تحلم الطفلة الروسية نيكاتوروبينا في أن تداوي جراح العالم بالحب، وأن تمسح عن قلوب البشر مشاعر القهر والإحساس بالشقاء، إنها تريد بخيالها الإنساني الخصيب أن تهب الإنسانية كل الحب الذي يتراءى لها في جمال قوس قزح وفي أريج البنفسج، إذ تهزج حالمة: يا للخسارة.. - لو كنت بصارة... لقرأت بخت الناس بالأزهار... وداويت جراح الأرض بأقواس قزح..! (أليس في بلد العجائب)
===============================================[/B][/CENTER]
مقدمة:
=====
تسجل صدمة الولادة المشهد الاغترابي الأول للإنسان، وفي هذه اللحظة الصدامية الأولى ينتقل الإنسان من وطن الأنس المطلق إلى عالم يواجه فيه تحديات الوجود.، وتُدوّي صرخة الحياة الأولى تعبيرا عن إحساس الألم الأول، وبداية الانطلاق في رحلة الاغتراب (1). فالولادة هي الهجرة الأولى من وطن الحب المطلق إلى وطن الجفاء المجهول، الهجرة من كون متدفق بالعطاء إلى عالم المواجهة والتحدي، وفي هذه النقلة الأولى يتجسد معنى الاغتراب النفسي والعاطفي للإنسان في أكثر مظاهر الاغتراب والاستلاب جموحا وجنونا.
وفي مرحلة الطفولة المبكرة تكمن أسرار الوجود الإنساني، أسرار القوة وأسرار الضعف، فالشخصية الإنسانية تشكيل طفولي تحددت سماتها وملامحها في المحطات الأولى من مرحلة الطفولة المبكرة. والطفولة الإنسانية ليست فراغا بل وجودا حيويا متدفقا، وهي ليست نسيانا، بل فيضا أصيلا يتدفق في الذاكرة الوجودية. فالعلبة السوداء للوجود الإنساني مشحونة بتاريخ الطفولة، وفي كل منعطف من هذا التاريخ ترتسم ملامح الشخصية الإنسانية وتتحدد معالم وجودها. وليس غريبا أبدا أن تكون الطفولة مستودعا لطاقات النمو، وذخيرة لأسرار الحياة الإنسانية، وبذورا لسمات الشخصية للإنسان. وهذا يعني أن أسرار التصدع وعوامل التكامل مسجلة في العلب السوداء للطفولة الإنسانية [2].
فالمعاناة الوجودية لصدمة الولادة، التي تضع الكائن الإنساني وللوهلة الأولى في لحظة اتصاله الأول بالعالم الخارجي، تأخذ مداها وتتعاظم أهميتها في غضون السنوات الثلاثة الأولى من عمر الكائن الإنساني، وتشكل المرحلة الحاسمة التي تلعب دورا كبيرا في رسم الملامح الأولى لشخصية الكائن الإنساني لاحقا، وتلك حقيقة تكاد تحظى بإجماع العاملين في مجال علم النفس والتربية [3].
في أصل العقد النفسية:
==============
إنه لمن المدهش حقاً هذا الانفعال الجارف الذي يسيطر على بعض المرضى الراشدين، الذين يعانون من بعض العقد النفسية، عندما يسرّون لطبيبهم حوادث جرت لهم في مرحلة الطفولة المبكرة وذلك بعد عدة جلسات معالجة واسترخاءات. حيث يبدأ هؤلاء المرضى بالبكاء وهم يسترجعون ذكريات متوغلة جداً في مراحل طفولتهم المبكرة، وهي ذكريات قدر لها هنا، وتحت تأثير المعالجة النفسية، أن تصعد إلى السطح من ساحة اللاشعور السحيقة، أو من العلبة السوداء بوصفها السجل التاريخي للوجود الإنساني، إلى ساحة الشعور.
وهي ذكريات تعود إلى الطفولة المبكرة ما بين الثالثة والخامسة من العمر. وبعض من هذه الذكريات يعبر عن إكراهات وإحباطات بالغة الشدة عاناها الفرد في مرحلة طفولته وقد أخذت في داخل الفرد نوعا من مشاعر الكراهية والحقد التي قتلت في نفس الفرد إحساسه بالسعادة وأثرت كثيرا في تصوراته وحياته العاطفية.
ومن أجل توضيح هذه المسألة، يمكننا أن نورد حالات عديدة، منها حالة امرأة شابة في الثامنة والعشرين من عمرها، متزوجة منذ سنوات أربعة، أحيلت إلى الطبيب النفسي لإصابتها ببرودة عاطفية حيث لم يتح لها أبدا أن شعرت بالرعشة العاطفية أبدا. وبعد ثلاثة جلسات تحليل واسترخاء تحت إشراف الطبيب تذكرت السيدة جانبا سحيقا من أحداث حياتها في طفولتها وهو أنها كانت تتعلق بصدر أمها في حوالي الثالثة من العمر لأن أمها هي الوحيدة التي كانت تحبها بينما كان أبوها وأخوتها الأكبر يمارسون العنف إزاءها. فيما بعد وعندما وصلت إلى مرحلة الرشد كانت تشعر دائماً بخوف شديد من الرجال وذلك باستثناء زوجها الذي كان يذكرها بحنان أمها.
يؤكد علماء النفس المعروفين مثل: ميلاني كلان Melanie klein، ووينيكوت Winnicott، و سبيتز Spitz، ووالون Wallon، على أهمية دراسة الشروط العاطفية للرضيع لإدراك التطورات النفسية اللاحقة عند الراشدي (4) وليست غريبة علينا اليوم هذه الأهمية الكبيرة للشروط الخاصة بحياة الأطفال الرضع ومدى تأثيرها في نموهم وتطور سماتهم الشخصية اللاحقة. ومع ذلك يمكن القول بأن الدراسات التي أجريت وتجرى على حياة الأطفال المبكرة ما زالت حديثة العهد، حيث بدأت مرحلة جديدة من الأبحاث والدراسات في اتجاهات متعددة حول الطفولة وقضاياها وذلك على أثر أبحاث فرويد ونظرياته التي أطلقت عنان هذه الدراسات.
صدمة الولادة:
=========
وغني عن البيان أن دراسات رانك Rank تؤكد بصورة قطعية على أهمية صدمة الولادة للكائن الإنساني في نشأة الأمراض النفسية المختلفه، وذلك لأن الولادة هي الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الفرد في المستويين البيولوجي والسيكولوجي، فالولادة هي الانفصال الأول للكائن الإنساني (الجنين) عن الأم.
وعلى أثر هذه الأبحاث والدراسات بدأ الاهتمام يتمركز حول دراسة الأجواء التي تحيط بعملية الولادة، وتأثير هذه الأجواء الانفعالية على صحة الأم الشابة وعلى نوعية العلاقة التي تربطها بمولودها الجديد.
ومنذ عدة سنوات بدأ علماء النفس والأطباء يهتمون بدرجة ملحوظة بحياة الأجنة ومسارات تطورها. وانطلقت الدراسات العديدة في أنحاء مختلفة من العالم تسعى اليوم إلى دراسة ذبذبات الدماغ ونشاطه عند الجنين وذلك عبر التصوير الإلكتروني المتطور.
وبينت هذه الدراسات جميعها أن الأجنة تشعر بانفعالات الأم وتتأثر بها إلى حد كبير، ويحدث للجنين تحت تأثير بعض الظروف الخارجية أن يصرخ وأن يبكي بصورة ما. وبدأت على الأثر تظهر تصورات علمية جديدة حول حياة الجنين والأم الحامل. وقد عززت هذه التصورات الآراء الشعبية التي تفيد بأنه يجب على الأم الحامل أن تتجنب جميع أشكال الخوف والقلق والاضطرابات النفسية لأن ذلك قد ينعكس سلبا على حياة جنينها [5].
فالعلاقة بين الأم وطفلها المرتقب تتكون خلال تسعة أشهر من الحمل. وفي هذا الصدد تذكر ماركريت ليلي Margaret Liley أن بيت الرحم هو المكان الأكثر جمالاً بالنسبة للجنين، وأن الجنين داخل الرحم يسمع مختلف أنواع الضجة ونبضات قلب الأم وصوتها ". وأنه لمن المؤكد اليوم أن رغبة الأم في الحمل أو رفضها له يكون له أثر كبير على طبيعة العلاقة العصبية بين نظامها العصبي ونظام الجنين العصبي، ويكون هذا التأثير أكثر أهمية في مستوى العلاقة النفسية والانفعالية بينهما في المستقبل [6].
عندما يكون الجنين غير مرغوب فيه من قبل الأم، أو عندما يتشكل الحمل في إطار شروط سيئة سيكولوجياً وصحيا، فان الطفل الجنين يشعر بها ويعانيها ويتأثر بها على نحو بالغ السلبية. هذه هي حالة معارفنا اليوم عن وضعية الأجنة وهي حالة لا تسمح لنا بتحديد دقيق لما يعانيه الجنين في داخل رحم الأم، ولكن مع ذلك يمكننا أن ندرك بعض الأمور وذلك عن طريق الاختلاجات التي تظهر أثناء الولادة.
لقد سبق للدكتور سبيتز أنه كان أول من صور خمسة وثلاثين عملية ولادة استطاع من خلالها أن يرسم بدقة ردود الأفعال والاختلاجات الأولى خلال خمس دقائق بعد الولادة مباشرة. وقد أتاحت هذه الوثائق ملاحظة التغيرات اللاحقة التي تبدو على الرضع في تواصلهم مع الشروط التي أحاطت حضورهم إلى هذا العالم.
وتأخذ المرحلة الأولى من تشكل الأنا أهمية مركزية وذلك لأنها التجربة الأولى للحياة في العالم الخارجي (خارج رحم الأم) بالنسبة للكائن الإنساني. وهنا يأخذ الطفل والأم بالإدراك بأنهما يشكلان وحديتين منفصلتين تدريجياً. وبالتالي فان العلاقة بين الأم والرضيع تكون بالغة القوة والعمق ولا سيّما خلال الأيام الخمسة عشر الأولى، وهي علاقة رهينة بعدد كبير من العوامل الداخلية والخارجية، وفي إطار هذا الحشد من المؤثرات تأخذ علاقة الأم الخاصة بأمها هي شخصياً دوراً بالغ الأهمية ويأخذ اتجاهاً معينا في مستوياته المادية والنفسية (7).
فالأم هي الموضوع الأول لحب الرضيع الذي يكون عند لحظة الولادة كائن لاشعوري على نحو كلي. فهو كائن نفسي وفيزيائي لا متمايز منفتح ومفرط الحساسية إزاء كل أشكال العدوانية الصادرة عن الوسط المحيط به، وهو بالإضافة إلى ذلك مجرد من إمكانيات الدفاع كلياً.
الإرهاصات الأولى لسيكولوجيا الطفل:
=======================
وهنا يشير وينيكوت Winnicott إلى البنية الهشة للأنا Le moi عند الرضيع. وغني عن البيان أن وينيكوت كان طبيب أطفال ومحلل نفسي في الوقت نفسه ويمتلك تجربة علمية حصادها أربعون عاماً من العمل الخاص بالعلاقة بين الأمهات والأطفال الرضع ثم الأطفال. وهو في هذا الصدد يذكرنا بأن ردود فعل الأنا عند الراشد إزاء الصدمات النفسية الخارجية، أو أية صدمات أخرى، تختلف عن ردود الفعل هذه التي نجدها عند أنا الطفل الرضيع. وذلك لأن أنا الرضيع لا يستطيع أن يدافع جيداً وبالتالي فإن أناه يبدأ في التكون تحت شروط محددة: لأنه في حالة إتكالية وتبعية مطلقة كما يذكرنا وينيكوت Winnicott..
وتدريجياً وبفضل الأم ينبثق وجود الطفل السيكولوجي من اللاشعور الذي يطلق عليه هنا بالهو. Le Ça ففي كل يوم وفي كل ساعة تعلمه الأم وذلك وفقاً للحاجات التي يشعر بها بوجود قوى خيرة وقوى شريرة. وبالتالي فان كل حركة من حركات الأم تشعر الطفل باللذة، فهو يشعر بالسعادة عندما تدغدغه، وعندما تنظفه، وعندما ترضعه. هذا ويشكل الفم أداته الرئيسة في الحصول على اللذة، وعندما تكون الأم غير يقظة أو متعبة أو مشفقة جداً، أو على العكس شديدة التملك فان ذلك كله ينعكس سلباً على الطفل في مستوى تمايز أناه. Son Moi وإذا كانت الأم في افضل حالاتها قادرة على الاستجابة لحاجات الطفل في الوقت المناسب فان الطفل يبدأ بإدراك اللحظات التي يتم فيها أولا إشباع حاجاته. ويلاحظ في أيامنا هذه أن الأباء الشباب يعتنون اليوم بأطفالهم على نحو إيجابي وذلك يساعد على تشكّل الأنا بصورة أفضل ويأخذ المسار نفسه كما هو الحال عند الأمهات.
فالأفعال البسيطة مثل: حمام الطفل وتغذيته ومعانقته ووضعه في سريره تشكل سلسلة من الإشباعات المختلفة الصادرة عن شخص آخر مقرب من الطفل ولكنه ليس الطفل نفسه. وهنا يبدأ أنا الطفل حقاً بأخذ خطواته الأولى إلى الوجود السيكولوجي[8].
فالمرحلة الفموية التي تسم الشهور الأولى من حياة الرضيع ليست محددة تماماً، فهي مرهونة إلى حد كبير بالسياق الاجتماعي والثقافي والفردي الذي يحيط بالطفل. ففي بعض البلدان الإفريقية سبيل المثال يستمر ذوبان شخصية الطفل مع الأم حتى السنة الثانية من عمره تقريباً، وذلك لان الرضاعة تتوقف في هذا العمر وهو العمر نفسه الذي تكف فيه الأم عن حمل الرضيع على ظهرها.
ويشير علم النفس الدينامني لمدرسة التحليل النفسي إلى وجود علاقة تداخل عميقة بين المرحلة الفموية وبين المراحل التي تعقبها، ولا سيما المرحلة الشرجية، والمرحلة القضيبية أو التناسلية. ويتضح أن تحليل فرويد لبنية الشخصية ينطلق من مفاهيمه الخاصة بالدوافع والرغبات والعقبات والصراعات. ولذلك فان مستقبل هذه الدوافع الأولية هو الذي يفسر لنا التطور النفسي عند الطفل. فالدوافع الأولية تمتلك على عمليات دينامية ذات أساس بيولوجي تدفع الفرد إلى إشباع بعض الحاجات الأساسية مثل الجوع والعطش والنوم والنشاط العاطفي. والتحليل النفسي ينظر إلى الفرد بوصفه موطناً لقوى متناقضة تتفاعل والنتيجة هي تحقيق التوازن في البنية النفسية.
فالدوافع تكون مشحونة بالطاقة التي تسعى نحو التحرر، ولذلك فهي تنتهك التوازن الفيزيولوجي وتخلق حالة من الضغط الذي يشكل بدوره مصدر اللذة. ومن هذا المنطلق فان الدافع يسعى إلى موضوعه لتفجير الطاقة المتراكمة ثم العودة إلى تحقيق التوازن السابق. ويخضع هذا السلوك إلى ما يسميه فرويد مبدأ اللذة Le principe de plaisir.. ولكن المحيط الخارجي يمتلك متطلباته وضروراته وبالتالي فان الجوانب الغريزية للدافع يجب ان تخمد كلياً. وينتج عن ذلك إحباطات وصراعات. فالصراعات والاحباطات لا تعارض بالضرورة عملية نمو الأنا، وبالتالي فإن إيجاد الحلول لهذه الصراعات يسهم في بناء الشخصية ويكونها.
فدوافع الجوع والعطش والنوم هي دوافع تحقق اشباعاتها في عصرنا دون صعوبات. ولكن الدافع العاطفي يواجه في إطار ثقافتنا بعقبات كبيرة تمنع من إشباعه بشكل مباشر، ولذلك غالباً ما يتم إشباعه بطرق مختلفة مثل الأفلام والكتب الخلاعية. ومن جهة أخرى فان هذا الدافع بالغ التعقيد هنا والذي يدفع إلى تساؤل مفاده: هل يمكن لعملية الإشباع الكلية لهذا الدافع، وعلى خلاف ما يعتقده رايتش Reich، أن تؤدي إلى إطفاء الرغبة والتي تملك هي بنفسها أهمية كبيرة من أجل بناء الشخصية.
عندما يبدأ أنا الطفل بالتكون:
===================
تبدأ أنا الطفل بالتكون، كما أشرنا سابقا، منذ الأيام الأولى لحياته وتستمر عمليات هذا التكون خلال مرحلة الطفولة برمتها، وهي مع ذلك تواجه صعوبات يصعب حلها. وذلك على الرغم من الأعمال الكبيرة التي وفرها لنا علماء النفس مثل سبيتز Spitz وبولبي Boulby وهارتمان Hartmann وكريس Kriss الخ.
وإذا كان سبيتز قد كرس وقته لدراسة العلاقة بين الأم والرضيع منذ لحظة الولادة، فانه تابع أبحاثه أيضا هذه حول كيفية تشكل البيئة النفسية للطفل خلال السنوات الأولى من عمره، وهو يميز هنا بين ثلاث عمليات تطورية سماها منظمات الحياة النفسية وهي الابتسامة في الشهر الثالث من عمر الطفل، ثم ظهور القلق في الشهر الثامن، ثم السيطرة والقدرة على إعلان الرفض في السنة الثانية، وهي عملية تؤكد على الاستقلالية النسبية وتشكل الشاهد الأول لقدرة الطفل على إصدار الكلام [9].
وتعد أبحاث سبيتز حول هزال الرضيع وإضرابات التعددية والخمول الذي يعتري الرضع الذين وضعوا في المشافي وأبعدوا عن أمهاتهم لأوقات طويلة جداً من أشهر الأبحاث في العالم الطبي، وهي أيضا من أهم الأبحاث التي أجريت خارج مجال علم النفس المرضي من أجل دراسة التفاعل بين الوسط المحيط والطفل الطبيعي. والسؤال هو كيف يستطيع الرضيع وخلال الأسابيع المتعاقبة من ميلاده وحتى نهاية السنة الثانية تدريجياُ بناء علاقاته مع موضوعاته؟ وكيف تتم التحولات من المستوى الفيزيولوجي إلى المستوى السيكولوجي؟ ومن الحياة التفاعلية في داخل الرحم إلى بناء العلاقة الاجتماعية المزدوجة بين الرضيع والأم؟ هذه هي الأسئلة التي كان سبيتز يسعى إلى الإجابة عنها في أبحاثه هذه.
فالأم هي موضوع الحب الأول بالنسبة للطفل وذلك يشكل منطلق البحث عن كيفية بناء ما يطلق عليه التحليل النفسي علاقة الموضوع. فالموضوع وفقاً لمعنى هذه الكلمة من وجهة التحليل النفسي يشكل الأداة التي يتم بها ومن خلالها إشباع الرغبة.
وإذا كنا ننظر نولي علاقات الحب الأولى للرضيع إزاء أمه، فذلك لان هذه العلاقات الأولى تشكل المنطلق الأول الذي تتشكل فيه التجارب الإنسانية الأولى وقدرة الكائن الإنساني على الحب.
حيث تبين الدراسات العلمية والملاحظات المنهجية أن الأشخاص الذين عاشوا في أحضان أمهات قليلات الجدارة، كانوا سجلوا فيما بعد سيرة حياة تفتقر إلى القدرة على الحب. على مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه والإناء ينضح بما فيه. وهنا بالضبط يجب علينا أن ننظر إلى أهمية الشخصية لكل فرد ودورها، إذ يمكن القول هنا أن كل كائن إنساني يملك بالفطرة رأسمال وراثي جيني يسمح لهم بالدفاع عن النفس وبالنمو على الرغم من وجود أمهات لا يملكن الكفاية.
ويلاحظ أحيانا أن بعض الأفراد قد ولدوا في عائلات تعاني من النقص والعيوب ومع ذلك استطاعوا النمو والوصول إلى مرحلة النضج والقوة. وذلك لأنهم استطاعوا تجاوز الإحباطات التي تعرضوا لها بنجاح وأنهم تملكوا آليات دفاع هامة. وأيضا يمكن القول بأن الدراسة المتأنية لحالة الأفراد في مرحلتي الرضاعة والطفولة تسمح لنا أن ندرك بعمق أصل السلوك الخاص بمرحلة المراهقة ومرحلة الرشد أيضا، وأنه يمكن لنا ومن خلال ملاحظة السلوك الذي يبديه الشباب تجاه المربين من أباء ومعلمين أن ندرك تأثير الانفعالات والقلق أو على خلاف ذلك ردود الفعل الانفعالية التي تعيد إنتاج السلوك في المرحلة الطفولية الأولى.
مراحل النمو السيكولوجي للطفل:
=====================
يذكرنا فرويد بأن فهم الشخصية الإنسانية ممكن بإدراك ثلاث مراحل من مراحل تطورها وهي:
1 -نظام الهو (Le Ça) والذي يشكل قطب الدوافع اللاشعورية. والطفل في مرحلة ميلاده هو كلياً صورة عن الهو.
2- نظام الأنا Le Moi وهو لحظة مركزية في بنية الشخصية، وهو يتشكل وفي آن واحد من خلال عملية إدراك الفرد لجسده وإدراكه لبنيته النفسية. ومجال الأنا هو تصورات الفرد وإدراكاته للعالم الخارجي. ويقوم الأنا بدور المحافظة على ذاتية الفرد. فالأنا يستقبل منبهات الوسط الخارجي ويسقط منها ما هو خطر قد يؤثر على وحدة الشخصية. فالأنا Le moi هنا يعمل وفقاُ لمبدأ الواقع وهو يتطابق مع تفكير موضوعي وعقلاني ومع تفكير اجتماعي أيضا. ويمكن القول في هذا الصدد إن " أنا " الرضع والأطفال يعاني من الضعف والهشاشة، وإن "أنا" الراشدين يجب أن يكون قوياً متماسكاُ.
ففي مجرى الطفولة يتطور الأنا ويصبح وبشكل تدريجي أكثر تكاملاُ ونضجاُ وحتى هذه اللحظة يكون الأنا الأعلى ضعيفاُ. ويشكل الأنا الأعلى (Le Sur- Moi) نظاما شعوريا ولاشعوريا في آن واحد وهو يتشكل تدريجياُ وذلك من لحظة التنشئة الاجتماعية التي يخضع لها الطفل داخل الأسرة والمجتمع. ويتم ذلك في الوقت التي يبدأ فيها الطفل بإدراك نماذج الحياة الخارجية، ومنذ اللحظة التي يبدأ فيها باستدخال هذه النماذج والتوحد مهما. وهو إذا كان شعورياُ ولاشعورياُ في آن واحد فانه يعلن عن وجوده في عملية نقد ذاتية وعبر عملية بناء القيم الشخصية للفرد.
ويمكن القول في هذا الخصوص أن الأنا الأعلى والأنا عند الطفل يتميزان بالشاشة والضعف. ويكمن دور الأباء والمربين في تطوير أنا الطفل وذلك دون أن تكون لديه أنا أعلى صلب ومشبع بالممنوعات والدفاعات. فالتربية المتوازنة تضفي على الأنا الأعلى للطفل مرونة كاملة وذلك يسمح للطفل في أن يكوّن نموذجا أعلى وذلك مع الموافقة على واقعية الجسد وحاجاته. وهنا يجب الابتعاد عن إخجال الطفل بدرجات عالية وأن نساعده على أن يعبر عما يدور في خلده وأن يعبر عن نزعاته العاطفية حتى العدوانية منه. وتلك هي واحدة من الصعوبات التي يواجهها أكثر المربين حيث يتوجب أن يكون هناك حدا فاصلاُ بين التعبير الحر عن النزعات والدوافع من جهة، وتجليات هذه النزعات والدوافع من جهة أخرى، ويعني ذلك أنه لأبد من إجراء عملية المنع والصد.
وهنا يكمن جوهر المسألة. فمن أجل تحديد هذا الحد الفاصل لا بد من إدراك الوسط الاجتماعي والعائلي الذي يعيش فيه الطفل بطباعه وشخصيته وأناه، ومن ثم إدراك آليات دفاع الأنا لديه إذا كان ذلك ممكناُ. وذلك يعني إدراك كل ما هو مكبوت لديه في دائرة اللاشعور.
فآليات الدفاع عمليات لاشعورية بالضرورة، وهي تأخذ مجراها عندما تتعرض الشخصية لخطر ما يصدر من العالم الخارجي، وهذا ما يجب علينا أن نذكره دائماُ، فالعالم الخارجي يتمثل في انبعاث دافع أو رغبة غير مسموح بإشباعها من قبل الآباء والمجتمع.
ومن آليات الدفاع المعروفة يمكن أن يشار إلى الكبت بالدرجة الأولى وهي العملية الأكثر أهمية والأكثر تواترا، وهي العملية التي اكتشفها فرويد والتي أصبحت مقرونة إلى حد كبير باسم مدرسة التحليل النفسي مثلها مثل مفهوم العقد والمركبات (Comptexe). ويحدث الكبت في مستوى الراشدين كما هو الحال في مستوى الأطفال وذلك في كل لحظة يتعرض فيها الشخص لخطر فكرة أو دافع لا يتوافق مع الحياة الاجتماعية والثقافية، أو عندما يتعرض لإدانة الآباء والتي تؤكد على نوع الازدواجية، وهذا يعني تمازج الحب والكراهية إزاء شخص ما، وهو الذي يتوجب على الفرد أن يدين له بمشاعر المحبة فقط. فعلى سبيل المثال: تمتلك الطفل الصغير، الذي يحب أمه إلى حد العبادة، مشاعر عدوانية تجاهها، وذلك عندما لا تعطيه الحب الذي يرغب فيه، أو عندما توجه الأم عاطفتها نحو زوجها أو أبنائها الآخرين، وذلك في الوقت الذي يرغب الطفل فيه في أن يحصل على اهتمامها وحبها متفردا بها. إنه لمن المؤلم جدا أن يشعر الطفل تجاه أمه بالكراهية، وهي التي يحبها ويحتاجها في آن واحد. وتحت تأثير هذه الحالة تحدث عملية كبت هذا الحقد في ساحة اللاشعور، ويضاف إلى ذلك كله أن الأنا الأعلى يستهجن وجود هذه الكراهية ويدينها أخلاقيا.[10].
وتقدم لنا الحياة اليومية أمثلة متعددة لعلميات الكبت التي يتعرض لها الأفراد. والتي يمكن ملاحظتها في مجالات الحياة المختلفة لكل منا. إن قدرا ما من الكبت التي يتعرض له الأفراد ليس سيئا ويمكنه إن يساعد على التكيف الاجتماعي. وهناك حالات كبت ليست مفيدة فحسب بل هي ضرورية ومع ذلك لا يمكن إهمال النظر في الكبت الضار الذي يتعرض له الأفراد، فالمسألة هي مسألة الدرجة لا مسألة النوع.
ولكن كيف يمكن رسم الحدود ! يمكننا إن نقول بالمعنى الواسع للكلمة: إن الكبت يكون ضارا عندما يؤدي إلى اضطراب الحياة الانفعالية العاطفية وهندما يؤثر على درجة فعالية نشاطنا أو على إنتاجية عملنا.[11]
وتعد عملية الإسقاط Projection واحدة من أهم العمليات الدفاعية. وتتمثل هذه العملية في إسقاط المشاعر وخاصة العدوانية منها على موضوع هذه المشاعر. فالطفل الذي يشعر بالكراهية تجاه أبيه وهو الذي يثير خوفه فإن الطفل يمكنه هنا أن يكبت هذا الإحساس أو في أفضل الحالات أن يسقط مشاعره هنا على الأب حيث يعتقد الطفل هنا وبتوسط عملية الإسقاط أن الأب هو الذي يكرهه «أبي يكرهني بدلا من أنا أكره أبي». وذلك يعني أن الطفل في هذه الحالة أضاف مشاعره إلى الأب، وبالتالي فأنه قد تحرر من مشقة أن يكون هو مصدر الكراهية «كارها لأبيه» وهذا ما يسبب له آلاما نفسية ومخاوف شتى. ففي كل الحالات والأحوال فإن عمليات الإسقاط تأخذ هذه الصيغة وهي: هو الذي بدأ وهو الذي يكره.
ويمكن إدراج العدوانية الذاتية في سجل العمليات الدفاعية. وتشكل العمليات الموجهة ضد الذات العملية الثالثة من عمليات الدفاع. فالفرد في هذه العملية يرتد ضد نفسه ويدينها ويوجه إليها المشاعر العدائية التي يفترض به أن يوجهها إلى الآخرين. وهذه العملية تحميه ضد العلاقة العدوانية مع الآخر والتي يمكنها أن تكون أكثر خطورة. وحالات الانتحار خير شاهد على هذه الأوالية، وهي تمثل الحد الأقصى لهذه العملية. وذلك يتم عندما لا يستطيع الشخص أن يحتمل كونه عدوانيا تجاه العالم الخارجي وهذا يعني انه يوجه العدوان ضد نفسه بدلا من توجيهه ضد الآخرين.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى عملية التحويل المعاكس بوصفه العملية الرابعة بين عمليات الدفاع الأنوية، وقوام هذه العملية الإحساس المخالف لما هو مطلوب على سبيل المثال: عندما يلعب الأطفال يعتمدون على هذه العملية: فالأطفال الأصغر يستخدمون هذه العملية من أجل تحويل الانتصار إلى جانبهم فالذي يصل أخيرا في مجال السباق يعد هو الرابح والمنتصر.
وفي النهاية يمكن الإشارة إلى ما يسمى بالعزل وهي العملية التي يستطيع الطفل من خلالها أن يفصل بين الصورة والذكريات من جهة والسمة الانفعالية الكامنة فيها. فعندما يواجه الطفل أو الراشد حدثا مؤلما بطريقة لا مبالية، فان هذه اللامبالاة هي في أغلب الأحيان نتاج لعملية عزل لاإرادية بين الحدث والانفعال القوي الذي يرافقه وبالتالي فان الطفل قد استطاع تحييده.
وفي هذا الصدد يمكن القول أن التشكل على أساس ردود الفعل هو آلية دفاع هامة، وهي الآلية التي يحاول فيها الفرد أن يوازن بين إحساس أو رغبة لا تتوافق مع المعطيات المثالية للأنا الأعلى. فالشفقة الزائدة يمكن أن تكون رد فعل ضد عدوانية عالية جدا وغير مقبولة. والكرم المبالغ فيه يمكن أن يكون نزعة إلى الحصول على كل شيء والاحتفاظ به.
ويجب أن ألا ننسى عملية الدورة الصغرى للانفعالات وهي التجسيد وهذا يعني تحويل الشيء إلى مرض جسدي أي تحويل الصراعات الانفعالية التي لم تجد حلا لها إلى صورة أمراض جسدية وهذا هو مجال علم النفس الجسدي.
وتعد عملية التسامي Sublimation كواحدة من العمليات الدفاعية وذلك في إطار المنظور الفرويدي. وعلى خلاف ذلك فان هذه العملية هي عملية تحويل طبيعية من وجهة نظر يونغ وهي التي توجه النزعة أو الغريزة إلى الهداف روحية عليا.
فالتسامي في هذا المنظور أو ذاك هو عملية خلاقة ولو كانت صادرة عن نزعة عاطفية أو عدوانية مكبوتة، فهي التي تشكل منطلق الإبداع الفني والمهني حيث أعلن لاكان: أن أعلن بأن سر الحضارة الأوروبية يكمن في عقدة أوديب، فالنزعات المدفونة المكبوتة هي التي تتيح للإنسان أن يصبح فنانا ومغنيا ومبدعا. والأفضل دائما أن يحقق المرء تساميا جيدا من أن يتعرض للأمراض العصابية القهرية.
ويجب هنا على المربي أن يدرك جميع هذه العمليات الدفاعية التي يوظفها الأنا. ومع ذلك فان المربي سيجد نفسه في وضعية مزدوجة وهي وضعية جيده من جهة، وصعبة من جهة أخرى، وذلك في إطار فهم دور العالم الخارجي في تصليب الأنا وتعزيز مرحلة النضج والمراهقة عند الفرد[12].
خاتمة:
=====
وفي هذا الصدد يؤكد بيرت على أهمية العوامل الأسرية بقوله "إن أشيع العوامل وأكثرها خطرا وتدميرا لشخصية الفرد هي العوامل التي تدور حول حياة الأسرة في الطفولة [13]. لقد أجمعت تجارب العلماء وتأملاتهم على أهمية السنوات الأولى من حياة الأطفال باعتبارها فترة حاسمة خطيرة في تحديد شخصياتهم وتكوينها، وذلك لما يتكون في نفس الطفل خلالها من اتجاهات وعواطف واعتقادات تتسم بصفة الثبات النسبي الذي يصعب تغييره لاحقا. ويذهب بعض العلماء في هذا الصدد إلى الاعتقاد بأن بعض السمات التي يكتسبها الفرد في طفولته يصعب تغييرها على مدى الزمن: كالخجل، والجرأة، والعدوان أو الخضوع والاستقلال أو الاتكال على الغير، والثقة بالنفس أو عدم الثقة بها، والحرص والإهمال.
فالطفل يدرك وبصورة لاشعورية خلال سنوات حياته الأولى مشاعر والديه نحوه، ويشكل إدراكه لهذه المشاعر المنطلق الأساسي لمفهوم الطفل عن نفسه، وعن العالم وعن مكانه في هذا العالم. فالطفل الذي ينظر إليه والديه بازدراء بتعلم ازدراء نفسه في المستقبل، والطفل الذي يتقبله والده من المحتمل أن يطور اتجاهات إيجابية نحو تقبله لذاته في مختلف مراحل العمر [14].
إن مجموعات المنحرفين والجانحين والمعاقين نفسيا عرفوا بطفولة شقية مفككة محطمة الأركان، فمن يحرم الأمن في طفولته لا يستطيع أن ينعم به أو يمنحه للآخرين في رجولته. أما هؤلاء الذين يتصفون بثبات وتكامل في الشخصية فهم على الأغلب الذين عاشوا طفولتهم في بيوت عامرة بروابط الاحترام والتفاهم وتبادل الثقة.
لقد اهتمت دراسات كثيرة بالمقارنة بين سلوك الأطفال الذين عاشوا في وسط عاطفي دافئ، وسلوك الأطفال الذين يأتون من أسر يسودها الجو الاستبدادي. وقد بينت هذه الدراسات، على الأثر، أن الأشخاص الذين ربوا وترعرعوا في أجواء أسرية يسودها التعاون يتميزون عن الأطفال الذين ربوا بأجواء أسرية استبدادية بأنهم:
1- أكثر اعتمادا على النفس، وميلا إلى الاستقلال والمبادرة.
2- أكثر قدرة على الانهماك في نشاط عقلي تحت ظروف صعبة.
3- أكثر تعاونا مع الآخرين، ومحبوبين من قبل الغير بشكل أكبر.
4- أكثر اتصافا بالود، وأقل اتصافا بالسلوك العدواني.
5- أكثر تلقائية وأصالة وابتكار.
وقد وجد في دراسات أخرى أن الكثير من الأنماط الثابتة في سلوك الأطفال في طفولتهم ومراهقتهم ترتبط إلى حد كبير بنوع المعاملة التي كانوا يتلقونها من أمهاتهم في طفولتهم[15].
وهناك دراسات كشفت عن وجود ارتباط كبير بين معدلات ذكاء الأفراد في مراحل مختلفة من الأعمار ونوع المعاملة التي كان يجدونها من أمهاتهم في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث تبين أن استعمال الأمهات للأساليب القسرية والصرامة والشدة في معاملة أطفالهن في مرحلة الطفولة ما بين (2- 3) سنوات من العمر يرتبط بانخفاض في معدلات ذكائهم في مرحلة الرشد.
ومن الأسباب التي تزيد من تأثير الجو المنزلي بشكل كبير في تكييف الطفل من الناحية الاجتماعية أو العاطفية هو أن الطفل أو المراهق ينظر إلى ذاته ويتقبلها بنفس الدرجة التي يتقبل بها أعضاء أسرته لهذه الذات، ويلعب تقبل الذات دورا هاما في أمن الطفل العاطفي. فالأطفال الذين يعيشون في أسر يتصف جوها بعدم تقبل الطفل، ونقده نقدا حادا فإنهم يميلون إلى تقبل هذا التقدير السلبي لأنفسهم ولذا فإن لاتجاهات الآباء نحو أبنائهم في مرحلة الطفولة المبكرة تأثيرا كبيرا في تحديد الدرجة التي يستطيع الطفل بلوغها في تطوير مشاعره وتقبل ذاته (16).
فالطفل في النهاية يتأثر الطفل بما يسود جو أسرته من هدوء أو خصام، فإذا كان جو محاطا بالمحبة والهدوء نشا الطفل هادئا وادعا، وأما إذا كان الجو الذي يعيش فيه الطفل مشحونا بالمشاجرات والانفعالات القاسية فإنه ينشأ عصبيا مضطربا معقدا، وقد ثبت أن هذه الأجواء في مرحلة الطفولة المبكرة تشكل مرجعية لجنوح واضطرابات الشخصية في المستقبل. وقد دلت الدراسات العلمية التي أجريت على الأطفال الجانحين على أن أكثرية هؤلاء الأطفال يأتون من بيوت تكون فيها الأم مطلقة، أو يكون الأب سكيرا أو قليل العناية ببيته و أطفاله، وسريع الغضب كثير الضرب، ظالما، قاسيا، أو أنهم يأتون من بيوت تكون فيها الأم مهملة لشؤون منزلها، وكثيرة الخروج من المنزل، وقليلة العناية بأولادها، أو غير ذلك من مظاهر التحلل العائلي، كما أن فقدان الطفل للمحبة الذي ينشأ في حالات كثيرة بسبب الاضطرابات التي تسود العلاقات بين أفراد الأسرة هو سبب هام من أسباب الاضطرابات النفسية والانفعالية وخروج الطفل عن المجتمع وانحرافه (17).
ويمكن أن نختتم هذه المقالة بالوصف الرائع للاغتراب النفسي عند الطفل عند المربى الشهير "فيريير A. Ferrière" صاحب كتاب " المدرسة الفعالة (18). L’école active إذ يقول: "إن الطفل يحب الطبيعة، ولكننا نحبسه في غرف مغلقة، وهو يحب اللعب، ولكننا نطلب منه أن يدرس ويجتهد، إنه يحب أن يرى نشاطه يتجسد في أداء خدمة معينة، ولكننا نحاول أن لا يكون لنشاطه أي غاية أو هدف. إنه يحب أن يمسك الأشياء بيديه، بيد أننا لا نفسح المجال إلا لذاكرته، هو يحب الكلام ولكننا نكرهه على الصمت. وهو يود أن يحاكم الأمور ونود نحن أن يحفظ، يحب أن يبحث عن العلم فنقدمه له موضوعا جاهزا، ويهوى أن يسير على هواه فنخضعه لنير الراشد. إنه ينزع إلى أن يتحمس للأمور، فنبتكر له العقاب جزاء له، ويؤثر أن يقوم بخدماته عفو الخاطر بملء حريته ولكننا نعلمه الطاعة السلبية" (19).
* كلية التربية – جامعة الكويت
هوامش المقالة:
==========================================================================================================
[1]Mina Swaminathan: Les Trois première année , un ouvrage de référence sur les soins et le développement du jeune enfants , Unesco- Unicef , paris 1990.
[2] Maurice Debesse: L’adolescence , Que sais-Je , P.U.F, Paris 1955.
[3]Mina Swaminathan , Ibid
[4] Wallon(H.): L’evolution psychologique de l’enfan , Collin, Paris, 1941.
[5] علي وطفة: علم نفس الجنين، العربي، عدد 443، أكتوبر 1995.
[6] Pierre Janet: L’évolution psychologique de la personnalité , Payot, Paris, 1984.
[7] Martine Vanandruel: La socialisation de soi Approche psy sociale: Le sentiment de la valeur personnelle , dans: Pierre Tap: la socialisation de l’enfance a l’adolescence , P.U.F, Paris 1991. (pp129-160).
[8] Même source.
[9] Konard Lorenz: Trois essais sur le comportement animal et Humain, Seuil, Paris, 1965.
[10] Mina swaminathan. ibid.
[11] Pierre Janet: ouv.cité
[12]: Pierre Tap: la socialsation de l’enfance a l’adolescence , P.U.F, Paris 1991.
[13] جمال حسين الألوسي: مشكلات الطفل في المرحلة الابتدائية أسبابها وطرق علاجها، جامعة البصرة، 1979.
[14] عبد الرحيم صالح عبد الله الأسرة كعامل تربوي وتعاونها مع المدرسة في تربية الأطفال، جامعة البصرة، 1979. ص 70.
[15] عبد الرحيم صالح عبد الله: الأسرة كعامل تربوي وتعاونها مع المدرسة في تربية الأطفال، جامعة البصرة، 1979.
طباعة الموضوع PDF
[/
[16] المرجع السابق.
[17] المرجع السابق.
[18] Ad.Ferrière: l’école active , Delachaux et Niestlé, 5ème, édition, 1946.
[19] عبد الله عبد الدايم، ال؟ عبر التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1978، ص 517.
[/HEADING][/JUSTIFY]
===============================================[/B][/CENTER]
مقدمة:
=====
تسجل صدمة الولادة المشهد الاغترابي الأول للإنسان، وفي هذه اللحظة الصدامية الأولى ينتقل الإنسان من وطن الأنس المطلق إلى عالم يواجه فيه تحديات الوجود.، وتُدوّي صرخة الحياة الأولى تعبيرا عن إحساس الألم الأول، وبداية الانطلاق في رحلة الاغتراب (1). فالولادة هي الهجرة الأولى من وطن الحب المطلق إلى وطن الجفاء المجهول، الهجرة من كون متدفق بالعطاء إلى عالم المواجهة والتحدي، وفي هذه النقلة الأولى يتجسد معنى الاغتراب النفسي والعاطفي للإنسان في أكثر مظاهر الاغتراب والاستلاب جموحا وجنونا.
وفي مرحلة الطفولة المبكرة تكمن أسرار الوجود الإنساني، أسرار القوة وأسرار الضعف، فالشخصية الإنسانية تشكيل طفولي تحددت سماتها وملامحها في المحطات الأولى من مرحلة الطفولة المبكرة. والطفولة الإنسانية ليست فراغا بل وجودا حيويا متدفقا، وهي ليست نسيانا، بل فيضا أصيلا يتدفق في الذاكرة الوجودية. فالعلبة السوداء للوجود الإنساني مشحونة بتاريخ الطفولة، وفي كل منعطف من هذا التاريخ ترتسم ملامح الشخصية الإنسانية وتتحدد معالم وجودها. وليس غريبا أبدا أن تكون الطفولة مستودعا لطاقات النمو، وذخيرة لأسرار الحياة الإنسانية، وبذورا لسمات الشخصية للإنسان. وهذا يعني أن أسرار التصدع وعوامل التكامل مسجلة في العلب السوداء للطفولة الإنسانية [2].
فالمعاناة الوجودية لصدمة الولادة، التي تضع الكائن الإنساني وللوهلة الأولى في لحظة اتصاله الأول بالعالم الخارجي، تأخذ مداها وتتعاظم أهميتها في غضون السنوات الثلاثة الأولى من عمر الكائن الإنساني، وتشكل المرحلة الحاسمة التي تلعب دورا كبيرا في رسم الملامح الأولى لشخصية الكائن الإنساني لاحقا، وتلك حقيقة تكاد تحظى بإجماع العاملين في مجال علم النفس والتربية [3].
في أصل العقد النفسية:
==============
إنه لمن المدهش حقاً هذا الانفعال الجارف الذي يسيطر على بعض المرضى الراشدين، الذين يعانون من بعض العقد النفسية، عندما يسرّون لطبيبهم حوادث جرت لهم في مرحلة الطفولة المبكرة وذلك بعد عدة جلسات معالجة واسترخاءات. حيث يبدأ هؤلاء المرضى بالبكاء وهم يسترجعون ذكريات متوغلة جداً في مراحل طفولتهم المبكرة، وهي ذكريات قدر لها هنا، وتحت تأثير المعالجة النفسية، أن تصعد إلى السطح من ساحة اللاشعور السحيقة، أو من العلبة السوداء بوصفها السجل التاريخي للوجود الإنساني، إلى ساحة الشعور.
وهي ذكريات تعود إلى الطفولة المبكرة ما بين الثالثة والخامسة من العمر. وبعض من هذه الذكريات يعبر عن إكراهات وإحباطات بالغة الشدة عاناها الفرد في مرحلة طفولته وقد أخذت في داخل الفرد نوعا من مشاعر الكراهية والحقد التي قتلت في نفس الفرد إحساسه بالسعادة وأثرت كثيرا في تصوراته وحياته العاطفية.
ومن أجل توضيح هذه المسألة، يمكننا أن نورد حالات عديدة، منها حالة امرأة شابة في الثامنة والعشرين من عمرها، متزوجة منذ سنوات أربعة، أحيلت إلى الطبيب النفسي لإصابتها ببرودة عاطفية حيث لم يتح لها أبدا أن شعرت بالرعشة العاطفية أبدا. وبعد ثلاثة جلسات تحليل واسترخاء تحت إشراف الطبيب تذكرت السيدة جانبا سحيقا من أحداث حياتها في طفولتها وهو أنها كانت تتعلق بصدر أمها في حوالي الثالثة من العمر لأن أمها هي الوحيدة التي كانت تحبها بينما كان أبوها وأخوتها الأكبر يمارسون العنف إزاءها. فيما بعد وعندما وصلت إلى مرحلة الرشد كانت تشعر دائماً بخوف شديد من الرجال وذلك باستثناء زوجها الذي كان يذكرها بحنان أمها.
يؤكد علماء النفس المعروفين مثل: ميلاني كلان Melanie klein، ووينيكوت Winnicott، و سبيتز Spitz، ووالون Wallon، على أهمية دراسة الشروط العاطفية للرضيع لإدراك التطورات النفسية اللاحقة عند الراشدي (4) وليست غريبة علينا اليوم هذه الأهمية الكبيرة للشروط الخاصة بحياة الأطفال الرضع ومدى تأثيرها في نموهم وتطور سماتهم الشخصية اللاحقة. ومع ذلك يمكن القول بأن الدراسات التي أجريت وتجرى على حياة الأطفال المبكرة ما زالت حديثة العهد، حيث بدأت مرحلة جديدة من الأبحاث والدراسات في اتجاهات متعددة حول الطفولة وقضاياها وذلك على أثر أبحاث فرويد ونظرياته التي أطلقت عنان هذه الدراسات.
صدمة الولادة:
=========
وغني عن البيان أن دراسات رانك Rank تؤكد بصورة قطعية على أهمية صدمة الولادة للكائن الإنساني في نشأة الأمراض النفسية المختلفه، وذلك لأن الولادة هي الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الفرد في المستويين البيولوجي والسيكولوجي، فالولادة هي الانفصال الأول للكائن الإنساني (الجنين) عن الأم.
وعلى أثر هذه الأبحاث والدراسات بدأ الاهتمام يتمركز حول دراسة الأجواء التي تحيط بعملية الولادة، وتأثير هذه الأجواء الانفعالية على صحة الأم الشابة وعلى نوعية العلاقة التي تربطها بمولودها الجديد.
ومنذ عدة سنوات بدأ علماء النفس والأطباء يهتمون بدرجة ملحوظة بحياة الأجنة ومسارات تطورها. وانطلقت الدراسات العديدة في أنحاء مختلفة من العالم تسعى اليوم إلى دراسة ذبذبات الدماغ ونشاطه عند الجنين وذلك عبر التصوير الإلكتروني المتطور.
وبينت هذه الدراسات جميعها أن الأجنة تشعر بانفعالات الأم وتتأثر بها إلى حد كبير، ويحدث للجنين تحت تأثير بعض الظروف الخارجية أن يصرخ وأن يبكي بصورة ما. وبدأت على الأثر تظهر تصورات علمية جديدة حول حياة الجنين والأم الحامل. وقد عززت هذه التصورات الآراء الشعبية التي تفيد بأنه يجب على الأم الحامل أن تتجنب جميع أشكال الخوف والقلق والاضطرابات النفسية لأن ذلك قد ينعكس سلبا على حياة جنينها [5].
فالعلاقة بين الأم وطفلها المرتقب تتكون خلال تسعة أشهر من الحمل. وفي هذا الصدد تذكر ماركريت ليلي Margaret Liley أن بيت الرحم هو المكان الأكثر جمالاً بالنسبة للجنين، وأن الجنين داخل الرحم يسمع مختلف أنواع الضجة ونبضات قلب الأم وصوتها ". وأنه لمن المؤكد اليوم أن رغبة الأم في الحمل أو رفضها له يكون له أثر كبير على طبيعة العلاقة العصبية بين نظامها العصبي ونظام الجنين العصبي، ويكون هذا التأثير أكثر أهمية في مستوى العلاقة النفسية والانفعالية بينهما في المستقبل [6].
عندما يكون الجنين غير مرغوب فيه من قبل الأم، أو عندما يتشكل الحمل في إطار شروط سيئة سيكولوجياً وصحيا، فان الطفل الجنين يشعر بها ويعانيها ويتأثر بها على نحو بالغ السلبية. هذه هي حالة معارفنا اليوم عن وضعية الأجنة وهي حالة لا تسمح لنا بتحديد دقيق لما يعانيه الجنين في داخل رحم الأم، ولكن مع ذلك يمكننا أن ندرك بعض الأمور وذلك عن طريق الاختلاجات التي تظهر أثناء الولادة.
لقد سبق للدكتور سبيتز أنه كان أول من صور خمسة وثلاثين عملية ولادة استطاع من خلالها أن يرسم بدقة ردود الأفعال والاختلاجات الأولى خلال خمس دقائق بعد الولادة مباشرة. وقد أتاحت هذه الوثائق ملاحظة التغيرات اللاحقة التي تبدو على الرضع في تواصلهم مع الشروط التي أحاطت حضورهم إلى هذا العالم.
وتأخذ المرحلة الأولى من تشكل الأنا أهمية مركزية وذلك لأنها التجربة الأولى للحياة في العالم الخارجي (خارج رحم الأم) بالنسبة للكائن الإنساني. وهنا يأخذ الطفل والأم بالإدراك بأنهما يشكلان وحديتين منفصلتين تدريجياً. وبالتالي فان العلاقة بين الأم والرضيع تكون بالغة القوة والعمق ولا سيّما خلال الأيام الخمسة عشر الأولى، وهي علاقة رهينة بعدد كبير من العوامل الداخلية والخارجية، وفي إطار هذا الحشد من المؤثرات تأخذ علاقة الأم الخاصة بأمها هي شخصياً دوراً بالغ الأهمية ويأخذ اتجاهاً معينا في مستوياته المادية والنفسية (7).
فالأم هي الموضوع الأول لحب الرضيع الذي يكون عند لحظة الولادة كائن لاشعوري على نحو كلي. فهو كائن نفسي وفيزيائي لا متمايز منفتح ومفرط الحساسية إزاء كل أشكال العدوانية الصادرة عن الوسط المحيط به، وهو بالإضافة إلى ذلك مجرد من إمكانيات الدفاع كلياً.
الإرهاصات الأولى لسيكولوجيا الطفل:
=======================
وهنا يشير وينيكوت Winnicott إلى البنية الهشة للأنا Le moi عند الرضيع. وغني عن البيان أن وينيكوت كان طبيب أطفال ومحلل نفسي في الوقت نفسه ويمتلك تجربة علمية حصادها أربعون عاماً من العمل الخاص بالعلاقة بين الأمهات والأطفال الرضع ثم الأطفال. وهو في هذا الصدد يذكرنا بأن ردود فعل الأنا عند الراشد إزاء الصدمات النفسية الخارجية، أو أية صدمات أخرى، تختلف عن ردود الفعل هذه التي نجدها عند أنا الطفل الرضيع. وذلك لأن أنا الرضيع لا يستطيع أن يدافع جيداً وبالتالي فإن أناه يبدأ في التكون تحت شروط محددة: لأنه في حالة إتكالية وتبعية مطلقة كما يذكرنا وينيكوت Winnicott..
وتدريجياً وبفضل الأم ينبثق وجود الطفل السيكولوجي من اللاشعور الذي يطلق عليه هنا بالهو. Le Ça ففي كل يوم وفي كل ساعة تعلمه الأم وذلك وفقاً للحاجات التي يشعر بها بوجود قوى خيرة وقوى شريرة. وبالتالي فان كل حركة من حركات الأم تشعر الطفل باللذة، فهو يشعر بالسعادة عندما تدغدغه، وعندما تنظفه، وعندما ترضعه. هذا ويشكل الفم أداته الرئيسة في الحصول على اللذة، وعندما تكون الأم غير يقظة أو متعبة أو مشفقة جداً، أو على العكس شديدة التملك فان ذلك كله ينعكس سلباً على الطفل في مستوى تمايز أناه. Son Moi وإذا كانت الأم في افضل حالاتها قادرة على الاستجابة لحاجات الطفل في الوقت المناسب فان الطفل يبدأ بإدراك اللحظات التي يتم فيها أولا إشباع حاجاته. ويلاحظ في أيامنا هذه أن الأباء الشباب يعتنون اليوم بأطفالهم على نحو إيجابي وذلك يساعد على تشكّل الأنا بصورة أفضل ويأخذ المسار نفسه كما هو الحال عند الأمهات.
فالأفعال البسيطة مثل: حمام الطفل وتغذيته ومعانقته ووضعه في سريره تشكل سلسلة من الإشباعات المختلفة الصادرة عن شخص آخر مقرب من الطفل ولكنه ليس الطفل نفسه. وهنا يبدأ أنا الطفل حقاً بأخذ خطواته الأولى إلى الوجود السيكولوجي[8].
فالمرحلة الفموية التي تسم الشهور الأولى من حياة الرضيع ليست محددة تماماً، فهي مرهونة إلى حد كبير بالسياق الاجتماعي والثقافي والفردي الذي يحيط بالطفل. ففي بعض البلدان الإفريقية سبيل المثال يستمر ذوبان شخصية الطفل مع الأم حتى السنة الثانية من عمره تقريباً، وذلك لان الرضاعة تتوقف في هذا العمر وهو العمر نفسه الذي تكف فيه الأم عن حمل الرضيع على ظهرها.
ويشير علم النفس الدينامني لمدرسة التحليل النفسي إلى وجود علاقة تداخل عميقة بين المرحلة الفموية وبين المراحل التي تعقبها، ولا سيما المرحلة الشرجية، والمرحلة القضيبية أو التناسلية. ويتضح أن تحليل فرويد لبنية الشخصية ينطلق من مفاهيمه الخاصة بالدوافع والرغبات والعقبات والصراعات. ولذلك فان مستقبل هذه الدوافع الأولية هو الذي يفسر لنا التطور النفسي عند الطفل. فالدوافع الأولية تمتلك على عمليات دينامية ذات أساس بيولوجي تدفع الفرد إلى إشباع بعض الحاجات الأساسية مثل الجوع والعطش والنوم والنشاط العاطفي. والتحليل النفسي ينظر إلى الفرد بوصفه موطناً لقوى متناقضة تتفاعل والنتيجة هي تحقيق التوازن في البنية النفسية.
فالدوافع تكون مشحونة بالطاقة التي تسعى نحو التحرر، ولذلك فهي تنتهك التوازن الفيزيولوجي وتخلق حالة من الضغط الذي يشكل بدوره مصدر اللذة. ومن هذا المنطلق فان الدافع يسعى إلى موضوعه لتفجير الطاقة المتراكمة ثم العودة إلى تحقيق التوازن السابق. ويخضع هذا السلوك إلى ما يسميه فرويد مبدأ اللذة Le principe de plaisir.. ولكن المحيط الخارجي يمتلك متطلباته وضروراته وبالتالي فان الجوانب الغريزية للدافع يجب ان تخمد كلياً. وينتج عن ذلك إحباطات وصراعات. فالصراعات والاحباطات لا تعارض بالضرورة عملية نمو الأنا، وبالتالي فإن إيجاد الحلول لهذه الصراعات يسهم في بناء الشخصية ويكونها.
فدوافع الجوع والعطش والنوم هي دوافع تحقق اشباعاتها في عصرنا دون صعوبات. ولكن الدافع العاطفي يواجه في إطار ثقافتنا بعقبات كبيرة تمنع من إشباعه بشكل مباشر، ولذلك غالباً ما يتم إشباعه بطرق مختلفة مثل الأفلام والكتب الخلاعية. ومن جهة أخرى فان هذا الدافع بالغ التعقيد هنا والذي يدفع إلى تساؤل مفاده: هل يمكن لعملية الإشباع الكلية لهذا الدافع، وعلى خلاف ما يعتقده رايتش Reich، أن تؤدي إلى إطفاء الرغبة والتي تملك هي بنفسها أهمية كبيرة من أجل بناء الشخصية.
عندما يبدأ أنا الطفل بالتكون:
===================
تبدأ أنا الطفل بالتكون، كما أشرنا سابقا، منذ الأيام الأولى لحياته وتستمر عمليات هذا التكون خلال مرحلة الطفولة برمتها، وهي مع ذلك تواجه صعوبات يصعب حلها. وذلك على الرغم من الأعمال الكبيرة التي وفرها لنا علماء النفس مثل سبيتز Spitz وبولبي Boulby وهارتمان Hartmann وكريس Kriss الخ.
وإذا كان سبيتز قد كرس وقته لدراسة العلاقة بين الأم والرضيع منذ لحظة الولادة، فانه تابع أبحاثه أيضا هذه حول كيفية تشكل البيئة النفسية للطفل خلال السنوات الأولى من عمره، وهو يميز هنا بين ثلاث عمليات تطورية سماها منظمات الحياة النفسية وهي الابتسامة في الشهر الثالث من عمر الطفل، ثم ظهور القلق في الشهر الثامن، ثم السيطرة والقدرة على إعلان الرفض في السنة الثانية، وهي عملية تؤكد على الاستقلالية النسبية وتشكل الشاهد الأول لقدرة الطفل على إصدار الكلام [9].
وتعد أبحاث سبيتز حول هزال الرضيع وإضرابات التعددية والخمول الذي يعتري الرضع الذين وضعوا في المشافي وأبعدوا عن أمهاتهم لأوقات طويلة جداً من أشهر الأبحاث في العالم الطبي، وهي أيضا من أهم الأبحاث التي أجريت خارج مجال علم النفس المرضي من أجل دراسة التفاعل بين الوسط المحيط والطفل الطبيعي. والسؤال هو كيف يستطيع الرضيع وخلال الأسابيع المتعاقبة من ميلاده وحتى نهاية السنة الثانية تدريجياُ بناء علاقاته مع موضوعاته؟ وكيف تتم التحولات من المستوى الفيزيولوجي إلى المستوى السيكولوجي؟ ومن الحياة التفاعلية في داخل الرحم إلى بناء العلاقة الاجتماعية المزدوجة بين الرضيع والأم؟ هذه هي الأسئلة التي كان سبيتز يسعى إلى الإجابة عنها في أبحاثه هذه.
فالأم هي موضوع الحب الأول بالنسبة للطفل وذلك يشكل منطلق البحث عن كيفية بناء ما يطلق عليه التحليل النفسي علاقة الموضوع. فالموضوع وفقاً لمعنى هذه الكلمة من وجهة التحليل النفسي يشكل الأداة التي يتم بها ومن خلالها إشباع الرغبة.
وإذا كنا ننظر نولي علاقات الحب الأولى للرضيع إزاء أمه، فذلك لان هذه العلاقات الأولى تشكل المنطلق الأول الذي تتشكل فيه التجارب الإنسانية الأولى وقدرة الكائن الإنساني على الحب.
حيث تبين الدراسات العلمية والملاحظات المنهجية أن الأشخاص الذين عاشوا في أحضان أمهات قليلات الجدارة، كانوا سجلوا فيما بعد سيرة حياة تفتقر إلى القدرة على الحب. على مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه والإناء ينضح بما فيه. وهنا بالضبط يجب علينا أن ننظر إلى أهمية الشخصية لكل فرد ودورها، إذ يمكن القول هنا أن كل كائن إنساني يملك بالفطرة رأسمال وراثي جيني يسمح لهم بالدفاع عن النفس وبالنمو على الرغم من وجود أمهات لا يملكن الكفاية.
ويلاحظ أحيانا أن بعض الأفراد قد ولدوا في عائلات تعاني من النقص والعيوب ومع ذلك استطاعوا النمو والوصول إلى مرحلة النضج والقوة. وذلك لأنهم استطاعوا تجاوز الإحباطات التي تعرضوا لها بنجاح وأنهم تملكوا آليات دفاع هامة. وأيضا يمكن القول بأن الدراسة المتأنية لحالة الأفراد في مرحلتي الرضاعة والطفولة تسمح لنا أن ندرك بعمق أصل السلوك الخاص بمرحلة المراهقة ومرحلة الرشد أيضا، وأنه يمكن لنا ومن خلال ملاحظة السلوك الذي يبديه الشباب تجاه المربين من أباء ومعلمين أن ندرك تأثير الانفعالات والقلق أو على خلاف ذلك ردود الفعل الانفعالية التي تعيد إنتاج السلوك في المرحلة الطفولية الأولى.
مراحل النمو السيكولوجي للطفل:
=====================
يذكرنا فرويد بأن فهم الشخصية الإنسانية ممكن بإدراك ثلاث مراحل من مراحل تطورها وهي:
1 -نظام الهو (Le Ça) والذي يشكل قطب الدوافع اللاشعورية. والطفل في مرحلة ميلاده هو كلياً صورة عن الهو.
2- نظام الأنا Le Moi وهو لحظة مركزية في بنية الشخصية، وهو يتشكل وفي آن واحد من خلال عملية إدراك الفرد لجسده وإدراكه لبنيته النفسية. ومجال الأنا هو تصورات الفرد وإدراكاته للعالم الخارجي. ويقوم الأنا بدور المحافظة على ذاتية الفرد. فالأنا يستقبل منبهات الوسط الخارجي ويسقط منها ما هو خطر قد يؤثر على وحدة الشخصية. فالأنا Le moi هنا يعمل وفقاُ لمبدأ الواقع وهو يتطابق مع تفكير موضوعي وعقلاني ومع تفكير اجتماعي أيضا. ويمكن القول في هذا الصدد إن " أنا " الرضع والأطفال يعاني من الضعف والهشاشة، وإن "أنا" الراشدين يجب أن يكون قوياً متماسكاُ.
ففي مجرى الطفولة يتطور الأنا ويصبح وبشكل تدريجي أكثر تكاملاُ ونضجاُ وحتى هذه اللحظة يكون الأنا الأعلى ضعيفاُ. ويشكل الأنا الأعلى (Le Sur- Moi) نظاما شعوريا ولاشعوريا في آن واحد وهو يتشكل تدريجياُ وذلك من لحظة التنشئة الاجتماعية التي يخضع لها الطفل داخل الأسرة والمجتمع. ويتم ذلك في الوقت التي يبدأ فيها الطفل بإدراك نماذج الحياة الخارجية، ومنذ اللحظة التي يبدأ فيها باستدخال هذه النماذج والتوحد مهما. وهو إذا كان شعورياُ ولاشعورياُ في آن واحد فانه يعلن عن وجوده في عملية نقد ذاتية وعبر عملية بناء القيم الشخصية للفرد.
ويمكن القول في هذا الخصوص أن الأنا الأعلى والأنا عند الطفل يتميزان بالشاشة والضعف. ويكمن دور الأباء والمربين في تطوير أنا الطفل وذلك دون أن تكون لديه أنا أعلى صلب ومشبع بالممنوعات والدفاعات. فالتربية المتوازنة تضفي على الأنا الأعلى للطفل مرونة كاملة وذلك يسمح للطفل في أن يكوّن نموذجا أعلى وذلك مع الموافقة على واقعية الجسد وحاجاته. وهنا يجب الابتعاد عن إخجال الطفل بدرجات عالية وأن نساعده على أن يعبر عما يدور في خلده وأن يعبر عن نزعاته العاطفية حتى العدوانية منه. وتلك هي واحدة من الصعوبات التي يواجهها أكثر المربين حيث يتوجب أن يكون هناك حدا فاصلاُ بين التعبير الحر عن النزعات والدوافع من جهة، وتجليات هذه النزعات والدوافع من جهة أخرى، ويعني ذلك أنه لأبد من إجراء عملية المنع والصد.
وهنا يكمن جوهر المسألة. فمن أجل تحديد هذا الحد الفاصل لا بد من إدراك الوسط الاجتماعي والعائلي الذي يعيش فيه الطفل بطباعه وشخصيته وأناه، ومن ثم إدراك آليات دفاع الأنا لديه إذا كان ذلك ممكناُ. وذلك يعني إدراك كل ما هو مكبوت لديه في دائرة اللاشعور.
فآليات الدفاع عمليات لاشعورية بالضرورة، وهي تأخذ مجراها عندما تتعرض الشخصية لخطر ما يصدر من العالم الخارجي، وهذا ما يجب علينا أن نذكره دائماُ، فالعالم الخارجي يتمثل في انبعاث دافع أو رغبة غير مسموح بإشباعها من قبل الآباء والمجتمع.
ومن آليات الدفاع المعروفة يمكن أن يشار إلى الكبت بالدرجة الأولى وهي العملية الأكثر أهمية والأكثر تواترا، وهي العملية التي اكتشفها فرويد والتي أصبحت مقرونة إلى حد كبير باسم مدرسة التحليل النفسي مثلها مثل مفهوم العقد والمركبات (Comptexe). ويحدث الكبت في مستوى الراشدين كما هو الحال في مستوى الأطفال وذلك في كل لحظة يتعرض فيها الشخص لخطر فكرة أو دافع لا يتوافق مع الحياة الاجتماعية والثقافية، أو عندما يتعرض لإدانة الآباء والتي تؤكد على نوع الازدواجية، وهذا يعني تمازج الحب والكراهية إزاء شخص ما، وهو الذي يتوجب على الفرد أن يدين له بمشاعر المحبة فقط. فعلى سبيل المثال: تمتلك الطفل الصغير، الذي يحب أمه إلى حد العبادة، مشاعر عدوانية تجاهها، وذلك عندما لا تعطيه الحب الذي يرغب فيه، أو عندما توجه الأم عاطفتها نحو زوجها أو أبنائها الآخرين، وذلك في الوقت الذي يرغب الطفل فيه في أن يحصل على اهتمامها وحبها متفردا بها. إنه لمن المؤلم جدا أن يشعر الطفل تجاه أمه بالكراهية، وهي التي يحبها ويحتاجها في آن واحد. وتحت تأثير هذه الحالة تحدث عملية كبت هذا الحقد في ساحة اللاشعور، ويضاف إلى ذلك كله أن الأنا الأعلى يستهجن وجود هذه الكراهية ويدينها أخلاقيا.[10].
وتقدم لنا الحياة اليومية أمثلة متعددة لعلميات الكبت التي يتعرض لها الأفراد. والتي يمكن ملاحظتها في مجالات الحياة المختلفة لكل منا. إن قدرا ما من الكبت التي يتعرض له الأفراد ليس سيئا ويمكنه إن يساعد على التكيف الاجتماعي. وهناك حالات كبت ليست مفيدة فحسب بل هي ضرورية ومع ذلك لا يمكن إهمال النظر في الكبت الضار الذي يتعرض له الأفراد، فالمسألة هي مسألة الدرجة لا مسألة النوع.
ولكن كيف يمكن رسم الحدود ! يمكننا إن نقول بالمعنى الواسع للكلمة: إن الكبت يكون ضارا عندما يؤدي إلى اضطراب الحياة الانفعالية العاطفية وهندما يؤثر على درجة فعالية نشاطنا أو على إنتاجية عملنا.[11]
وتعد عملية الإسقاط Projection واحدة من أهم العمليات الدفاعية. وتتمثل هذه العملية في إسقاط المشاعر وخاصة العدوانية منها على موضوع هذه المشاعر. فالطفل الذي يشعر بالكراهية تجاه أبيه وهو الذي يثير خوفه فإن الطفل يمكنه هنا أن يكبت هذا الإحساس أو في أفضل الحالات أن يسقط مشاعره هنا على الأب حيث يعتقد الطفل هنا وبتوسط عملية الإسقاط أن الأب هو الذي يكرهه «أبي يكرهني بدلا من أنا أكره أبي». وذلك يعني أن الطفل في هذه الحالة أضاف مشاعره إلى الأب، وبالتالي فأنه قد تحرر من مشقة أن يكون هو مصدر الكراهية «كارها لأبيه» وهذا ما يسبب له آلاما نفسية ومخاوف شتى. ففي كل الحالات والأحوال فإن عمليات الإسقاط تأخذ هذه الصيغة وهي: هو الذي بدأ وهو الذي يكره.
ويمكن إدراج العدوانية الذاتية في سجل العمليات الدفاعية. وتشكل العمليات الموجهة ضد الذات العملية الثالثة من عمليات الدفاع. فالفرد في هذه العملية يرتد ضد نفسه ويدينها ويوجه إليها المشاعر العدائية التي يفترض به أن يوجهها إلى الآخرين. وهذه العملية تحميه ضد العلاقة العدوانية مع الآخر والتي يمكنها أن تكون أكثر خطورة. وحالات الانتحار خير شاهد على هذه الأوالية، وهي تمثل الحد الأقصى لهذه العملية. وذلك يتم عندما لا يستطيع الشخص أن يحتمل كونه عدوانيا تجاه العالم الخارجي وهذا يعني انه يوجه العدوان ضد نفسه بدلا من توجيهه ضد الآخرين.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى عملية التحويل المعاكس بوصفه العملية الرابعة بين عمليات الدفاع الأنوية، وقوام هذه العملية الإحساس المخالف لما هو مطلوب على سبيل المثال: عندما يلعب الأطفال يعتمدون على هذه العملية: فالأطفال الأصغر يستخدمون هذه العملية من أجل تحويل الانتصار إلى جانبهم فالذي يصل أخيرا في مجال السباق يعد هو الرابح والمنتصر.
وفي النهاية يمكن الإشارة إلى ما يسمى بالعزل وهي العملية التي يستطيع الطفل من خلالها أن يفصل بين الصورة والذكريات من جهة والسمة الانفعالية الكامنة فيها. فعندما يواجه الطفل أو الراشد حدثا مؤلما بطريقة لا مبالية، فان هذه اللامبالاة هي في أغلب الأحيان نتاج لعملية عزل لاإرادية بين الحدث والانفعال القوي الذي يرافقه وبالتالي فان الطفل قد استطاع تحييده.
وفي هذا الصدد يمكن القول أن التشكل على أساس ردود الفعل هو آلية دفاع هامة، وهي الآلية التي يحاول فيها الفرد أن يوازن بين إحساس أو رغبة لا تتوافق مع المعطيات المثالية للأنا الأعلى. فالشفقة الزائدة يمكن أن تكون رد فعل ضد عدوانية عالية جدا وغير مقبولة. والكرم المبالغ فيه يمكن أن يكون نزعة إلى الحصول على كل شيء والاحتفاظ به.
ويجب أن ألا ننسى عملية الدورة الصغرى للانفعالات وهي التجسيد وهذا يعني تحويل الشيء إلى مرض جسدي أي تحويل الصراعات الانفعالية التي لم تجد حلا لها إلى صورة أمراض جسدية وهذا هو مجال علم النفس الجسدي.
وتعد عملية التسامي Sublimation كواحدة من العمليات الدفاعية وذلك في إطار المنظور الفرويدي. وعلى خلاف ذلك فان هذه العملية هي عملية تحويل طبيعية من وجهة نظر يونغ وهي التي توجه النزعة أو الغريزة إلى الهداف روحية عليا.
فالتسامي في هذا المنظور أو ذاك هو عملية خلاقة ولو كانت صادرة عن نزعة عاطفية أو عدوانية مكبوتة، فهي التي تشكل منطلق الإبداع الفني والمهني حيث أعلن لاكان: أن أعلن بأن سر الحضارة الأوروبية يكمن في عقدة أوديب، فالنزعات المدفونة المكبوتة هي التي تتيح للإنسان أن يصبح فنانا ومغنيا ومبدعا. والأفضل دائما أن يحقق المرء تساميا جيدا من أن يتعرض للأمراض العصابية القهرية.
ويجب هنا على المربي أن يدرك جميع هذه العمليات الدفاعية التي يوظفها الأنا. ومع ذلك فان المربي سيجد نفسه في وضعية مزدوجة وهي وضعية جيده من جهة، وصعبة من جهة أخرى، وذلك في إطار فهم دور العالم الخارجي في تصليب الأنا وتعزيز مرحلة النضج والمراهقة عند الفرد[12].
خاتمة:
=====
وفي هذا الصدد يؤكد بيرت على أهمية العوامل الأسرية بقوله "إن أشيع العوامل وأكثرها خطرا وتدميرا لشخصية الفرد هي العوامل التي تدور حول حياة الأسرة في الطفولة [13]. لقد أجمعت تجارب العلماء وتأملاتهم على أهمية السنوات الأولى من حياة الأطفال باعتبارها فترة حاسمة خطيرة في تحديد شخصياتهم وتكوينها، وذلك لما يتكون في نفس الطفل خلالها من اتجاهات وعواطف واعتقادات تتسم بصفة الثبات النسبي الذي يصعب تغييره لاحقا. ويذهب بعض العلماء في هذا الصدد إلى الاعتقاد بأن بعض السمات التي يكتسبها الفرد في طفولته يصعب تغييرها على مدى الزمن: كالخجل، والجرأة، والعدوان أو الخضوع والاستقلال أو الاتكال على الغير، والثقة بالنفس أو عدم الثقة بها، والحرص والإهمال.
فالطفل يدرك وبصورة لاشعورية خلال سنوات حياته الأولى مشاعر والديه نحوه، ويشكل إدراكه لهذه المشاعر المنطلق الأساسي لمفهوم الطفل عن نفسه، وعن العالم وعن مكانه في هذا العالم. فالطفل الذي ينظر إليه والديه بازدراء بتعلم ازدراء نفسه في المستقبل، والطفل الذي يتقبله والده من المحتمل أن يطور اتجاهات إيجابية نحو تقبله لذاته في مختلف مراحل العمر [14].
إن مجموعات المنحرفين والجانحين والمعاقين نفسيا عرفوا بطفولة شقية مفككة محطمة الأركان، فمن يحرم الأمن في طفولته لا يستطيع أن ينعم به أو يمنحه للآخرين في رجولته. أما هؤلاء الذين يتصفون بثبات وتكامل في الشخصية فهم على الأغلب الذين عاشوا طفولتهم في بيوت عامرة بروابط الاحترام والتفاهم وتبادل الثقة.
لقد اهتمت دراسات كثيرة بالمقارنة بين سلوك الأطفال الذين عاشوا في وسط عاطفي دافئ، وسلوك الأطفال الذين يأتون من أسر يسودها الجو الاستبدادي. وقد بينت هذه الدراسات، على الأثر، أن الأشخاص الذين ربوا وترعرعوا في أجواء أسرية يسودها التعاون يتميزون عن الأطفال الذين ربوا بأجواء أسرية استبدادية بأنهم:
1- أكثر اعتمادا على النفس، وميلا إلى الاستقلال والمبادرة.
2- أكثر قدرة على الانهماك في نشاط عقلي تحت ظروف صعبة.
3- أكثر تعاونا مع الآخرين، ومحبوبين من قبل الغير بشكل أكبر.
4- أكثر اتصافا بالود، وأقل اتصافا بالسلوك العدواني.
5- أكثر تلقائية وأصالة وابتكار.
وقد وجد في دراسات أخرى أن الكثير من الأنماط الثابتة في سلوك الأطفال في طفولتهم ومراهقتهم ترتبط إلى حد كبير بنوع المعاملة التي كانوا يتلقونها من أمهاتهم في طفولتهم[15].
وهناك دراسات كشفت عن وجود ارتباط كبير بين معدلات ذكاء الأفراد في مراحل مختلفة من الأعمار ونوع المعاملة التي كان يجدونها من أمهاتهم في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث تبين أن استعمال الأمهات للأساليب القسرية والصرامة والشدة في معاملة أطفالهن في مرحلة الطفولة ما بين (2- 3) سنوات من العمر يرتبط بانخفاض في معدلات ذكائهم في مرحلة الرشد.
ومن الأسباب التي تزيد من تأثير الجو المنزلي بشكل كبير في تكييف الطفل من الناحية الاجتماعية أو العاطفية هو أن الطفل أو المراهق ينظر إلى ذاته ويتقبلها بنفس الدرجة التي يتقبل بها أعضاء أسرته لهذه الذات، ويلعب تقبل الذات دورا هاما في أمن الطفل العاطفي. فالأطفال الذين يعيشون في أسر يتصف جوها بعدم تقبل الطفل، ونقده نقدا حادا فإنهم يميلون إلى تقبل هذا التقدير السلبي لأنفسهم ولذا فإن لاتجاهات الآباء نحو أبنائهم في مرحلة الطفولة المبكرة تأثيرا كبيرا في تحديد الدرجة التي يستطيع الطفل بلوغها في تطوير مشاعره وتقبل ذاته (16).
فالطفل في النهاية يتأثر الطفل بما يسود جو أسرته من هدوء أو خصام، فإذا كان جو محاطا بالمحبة والهدوء نشا الطفل هادئا وادعا، وأما إذا كان الجو الذي يعيش فيه الطفل مشحونا بالمشاجرات والانفعالات القاسية فإنه ينشأ عصبيا مضطربا معقدا، وقد ثبت أن هذه الأجواء في مرحلة الطفولة المبكرة تشكل مرجعية لجنوح واضطرابات الشخصية في المستقبل. وقد دلت الدراسات العلمية التي أجريت على الأطفال الجانحين على أن أكثرية هؤلاء الأطفال يأتون من بيوت تكون فيها الأم مطلقة، أو يكون الأب سكيرا أو قليل العناية ببيته و أطفاله، وسريع الغضب كثير الضرب، ظالما، قاسيا، أو أنهم يأتون من بيوت تكون فيها الأم مهملة لشؤون منزلها، وكثيرة الخروج من المنزل، وقليلة العناية بأولادها، أو غير ذلك من مظاهر التحلل العائلي، كما أن فقدان الطفل للمحبة الذي ينشأ في حالات كثيرة بسبب الاضطرابات التي تسود العلاقات بين أفراد الأسرة هو سبب هام من أسباب الاضطرابات النفسية والانفعالية وخروج الطفل عن المجتمع وانحرافه (17).
ويمكن أن نختتم هذه المقالة بالوصف الرائع للاغتراب النفسي عند الطفل عند المربى الشهير "فيريير A. Ferrière" صاحب كتاب " المدرسة الفعالة (18). L’école active إذ يقول: "إن الطفل يحب الطبيعة، ولكننا نحبسه في غرف مغلقة، وهو يحب اللعب، ولكننا نطلب منه أن يدرس ويجتهد، إنه يحب أن يرى نشاطه يتجسد في أداء خدمة معينة، ولكننا نحاول أن لا يكون لنشاطه أي غاية أو هدف. إنه يحب أن يمسك الأشياء بيديه، بيد أننا لا نفسح المجال إلا لذاكرته، هو يحب الكلام ولكننا نكرهه على الصمت. وهو يود أن يحاكم الأمور ونود نحن أن يحفظ، يحب أن يبحث عن العلم فنقدمه له موضوعا جاهزا، ويهوى أن يسير على هواه فنخضعه لنير الراشد. إنه ينزع إلى أن يتحمس للأمور، فنبتكر له العقاب جزاء له، ويؤثر أن يقوم بخدماته عفو الخاطر بملء حريته ولكننا نعلمه الطاعة السلبية" (19).
* كلية التربية – جامعة الكويت
هوامش المقالة:
==========================================================================================================
[1]Mina Swaminathan: Les Trois première année , un ouvrage de référence sur les soins et le développement du jeune enfants , Unesco- Unicef , paris 1990.
[2] Maurice Debesse: L’adolescence , Que sais-Je , P.U.F, Paris 1955.
[3]Mina Swaminathan , Ibid
[4] Wallon(H.): L’evolution psychologique de l’enfan , Collin, Paris, 1941.
[5] علي وطفة: علم نفس الجنين، العربي، عدد 443، أكتوبر 1995.
[6] Pierre Janet: L’évolution psychologique de la personnalité , Payot, Paris, 1984.
[7] Martine Vanandruel: La socialisation de soi Approche psy sociale: Le sentiment de la valeur personnelle , dans: Pierre Tap: la socialisation de l’enfance a l’adolescence , P.U.F, Paris 1991. (pp129-160).
[8] Même source.
[9] Konard Lorenz: Trois essais sur le comportement animal et Humain, Seuil, Paris, 1965.
[10] Mina swaminathan. ibid.
[11] Pierre Janet: ouv.cité
[12]: Pierre Tap: la socialsation de l’enfance a l’adolescence , P.U.F, Paris 1991.
[13] جمال حسين الألوسي: مشكلات الطفل في المرحلة الابتدائية أسبابها وطرق علاجها، جامعة البصرة، 1979.
[14] عبد الرحيم صالح عبد الله الأسرة كعامل تربوي وتعاونها مع المدرسة في تربية الأطفال، جامعة البصرة، 1979. ص 70.
[15] عبد الرحيم صالح عبد الله: الأسرة كعامل تربوي وتعاونها مع المدرسة في تربية الأطفال، جامعة البصرة، 1979.
طباعة الموضوع PDF
[/
[16] المرجع السابق.
[17] المرجع السابق.
[18] Ad.Ferrière: l’école active , Delachaux et Niestlé, 5ème, édition, 1946.
[19] عبد الله عبد الدايم، ال؟ عبر التاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1978، ص 517.
[/HEADING]