بمناسبة عيد العمال
"منذ خلق الله الإنسان وجعل الأرضَ مستقرًا له ومقاماً، منها يأكل ويشرب وعليها يعيش ويموت، ظهرت الحاجة إلي العمل، والكفاح من أجل لقمة العيش، ثم ظهرت الحاجة إلى آلات رغم بدائيتها إلا أنها تتطلب الإتقان، ومع زيادة الطلب على آلات بعينها وأعمال معينة، بدأ المجتمع يعيد ترتيب أفراده على أساس احتياجه وقدرة أقطابه على السيطرة وبسط نفوذهم. وتنوعت أشكال الثروة من امتلاك للبهائم إلى استحواذ للأراضي الزراعية، إلى استعباد للبشر والاتجار فيهم، ثم بعد اكتشاف النحاس والذهب والفضة واختراع النقود، ظهرت الثروة الحقيقية وسطوتها وتحكمها في المجتمع.
ورغب أصحاب الثروة في تأكيد ثرائهم، وزاد نهمهم في الامتلاك والسيطرة، فعمد الإقطاع إلى بناء المصانع وتسخير أرباب الحرف لينتجوا لهم الثياب والطعام والأغراض التي من شأنها تجسيد شعور الثراء والرفاهية والسيادة لديهم، مع استمرار استغلالهم الأزلي للمزارعين الذين يزرعون أطيانهم ويسمنون مواشيهم بأموال زهيدة أو نظير توفير المأكل والمأوى لهم!
في أوروبا حتى بدايات القرن الثامن عشر، كان رأس المال مسيطرًا، والعمال يكابدون الفقر ولكن لديهم وظائفهم، ولم ينتهي هذا القرن حتى قامت الثورة الصناعية واستُبدِلت الأيدي العاملة بالآلات التي تعمل بقوة البخار، واستغنى أصحاب المصانع عن الكثير من العمال!
أصبح العمال بلا عمل، وتدنت أجور من وجدَه، فلا يجد استقرارًا أو حياةً كريمةً، وفي الوقت ذاته دخل إلى سوق العمل النساء والأطفال، فزاد المعروض من العمال، وهبطت الأجور، وصار الاستعباد والسخرة خصلتين بارزتين في المجتماعات الصناعية الناشئة، وزادت ساعات العمل في بيئة غير آدمية.
خلق النظام الصناعي الجديد في أوروبا تعاقدًا حرًا مع العمال، دون إشراف من الدولة، وتضاعف الاستغلال بتدخل الحكومات لجني الضرائب، فلم يجد العمال إلا الرفض وعدم الاستسلام لهذا الظلم الذي سلب كرامتهم وحريتهم، فظهرت أول التنظيمات العمالية في إنجلترا، وتأسست “جمعيات صداقة” انحصر دورها في تقديم الدعم والمساعدات المادية لأعضائها في حالات المرض ومواجهة الكوارث، ثم تطورت مع الوقت فصارت تعالج المشكلات الاجتماعية المترتبة على الثورة الصناعية، والاستغلال البشع للعمال، كما حاولت انتزاع نصيب عادل من الأرباح للعمال.
منذ سقوط مصر في قبضة الاحتلال العثماني، واستمرار سلطة المماليك حتى خروج الحملة الفرنسية من مصر عام ١٨٠١، لم يكن في مصر هذا التقدم الصناعي الهائل في الآلات، وكانت الصناعات يدوية، تعتمد على صُناعٍ مَهرة ينتجون ما يحتاجه الأهالي، وكانت الأشغال الصعبة التي تحتاج إلى العضلات أو الصمود لساعات أمام النار كالحدادة تترك للعبيد. أما النساء والأطفال فقد كان لهم بعض المهام التي يدعمون بها أسرهم مثل نسج الأقمشة وصناعة الحرير والحصر والأكلمة.
عندما دخل السلطان سليم الأول مصر منتصرًا يوم الاثنين ٢٦ يناير١٥١٧، بدأ النهب والسلب، ولم يدع السلطان وجنوده شيئًا يصلح للاستخدام إلا انتزعوه انتزاعًا، نساء، أطفال، عبيد، غلمان، بهائم، تحف ذهبية وفضية ونحاسية، أسلحة، كتب ومخطوطات نادرة. أسر الجنود كل العمال المهرة وأصحاب الحرف المهمة والمشايخ والفقهاء الكبار! وأرسلوهم إلى الاستانة ليصبحوا نواةً للبناء والعمران في دولتهم الوليدة.
بعدها انهارت الصناعات في مصر، ولم يعد هناك من أصحاب الحرف مَن يستطيع أن يقدم لمصر شيئًا، لقد نهبوا كل شيء، فأصبحت مصر خاوية من كل نفيس ونادر، وكبلوا الشعب بالضرائب الباهظة، وعلى حياة المصريين أن تستمر كما كانت قبل مجيئهم، وينعم المماليك بالسلطة والتسلط على المصرين نظير جمع الضرائب للباب العالي!
كانت مصر في ذلك الوقت مقسمة إلى طوائف، طائفة المسلمين، وطائفة الأقباط، وطائفة المسيحيين الشوام وطائفة المسيحيين الأروام وطائفة اليهود، وكل طائفة لها عمالها والحِرف التي يمتهنونها، فمثلًا كان البزازون (تجار الثياب) من المسلمين، واحتكر المسيحيون تجارة الخمور، بينما طائفة الجلابة (تجار العبيد) كانت تقتصر على أبناء الواحات وأسوان، وطائفة الصاغة على اليهود أساسًا وبعض المسيحيين، بينما تجارة الحمزاوي (العطارة والتداوي بالأعشاب) فكانت للسوريين المسيحيين على وجه الخصوص.
لقد كان لكل حرفة شيخ أو نقيب، وظل الوضع هكذا، وسجل بونابرت قوائم بأسماء هذه الحرف ونقيب كل طائفة أو مهنة. يشير الجبرتي في “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” طبعة بولاق إلى أنه عام ١٨٠٢ دُعيَت طوائف الحرف بالقاهرة إلى الاشتراك في بناء دار الباشا الوالي تبعًا للقوائم التي أعدتها الحملة الفرنسية: “دُعِيَت الطوائف القبطية أولًا، تلتها الطوائف المسيحية الأخرى، وأخيرًا دُعِيَت طوائف المسلمين، فأول ما بدءوا بالنصارى الأقباط، ولما انقضت طوائف الأقباط، حضر النصارى الشوام والأروام، ثم طلبوا أرباب الحرف المسلمين”. (ج٣ ص ٢٢٥)
وتتدرج هذه الطوائف والحرف من حرفة (معتبرة) مثل تجار الغورية وتجار الحرير والأقمشة، إلى حرفة (دنيئة) تلك التي تضم باعة الحلوى والملوحة (السمك المملح) وطهاة الأطعمة (الطباخين) كما كان يطلق عليها في أول عهد الوالي “محمد علي” وفي عهده كانت التفرقة بين الطوائف من حيث المنزلة الاجتماعية واضحة، وفي المناسبات الخاصة كانت الدعوة لا توجه إلا لأشرفهم وأعظمهم قدرًا.
في ديسمبر عام ١٨١٤ كان زواج ابن “محمد علي” وبهذه المناسبة منح الوالي شيوخ الطوائف ثيابًا ونقودًا تبعًا لمكانة طوائفهم وقدر الحرفة وأصحابها (الجبرتي – عجائب الآثار ج٤ ص ١٦٩).
كان لهذه الطوائف قبل مجيئ “محمد علي” دورًا مهمًا في تنظيم العمل لكل حرفة، وكان شيخ كل طائفة يلتزم بجمع الضرائب وتسيير أمور طوائفه، وكان هؤلاء الشيوخ ثلاثة
أمين الخردة: هو شيخ طوائف الخبازين والقصابين وسوق الجمال وصباغي الحرير وباعة الخردة.
المحتسب: وهو الذي يراقب الموازين والمقاييس والأسعار ويجمع الضرائب من التجار.
المعمار باشي: هو كبير البنائين (مهندس) الذي يشرف على طوائف البنائين وصناع الطوب ونحاتي الرخام وقاطعي الأحجار والحفارين والنجارين، وبقية الطوائف التي تشتغل في كار المعمار والبناء، وكان يلتزم بجمع الضرائب منهم جميعًا. وهؤلاء الشيوخ لهم سلطات واسعة ومخول لهم توقيع العقوبات على أبناء طوائفه سواء بالسجن أو الجلد أو الغرامة وغلق الدكان إذا لزم الأمر، وهذه السلطات معترف بها دون قوانين أو شرعية سوى العرف والتراضي وموافقة الحكومة.
وفي عهد محمد علي تم إلغاء المحتسب، ثم ألغيت كل هذه السلطات بعد ذلك عام ١٨٨٣ عندما أُنشِئت المحاكم الأهلية.
هذه الطوائف البدائية كانت اللبنة الأولى والمظهر البدائي الذي ضم أصحاب الحرف والمهن المختلفة، ومنها جاء التطور الذي ساير العصر، ومع بزوغ فجر الصناعات المتخصصة والمُنشأت الحكومية الضخمة مثل السكك الحديدية المصرية أو الشركات التي تُدار برؤوس أموال أجنبية مثل مصانع الزيوت والسكر والدخان والنشوق، وكذلك شركات المرافق العامة مثل شركة مياه القاهرة والإسكندرية، وشركة النور التي تتولى إنارة الشوارع والمنازل في المدن الكبرى، وشركة الترام في القاهرة والأسكندرية وشركات حلج الأقطان.
مع الوقت بدأ عمال هذه الشركات يعرفون حقوقهم، ويطالبون بها، مع صد حكومي ورفض من أصحاب الشركات الأجنبية، وكان الرد دائمًا هو “الفصل من العمل” ومع هذا قاوم المصريون وحاولوا انتزاع حقوقهم من أرباب العمل، فكان الإضراب عن العمل وسيلة للمطالبة بالحقوق ومساواتهم بالعمال الأجانب وتقليل ساعات العمل.
كان إضراب “مارس ١٨٩٩” الذي قام به العمال الإيطاليون الذين ينفذون “خزان أسوان” هو الإضراب الأهم الذي شهدته مصر، وكان من أجل تخفيض ساعات عملهم.
تعلم المصريون من هؤلاء الأجانب كيف يضغطون على أصحاب العمل، وكيف يطالبون بحقوقهم فقام عمالُ لفافو السجائر بإضرابهم عن العمل في ديسمبر ١٨٩٩ واستمر حتى فبراير١٩٠٠، كان من أهم نتائج هذا الإضراب تأسيس أول نقابة عمال في مصر عام ١٨٩٩.
كانت شركات الدخان تعتمد على عدد كبير من العمال اليونانيين والأرمن وبعض المصريين المهرة ليقوموا بلف السجائر يدويًا، ولكن بعد جلب آلات تتولى لف السجائر استغنت عن العمال المصريين أولًا ثم الأجانب، وبعدها قامت بتخفيض أجور العمال الجدد نتيجة لانخفاض المجهود أمام ماكينة اللف. ونتيجة لإلمام العمال الأجانب بحقوقهم، وثقتهم في دعم قناصلهم، قاموا بدفع المصريين إلى التظاهر والإضراب عن العمل، وكان عدد العمال المضربين ٩٠٠ عامل.
قام هؤلاء العمال بمنع شركة الدخان من استقدام عمال جدد، وأطالوا زمن الإضراب حتى ينفد المخزون من السجائر في الأسواق، مما دفع أصحاب هذه الشركات لأول مرة إلى الرضوخ لمطالب العمال، وتدخل قنصل اليونان لحل الأزمة واتفق مع قادة العمال على وقف الإضراب مقابل رفع أجورهم.
توالت إضرابات العمال -الأجانب والمصريين- دفاعًا عن حقوقهم ورغبة في رفع أجورهم وتحديد ساعات عملهم، فأضرب عمال شحن وتفريغ الفحم بجمرك الأسكندرية، وعمال الترام المصريين في الأسكندرية الذين بلغ ساعات عملهم في اليوم الواحد ١٣ ساعة متواصلة! وفي ديسمبر ١٩٠٠ عاد العمال الإيطاليون إلى الإضراب مطالبين بوقف قرار الشركة المنفذة لخزان أسوان بتخفيض أجورهم من ٣٠ قرش إلى ١٥ قرش، كما أضرب الترزية الأجانب والمصريين في نوفمبر ١٩٠١ مطالبين بحقوق لم تكن معهودة من قبل وهي تنظيم أجور القطعة وخفض ساعات العمل، واعتبار يوم الأحد أجازة أسبوعية بعد الظهر، وتحديد وقت للراحة والغداء. وفي يناير ١٩٠٢ أضرب عمال شركة الغزل الأهلية في الأسكندرية وفي مارس أضرب لفافو السجائر بالأسكندرية، أعقبه إضراب لفافي السجائر بالقاهرة وكان أغلبهم من اليونانيين.
نتج عن هذه الإضرابات تأسيس النقابة المختلطة لعمال الدخان (أسسها عمال شركة ماتوسيان) وبعدها توالت النقابات وصار العمال لهم تأثير في الحياة السياسية والاقتصادية والتفتت إليهم الأحزاب وفي مقدمتهم الحزب الوطني بقيادة الزعيم “محمد فريد” الذي ساهم شخصيًا في تحسين أوضاع العمال المصريين واهتم بإنشاء النقابات العمالية، ثم حزب الوفد.
أما ثورة ١٩٥٢ فقد كان العامل المصري ركيزتها ومحور اهتمامها، وأولت العمل النقابي اهتمامًا كبيرًا. لقد بدأت الدولة المصرية الاحتفال بعيد العمال أول مايو عام ١٩٢٤، لكن في عهد الزعيم الراحل “جمال عبد الناصر” عام ١٩٦٤ تحول عيد العمال إلى احتفال رسمي، والأول من مايو عطلة رسمية، يلقي فيها رئيس الجمهورية خطابًا أمام النقابيين والقيادات العمالية."
المراجع:
تاريخ الإضرابات العمالية والأرقام والإحصائيات مستمدة من كتاب (الحركة العمالية في مصر- رؤوف عباس حامد- المجلس الأعلى للثقافة- ط١ عام ٢٠١٦).
موقع أوبرا مصر – دراسات ومقالات
www.facebook.com
"منذ خلق الله الإنسان وجعل الأرضَ مستقرًا له ومقاماً، منها يأكل ويشرب وعليها يعيش ويموت، ظهرت الحاجة إلي العمل، والكفاح من أجل لقمة العيش، ثم ظهرت الحاجة إلى آلات رغم بدائيتها إلا أنها تتطلب الإتقان، ومع زيادة الطلب على آلات بعينها وأعمال معينة، بدأ المجتمع يعيد ترتيب أفراده على أساس احتياجه وقدرة أقطابه على السيطرة وبسط نفوذهم. وتنوعت أشكال الثروة من امتلاك للبهائم إلى استحواذ للأراضي الزراعية، إلى استعباد للبشر والاتجار فيهم، ثم بعد اكتشاف النحاس والذهب والفضة واختراع النقود، ظهرت الثروة الحقيقية وسطوتها وتحكمها في المجتمع.
ورغب أصحاب الثروة في تأكيد ثرائهم، وزاد نهمهم في الامتلاك والسيطرة، فعمد الإقطاع إلى بناء المصانع وتسخير أرباب الحرف لينتجوا لهم الثياب والطعام والأغراض التي من شأنها تجسيد شعور الثراء والرفاهية والسيادة لديهم، مع استمرار استغلالهم الأزلي للمزارعين الذين يزرعون أطيانهم ويسمنون مواشيهم بأموال زهيدة أو نظير توفير المأكل والمأوى لهم!
في أوروبا حتى بدايات القرن الثامن عشر، كان رأس المال مسيطرًا، والعمال يكابدون الفقر ولكن لديهم وظائفهم، ولم ينتهي هذا القرن حتى قامت الثورة الصناعية واستُبدِلت الأيدي العاملة بالآلات التي تعمل بقوة البخار، واستغنى أصحاب المصانع عن الكثير من العمال!
أصبح العمال بلا عمل، وتدنت أجور من وجدَه، فلا يجد استقرارًا أو حياةً كريمةً، وفي الوقت ذاته دخل إلى سوق العمل النساء والأطفال، فزاد المعروض من العمال، وهبطت الأجور، وصار الاستعباد والسخرة خصلتين بارزتين في المجتماعات الصناعية الناشئة، وزادت ساعات العمل في بيئة غير آدمية.
خلق النظام الصناعي الجديد في أوروبا تعاقدًا حرًا مع العمال، دون إشراف من الدولة، وتضاعف الاستغلال بتدخل الحكومات لجني الضرائب، فلم يجد العمال إلا الرفض وعدم الاستسلام لهذا الظلم الذي سلب كرامتهم وحريتهم، فظهرت أول التنظيمات العمالية في إنجلترا، وتأسست “جمعيات صداقة” انحصر دورها في تقديم الدعم والمساعدات المادية لأعضائها في حالات المرض ومواجهة الكوارث، ثم تطورت مع الوقت فصارت تعالج المشكلات الاجتماعية المترتبة على الثورة الصناعية، والاستغلال البشع للعمال، كما حاولت انتزاع نصيب عادل من الأرباح للعمال.
منذ سقوط مصر في قبضة الاحتلال العثماني، واستمرار سلطة المماليك حتى خروج الحملة الفرنسية من مصر عام ١٨٠١، لم يكن في مصر هذا التقدم الصناعي الهائل في الآلات، وكانت الصناعات يدوية، تعتمد على صُناعٍ مَهرة ينتجون ما يحتاجه الأهالي، وكانت الأشغال الصعبة التي تحتاج إلى العضلات أو الصمود لساعات أمام النار كالحدادة تترك للعبيد. أما النساء والأطفال فقد كان لهم بعض المهام التي يدعمون بها أسرهم مثل نسج الأقمشة وصناعة الحرير والحصر والأكلمة.
عندما دخل السلطان سليم الأول مصر منتصرًا يوم الاثنين ٢٦ يناير١٥١٧، بدأ النهب والسلب، ولم يدع السلطان وجنوده شيئًا يصلح للاستخدام إلا انتزعوه انتزاعًا، نساء، أطفال، عبيد، غلمان، بهائم، تحف ذهبية وفضية ونحاسية، أسلحة، كتب ومخطوطات نادرة. أسر الجنود كل العمال المهرة وأصحاب الحرف المهمة والمشايخ والفقهاء الكبار! وأرسلوهم إلى الاستانة ليصبحوا نواةً للبناء والعمران في دولتهم الوليدة.
بعدها انهارت الصناعات في مصر، ولم يعد هناك من أصحاب الحرف مَن يستطيع أن يقدم لمصر شيئًا، لقد نهبوا كل شيء، فأصبحت مصر خاوية من كل نفيس ونادر، وكبلوا الشعب بالضرائب الباهظة، وعلى حياة المصريين أن تستمر كما كانت قبل مجيئهم، وينعم المماليك بالسلطة والتسلط على المصرين نظير جمع الضرائب للباب العالي!
كانت مصر في ذلك الوقت مقسمة إلى طوائف، طائفة المسلمين، وطائفة الأقباط، وطائفة المسيحيين الشوام وطائفة المسيحيين الأروام وطائفة اليهود، وكل طائفة لها عمالها والحِرف التي يمتهنونها، فمثلًا كان البزازون (تجار الثياب) من المسلمين، واحتكر المسيحيون تجارة الخمور، بينما طائفة الجلابة (تجار العبيد) كانت تقتصر على أبناء الواحات وأسوان، وطائفة الصاغة على اليهود أساسًا وبعض المسيحيين، بينما تجارة الحمزاوي (العطارة والتداوي بالأعشاب) فكانت للسوريين المسيحيين على وجه الخصوص.
لقد كان لكل حرفة شيخ أو نقيب، وظل الوضع هكذا، وسجل بونابرت قوائم بأسماء هذه الحرف ونقيب كل طائفة أو مهنة. يشير الجبرتي في “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” طبعة بولاق إلى أنه عام ١٨٠٢ دُعيَت طوائف الحرف بالقاهرة إلى الاشتراك في بناء دار الباشا الوالي تبعًا للقوائم التي أعدتها الحملة الفرنسية: “دُعِيَت الطوائف القبطية أولًا، تلتها الطوائف المسيحية الأخرى، وأخيرًا دُعِيَت طوائف المسلمين، فأول ما بدءوا بالنصارى الأقباط، ولما انقضت طوائف الأقباط، حضر النصارى الشوام والأروام، ثم طلبوا أرباب الحرف المسلمين”. (ج٣ ص ٢٢٥)
وتتدرج هذه الطوائف والحرف من حرفة (معتبرة) مثل تجار الغورية وتجار الحرير والأقمشة، إلى حرفة (دنيئة) تلك التي تضم باعة الحلوى والملوحة (السمك المملح) وطهاة الأطعمة (الطباخين) كما كان يطلق عليها في أول عهد الوالي “محمد علي” وفي عهده كانت التفرقة بين الطوائف من حيث المنزلة الاجتماعية واضحة، وفي المناسبات الخاصة كانت الدعوة لا توجه إلا لأشرفهم وأعظمهم قدرًا.
في ديسمبر عام ١٨١٤ كان زواج ابن “محمد علي” وبهذه المناسبة منح الوالي شيوخ الطوائف ثيابًا ونقودًا تبعًا لمكانة طوائفهم وقدر الحرفة وأصحابها (الجبرتي – عجائب الآثار ج٤ ص ١٦٩).
كان لهذه الطوائف قبل مجيئ “محمد علي” دورًا مهمًا في تنظيم العمل لكل حرفة، وكان شيخ كل طائفة يلتزم بجمع الضرائب وتسيير أمور طوائفه، وكان هؤلاء الشيوخ ثلاثة
أمين الخردة: هو شيخ طوائف الخبازين والقصابين وسوق الجمال وصباغي الحرير وباعة الخردة.
المحتسب: وهو الذي يراقب الموازين والمقاييس والأسعار ويجمع الضرائب من التجار.
المعمار باشي: هو كبير البنائين (مهندس) الذي يشرف على طوائف البنائين وصناع الطوب ونحاتي الرخام وقاطعي الأحجار والحفارين والنجارين، وبقية الطوائف التي تشتغل في كار المعمار والبناء، وكان يلتزم بجمع الضرائب منهم جميعًا. وهؤلاء الشيوخ لهم سلطات واسعة ومخول لهم توقيع العقوبات على أبناء طوائفه سواء بالسجن أو الجلد أو الغرامة وغلق الدكان إذا لزم الأمر، وهذه السلطات معترف بها دون قوانين أو شرعية سوى العرف والتراضي وموافقة الحكومة.
وفي عهد محمد علي تم إلغاء المحتسب، ثم ألغيت كل هذه السلطات بعد ذلك عام ١٨٨٣ عندما أُنشِئت المحاكم الأهلية.
هذه الطوائف البدائية كانت اللبنة الأولى والمظهر البدائي الذي ضم أصحاب الحرف والمهن المختلفة، ومنها جاء التطور الذي ساير العصر، ومع بزوغ فجر الصناعات المتخصصة والمُنشأت الحكومية الضخمة مثل السكك الحديدية المصرية أو الشركات التي تُدار برؤوس أموال أجنبية مثل مصانع الزيوت والسكر والدخان والنشوق، وكذلك شركات المرافق العامة مثل شركة مياه القاهرة والإسكندرية، وشركة النور التي تتولى إنارة الشوارع والمنازل في المدن الكبرى، وشركة الترام في القاهرة والأسكندرية وشركات حلج الأقطان.
مع الوقت بدأ عمال هذه الشركات يعرفون حقوقهم، ويطالبون بها، مع صد حكومي ورفض من أصحاب الشركات الأجنبية، وكان الرد دائمًا هو “الفصل من العمل” ومع هذا قاوم المصريون وحاولوا انتزاع حقوقهم من أرباب العمل، فكان الإضراب عن العمل وسيلة للمطالبة بالحقوق ومساواتهم بالعمال الأجانب وتقليل ساعات العمل.
كان إضراب “مارس ١٨٩٩” الذي قام به العمال الإيطاليون الذين ينفذون “خزان أسوان” هو الإضراب الأهم الذي شهدته مصر، وكان من أجل تخفيض ساعات عملهم.
تعلم المصريون من هؤلاء الأجانب كيف يضغطون على أصحاب العمل، وكيف يطالبون بحقوقهم فقام عمالُ لفافو السجائر بإضرابهم عن العمل في ديسمبر ١٨٩٩ واستمر حتى فبراير١٩٠٠، كان من أهم نتائج هذا الإضراب تأسيس أول نقابة عمال في مصر عام ١٨٩٩.
كانت شركات الدخان تعتمد على عدد كبير من العمال اليونانيين والأرمن وبعض المصريين المهرة ليقوموا بلف السجائر يدويًا، ولكن بعد جلب آلات تتولى لف السجائر استغنت عن العمال المصريين أولًا ثم الأجانب، وبعدها قامت بتخفيض أجور العمال الجدد نتيجة لانخفاض المجهود أمام ماكينة اللف. ونتيجة لإلمام العمال الأجانب بحقوقهم، وثقتهم في دعم قناصلهم، قاموا بدفع المصريين إلى التظاهر والإضراب عن العمل، وكان عدد العمال المضربين ٩٠٠ عامل.
قام هؤلاء العمال بمنع شركة الدخان من استقدام عمال جدد، وأطالوا زمن الإضراب حتى ينفد المخزون من السجائر في الأسواق، مما دفع أصحاب هذه الشركات لأول مرة إلى الرضوخ لمطالب العمال، وتدخل قنصل اليونان لحل الأزمة واتفق مع قادة العمال على وقف الإضراب مقابل رفع أجورهم.
توالت إضرابات العمال -الأجانب والمصريين- دفاعًا عن حقوقهم ورغبة في رفع أجورهم وتحديد ساعات عملهم، فأضرب عمال شحن وتفريغ الفحم بجمرك الأسكندرية، وعمال الترام المصريين في الأسكندرية الذين بلغ ساعات عملهم في اليوم الواحد ١٣ ساعة متواصلة! وفي ديسمبر ١٩٠٠ عاد العمال الإيطاليون إلى الإضراب مطالبين بوقف قرار الشركة المنفذة لخزان أسوان بتخفيض أجورهم من ٣٠ قرش إلى ١٥ قرش، كما أضرب الترزية الأجانب والمصريين في نوفمبر ١٩٠١ مطالبين بحقوق لم تكن معهودة من قبل وهي تنظيم أجور القطعة وخفض ساعات العمل، واعتبار يوم الأحد أجازة أسبوعية بعد الظهر، وتحديد وقت للراحة والغداء. وفي يناير ١٩٠٢ أضرب عمال شركة الغزل الأهلية في الأسكندرية وفي مارس أضرب لفافو السجائر بالأسكندرية، أعقبه إضراب لفافي السجائر بالقاهرة وكان أغلبهم من اليونانيين.
نتج عن هذه الإضرابات تأسيس النقابة المختلطة لعمال الدخان (أسسها عمال شركة ماتوسيان) وبعدها توالت النقابات وصار العمال لهم تأثير في الحياة السياسية والاقتصادية والتفتت إليهم الأحزاب وفي مقدمتهم الحزب الوطني بقيادة الزعيم “محمد فريد” الذي ساهم شخصيًا في تحسين أوضاع العمال المصريين واهتم بإنشاء النقابات العمالية، ثم حزب الوفد.
أما ثورة ١٩٥٢ فقد كان العامل المصري ركيزتها ومحور اهتمامها، وأولت العمل النقابي اهتمامًا كبيرًا. لقد بدأت الدولة المصرية الاحتفال بعيد العمال أول مايو عام ١٩٢٤، لكن في عهد الزعيم الراحل “جمال عبد الناصر” عام ١٩٦٤ تحول عيد العمال إلى احتفال رسمي، والأول من مايو عطلة رسمية، يلقي فيها رئيس الجمهورية خطابًا أمام النقابيين والقيادات العمالية."
المراجع:
تاريخ الإضرابات العمالية والأرقام والإحصائيات مستمدة من كتاب (الحركة العمالية في مصر- رؤوف عباس حامد- المجلس الأعلى للثقافة- ط١ عام ٢٠١٦).
موقع أوبرا مصر – دراسات ومقالات
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.