كتاب كليلة ودمنة من أكثر كتب التراث الأدبي والأخلاقي انتشارا في العالم ،حيث تمت ترجمته إلى لغات عديدة ، تهدف حكاياته وقصصه إلى تهذيب الأخلاق وإصلاح المجتمع ، ونصح الخاصة قبل العامة ، باعتبارهم أصحاب السلطة إلى ما يجب أن يكون عليه سلوكهم ومعاملتهم لتستقيم أمور دولتهم .
انتظمت الحكمة على ألسنة الحيوان والطير ، في شكل قصص وحكايات ليرتدع أصحاب الحكم، ويستفيدوا من ماجريات الأحداث في عالم غير عالمهم ، ويرتقوا بعواطفهم ، ويتخلصوا من شرور أنفسهم في أسلوب شيق وحكاية مثيرة .
وكان قد وضعه باللغة السنسكريتية الفيلسوف الهندي بيدبا لملك الهند دبشليم بعد أن لاحظ جوره وظلمه، واستبداده بشعبه ، وباعتباره عالما حكيما ذهب إلى انتقاد سلوك الملك والدعوة إلى إصلاح سياسته بانتهاج طريق القص والحكي من خلال حكايات ونوادر تنتهي كل واحدة منها بعبرة أو حكمة يقبلها العقل ويجيزها المنطق .
يضم الكتاب خمسة عشر بابا ، تدخل قصصه في باب الغرائب ، لأنها تنطق الحيوان والطير ، وتجري الحكمة على ألسنتهما ، وهي :
باب الأسد والثور ،باب الحمامة المطوقة، باب البوم والغربان ،باب القرد والغيلم ،باب الناسك وابن عرس ، باب الجرذ والسنور ،باب الملك والطائر فنزه ، باب الأسد وابن آوى والناسك ،باب اللبؤة والإسوار والشغبر ، باب إيلاذ وبلاذ وإيراخت ، باب السائح والصائغ ، باب ابن الملك وأصحابه ، باب الفحص عن أمر دمنة ، باب الناسك والضيف ، باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين .
ترجم هذا الكتاب إلى لغات عديدة ، منها اللغة العربية عن النسخة الفهلوية ، أنجز الترجمة عبد الله بن المقفع كاتب عيسى بن علي عم الخليفة أبي جعفر المنصور ، وأحد نوابغ أبناء الفرس في العلم والكتابة ، وأكثرهم تبصرا في أمور الإدارة ،تمثل ذلك رسائله المتميزة الملغزة ، ظاهرها أخلاق وحكمة وباطنها تدبير سياسة الرعية وتنظيم شؤون الحكم .
ولعل الداعي إلى الانصراف إلى ترجمة هذا الكتاب ، يعود إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي كان عليها المجتمع العربي ، وإلى توتر العلاقة بين السلطة والشعب ، وإلى ظلم الحكام واستبدادهم بأمور الرعية ، فكان الكتاب ضابطا للاسترشاد به في السياسة والحكم ، وتنبيه الخاصة والعامة إلى حرب الفساد والانحراف ، والتقيد بأواصر الحكمة وأسباب التدبر في المعاملات ، رغبة في إصلاح المجتمع وحرصا على وحدته .
وعندما عني ابن المقفع بكليلة ودمنة ، فلاشك أنه أعجب بالحكيم أو الفيلسوف الهندي بيدبا ، وطريقته الناجحة في نصح وتوجيه الحاكم دبشليم الذي استبد بأمور شعبه ، وأساء السيرة فيه ،متشبعا بالحكمة القائلة:" إن مجاور رجال السوء ومصاحبهم كرائب البحر ، إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق أي المخاوف " ، ومن ثم يبلغ العاقل بالحيلة ما لا يبلغه بالخيل والجنود ، وفي ذلك يقول بيدبا :" كنت أسمع من الحكماء قبلي تقول : إن الملوك لها سورة كسورة السراب ، فالملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء، وأدب الحكماء، فالواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء ، والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها ، وتأديبها بحكمتها ، وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم، ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل، فوجدت ما قالت الحكماء فرضا واجبا على الحكماء لملوكهم ليوقظوهم من رقدتهم " .
وفي مقدمة كليلة ودمنة تفاصيل خبر وضعه ، ونجاح الفيلسوف بيدبا بحكمته وحنكته ، وحسن تدبره وتبصره في إقناع الملك دبشليم بتقويم المنآد ، وتصحيح المسار، بل لقد أغرته حكمة بيدبا بدعوته إلى وضع مؤلف " يستفرغ فيه عقله، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها ، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته ، فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما نحتاج إليه في معاناة الملك ، وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب بعدي ذكرا على غابر الدهور ".
ويضيف دبشليم قائلا :" يابيدبا ، لم تزل موصوفا بحسن الرأي وطاعة الملوك في أمورهم ،وقد اختبرت منك ذلك ، واخترت أن تضع هذا الكتاب ، وتعمل فيه فكرك،وتجهد فيه نفسك ، بغاية ما تجد إليه السبيل ، وليكن مشتملا على الجد والهزل واللهو ، والحكمة والفلسفة ".
إن ما يدعو إلى التأمل هو اجتهاد الحكيم بيدبا في تأليف كتاب في السياسة والحكم ، تعود إليه الخاصة والعامة في شكل حكايا وقصص تدور على ألسنة البهائم والطير ، وتتضمن ما يحتاج إليه الإنسان من قواعد وأسس لسياسة نفسه وأهله ، وتدبير شؤونه وشؤون غيره ، وتنظيم علائقه الخاصة والعامة ليعم العدل ، وينتشر الأمن .
يدعو الكتاب قارئه إلى إعمال الفكر والروية للإفادة من الحكاية والانتفاع من الرواية ، إذ العلم لا يتم إلا بالعمل .
يتكئ العمل الحكائي في كليلة ودمنة على حوار ثنائي يدور بين الملك دبشليم ووزيره الحكيم بيدبا بضرب المثل في موضوع من الموضوعات ، ولعلهما بهذا الحوار يشتركان في تأليف الكتاب وإنجازه ، باعتبار الأول آمرا بالتأليف ومقترحا الموضوعات ، فهو يخاطب بيدبا في مطلع كل حكاية : " اضرب لي مثلا ، أو : قد سمعت مثل إخوان الصفا ء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدو الذي لا ينبغي أن يغتر به "، فيعمل المؤلف بيدبا على تنفيذ أوامر الملك ، ويشحن طاقاته ليميل إليه سمعه ، ويثير فضوله ، ويشركه في عملية الحكي والسرد .
عن طريق السؤال ، والدعوة إلى الإخبار وضرب المثل ، يأخذ بيدبا في عرض إنتاجه أو حكمه، مبديا رغبة في سرد حكايته ، مطمئنا إلى مشاركة المتلقي في العملية السردية وهو طبعا دبشليم ثم الخاصة والعامة ، فهو يدعو السارد إلى إخباره وتحديثه ، يقول دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف :"حدثني إن رأيت عن إخوان الصفاء ، كيف يبتدأ تواصلهم ، ويستمتع بعضهم ببعض " ، ويقول كذلك في قصة أخرى :"فاضرب لي مثل الرجل الذي يطلب الحاجة ، فإذا ظفر بها أضاعها" ،فهذه الدعوة إلى الاستفادة أو إثارة السؤال يكشف عن رغبة السامع في الإصغاء، وعن اهتمامه بالموضوع ، وحاجته إلى استخلاص العبرة ، وقد يغري الراوي بحسن استماع السائل عن طريق العبارة التوضيحية :" وكيف كان ذلك " .
وينبري السارد إلى الإفصاح عن نفسه باعتباره ناقلا للخبر أو راويا له ، فيختار له إطارا افتتاحيا يتكرر في كل الحكايات ، يعلن فيه عن بداية السرد أو الحكاية ، تبدو فيه العبارة " زعموا أن " مفتاح الحكاية ومنطلق الخبر.
لكن ، من صاحب الزعم؟ من مخترع الحكاية ؟
يظهر أن أصحاب الزعم والاختراع هم حكماء تناقلت الأجيال عنهم الحكمة ، وروتها وأشاعتها، واستفادت من دلالاتها ومغازيها ، ومن ثم لم يكن لبيدبا مندوحة من الاستفادة من أمثال وحكم الحكماء القدامى ، وقد اختاروا لها رموزا ودلالات يحسن بها تقديم الحكمة وضرب المثل .
لقد صيغت الحكمة على ألسنة الحيوانات ، ونجح الحكماء في القيام بدورهم التعليمي ، فهم يوجهون الخطاب إلى مختلف الطبقات ، متوسلين بدقائق الحيل لتأديب العامة ، وتقويم سلوك الملوك ، ولإصلاح الاعوجاج ، فإثارة المتعة والسؤال والاستعانة بالمثل من مستلزمات السرد في كليلة ودمنة ، يخلص منها المتلقي إلى أن هناك دعوة إلى الفعل والسلوك .
استعمال الحيوانات الحيلة لقضاء حاجاتها أسعف الحكماء على صياغة الحيل للقيام بمهمتهم التعليمية ، فوضعوا الأمثال على ألسنة الحيوان ، وهم يخاطبون شرائح اجتماعية مختلفة تضم السخيف والعاقل والمتعلم والجاهل ، الحكيم والمتهور، يقول ابن المقفع في مقدمته :" أما الكتاب ،فجمع حكمة ولهوا ، فاجتباه الحكماء لحكمته ، والسخفاء للهوه، وأما المتعلمون من الأحداث وغيرهم ، فنشطوا لعلمه ، وخف عليهم حفظه ".
إن اللجوء إلى السرد كوسيلة للتعليم في كليلة ودمنة استدعى الاستعانة بالسخف واللهو ، وإيراد الحكمة على ألسنة البهائم ، ولعل في هذا ما يثير الاهتمام ، وينجح السارد في مهمته ومسعاه ، وهي تبليغ الحكمة للمخاطبين على اختلافهم ، وينجح المربي الحكيم في إرضاء ميول ورغبات المتلقين دون كبير عناء.
وفي علاقة المثل بالحكمة يتضح القصد أو الغاية من ذلك ، وهو العمل ، وكما يقول ابن المقفع :" فالعلم لا يتم لامرئ إلا بالعمل ، والعلم هو الشجرة ، والعمل هو الثمرة ، وإنما يطلب الرجل العلم لينتفع به ، فإن لم ينتفع به فلا ينبغي أن يطلبه "، أو " .. وإن لم يستعمل ما يعلم لا يسمى عالما " /.
طلب الحكمة إذن يدعو إلى العمل بها ، وإلا فلا فائدة من طلبها ، وفي المثل المحرك لهذه الحكمة دعوة صريحة إلى العمل أو إلى اتباع سلوك معين .
تتفاوت مستويات متلقي كليلة ودمنة ، فمنهم من يقف عند المستوى الهزلي الخرافي ، ومنهم من يقف عند المستوى الحكمي التعليمي لفطنته وبصيرته ، ومنهم من يقف عد مستوى تمثله لمضمون الحكمة فيعمل بها ويتقيد بها في سلوكه أمرا ونهيا .
ويختم ابن المقفع عرضه للكتاب قائلا:" وحق على المرء أن يكثر المقايسة ، وينتفع بالتجارب ، فإذا أصابه الشيء فيه مضرة عليه، حذره وأشباهه، وقاس بعضه ببعض ".
لذا ، فقراءة الكتاب متبوعة بالاستفادة منه، وتوظيف الحكمة التي يستخلصها المتلقي بعد أن اتضحت صورها في الأمثال الواردة على ألسنة الحيوان والطير ، وفي ذلك يقول :" فمن قرأ هذا الكتاب ، فليقتد بما في هذا الباب ، فإنني أرجو أن يزيده بصرا ومعرفة ، فإذا عرفه اكتفى واستغنى عن غيره ، وإن لم يعرفه لم ينتفع به ، فيكون مثله كمثل الذي رمى بحجر في ظلمة الليل ، فلا يدري أين وقع الحجر، ولا ماذا صنع " .
كليلة ودمنة إذن مجموعة من المواقف ، ومجموعة من النماذج التي اتخذت من الكائنات الحيوانية رموزا لتمثيل صفات ، وتجسيم سلوكات ، اكتسبت شعبيتها ، وضمنت رواج أمثالها من خلال نجاح مؤلفها أو مؤلفيها في تصوير الفضائل والرذائل ، وخلق النماذج الحية الرامزة لتصوير الصفات الإنسانية ، وكانت الأسطورة القالب الأكثر ملاءمة لضرب المثل وترصيف الحكمة على ألسنة البهائم في أسلوب قصصي مشوق .
وقد استطاعت كليلة ودمنة أن تفرض نفسها كنموذج أدبي عالمي ذي أصول هندية وفارسية ، وأن تكون الترجمة العربية الأصل الحي المعتمد فيما بعد ، وعن طريق اللغة العربية تجول كليلة ودمنة في الآداب الأوربية منذ فترات طويلة ، وهي تحمل حكمة ، وتثير انتباها ، وتتغيى هدفا …
انتظمت الحكمة على ألسنة الحيوان والطير ، في شكل قصص وحكايات ليرتدع أصحاب الحكم، ويستفيدوا من ماجريات الأحداث في عالم غير عالمهم ، ويرتقوا بعواطفهم ، ويتخلصوا من شرور أنفسهم في أسلوب شيق وحكاية مثيرة .
وكان قد وضعه باللغة السنسكريتية الفيلسوف الهندي بيدبا لملك الهند دبشليم بعد أن لاحظ جوره وظلمه، واستبداده بشعبه ، وباعتباره عالما حكيما ذهب إلى انتقاد سلوك الملك والدعوة إلى إصلاح سياسته بانتهاج طريق القص والحكي من خلال حكايات ونوادر تنتهي كل واحدة منها بعبرة أو حكمة يقبلها العقل ويجيزها المنطق .
يضم الكتاب خمسة عشر بابا ، تدخل قصصه في باب الغرائب ، لأنها تنطق الحيوان والطير ، وتجري الحكمة على ألسنتهما ، وهي :
باب الأسد والثور ،باب الحمامة المطوقة، باب البوم والغربان ،باب القرد والغيلم ،باب الناسك وابن عرس ، باب الجرذ والسنور ،باب الملك والطائر فنزه ، باب الأسد وابن آوى والناسك ،باب اللبؤة والإسوار والشغبر ، باب إيلاذ وبلاذ وإيراخت ، باب السائح والصائغ ، باب ابن الملك وأصحابه ، باب الفحص عن أمر دمنة ، باب الناسك والضيف ، باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين .
ترجم هذا الكتاب إلى لغات عديدة ، منها اللغة العربية عن النسخة الفهلوية ، أنجز الترجمة عبد الله بن المقفع كاتب عيسى بن علي عم الخليفة أبي جعفر المنصور ، وأحد نوابغ أبناء الفرس في العلم والكتابة ، وأكثرهم تبصرا في أمور الإدارة ،تمثل ذلك رسائله المتميزة الملغزة ، ظاهرها أخلاق وحكمة وباطنها تدبير سياسة الرعية وتنظيم شؤون الحكم .
ولعل الداعي إلى الانصراف إلى ترجمة هذا الكتاب ، يعود إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي كان عليها المجتمع العربي ، وإلى توتر العلاقة بين السلطة والشعب ، وإلى ظلم الحكام واستبدادهم بأمور الرعية ، فكان الكتاب ضابطا للاسترشاد به في السياسة والحكم ، وتنبيه الخاصة والعامة إلى حرب الفساد والانحراف ، والتقيد بأواصر الحكمة وأسباب التدبر في المعاملات ، رغبة في إصلاح المجتمع وحرصا على وحدته .
وعندما عني ابن المقفع بكليلة ودمنة ، فلاشك أنه أعجب بالحكيم أو الفيلسوف الهندي بيدبا ، وطريقته الناجحة في نصح وتوجيه الحاكم دبشليم الذي استبد بأمور شعبه ، وأساء السيرة فيه ،متشبعا بالحكمة القائلة:" إن مجاور رجال السوء ومصاحبهم كرائب البحر ، إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق أي المخاوف " ، ومن ثم يبلغ العاقل بالحيلة ما لا يبلغه بالخيل والجنود ، وفي ذلك يقول بيدبا :" كنت أسمع من الحكماء قبلي تقول : إن الملوك لها سورة كسورة السراب ، فالملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء، وأدب الحكماء، فالواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء ، والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها ، وتأديبها بحكمتها ، وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم، ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل، فوجدت ما قالت الحكماء فرضا واجبا على الحكماء لملوكهم ليوقظوهم من رقدتهم " .
وفي مقدمة كليلة ودمنة تفاصيل خبر وضعه ، ونجاح الفيلسوف بيدبا بحكمته وحنكته ، وحسن تدبره وتبصره في إقناع الملك دبشليم بتقويم المنآد ، وتصحيح المسار، بل لقد أغرته حكمة بيدبا بدعوته إلى وضع مؤلف " يستفرغ فيه عقله، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها ، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته ، فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما نحتاج إليه في معاناة الملك ، وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب بعدي ذكرا على غابر الدهور ".
ويضيف دبشليم قائلا :" يابيدبا ، لم تزل موصوفا بحسن الرأي وطاعة الملوك في أمورهم ،وقد اختبرت منك ذلك ، واخترت أن تضع هذا الكتاب ، وتعمل فيه فكرك،وتجهد فيه نفسك ، بغاية ما تجد إليه السبيل ، وليكن مشتملا على الجد والهزل واللهو ، والحكمة والفلسفة ".
إن ما يدعو إلى التأمل هو اجتهاد الحكيم بيدبا في تأليف كتاب في السياسة والحكم ، تعود إليه الخاصة والعامة في شكل حكايا وقصص تدور على ألسنة البهائم والطير ، وتتضمن ما يحتاج إليه الإنسان من قواعد وأسس لسياسة نفسه وأهله ، وتدبير شؤونه وشؤون غيره ، وتنظيم علائقه الخاصة والعامة ليعم العدل ، وينتشر الأمن .
يدعو الكتاب قارئه إلى إعمال الفكر والروية للإفادة من الحكاية والانتفاع من الرواية ، إذ العلم لا يتم إلا بالعمل .
يتكئ العمل الحكائي في كليلة ودمنة على حوار ثنائي يدور بين الملك دبشليم ووزيره الحكيم بيدبا بضرب المثل في موضوع من الموضوعات ، ولعلهما بهذا الحوار يشتركان في تأليف الكتاب وإنجازه ، باعتبار الأول آمرا بالتأليف ومقترحا الموضوعات ، فهو يخاطب بيدبا في مطلع كل حكاية : " اضرب لي مثلا ، أو : قد سمعت مثل إخوان الصفا ء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدو الذي لا ينبغي أن يغتر به "، فيعمل المؤلف بيدبا على تنفيذ أوامر الملك ، ويشحن طاقاته ليميل إليه سمعه ، ويثير فضوله ، ويشركه في عملية الحكي والسرد .
عن طريق السؤال ، والدعوة إلى الإخبار وضرب المثل ، يأخذ بيدبا في عرض إنتاجه أو حكمه، مبديا رغبة في سرد حكايته ، مطمئنا إلى مشاركة المتلقي في العملية السردية وهو طبعا دبشليم ثم الخاصة والعامة ، فهو يدعو السارد إلى إخباره وتحديثه ، يقول دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف :"حدثني إن رأيت عن إخوان الصفاء ، كيف يبتدأ تواصلهم ، ويستمتع بعضهم ببعض " ، ويقول كذلك في قصة أخرى :"فاضرب لي مثل الرجل الذي يطلب الحاجة ، فإذا ظفر بها أضاعها" ،فهذه الدعوة إلى الاستفادة أو إثارة السؤال يكشف عن رغبة السامع في الإصغاء، وعن اهتمامه بالموضوع ، وحاجته إلى استخلاص العبرة ، وقد يغري الراوي بحسن استماع السائل عن طريق العبارة التوضيحية :" وكيف كان ذلك " .
وينبري السارد إلى الإفصاح عن نفسه باعتباره ناقلا للخبر أو راويا له ، فيختار له إطارا افتتاحيا يتكرر في كل الحكايات ، يعلن فيه عن بداية السرد أو الحكاية ، تبدو فيه العبارة " زعموا أن " مفتاح الحكاية ومنطلق الخبر.
لكن ، من صاحب الزعم؟ من مخترع الحكاية ؟
يظهر أن أصحاب الزعم والاختراع هم حكماء تناقلت الأجيال عنهم الحكمة ، وروتها وأشاعتها، واستفادت من دلالاتها ومغازيها ، ومن ثم لم يكن لبيدبا مندوحة من الاستفادة من أمثال وحكم الحكماء القدامى ، وقد اختاروا لها رموزا ودلالات يحسن بها تقديم الحكمة وضرب المثل .
لقد صيغت الحكمة على ألسنة الحيوانات ، ونجح الحكماء في القيام بدورهم التعليمي ، فهم يوجهون الخطاب إلى مختلف الطبقات ، متوسلين بدقائق الحيل لتأديب العامة ، وتقويم سلوك الملوك ، ولإصلاح الاعوجاج ، فإثارة المتعة والسؤال والاستعانة بالمثل من مستلزمات السرد في كليلة ودمنة ، يخلص منها المتلقي إلى أن هناك دعوة إلى الفعل والسلوك .
استعمال الحيوانات الحيلة لقضاء حاجاتها أسعف الحكماء على صياغة الحيل للقيام بمهمتهم التعليمية ، فوضعوا الأمثال على ألسنة الحيوان ، وهم يخاطبون شرائح اجتماعية مختلفة تضم السخيف والعاقل والمتعلم والجاهل ، الحكيم والمتهور، يقول ابن المقفع في مقدمته :" أما الكتاب ،فجمع حكمة ولهوا ، فاجتباه الحكماء لحكمته ، والسخفاء للهوه، وأما المتعلمون من الأحداث وغيرهم ، فنشطوا لعلمه ، وخف عليهم حفظه ".
إن اللجوء إلى السرد كوسيلة للتعليم في كليلة ودمنة استدعى الاستعانة بالسخف واللهو ، وإيراد الحكمة على ألسنة البهائم ، ولعل في هذا ما يثير الاهتمام ، وينجح السارد في مهمته ومسعاه ، وهي تبليغ الحكمة للمخاطبين على اختلافهم ، وينجح المربي الحكيم في إرضاء ميول ورغبات المتلقين دون كبير عناء.
وفي علاقة المثل بالحكمة يتضح القصد أو الغاية من ذلك ، وهو العمل ، وكما يقول ابن المقفع :" فالعلم لا يتم لامرئ إلا بالعمل ، والعلم هو الشجرة ، والعمل هو الثمرة ، وإنما يطلب الرجل العلم لينتفع به ، فإن لم ينتفع به فلا ينبغي أن يطلبه "، أو " .. وإن لم يستعمل ما يعلم لا يسمى عالما " /.
طلب الحكمة إذن يدعو إلى العمل بها ، وإلا فلا فائدة من طلبها ، وفي المثل المحرك لهذه الحكمة دعوة صريحة إلى العمل أو إلى اتباع سلوك معين .
تتفاوت مستويات متلقي كليلة ودمنة ، فمنهم من يقف عند المستوى الهزلي الخرافي ، ومنهم من يقف عند المستوى الحكمي التعليمي لفطنته وبصيرته ، ومنهم من يقف عد مستوى تمثله لمضمون الحكمة فيعمل بها ويتقيد بها في سلوكه أمرا ونهيا .
ويختم ابن المقفع عرضه للكتاب قائلا:" وحق على المرء أن يكثر المقايسة ، وينتفع بالتجارب ، فإذا أصابه الشيء فيه مضرة عليه، حذره وأشباهه، وقاس بعضه ببعض ".
لذا ، فقراءة الكتاب متبوعة بالاستفادة منه، وتوظيف الحكمة التي يستخلصها المتلقي بعد أن اتضحت صورها في الأمثال الواردة على ألسنة الحيوان والطير ، وفي ذلك يقول :" فمن قرأ هذا الكتاب ، فليقتد بما في هذا الباب ، فإنني أرجو أن يزيده بصرا ومعرفة ، فإذا عرفه اكتفى واستغنى عن غيره ، وإن لم يعرفه لم ينتفع به ، فيكون مثله كمثل الذي رمى بحجر في ظلمة الليل ، فلا يدري أين وقع الحجر، ولا ماذا صنع " .
كليلة ودمنة إذن مجموعة من المواقف ، ومجموعة من النماذج التي اتخذت من الكائنات الحيوانية رموزا لتمثيل صفات ، وتجسيم سلوكات ، اكتسبت شعبيتها ، وضمنت رواج أمثالها من خلال نجاح مؤلفها أو مؤلفيها في تصوير الفضائل والرذائل ، وخلق النماذج الحية الرامزة لتصوير الصفات الإنسانية ، وكانت الأسطورة القالب الأكثر ملاءمة لضرب المثل وترصيف الحكمة على ألسنة البهائم في أسلوب قصصي مشوق .
وقد استطاعت كليلة ودمنة أن تفرض نفسها كنموذج أدبي عالمي ذي أصول هندية وفارسية ، وأن تكون الترجمة العربية الأصل الحي المعتمد فيما بعد ، وعن طريق اللغة العربية تجول كليلة ودمنة في الآداب الأوربية منذ فترات طويلة ، وهي تحمل حكمة ، وتثير انتباها ، وتتغيى هدفا …