتمتع بالمحبة المتناقضة ونبحر فوق البساط المسحور ونمتطي الحصان الطائر.
هذه السطور المترجمة تمثل اقتباسا واحدا من بين اقتباسات عديدة, يستعين بها الناقد والباحث الكبير الدكتور محسن جاسم الموسوي في إنجاز مشروعه الضخم عن ألف ليلة وليلة المتمثل في كتابه الجديد ـــ المثير للتأمل العميق وجدل الحوار والمتعة معا ــ مجتمع ألف ليلة وليلة. وهي مهمة لايتصدي لها غير أمثاله من الباحثين الجادين, المزودين بعمق الرؤية ونفاذ البصيرة وحداثية المنهج واتساع أفق المعرفة, والاحتشاد الطويل لموضوع يستغرق من صاحبه سنوات متصلة من المقاربات البحثية والنقدية تمثلت في كتابيه السابقين: ثارات شهرزاد: فن السرد العربي الحديث والوقوع في دائرة السحر: ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي وفي العديد من مقالاته ودراساته التي تتابعت عبر السنوات العشرين الأخيرة وكأنها كانت بمثابة التهيئة لهذا المشروع الضخم المتمثل في كتابه الجديد مجتمع ألف ليلة وليلة, من بينها مقالاته:ليس بالحكي وحده تشتغل شهرزاد وصيغ الكتابة في ألف ليلة وليلة والفضاء المباشر لحكايات ألف ليلة وليلة ــ وقد نشرت جميعها في مجلة فصول القاهرية, وتقديم مجتمع ألف ليلة وليلة ــ في مجلة الحياة الثقافية الفرنسية, والخارق في ألف ليلة وليلة
ــ في مجلة الفكر العربي المعاصر, وألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي ــ في مجلة الأقلام العراقية.
نحن إذن مع باحث من طراز فريد. يحتشد لموضوعه بكل ما يتسع له الجهد والوقت, ويستوعب ـــ من قبل أن يخط حرفا واحدا ــ ماقام به السابقون عربا وأجانب. مصادره العربية تبدأ بطبعة بولاق لألف ليلة وليلة(1252 هجرية) مقابلة وتصحيح الشيخ محمد قطة العدوي ولاتغفل الطبعتين: اليسوعية والشعبية, وألف ليلة وليلة في أصوله العربية الأولي تحقيق الدكتور محسن مهدي, وعشرات المصادر الأخري التي تضم الأمهات من كتب التراث العربي فضلا عن المراجع الحديثة التي لاتغفل الدراسة المهمة للدكتورة سهير القلماوي عن ألف ليلة وليلة( دار المعارف1966)., ثم المصادر الأجنبية وفي مقدمتها دراسة الدكتورة فريال غزول التي تتضمن تحليلا بنيويا لليالي العربية وميا جيرهارد وستانلي لين بول وتودورف. وهو ما جعل من كتاب محسن الموسوي ــ كما يقول عنه الدكتور حمادي صمود أستاذ البلاغة والأدب في الجامعة التونسية, محاولة عميقة جادة لبناء مجتمع ألف ليلة وليلة, بما يعتمل داخله من سلط متصارعة وقوي خفية متنازعة تحرك الحكي فيه وتبني كيانه السردي وتحرك وراء ذلك كله المجتمع الذي هو سياقه الحاضن والفضاء الذي يرتع فيه.
وهي محاولة رجل عالم بأسرار الحكي في أمهاتها النظرية, له بألف ليلة وليلة إلف قديم نعرفه عنه بما كان نشر باللسانين الإنجليزي والعربي من كتب ومقالات أصبح بعضها مراجع لاغني عنها وممرات إلي هذا الأثر المدهش لامناص من اجتيازها.
إنه مساهمة جادة في بيان الصلة الدقيقة المضنية بين الوقع والواقع والنص وحياته. ولاشك عندنا ــ يقول حمادي صمود ــ أن دراسة كهذه لاتستقيم لصاحبها إلا بالخبرة الراقية والسنوات الطويلة.
وهي عندنا اضافة حقيقية إلي ما نعرف عن ألف ليلة وليلة وإلي بعض قضايا الأدب النظرية كقضية التحويل ــ مثلا ــ التي تعتني بالكيفيات التي بموجبها يحول الأدب الموجودات إلي هيئات, قد أخرجها صاحبها إخراجا لايغرق في الأكاديميات الكابحة أحيانا لمغامرة الكتابة ولذة الافتراض وحرية التعامل مع النص والذهاب في تأويله مذاهب مخصبة.
ولعل من أطرف ما في هذا الكتاب سعة اطلاع صاحبه علي النقد الحديث, علي نهج المدرسة الأنجلوسكسونية, وهي تتعامل مع النصوص تعاملا يختلف اختلافا كبيرا عما تعودنا عليه في المدرسة الفرنسية, ثم إنه قدم كل ذلك في لغة سهلة دالة مطمعة لما قد يبدو علي التحليل من بساطة ظاهرة لم تتأت لصاحبها إلا بالخبرة والألفة.
وهي شهادة لها قيمتها من ناقد وباحث تونسي كبير, كان قريبا من المؤلف وهو يعمل علي إنجاز كتابه خلال إقامته في تونس وعمله أستاذا بالجامعة الفرنسية, قبل أن ينتقل مؤخرا للعمل في الجامعة الأمريكية بإمارة الشارقة.
والطريف أنني التقيت بالدكتور محسن الموسوي في القاهرة منذ ثلاث سنوات عندما جاء مدعوا للمشاركة في مهرجان القاهرة الأول للرواية العربية, وكان اللقاء مناسبة لحوار ثقافي وأدبي في برنامج لإذاعة لندن العربية.
يومها كان مشغولا جدا بكتابه الذي لم يكن قد رأي النور مجتمع ألف ليلة وليلة والمنهج الذي استراح إليه في تأليفه, والقضايا العديدة والخطيرة التي سوف يثيرها, والجهد الذي استغرق منه سنوات متصلة لإنجاز الكتابة بالصورة التي ارتضاها له. وعندما تفضل بإهدائي نسخة من كتابه فور صدوره, أدركت جسامة ما كان مقدما عليه, وقدرته الفذة علي استدعاء موهبته الروائية وقدرته علي الحكي ــ وهو الذي أصدر ثلاث روايات يتضمنها سجل مؤلفاته باللغة العربية هي العقدة(1988) ودرب الزعفران(1989) وأوتار القصب(1990) ــ مما مكنه من روعة البناء الأدبي لمجتمع ألف ليلة وليلة,وأضيف إليها من مجموعات القصص المدونة علي مر العصور الشيء الكثير وأن الجزء المترجم عن الهزار افسانة البهلوية أقل الأجزاء شأنا وأحقرها حجما. ومن القصص مالها أصول هندية قديمة معروفة, ومنها ماهو مأخوذ من أخبار العرب وقصصهم الحديثة نسبيا. ثم هناك موضوع الموطن حيث تمثل القصص بيئات شتي خيالية وواقعية. وأكثر البيئات الواقعية بروزا مصر ثم العراق وسورية.
واختلف الباحثون حول تقسيم القصص حسب الموطن.
وقد أظهرت الدراسة اختلاف أساليب القصص وطرق المعالجة باختلاف الموضوع لاصطباغه بالمنبع الذي عنه أخذ. ويقسم ليتمان الليالي إلي موضوعات ــ في آخر نسخة من دائرة المعارف الإسلامية ــ علي أساس مختلف.
كذلك تدرس من حيث النسخ والترجمات دراسة دقيقة.
ومازالت الليالي عند الغرب تدل علي كثير من خيال الشرق وسحره ومازالت عند الغرب كتابا من كتب العامة.
لم يكن الدكتور محسن الموسوي بعيدا عن هذا كله, وهو يؤكد منذ السطور الأولي في كتابه أن حكايات ألف ليلة وليلة تكتسب أهمية متزايدة كلما تعقدت أوجه الحياة وسبلها وتنوعت وسائل الاتصال المسموعة والمرئية, وهي تبحث في خزينة الحكاية وأشكالها ومادتها في صورة جياشة بالتدفق والحياة والقدرة علي التلوين والتوقف عند الدلالات العامة والتفاصيل الجزئية, فامتزج التاريخ بالتخيل, والحضور العجائبي بالعناصر الخارقة كالعفاريت والجن والمردة, جامعا بين الطلاسم في الفضاء والمحكي والاثار إلانسية في مملكة العفاريت والفجيعة الجسدية ــ والجنسية علي وجه الخصوص ــ ومبدأ المصادفة بين المقدر والمكتوب, والمنامات, والأزقة والمتاهات ووسطاء العشق, والمعيش والخارق وتبادل الأدوار لنيل المعشوق, والعشق بين العامة والخاصة, والكتابة الطلسمية, وأصول اسفار السندباد والوجوه الكثيرة للحكي, وغيرها من المداخل التي تشكل اقتحاما جسورا لفضاء هذا العالم الذي يعيد المؤلف تكوينه وتشكيله, مستعينا بخبرة السنوات, ومخزون المعرفة والوعي, والمرجعية الثقافية: السياسية والاجتماعية والسيكلوجية, والرؤية النقدية النافذة التي لاتتوقف عن التساؤل, والتحليق بالقاريء إلي آفاق العديد من الاحتمالات والتوقعات.
ألف ليلة وليلة هو الكتاب العربي في الذاكرة الإنسانية شرقا وغربا, عبر العديد من الآداب والثقافات,
تقول عنه الموسوعة العربية الميسرة: نسخ الكتاب المعروفة مرتبة علي هذا النحو: كلكتا الأولي, ثم بولاق, ثم كلكتا الثانية, ثم برسلاو وأخيرا بولاق الثانية. وكلها حديثة لاترجع إلي أقدم من أول القرن التاسع عشر مما جعل البحث في أصلها عسيرا للغاية. وقد شغل المستشرقون ببحث هذا الأصل والعثور علي نص قديم يذكرها مثل نص ابن النديم في الفهرست الذي يعد مفتاحا للبحث.
ذكر ابن النديم أنها مترجمة عن أصل بهلوي ( أي فارس قديم) اسمه الهزار إفسانة أي الألف خرافة.
ولما كان هذا الأصل نفسه غير موجود فإن البحث عن أصل الليالي يزداد غموضا. منذ ترجمها بتصرف كبير الكاتب الفرنسي أنطوان جالان ذاي في أوروبا وترجمت عن جالان مرارا طوال القرن الـ18, وفي آخر القرن19 ترجمت عن الأصل ومازالت إلي اليوم تصدر لها ترجمات مصورة فاخرة. أهم من ترجمها برتون ولين وليتمان ومردروس قلدت الليالي بصور كثيرة واستنفدت في تأليف القصص ــ وبخاصة للأطفال ــ وكذلك المسرحيات الحديثة, وألهمت رسامين وموسيقيين.
ثم تتعرض الموسوعة لأهم نقاط البحث حول ألف ليلة وليلة وفي مقدمتها الأصل باعتبار أنها ألفت علي مراحل, وفضاءاتها لتعيد إخراجها في هذا الثوب أو ذاك. ثم حين يعلق علي التأثير الذي تركته ترجمة أنطوان جالان إلي الفرنسية في القاريء الأجنبي: سرعان ما اجتاحت الحكاية ببدايتها ونهايتها المعروفة وسطا كان يتلهف إلي ما يعوزه ويحتاج إليه من روي وغرابة وطرافة وحيلة واجتهاد وخليط من الشخوص والحرفيين والوسطاء والتجار والصاغة والسراق والخلفاء والأمراء والقوادين والنخاسين والرقيق والجن الطيب والشرير, وكأن الحكايات ليست غير قمقم من قماقم النبي سليمان انفتحت لتوها عن مردة يملأون الفضاء الخارجي حضورا, دخانا أولا, قبل استردادهم لأنفسهم مخلوقات لا مرئية تستجيب لصاحب السر كلما استدعت الحاجة إلي ذلك. ويبدو أن جالان قد فتح القمقم وامتلك السر وأصبح المردة في عهدته يأتمرون بأمره, فأوقعوا العباد في قبضته يحركهم كيف يشاء, ولكن فوق كل ذي علم عليم.
وفي محاولة من المؤلف للتنقيب عن مؤلفين لألف ليلة, فإنه يقوم بعملية مسح شاملة و مراجعة نقدية للموقف من المحكي في العصر الوسيط متعرضا لأشكال السرد في العصر العباسي التي تجمع بين المقامة والروي والقصص والتندر وفي مقدمتها الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي الذي سامر به أبو حيان الوزير أبا عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي سبعا وثلاثين ليلة: كانت مسامرته فيها محاولة للاستجابة لرغبة ما أو نزولا عند تساؤل أو مسعي من أبي حيان لعرض مالديه من نوادر وملح وطرائف مختلفة كتلك التي تناولتها الجارية تودد في ألف ليلة وليلة.
خاصة أن أبا حيان يظهر معرفة واسعة بالقينات والإماء والشواعر في بغداد حين يقول: ولقد أحصينا ــ ونحن جماعة في الكرخ ــ أربعمائة وستين جارية في الجانبين, ومائه وعشرين حرة, وخمسة وتسعين من الصبيان البدور, يجمعون بين الحذق والحسن والظرف والعشرة هذا سوي من كنا لانظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه, وسوي ماكنا نسمعه ممن لايتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت, أو ثمل في حال, وخلع العذار في هوي قد حالفه وأضناه, وترنم وأوقع, وهز رأسه وصعد أنفاسه وأطرب جلاسه..فهل كان أبو حيان التوحيدي ــ علي هذه الصورة التي نطالعها في كتاب الإمتاع والمؤانسة ــ واحدا من المؤلفين المجهولين لألف ليلة وليلة أم هم الآخرون من أمثال الجاحظ وثعلب والمسعودي والأصمعي والثعالبي وابن الجوزي والجهشياري والإبشيهي والطقطقي والبيهقي وقدامه بن جعفر وغيرهم؟