في خلق أبي الطيب قوة وخشونة تميلان به إلى كل قوي وكل خشن، وتعدلان عن كل ضعيف وكل ليّن؛ وفي خلقه صراحة تحبب إليه كل صريح من القول والفعل والمرأى، وتنفره عن كل مموّه مزخرف.
وقد لاءمت هذه الأخلاق التندّي، وزادها التبدي تمكناً فيه، وظهر أثر هذا في فعله وقوله.
وسأمرّ بسيرة أبي الطيب سريعاً منبّهاً إلى الحادثات والأقوال الدالة على حبه البداوة، والمبينة عن تمكن البداوة في طبعه، وأثرها في نفسه:
- 1 -
عاش الشاعر في البادية حقبة وهو صبي. روى الخطيب البغدادي عن محمد بن يحيى العلوي الكوفي أن أبا الطيب صحب الأعراب في البادية سنين ثم رجع إلى الكوفة بدوياً قحّاً.
وعاش في الشام بين البدو والحضر. وبعض من وحيه هناك من رؤساء البادية مثل سعيد بن عبد الله الكلابي، وشجاع بن محمد الطائي.
وهو يقول في الشام:
أوانا في بيوت البدو رحلي ... وآونة على قتد البعير
أعرّض للرماح الصمّ نحري ... وأنصب حرّ وجهي للهجير
وأسري في ظلام الليل وحدي ... كأني منه في قمر منير
ويقول:
ومُّدقعين بسُبروت صحبتهم ... عارين من حلل كاسين من درن
خرابّ بادية عْرثى بطونهم ... مَكن الضباب لهم زاد بلا ثمن
يستخبرون فلا أعطيهم خبري ... وما يطيش لهم سهم من الظنن
- 2 -
وفي مصر حنّ إلى البادية، وفضّل البداوة على الحضارة، وتغزل بالبدويات في القص التي مطلعها:
مَن الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب
يقول فيها:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
وكانت له في مصر مع بعض رؤساء القبائل مودة. فلما أزمع الرحيل مغاضباً كافور استعان بأحد أصدقائه عبد العزيز ابن يوسف ببلبيس وسأله دليلاً فأنفذه إليه، وقال في هذا:
جزى عرباً أمست ببُلبَيس ربُّها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
كراكر من قيس بن عيلان ساهراً ... جفون ظباها للعلى وجفونها
وخصّ به عبد العزيز بنَ يوسف ... فما هو إلا غيثها ومعينها
فتى زان في عينيّ أقصى قبيله ... وكم من فتى في حلة لا يزيتها
وكان سيره من الفسطاط إلى الكوفة برهاناً بيناً على ما تمكن في نفسه من أخلاق البادية وعاداتها، ودليلاً على خبرته بالسير في البيادي، فقد سلك طريقاً أنفا لا تسلكه القوافل. ذكر في قصيدته التي وصف بها سفره اثنين وعشرين موضعاً ليس على السبل المطروقة منها إلا اثنان أو ثلاثة، فما سلك طريق الحاج المصري إلى الحجاز، ولا طريق دمشق إلى الكوفة، ولا طريق الفرات، بل سار على أحياء البادية، والمياه المورودة والآجنة حتى بلغ غايته.
وكانت له في مسيرة وقائع تمثله بدوياً قحاً خبيراً بقبائل البادية وعاداتها، مزوداً بجرأة الأعراب وإقدامهم:
لما بلغ نخلاً في سينا ألفى خيلاً صادرة عن الماء، فأشفق أن يكونوا عيوناً عليه أو عدواً له، فقاتلهم وغلبهم. ولما قرب من النقاب رأى رجلين فطردهما وأخذهما فأخبراه أنهما رائدان من بني سليم فخلاهما وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء، وذبح له، وغدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس فذبح له عُفَيف المعنىّ غنما وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جذام يدلانه.
ولما بلغ حسمي في شمالي الحجاز وجد بني فزارة شاتين بها، فنزل بقوم من عدي فزارة فيهم أولاد لاحق بن مجلّب، وكان بينه وبين أمير فزارة حسان بن حكمة مودة، وأراد ألا يعلم ما بينه وبينهم من ودّ فنزل بجار لهم من طيء.
واستطاب أبو الطيب حسمي فأقام بها شهراً، وما أحب المقام بالبادية إليه! ثم استراب ببعض عبيده، وظن أنهم يسرقون أمتعته، ويريدون سرقة سيف ثمين كان معه، أغراهم على هذا وردان بن ربيعة، فأرسل إلي فتى من بني مازن اسمه فليتة ابن محمد، وكان قد عرفه من قبل، فلما جاءه المازنيّ تقدم شاعرنا فشد أحماله وعبيده نيام ثم أيقظهم وطرحهم على الإبل وسار والقوم لا يشعرون.
وأخذ بعض العبيد السيف فدفعه وفرسه إلى عبد آخر. وجاء إلى فرس أبي الطيب ليأخذه فانتبه الشاعر البدوي الشجاع فقال العبد مخادعاً: أخذ الغلام فرسي. عدا إلى فرس سيده ليركبه فالتقى هو وأبو الطيب عند الفرس. وسل العبد السيف فضرب الرسن فضرب أبو الطيب وجهه فقتله: وأرسل رجلاً من بني خفاجة وآخر من بني مازن ليدركا العبد الذي أخذ السيف فلم يقدرا عليه.
وفي قتل العبد يقول الشاعر:
أعددت للغادرين أسي ... افاً أجدع منهم بهنّ آنافا
لا يرحم الله أرؤساً لهم ... أطرن عن هامهن أقحافاً
ما ينقم السيف غير قلتهم ... وأن تكون المئون آلافا
يا شر لحم فجعته بدم ... وزار للخامعات أجوافا
قد كنتَ أُغنِيتَ عن سؤالك بي ... من زجر الطير لي ومن عافا
لا يذكر الخير إن ذكرت ولا ... تتبعك المقلتان توكافا إذا امرؤ راعني بغدرته ... أوردته الغاية التي خافا
وأراد أبو الطيب أن يسلك إلى مكان اسمه البياضي فأرسل فليتة إلى الأعراب الذين في طريقه فعميت عليه أنباؤهم، وخشي أن يكون له على طريق رصد، فعدل إلى دومة الجندل. وواصل سيره حتى بلغ الكوفة في شهر ربيع الأول سنة 352 بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط.
فهل يستطيع أن يسير هذا المسير، ويفعل هذه الأفعال إلا بدوي جريء خبير بالبوادي؟
أليس في هذا تصديق قوله:
الحيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لا يحق له أن يفخر به فيقول:
فلما أنخنا ركزنا الرما ... ح بين مكارمنا والعلى
وبتنا نقبّل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعرا ... ق ومن بالعواصم أيّ الفتى
وأني وفيت وأني أبيت ... وأني عتوت على من عتا
وما كل من قال قولاً وفَى ... ولا كل من سِيم خسفاً أبى
ومن يك قلب كقلبي له ... يشق إلى العزّ قلب النوى
ولا بد للقلب من آلة ... ورأى يصدّع صمّ الصفا
وفي هذه القصيدة روح البداوة وألفاظها. انظر قوله:
وقلنا لها: أين أرض العرا ... ق فقالت: ونحن بتربان ها
واسأل اليوم بدوياً عن مكان قريب يقل لك: ها
- 4 -
وفي قصة هجاء ضبة بن يزيد العيني دليل آخر على تبدّيه. فقد اجتاز بالطفّ فنزل بأصدقاء له. وساروا إلى ضبة وسألوه أن يصحبهم فلم يسعه إلا المسير معهم، كما يقول الشاعر في بعض الروايات:
فسير الشاعر مع أصدقائه إلى قتال ضبة أو إرهابه دليل على ما تمكن في نفسه من عادات البادية.
- 5 -
ولما رحل إلى فارس افتقد الوجه العربي واليد العربية واللسان العربي فقال وهو يصف شعب يوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
وافتقد عرب دمشق الذين كانوا يكرمون مثواه فقال:
ولو كانت دمشق ثنى عناني ... لبيق الثرد صيني الجفان
يَلَنجوجيّ ما رُفعت لضيف ... به النيران نَدَّى الدخان
تحل به على قلب شجاع ... وترحل منه عن قلب جبان
منازل لم يزل منها خيال ... يشيّعني إلى النوبند جان
وذكره الثرد والنار يدلنا على أنه يريد بادية دمشق لا حاضرتها.
وقال في أول قصيدة مدح بها عضد الدولة:
أحب حمصاً إلى خناصرة ... وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح لب ... نان وثغري على حُميّاها
وصفت فيها مصيف بادية ... شتوت بالصحصحان مشتاها
إن أعشبت روضة رعيناها ... أو ذكرت حلة غزوناها الخ
ورجع إلى التغزل بالبدويات في شيراز فقال في القصيدة التي مطلعها:
أثلث فأنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
إن الذين أقمتَ وارتحلوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدودها ومن الذي تصل
ما أسأرت في القعب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
وقصة قتله برهان آخر على ما ندعي فقد حذره أبو نصر الجبلي وأشار عليه أن يستصجب خفراء فأبى أن يسير في خفارة.
- 6 -
وشعر أبي الطيب تتجلى فيه قوة البداوة وعزتها. ومن آثار البداوة فيه تهاونه في خطاب الممدوحين. وخروجه عن الألف أحياناً. ولذلك أخذ عليه النقاد مآخذ لا يتسع المقام لذكرها.
ومن أثارها كذلك الكلف بالحرب وآلاتها والخيل، والسفر. وشعره مليء بهذا.
ومن ذلك وصفه الحبيبة بالمنعة كقوله:
حبيب كأن الحسن كان يحبه ... فآثره أو جار في الحسن قاسمه
تحول رماح الحظ دون سبائه ... وتُسبي له من كل حيّ كرائمه
ويُضحي غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمه
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزول
يحرّمه لمع الأسنة فوقه ... فليس لظمآن إليه وصول
متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل
سوائر ربما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
وربما وخدت أيدي المطيّ بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
ومن أثر البداوة استعماله بعض الألفاظ الغريبة أحياناً، بما ألِف من خطاب الأعراب والأخذ عنهم.
وقد رأيته في كثير من تعليقاته على ديوانه يحتج بما سمع عنهم، واكتفي هنا بمثال واحد:
قال في قصيدة يعزي بها عضد الدولة:
مثلك يُثنى الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدمع من غربه
أيما لأبقاء على فضله ... أيما لتسليم إلى ربه
ثم أتى بشواهد على وضع العرب أيما مكان إمّا إلى أن قال:
وقد ظلع فرس لي فقال فلان الأعرابي وكان من أفصح الناس:
أيما نسره مفلوق، وأيما موهوص
- 7 -
ذلكم إجمال الكلام في بداوة أبي الطيب.
ولست أقول إن البداوة أنتجت هذه النتائج في أخلاقه وشعره، ولكني أقول إن بين طباعه وشعره وبين البداوة صلة قوية، غرائز في الشاعر حببت إليه البداوة وما يتصل بها، وبداوة وكّدت هذه الغرائز في نفسه.
وبهذه الأخلاق الحرة، والطباع القوية، والشجاعة والإقدام كان أبو الطيب أقرب إلى الروح العربي من غيره.
ولو أن عمرو بن كلثوم، وعنترة العبسي، والحارث بن حلزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.
الدكتور عبد الوهاب عزام
مجلة الرسالة - العدد 163
بتاريخ: 17 - 08 - 1936
وقد لاءمت هذه الأخلاق التندّي، وزادها التبدي تمكناً فيه، وظهر أثر هذا في فعله وقوله.
وسأمرّ بسيرة أبي الطيب سريعاً منبّهاً إلى الحادثات والأقوال الدالة على حبه البداوة، والمبينة عن تمكن البداوة في طبعه، وأثرها في نفسه:
- 1 -
عاش الشاعر في البادية حقبة وهو صبي. روى الخطيب البغدادي عن محمد بن يحيى العلوي الكوفي أن أبا الطيب صحب الأعراب في البادية سنين ثم رجع إلى الكوفة بدوياً قحّاً.
وعاش في الشام بين البدو والحضر. وبعض من وحيه هناك من رؤساء البادية مثل سعيد بن عبد الله الكلابي، وشجاع بن محمد الطائي.
وهو يقول في الشام:
أوانا في بيوت البدو رحلي ... وآونة على قتد البعير
أعرّض للرماح الصمّ نحري ... وأنصب حرّ وجهي للهجير
وأسري في ظلام الليل وحدي ... كأني منه في قمر منير
ويقول:
ومُّدقعين بسُبروت صحبتهم ... عارين من حلل كاسين من درن
خرابّ بادية عْرثى بطونهم ... مَكن الضباب لهم زاد بلا ثمن
يستخبرون فلا أعطيهم خبري ... وما يطيش لهم سهم من الظنن
- 2 -
وفي مصر حنّ إلى البادية، وفضّل البداوة على الحضارة، وتغزل بالبدويات في القص التي مطلعها:
مَن الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب
يقول فيها:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
وكانت له في مصر مع بعض رؤساء القبائل مودة. فلما أزمع الرحيل مغاضباً كافور استعان بأحد أصدقائه عبد العزيز ابن يوسف ببلبيس وسأله دليلاً فأنفذه إليه، وقال في هذا:
جزى عرباً أمست ببُلبَيس ربُّها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
كراكر من قيس بن عيلان ساهراً ... جفون ظباها للعلى وجفونها
وخصّ به عبد العزيز بنَ يوسف ... فما هو إلا غيثها ومعينها
فتى زان في عينيّ أقصى قبيله ... وكم من فتى في حلة لا يزيتها
وكان سيره من الفسطاط إلى الكوفة برهاناً بيناً على ما تمكن في نفسه من أخلاق البادية وعاداتها، ودليلاً على خبرته بالسير في البيادي، فقد سلك طريقاً أنفا لا تسلكه القوافل. ذكر في قصيدته التي وصف بها سفره اثنين وعشرين موضعاً ليس على السبل المطروقة منها إلا اثنان أو ثلاثة، فما سلك طريق الحاج المصري إلى الحجاز، ولا طريق دمشق إلى الكوفة، ولا طريق الفرات، بل سار على أحياء البادية، والمياه المورودة والآجنة حتى بلغ غايته.
وكانت له في مسيرة وقائع تمثله بدوياً قحاً خبيراً بقبائل البادية وعاداتها، مزوداً بجرأة الأعراب وإقدامهم:
لما بلغ نخلاً في سينا ألفى خيلاً صادرة عن الماء، فأشفق أن يكونوا عيوناً عليه أو عدواً له، فقاتلهم وغلبهم. ولما قرب من النقاب رأى رجلين فطردهما وأخذهما فأخبراه أنهما رائدان من بني سليم فخلاهما وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء، وذبح له، وغدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس فذبح له عُفَيف المعنىّ غنما وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جذام يدلانه.
ولما بلغ حسمي في شمالي الحجاز وجد بني فزارة شاتين بها، فنزل بقوم من عدي فزارة فيهم أولاد لاحق بن مجلّب، وكان بينه وبين أمير فزارة حسان بن حكمة مودة، وأراد ألا يعلم ما بينه وبينهم من ودّ فنزل بجار لهم من طيء.
واستطاب أبو الطيب حسمي فأقام بها شهراً، وما أحب المقام بالبادية إليه! ثم استراب ببعض عبيده، وظن أنهم يسرقون أمتعته، ويريدون سرقة سيف ثمين كان معه، أغراهم على هذا وردان بن ربيعة، فأرسل إلي فتى من بني مازن اسمه فليتة ابن محمد، وكان قد عرفه من قبل، فلما جاءه المازنيّ تقدم شاعرنا فشد أحماله وعبيده نيام ثم أيقظهم وطرحهم على الإبل وسار والقوم لا يشعرون.
وأخذ بعض العبيد السيف فدفعه وفرسه إلى عبد آخر. وجاء إلى فرس أبي الطيب ليأخذه فانتبه الشاعر البدوي الشجاع فقال العبد مخادعاً: أخذ الغلام فرسي. عدا إلى فرس سيده ليركبه فالتقى هو وأبو الطيب عند الفرس. وسل العبد السيف فضرب الرسن فضرب أبو الطيب وجهه فقتله: وأرسل رجلاً من بني خفاجة وآخر من بني مازن ليدركا العبد الذي أخذ السيف فلم يقدرا عليه.
وفي قتل العبد يقول الشاعر:
أعددت للغادرين أسي ... افاً أجدع منهم بهنّ آنافا
لا يرحم الله أرؤساً لهم ... أطرن عن هامهن أقحافاً
ما ينقم السيف غير قلتهم ... وأن تكون المئون آلافا
يا شر لحم فجعته بدم ... وزار للخامعات أجوافا
قد كنتَ أُغنِيتَ عن سؤالك بي ... من زجر الطير لي ومن عافا
لا يذكر الخير إن ذكرت ولا ... تتبعك المقلتان توكافا إذا امرؤ راعني بغدرته ... أوردته الغاية التي خافا
وأراد أبو الطيب أن يسلك إلى مكان اسمه البياضي فأرسل فليتة إلى الأعراب الذين في طريقه فعميت عليه أنباؤهم، وخشي أن يكون له على طريق رصد، فعدل إلى دومة الجندل. وواصل سيره حتى بلغ الكوفة في شهر ربيع الأول سنة 352 بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط.
فهل يستطيع أن يسير هذا المسير، ويفعل هذه الأفعال إلا بدوي جريء خبير بالبوادي؟
أليس في هذا تصديق قوله:
الحيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لا يحق له أن يفخر به فيقول:
فلما أنخنا ركزنا الرما ... ح بين مكارمنا والعلى
وبتنا نقبّل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعرا ... ق ومن بالعواصم أيّ الفتى
وأني وفيت وأني أبيت ... وأني عتوت على من عتا
وما كل من قال قولاً وفَى ... ولا كل من سِيم خسفاً أبى
ومن يك قلب كقلبي له ... يشق إلى العزّ قلب النوى
ولا بد للقلب من آلة ... ورأى يصدّع صمّ الصفا
وفي هذه القصيدة روح البداوة وألفاظها. انظر قوله:
وقلنا لها: أين أرض العرا ... ق فقالت: ونحن بتربان ها
واسأل اليوم بدوياً عن مكان قريب يقل لك: ها
- 4 -
وفي قصة هجاء ضبة بن يزيد العيني دليل آخر على تبدّيه. فقد اجتاز بالطفّ فنزل بأصدقاء له. وساروا إلى ضبة وسألوه أن يصحبهم فلم يسعه إلا المسير معهم، كما يقول الشاعر في بعض الروايات:
فسير الشاعر مع أصدقائه إلى قتال ضبة أو إرهابه دليل على ما تمكن في نفسه من عادات البادية.
- 5 -
ولما رحل إلى فارس افتقد الوجه العربي واليد العربية واللسان العربي فقال وهو يصف شعب يوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
وافتقد عرب دمشق الذين كانوا يكرمون مثواه فقال:
ولو كانت دمشق ثنى عناني ... لبيق الثرد صيني الجفان
يَلَنجوجيّ ما رُفعت لضيف ... به النيران نَدَّى الدخان
تحل به على قلب شجاع ... وترحل منه عن قلب جبان
منازل لم يزل منها خيال ... يشيّعني إلى النوبند جان
وذكره الثرد والنار يدلنا على أنه يريد بادية دمشق لا حاضرتها.
وقال في أول قصيدة مدح بها عضد الدولة:
أحب حمصاً إلى خناصرة ... وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح لب ... نان وثغري على حُميّاها
وصفت فيها مصيف بادية ... شتوت بالصحصحان مشتاها
إن أعشبت روضة رعيناها ... أو ذكرت حلة غزوناها الخ
ورجع إلى التغزل بالبدويات في شيراز فقال في القصيدة التي مطلعها:
أثلث فأنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
إن الذين أقمتَ وارتحلوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدودها ومن الذي تصل
ما أسأرت في القعب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
وقصة قتله برهان آخر على ما ندعي فقد حذره أبو نصر الجبلي وأشار عليه أن يستصجب خفراء فأبى أن يسير في خفارة.
- 6 -
وشعر أبي الطيب تتجلى فيه قوة البداوة وعزتها. ومن آثار البداوة فيه تهاونه في خطاب الممدوحين. وخروجه عن الألف أحياناً. ولذلك أخذ عليه النقاد مآخذ لا يتسع المقام لذكرها.
ومن أثارها كذلك الكلف بالحرب وآلاتها والخيل، والسفر. وشعره مليء بهذا.
ومن ذلك وصفه الحبيبة بالمنعة كقوله:
حبيب كأن الحسن كان يحبه ... فآثره أو جار في الحسن قاسمه
تحول رماح الحظ دون سبائه ... وتُسبي له من كل حيّ كرائمه
ويُضحي غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمه
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزول
يحرّمه لمع الأسنة فوقه ... فليس لظمآن إليه وصول
متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل
سوائر ربما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
وربما وخدت أيدي المطيّ بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
ومن أثر البداوة استعماله بعض الألفاظ الغريبة أحياناً، بما ألِف من خطاب الأعراب والأخذ عنهم.
وقد رأيته في كثير من تعليقاته على ديوانه يحتج بما سمع عنهم، واكتفي هنا بمثال واحد:
قال في قصيدة يعزي بها عضد الدولة:
مثلك يُثنى الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدمع من غربه
أيما لأبقاء على فضله ... أيما لتسليم إلى ربه
ثم أتى بشواهد على وضع العرب أيما مكان إمّا إلى أن قال:
وقد ظلع فرس لي فقال فلان الأعرابي وكان من أفصح الناس:
أيما نسره مفلوق، وأيما موهوص
- 7 -
ذلكم إجمال الكلام في بداوة أبي الطيب.
ولست أقول إن البداوة أنتجت هذه النتائج في أخلاقه وشعره، ولكني أقول إن بين طباعه وشعره وبين البداوة صلة قوية، غرائز في الشاعر حببت إليه البداوة وما يتصل بها، وبداوة وكّدت هذه الغرائز في نفسه.
وبهذه الأخلاق الحرة، والطباع القوية، والشجاعة والإقدام كان أبو الطيب أقرب إلى الروح العربي من غيره.
ولو أن عمرو بن كلثوم، وعنترة العبسي، والحارث بن حلزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.
الدكتور عبد الوهاب عزام
مجلة الرسالة - العدد 163
بتاريخ: 17 - 08 - 1936