توفيق قسم الله - (إيّاكِ أعني... واسمعي ياجارة)

(لي جذورٌ هنا
لي جذورٌ هناكْ
في ائتلاق السنا
واقفٌ كي أراكْ)
م .كجراي

يبدو أني لم أكن من هواة الصخب المزعج والأضواء اللافتة للأنظار ، وكذا لم أكن أميل إلى الإنعزال الكلي والتقوقع في دائرة الذات .
ولم أكن وسطيًا بين هذا وذاك ، باختصار لم أكن أشبه أقراني إطلاقًا في تلك المرحلة ، نعم لم أكن أشبههم.
لكني كنت واثقًا أن تفرّدي هذا هو الرمز السري الخاص بي ، لا أسمح لأحدٍ أن يمتلكه غيري ، لأنه مصدر تكوين شخصيتي الحقيقية ، بحيث لا أشبه أحدا ، وأستكشف ذاتي بلا ذوبان، وبلا إستنفار .
أطلقت العنان لنفسي كي تكون كما تريده أن تكون، مع الأخذ في الإعتبار الضوابط ، والقيم الدينية والإجتماعية .
وبالمقابل لا أريد أن يستحوذ أحد ما ، ليمارس على حسابه وتحت غطائه نمط حياة لا تشبهه في الأساس.
كنت أدرك أن نقطة التحول في مرحلة ما ستطرأ صدفة من الداخل دون سابق إنذار ، ودون إملاءات خارجية ؛ لأننا كنا غضوض الإيهاب ؛ في بداية طور تكوين الذات فسيولوجيا ونفسيا .
وكما هو بديهي في قانون الحياة ، للتقليد الأعمى لابد أن يتلاشى ... سواء كان للأب أو للعم أو للأخ الأكبر أو للخال، عند قدوم مرحلة الردة إلى الذات الحقيقية.
حينها المشاغب سوف يهدأ لدرجة أن لاشيءَ يغريه ، أو لا شيءَ يعجبه ويحرك ساكنه .
والإنعزالي المتقوقع في دائرة ذاته رسمها لنفسه ، سوف يتحرر من أغلاله وقيوده الثقيلة والمنهكة ؛ لدرجة أن لاشيءَ يخجل منه ، ولا شيء يضع ظله الثقيل عليه ، لينحني خنوعًا وخضوعًا كما كان .
أو لربما الكل سوف يسير على نفس المنوال ، لأنه لم يكن يتقمص دور شخصية وهمية غير شخصيته الحقيقية.
والخيار الأخير هو أن يخرج بنتاجِ خليطٍ مكتسب ومركّب من تلك كل الشخصيات المؤثرة في مراحل حياته.
بدأتْ القصةُ في إحدى صباحات أسمرا ، عندما هرولتُ وركضتُ مسرعًا على عتبات مدرستي( الجالية سابقا ، والأمل النموذجية حاليا) حاملًا حقيبتي المدرسية ، رمادية اللون، مربع الشكل ، متوسطة الحجم ، كانت تُحْمل على الكتف ، على غرار آخر صيحات الموضة لشباب أسمرا ( أزمارينو ) أعلام التحضر والأناقة بلا هوادة أنذاك .
الحقيبة اشتراها لي والدي من متجرٍ ، جوار مكتبه ، كان يملكه صديقه/ حفيد عائلة ( كوهين ) اليهودية الذائعة الصيت في أسمرا.
أتذكر الحقيبة المدرسية كانت معلقةً بالعناية في المعرض الأمامي للمتجر ، بحيث تثير إعجاب الطلاب ، وتستقطبهم عنوةً بطرازها العصري الخلّاب، لأكون في الأخير أنا الضحية المرتقب الذي وقع في شرك المصيدة المُحْبكة بمكرِ التاجر اليهودي المحنك .
.
وكان ذلك عندما نظرت إليها أثناء ذهابي إلى مكتب أبي ، أستخدمت أسلوبي الإستلطافي الخاص عند الطلب منه ، وأبي كان يدري جيدا عندما أبدأ في محاولة الإستدراج والتقرب بأسلوب الميوعة والليونة مع تنفيذ أشياء يحبها مسبقاً ؛ مثل تنظيف المكتب ، وغسل السيارة ، وتلميع الحذاء ، الذي كان يستهويه ضمنيًا ، ولكنه كان يتظاهر أنه يريد الأسلوب المباشر في الطلب .
هذا الأسلوب كان يستهجنه ويستنكره أخي الأكبر مني غبطةً ، لأني كنت أتفوق عليه في هذا الأسلوب ، بما أن شخصيته كانت جديةً وصارمةً ؛ كان لا يجيد أسلوب الليونة ، عكسي تماما ، ونتيجة ذلك غالبا ماكان يُرفض طلبه ، أو يؤجل على قيد التنفيذ ، بينما كان طلبي في الغالب ينفذ فورا .
- ( يا بني ...دعك من اللف والدوران.. حدثني مباشرة ماذا تريد؟ ! )
كانت عبارة يرددها دائما أبي ( رحمه الله ) مطلقا قهقهات خفيفة تعبر عن الرضى التام ، عندما أبدأ في ممارسة أسلوبي ولعبتي المكشوفة عنده ، إذا أردت منه طلبا.
نعم لم يكن يرفض طلبي قط ، إلا في بعض الأحيان.. نسبة لأني كنت أثق من حنكة أسلوبي وأرفع سقف الطلب .
بعد الموافقة المبدئية منه ، ذهب معي إلى المتجر وسأل عن سعرها ، ووجدها غالية ، فوق ميزانيته الذي كان خصص لها ، و كموظف حكومي كان يتقاضى راتبا شهريا ، لا بد أن يضع أمامه خطة لميزانيته ، بحيث يمر الشهر سلسًا ، دون زوبعات مالية تؤثر على نمط حياة الأسرة .
كان أبي على أهبةِ مغادرة المتجر ؛ من غير إبداء أية رغبة للشراء أمام صديقه ...منعاً للإحراج ، لأنّ التوقّع الذي كان في ذهنه وبمقدوره أن يصرف لها ، والذي حصل في الواقع ، الفارق لم يكن مشجعًا للمساومة والتقارب... بحيث يسد الفجوة بالسهولة دون ضرر .
لكن صديقه الطيب / حفيد كوهين ، الذي يقدس الإنسانية والعشرة ، أدركَ إحساسي وشعوري عندما نظر إلى وجهي البرئ الذي أصبح مثل ( الكمونية البائتة ) تقلصًا وإنكماشًا من شدة الزعل والإحباط ؛ قال له مبتسما وهو يحدق إلىّ بالعناية كأنه كان ينتظر ردة فعلي ، وأنا في قمة النشوة والفرح :
- (خذها هديةً مني لإبنك هذا!!) .
صراحة لا أدري ما دار بينهما من حديث المجاملات بعد ذلك، أهم شيء عندئذ كان أن الحقيبةَ أصبحتْ ملكي ...بغض النظر عن من سيدفع ثمنها ، ولم أتذكر ما دار من تفاصيل الحديث بينهما ، بعد أن أطلق عبارته الأخيرة ، هذا لم يكن من شأني ولا من إهتمامي في تلك اللحظات .
في ذاك الصباح كان بداخل تلك حقيبتي الرمادية التى مرّ على شرائها أكثر من ٣ فصول دراسية ؛ كتبا مدرسية و بعضَ أوراقٍ غزلتُ فيها خيوطَ الكلامِ المنمقِ شعراً ونثرا، كي أبثها عبر أثير الإذعة المدرسية في تلك الفترة الصباحية .
ذهبت كالعادة إلى مكتب مدير المدرسة والمشرف العام للجمعية التي كانت تضم تحت أنشطتها فرعَ الإذاعة المدرسية،...ذهبت إلى مكتب الأستاذ الشاعر / محمد عثمان كجراي، رحمه الله ؛ كي أطلعه على المواد المعدة للبث مسبقًا ، بعد أن بذلتُ جهدا في تنقيحها نحوا وصرفا.
أتذكر أسماء بعض الإخوة الذين كانوا ضمن هيئة الإذاعة منهم :
الأخت / سلوى الحاج ، الأخ القاص / أبرار عبدالله ، والأخت / سلمى حالي ، والأخ الصحفي / محمود أبوبكر ، والأخت / نجاة عبده ، والأخ / ناصر يوسف ، والأخ الفنان / جامع محمد خير ، والأخت / زينب عبدالحي ، وكذا الأخت/ بخية حيدر وغيرهم ، أما الإعلامية / فرحة عبد الحميد ؛ قد كانت تشاركنا بنصوصها الأدبية الغزيرة .
دخلت إلى مكتب المدير ... والأستاذ الشاعر / كجراي ، بمعية صديقي/ محمود أبوبكر ، كان ضمن هيئة الإذاعة المدرسية ، لم يكن أحد في المكتب غير عضوٍ واحدٍ من مجلس الأباء ، كان طلب إستدعائنا فور وصولنا إلى المكتب لأمرٍ طارئ ، ولكن لم نعطِ فرصةً زمنيةً للمكلف بإبلاغنا أن يلتقينا ، حتى دخلنا المكتب الذي كنا نعتبره فصلنا الثاني ، بحكم أنشطتنا الثقافية وقربنا من الشاعر / كجراي .
بدأنا بالسلام عليه ولكن رده كان متكاسلا كغير عادته ، وكان وجهه مكفهرا كجلادٍ عبوس ، باغتنا دون مقدمات بهذا السؤال :
- ( لماذا أنتم في هيئة الإذاعة من خلفية واحدة؟!)
كنت أتباهى وأدّعي بإدراكي السريع للعبارات المغلفة والمبهمة، ولكن هذا السؤال الصادم وللأسف نسف إدعائي ، قد لا أبالغ إن قلتُ أخذتُ وقتًا ليس بقصيرٍ كي أستوعب معناه ، ليس لأن لغته كانت مستعصية ، وأستخدم فيها لغةً بلاغيةً مُحْكمة فاقت قدراتي اللغوية، بل لأني لم أكن أتوقع أن تخرج هذه العبارة المنفرة والمقززة ، من فم هذا الأب الوقور ، الذي كنت أكن له جل الإحترام والتقدير.
ولكن صديقي/ محمود أبو بكر الذي كان معي تدارك الموقف ، ولم يريد إحراجَ الأبِّ وذلك بطلب التوضيح منه أو بإستنكارٍ لفظي خادش ، أو الخوض في تفاصيل إنصرافية تقود لمشاداة كلامية لا يمكن أن تقع بين الأب والإبن البار ، حفاظا لمقامهِ الأبوي .
أستطرد صديقي قائلا :
- ( العم /..... ، الأمر ليس كما تظنه ، وليس كما قاموا بإعطائهم لك صورة نمطية سلبية عنا ، نحن ... ) .
قاطعه العم / ....بنبرة هادئة
- ( ليس أنا من تقدم بهذه الشكوى ، بل وصلتني من بعض الطلبة ، وأنا هنا لست بصدد إتهامكم ، كلكم أبنائي ، أنا فقط همزة الوصل بينهم وبينكم وبين الإدارة )
- ( قبل أن نذهب بعيدا ... أنا وتوفيق الذي أمامك لا ننتمي إلى قبيلة واحدة كما يدعون ) رد عليه صديقي / محمود بكل أدبٍ وإحترام .
ومن خلال حديثهما ، أدركت المقصد .. ساعتها تمنيت لو كنت نعامة لأجد مشروعية دفن رأسي في التراب ؛ كي لا أسمعَ هذا الأب الجليل يتفوه بعبارات أستهجنها وأستنكرها بشدة . لم أكن أقتنع بقاعدة ( ناقل الكفر ليس بكافر ) ، كان لدي تطرف شديد ضد التطرف والعصبية .
فحقيبتي التي أعطاني إيّاها الرجل اليهودي الذي أتى من وراء البحر ، ولم يعاملني بالدونية بل غمرني بالحب الأبوي ، كانت معي ...أحتفظ بها كل أغراضي حتى أسماء هيئة الإذاعة المتهمين بالعنصرية ، والمواد التي سأقدمها في الإذاعة المدرسية .
محمود درويش الفلسطيني الثائر أحب ريتا الإسرائيلية ، ريتا وفلسطين في عين الشاعر / درويش كانتا عينين جميلتين في وجهٍ واحد ، كانت بينهما مسافة الحب والإنسانية اللتان لا تتجزآن ، وهن أعدل قسمة بينهما ، وكان يرى الشاعر /درويش الفلسطيني أن كل وردة خطفتْ لأجل ريتا الإسرائيلية وفلسطين قد فازت بحسن الخاتمة .
وصديقي المصدوم الذي يتحدث مع الأب الجليل بكل ذهول محافظًا على أدبه الأصيل ، لم أنتبه من قبل انه توجد بيننا عوامل غير مشتركة إلى تلك اللحظة.
كنت أراه بمثابة أخي البيولوجي كغيره من أصدقاء الطفولة .
هذا كان في بداية أخذي للقاح ضد العنصرية لتقوية المناعة من الهجوم الخارجي ، أو بالأحرى بعده أصبحتْ لدي في مواجهة العنصرية و التعصب القبلي المقيت مناعةً مثل المضادات الحيوية تماما ، إذا أستخدمتها ضد إلتهاب محددٍ بالتكرار في بعض الحالات؛ تجد أن الكائن قد طوّر مقاومته لتلك الأدوية .
تدريجيا أصبحتْ لدي مقاومة قوية ، حتى وصلت لدرجة البلوغ والنبوغ فيها ؛ مكنتني الان من متابعة الساحة الإرترية في الفضاء الأسفيري الأزرق دون أن أتضايق ، وأشاهد صراصير الوسائل الإجتماعي تعربد وتتصدر المشهد بلا حياء .
بعد هنيهة من الزمن وقبل أن نستفرع كل ما في جعبتنا على الطاولة ، جاء الأستاذ الشاعر / كجراي .
قام الأب برفع التقرير إليه مباشرة من باب الأمانة المهنية ؛ واتباعا للتسلسل الإداري .
الغريب في الأمر والمدهش حقاً..حتى شاعر القطرين / كجراي الذي يمتلك ناصيةَ لغةِ الضاد، التي كُتبت الشكوى بأبجديتها ، لم يستوعب الأمر ، مثلما حدث معي تمامًا ، أستغرق منه وقتًا كي يدرك المضمون ويمسك بخيطه .
أتذكر عبارته التي قالها لنا بصوته الفخم والضخم وهو يطأطأ رأسه مندهشا ، وبلهجة سودانية رأيتها تزداد جمالا وبهاءً عندما يتحدث بها كجراي ؛ رافعا سبابته نحو وجهه المزدان بالشيدلي :
( شنو الكلام دا ياجماعة ....أنا عمري كله عشت في السودان مع شلوخي التي ترونها مرسومة على وجهي ، وتدرون جيدا أن السودان وطن يضم شعوبًا متعددة الأعراق ، إلى الآن لم أصادف شخصًا تنمر علىّ بذريعة إنتمائي لهذا الوطن ، بالعكس كان الكل يحتويني ويعاملني كأني من أفراد عشيرته ، دعونا من هذا الهراء الرجعي!!!)
وقام من كرسيه منتفضًا، وقد أستحكمه الغضب
- (يا جماعة ماممكن نسمع الكلام المقزز في طليعة هذا الصباح ونعكر صفوه).
بعد عامٍ على مضي الواقعة ، تشرفتُ بإلقاء شعرٍ مع نخبة من الشعراء وفي مقدمتهم الشاعر / كجراي ، في أمسية أدبية في حاضرة بركة ( أغردات ) ، بعدي مباشرة تقدم الشاعر / كجراي لإلقاء الشعر ، وعندما صدح بهذه الأبيات ؛ أزداد حدسي الشعري أكثر ، ولا أظن احدًا من الحضور خاض في عمق الأبيات مثلي ، لربما صديقي/ محمود أبوبكر ، الذي كان مقدما للبرنامج أدرك المفهوم بحكم انه كان معي أنذاك.
(لي جذور هنا (في السودان)
لي جذور هناك (في أرتريا)
في ائتلاق السنا
واقف كي أراك).
العنصرية عرض وإنعكاس لقلبٍ مريض، كان بوسعه أن يتعافى كليا ، لو ترك مساحةً أو متسعاً للحب.
هكذا تغلب عليها العظماء:
( عند خروجي من السجن أدركتُ أنه إن لم أترك كراهيتي خلفي فإنني سأظل سجينا) مانديلا.

بقلم / توفيق قسم الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى