د. عبدالجبار العلمي - رواية "دروب كازابلانكا" مدينة المتناقضات للأديبة عائشة العلوي لمراني

تتألف رواية " دروب كازابلانكا " للأديبة المغربية عائشة العلوي لمراني من ثلاثة عشر فصلاً ، مرقمة من 1 إلى 13 ، تتفاوت من حيث الطُّول ، فأطولُها فصلان يصل أحدهما إلى 47 صفحة ( الفصل الثاني ) ، في حين يبلغ ( الفصل الأول ) 37 صفحة . أما باقي الفصول الأخرى ، فتتراوح بين 14 صفحة وثلاث صفحات ، وهي الفصول التي تبتدئ من الثالث إلى الثالث عشر والأخير. وسنحاول مقاربتها من خلال مكونات الخطاب الروائي التالية :
1 ـ عتبة العنوان :
أول ما يلفتُ النظرَ في عنوان الرواية، التقابل بين لفظين متضادين لغوياً، فالأولُ: عربي: جمع تكسير ( دروب )، وهو مضاف ؛ والثاني اسم لاتيني مكتوب بالحروف العربية ( كازابلانكا ) مضاف إليه، وأصلها بالحرف اللاتيني ( CASABLANCA ) ، مع الاختلاف في نطق حرف ( S ) بين اللغتين الإسبانية والفرنسية. وربما استحضرتِ المؤلفة هنا، فيلماً سينمائياً أمريكياً شهيراً صدر 1942 سمي بهذا الاسم ، يمثل فيه كبار ممثلي ذلك العهد من أشهرهم : Humphrey Bogart, Ingrid Bergman, ، كان له أكبر الأثر في اشتهار مدينة الدار البيضاء عالميا، فأصبح الاسم اللاتيني هو الأكثر استعْمالاً وشُهرةً ودوراناً على الألسُن، حتى لدى المغاربة، يُستَخدَم اسم " كازا" اختصاراً: ( casa) ، واستحضار اسم هذا الفيلم الشهير بالحروف اللاتينية المكتوبة بالحروف العربية ، يشير إلى الحقبة الكولونيالية التي عاشتها المدينة ، وعاشها المغرب. إنَّ المُقابلة التي نجدها في العنوان (النص الصغير)، سنصادفها داخل المتن الروائي ( النص الكبير )، وذلك كما يلي :
1 ـ التقابل بين حيين هما : أ ـ حي الأحباس الذي يعتبر من أجمل الأحياء وأنظفها ، حيثُ مبنى القصر الملكي ومبنى المحكمة ذو الهندسة المعمارية الأندلسية بنكهةٍ شامية وبقايا عشق للفردوس المفقود ( ص: 7 )، وحيث المسجد المحمدي الذي يتصدر ساحة الأحباس الشاسعة ، وحيث المكتبات التي تملأ شوارع الدرب الذي تقطنه فئة اجتماعية تسلقت اقتصادياً واجتماعياً بفضل العمل في التجارة ؛ ب ـ درب البلدية الذي يدخلنا إلى عالم المدينة الشعبية العتيقة التي تعيش فيه الفئات الاجتماعية الهشة المعدمة المحرومة ، وما يعج فيه من شخصيات مهمشة، وما تعانيه من شظف العيش.
2 ـ الانتقال الذي يَخْرٍقٌ أفقَ انتظارنا من دروب الدار البيضاء إلى دروب باريس وأحيائها العتيقة مثل الحي اللاتيني وسان جرمان ومونبرناس وغيرها من أحياء مدينة الأنوار التي يؤمها المثقفون والأدباء والفنانون. وكل ذلك في الفصل الثاني. هذا الفصل الذي يأخذ أكبر حيز في الرواية بالقياس إلى الفصول الأخرى التي تمت الإشارة إليها أعلاه، حيث يمتد من ( ص : 43 إلى 117 ) ، ويضم 47 صفحة ، في حين أن الفصل الأول المخصص لدروب وأحياء الدار البيضاء وشخوصها وأفضيتها، يأخذ مساحة أصغر نسبياً تقع ما بين ( ص: 5 و 42 )، ويشتمل على 37 صفحة.
إن العنوان حسب (ج جنيت ) " يعتبر ، بكل تأكيد ، " اسماً للكتاب ، يثير العديد من الأسئلة التي تجعلُ منه مكوناً غيرَ منفصلٍ عن بقية مكوناتِ النَّص ومراتبه القَوْلية، ومما لا شكَّ فيه أَنَّ اختيارَ العناوين عمليةٌ لا تَخْلو مِنْ قَصْدية تنفي معيارَ الاعْتباطية في اختيار التَّسْمية " ( )
فما دِلالة هذه النقلة غير المتوقعة في عتبة العنوان؟: من دروب كازابلانكا إلى دروب باريس ؟ هل المراد منها المقابلة بين فضاءين متناقضين أو حضارتين مختلفتين ؟ مقابلة بين الشرق والغرب ؟ يتبدى لنا أن المقابلة بين الفضاءيْن، تؤكد التضاد والصراع القوي الذي ينطوي عليهما العنوان لغويا إذ يوحي لفظ (دروب) بالتشبث بالهوية ، بينما يوحي لفظ (كازابلانكا) بالتأثير الخطير الذي يمارسه الاستعمار على نفس الإنسان المستعمَر لينتزعَ هويته. تقول الساردة ـ المشاركة " هاينة " معبرةً عن الصراع الذي يعتملُ داخلها بين عالمين متناقضين : " آه يا باريس تتشابكُ دروبكِ مع دروب كازابلانكا. تتقاطعُ تنفصلُ تسير في خطوط متوازية ، وأنا بينهما لا أدري أيها أسلك لأصل إلى ذاتي . " ( 51 ) فثمة حيرة الذات الساردة بين حضارتين متناقضتين ( شرق ـ غرب )
2 ـ المنظور السردي:
تبدأُ الساردة ـ المشاركة " أحلام " سرد الرواية بضمير المتكلم المفرد " عندما التقيتُ بها على الجسر الفاصل بين حي الأحباس وحي البلدية ..." ( ص : 5 ) ، لكنها تنتقل في نفس الصفحة إلى ضمير جماعة المتكلمين ( نحن ) . نقرأ : " حتى إننا كعادتنا نسألها هل لها أصول أسيوية. كانت صورة للمرأة الصينية بقدميها الصغيرتين " ( ص : 5 ) ؛ و كنا " نحاول أن نستفزها كي تضحك قليلاً .. " ( ص : 5 ). من الجدير بالملاحظة أنَّ الساردة ـ المشاركة لا تذكر لنا الشخصيات بأسمائها في بداية الرواية ، بل تكتفي بالإشارة إليها بالضمائر الغائبة مستترةً وظاهرة ما يجعل الصفحات الأولى من الرواية مفعمة بالتشويق، تدفعُ القارئ إلى الانغمار في متابعة الأحداث الروائية ( ص : 5 ). و الملاحظ أن الضمير المنفصل الدال على جماعة المتكلمين ( نحن )، يتكرر في العديد من الجمل السردية. فهل يعني ذلكَ الرغبة الملحة في إرادة تخفي الساردة ـ المشاركة ضمن الفتيات من رفيقاتها في الحي، لكي تحكي ما شاء لها أن تحكي دون أية رقابة ، وهي الفتاة التي نشأت في أسرة محافظة ؟ لاسيما حين يتعلق الأمر بالحديث عن حمام " الشيكي" التركي ، وما تصوره من مشاهد الاستحمام :" فَرْك الأجساد بالكيس ـ تخضيب الجسد بالحناء الممزوجة بزهيرات الخزامى ، وغسل الشَّعر بالغاسول المنسَّم بالأعشاب البرية ، وصب الماء الساخن بعناية على الجسد " ( ص : 5 و6 ) .. " الحمام التركي ثقافة اكتشاف الجسد بكل نتوءاته وتعرجاته" ( ص : 6 )، إنَّ تخفِّي الساردة ـ المشاركة هنا وراء ضمير ( نحن ) يذكرنا بما سماه الكاتب البيروفي "ماريو فاركَاس يوسا " في دراسته مفتَتَحَ رواية " مدام بوفاري "الشهير، بـ"النحن العجيب " ( ) . كلا الساردين يُريد التَّخَفي في الجماعة، فالمقامُ يقتضي التَّخفي وليس الظهور بضمير الأنا . في روايتنا، تتولى السرد راويتان مشاركتان أساسيتان في الأحداث ، يتناوبان على دفة السرد هما: " أحلام " و"هاينة " ، وأحياناً تتسلمُها شخصية أخرى مشاركة في الحدث الروائي هي " رابحة " زوجة مصطفى في بعض المقاطع السردية حين تسرد ـ مثلاً ـ بعضَ المحكيات المتعلقة بعلاقتها بمصطفى ابن الدرب قبل الزواج منه. ( من ص : 148 إلى ص : 150 )
إن رواية " دروب كزابلانكا " في الفصل الثاني خاصة ، تنزاح عن الاتجاه الرومانسي والرواية الواقعية التي تنزلُ إلى الهامشِ، أو "قاعِ قاع المدينة " حسب تعبير د.علي الراعي. ( )، بل إنَّها رواية يهيمنُ عليها التعبير عن واقع المثقفين ومعاناتِهم وهواجِسِهم ورؤاهم الخاصة إلى الحياة والوجود. يؤكِّد اتجاه الروائية إلى هذا النوع الروائي، إشارة الساردة إلى الرواية التي يكتبها أحد شخصيات الكون الروائي المثقف المناضل المعتقل السابق عمر الشاهدي (ص : 168 ). تقول : " كنتُ أعرفُ أنه لن يرويَ قصة حبٍّ رومانسية أو حكايةً من حكاياتِ الهامش التي أفْرَدَ لها زفزاف أجنحة الإبداع. ففي تجربتِه (عمر الشاهدي )، ما يكفي لكتابة خماسية مثل مدن الملح " ( ص: 171) ، ومن الجدير بالملاحظة أن رواية "دروب كازابلانكا " تُذَكِّرنا بأجواء رواية " الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، ورواية " عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، وذلك في أطول فصل في الرواية المخصص لرحلة شخصية "هاينة" إلى باريس لزيارة صديقتها " نجاة " في عطلة الصيف. نجد أنفسنا في نفس فضاءات تلك الروايات الذائعة الصيت ، كما تذكِّرنا كذلك ، بأعمال جبرا إبراهيم جبرا في رواياته : " صراخ في ليل متأخر " و "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود "، حيث نجد أن شخصيات الرواية الأولى مثلاً ، يقضون الوقت في نقاشات ذكية حول موضوع الجسد والروح ومشكلة الضجر في المدينة .." ( ) . وسنرى فيما يلي أن الرواية تنحو هذا المنحى الذي تنحوه الأعمال الروائية المذكورة أعلاه من حيث غناها بالثقافة وامتلاؤها بالنصوص المضَمَّنة، لكنَّها في ثنايا معظم الفصول، ترصدُ أحداث الواقع المحلي والعربي ، وبعض المحطات الهامة الحاسمة من تاريخ المغرب الحديث، والكثيرَ من الأحداث السياسية والاجتماعية التي عرفها المغرب خلال عهد الاستقلال وفي العقود التي تلته ( تشير الساردة مثلاً إلى: أحداث المقاومة ـ بداية استقلال المغرب ؛ أحداث الدار البيضاء 1965؛ اختطاف بنبركة ؛ استشهاد عمر بن جلون ؛ سنوات الرصاص ؛ حدث تهديم المسرح البلدي بوسط الدار البيضاء، وعرسٌ آخر للدم في دروبها في بداية الثمانينيات ؛ التحولات التي طرأت على الدار البيضاء ، جراء الجفاف الذي أدى إلى الهجرة من البادية وانتشار الهوامش ومدن الصفيح والأحياء العشوائية )، كما تقدم محكيات صغرى ترصدُ حياةَ شخصياتٍ تُعاني من التَّهميش والقهر والإحباط، نكتفي هنا بذكر محكي الفتاة ( س ) وطفلها غمر المُعاق الذي كان ثمرة علاقة غير شرعية مع رشيد ابن جيرانها القاصر الذي وعدها بالزواج. لكن والده رفض رفضاً باتاً هذه الزيجة، لأنه يريد أن يزوج ابنَه حسبَ الأعراف والتقاليد المرعية ، ومنها عُذرية العروس. لجأت (س ) إلى صالون حلاقة ابنة دربها "أمينة" لكي تعيل ابنها الذي لا تكاد تحمله قدماه..( ص: 115 وما بعدها ). وهكذا استطاعت الروائية أن تنفلت من إسار الرواية المتعالية على واقع مجتمعها، وأن تنزل من البرج العاجي الذي صعد إليه بعض الروائيين العرب رغم انتمائها فئوياً إلى فئة المثقفين أو الطبقة البورجوازية الصغرى.
3 ـ الثقافة والنصوص المضمَّنة :
توظف الساردة ـ المشاركة المثقفة " هاينة " ثقافتها وقراءاتِها الأدبيةَ في عمليةِ السرد في كثير من المقاطع السردية على امتداد الرواية، فتغنيها بالمعارف المتنوعة من آداب وتاريخ وأساطير وفنون وشعر وأغاني وحكايات شعبية. ومن الملاحظ ، اطِّلاع الساردة ـ المشاركة على متن واسع من الروايات العربية والعالمية، فتذكر العديد منها بأسمائها و أسماء مؤلفيها.
ومن الجدير بالملاحظة أنها توظف أيضاً عناوين بعض الروايات المعروفة في سياق السرد في بعض الجمل والمقاطع السردية أحيانا: "حيوات متجاورة (رواية لمحمد برادة ) تسبح في مدارات مختلفة ، تتدخل الصدفةُ فتجذبها إلى مدار يتحرك في اتجاه قصر مسحور " ( الرواية ، ص: 104) / أبيات للمعري والخيام في معنى الفناء والموت ( ص : 181 ). تضعها في مواضعها المناسبة من السرد الروائي في المقطع السردي المتعلق بموت " أحلام" صديقة الساردة بعد معاناتها من مرض السرطان...
واللافت لانتباه القارئ، أن الساردة، توردُ بعضَ نصوصِها الخاصَّة، وتوظفُها في مواضعها المناسبةِ التي تَخدمُ عمليةَ السرد أو الموقف الذي تعبر عنه. والنص التالي تتحدث فيه عن مدينة الدار البيضاء في الليل:
"عندما يُدرك مدينتي الظلام / لا توقدُ كلَّ أضْوائِها / فَلِلتائهينَ واللصوصِ والمتحَرِّشين / بقعةُ ظلامٍ تَسْتُرهُم وتَتواطأُ معَ الهامِش
عِندما يَمتدُّ الظلامُ ذِراعين / تَسكُت مدينتي عن الضَّجيجِ المُباح .. ( 137 )، كما توظف مقاطع شعريةً من الشعر الفرنسي وبالتحديد للشاعر فيكتور هيجو ، ( ص : 112 )، وتضعها في سياقها المناسب من أحداث الرواية، فهي تعكس مشاعر الساردة نحو الأستاذ (فاضل ) الذي ستفارقه لتعود إلى مدينتها الدار البيضاء بعد قضاء شهر إجازتها في باريس.
4 ـ الشخصيات:
أ ـ شخصيات رئيسية وهي :
1 ـ هاينة : الساردة ـ المشاركة التي تتولى دفة السرد في الحيز الأكبر من الرواية، درست في كلية الأداب بحي ظهر المهراز بفاس في أواسط سنوات الستين، وتخرجت أستاذة للغة العربية وآدابها، حيث عُينت بمدينة نشأتها الدار البيضاء بإحدى ثانويتها. ثم تقلدت عدة مناصب إدارية في الأكاديمية الجهوية بنفس المدينة. ثمةَ شواهدَ واقعيةً عديدة تشير إلى أن الساردة ـ المشاركة "هاينة " هي نفسها المؤلفة "عائشة العلوي لمراني" لمن يعرفها في الواقع . والحقيقة أننا لا يمكن أن نعتمد على هذه الشواهد لتجنيس هذا النص في إطار السيرة الذاتية أو رواية التخييل الذاتي ، فالدارس عليه أن يتخذ الكثير من الاحتراز بهذا الخصوص. فثمة تمييزات دقيقة تُميز بين السيرة الذاتية والرواية. ولابد أن نستعين هنا بما ذكره فيليب لوجون في تمييزه بين السيرة الذاتية والرواية ، فليس ثمة تركيزٌ في روايتنا على حياة الشخصية الفردية، ( ) . هذا فضلاً عن الأخذ بعين الاعتبار الميثاقَ المبرمَ بين المؤلف والمتلقي. فالميثاقُ الذي عقدتْه المؤلفةُ مع المتلقِّي، ليس ميثاق السيرة الذاتية أو التخييل الذاتي، بل هو ميثاق الرواية الذي أُثْبِتَ في الغِلاف تحتَ العنوان: ( رواية).
2 ـ أحلام : أستاذة جامعية منشغلة بأعمالها البحثية وبمراجعة رسائل الطلبة القريبة مناقشتُها. فاعلة جمعوية في جمعية مهمتها الإنصات إلى النساء ضحايا العنف. تعتذر عن مرافقة الساردة ـ المشاركة إلى باريس لقضاء شهر من عطلة الصيف مع صديقتها "نجاة" التي تدرس هنالك. تتوله بأستاذها د.فاضل أستاذ فلسفة القانون في فرع كلية الحقوق الكائن في المبنى الذي فوق محطة الساتيام بالبيضاء. تصاب بمرض السرطان ، وعندما أحستْ باقتراب نهايتها ، استعدت للموت كما تستعد العروس لزفافها.( ص : 178 )
3 ـ نجاة : صديقة "هاينة " مناضلة مثقفة تهتم بقراءة الكتب النقدية بالعربية والفرنسية حول الرواية. يؤكد هذا ما تجده الساردة ـ المشاركة " هاينة " من روايات متنوعة لأشهر الكتاب العرب والغربيين.
ب ـ شخصيات ثانوية :
أما الشخصيات الثانوية ، فنُمثل لها بأهمها في الحدث الروائي، وهي :عبدالرحيم الودودي : موظف بوزارة المالية الذي تقدم لخطبة "أحلام"، وكان هدفه من هذا الزواج التسلق إلى طبقة الأثرياء في ظروف سيعرف المغرب فيها "التغيير في المشاريع التنموية" ( ص : 41 ). لقد تزوجته " لتطمئنَ قلوبُ سكان دروب مدينتي . سأصبح في ملكية رجل يعقد علي لا معي ، ويتصرف في حياتي كما يحلو لمشاريعه" ( ص : 41 ) ، لذلك سوف تنتهي هذه الزيجة بالطلاق كما ستنتهي حياة أحلام بالموت الذي سوف لا يُمهلها طويلاً بمرض السرطان. / رابحة : صديقة أحلام وهاينة ، وقد كانت مخلصة في صداقتها لأحلام ، لذلك ، ستوصي قبل موتها بانتقال ملكية بيتها إليها وإلى ابنتها هبة ( ص : 179 ) التي ستجعل منها "رابحة" مؤسسة للنشر الرقمي والورقي" / مصطفى : زوج رابحة الذي ينتمي إلى الفئة الاجتماعية المسحوقة ، ليس له عمل قار ، يعمل في أعمال عديدة منها : حمَّال في جراج علال ( ص : 149 ) / هبة : ابنة رابحة ومصطفى : طالبة مجدة / مسعودة : أم مصطفى التي كانت تعمل في شبابها خادمة في بيوت النصارى. الصديق الفلسطيني : مخرج من فلسطين التقت به نجاة وهاينة بباريس وهو متجه إلى لندن" للمشاركة في مسيرة تضامنية مع انتفاضة الحجارة ، من قلب مدينة باعت فلسطين ، أية مفارقة !" ( ص : 52 ) .
إن بعض شخصيات الرواية تتميز بكونها تنتمي إلى البرجوازية المتوسطة وإلى فئة المثقفين المناضلين المنحازين للقضية الفلسطينية المهمومة بقضية حرية الإنسان بشكل عام، وحريةِ المرأة بشكل خاص، وتعبيرها المرير عن همومها الذاتية والموضوعية في مجتمع قاهر، في حين أن بعضها الآخر ينتمي إلى الفئات الاجتماعية المهمشة المقهورة التي تعج بها دروبُ الدار البيضاء وأحياؤُها الهامشية الفقيرة.
ومن الجدير بالملاحظة أن بنية التقابل بين الأضداد أو ما اصطلحَ عليه كمال أبو ديب بالثنائيات الضدية ( )، نصادفها في كل مكونات الخطاب السردي في الرواية: العنوان ـ الفضاءات ـ الشخصيات. فهل تريد الكاتبة بتركيزها على هذه البنية الضدية أن تشير مثلاً إلى أن الدار البيضاء هي حقاً "مدينة المتناقضات": الغنى الفاحش يقابله الفقر المدقع ؛ الأحياء الراقية تقابلها الأحياء المهمشة ؛ المعمار الفاخر الجميل تقابله دور الصفيح والبناء العشوائي المشوه؟، بل لعلها تُشيرُ بشكل أكثر شموليةً إلى واقع الإنسانية في العالم الذي يقوم على الصراع والتناقض والتضاد بصفة أبدية، ما يوحي إلى أنه حيز غير قابل لسيادة قيم الخير والحب والوئام والسلام والانسجام بين البشر. وفي الرواية ما يشير إلى ضياع الأحلام الكبيرة بعالم آخر مغاير ، وفشل علاقات الحب الحقيقي بين بعض شخصيات الرواية. تقول هاينة :" الحب عود من الثقاب يسقط في العدم" ( ص : 211 )
يبقى أن نقول في الأخير: إن رواية " دروب الدار البيضاء" للأديبة الروائية عائشة العلوي لمراني، كُتبتْ بأنامل كاتبة ماهرة ، ذات مخزون ثقافي وقرائي غني في متن الرواية العربية والعالمية. وفي فصول الرواية شواهد لا حصر لها، تؤكد ما نذهب إليه، كما أنَّها تتسربَلُ بلغةٍ شعرية مقطَّرة في كثير من الجمل والمقاطع السَّردية. إن هذه الرواية، هي باكورة أعمال الكاتبة، لكن من يقرؤها، سيجدها تنطوي على كثير من سمات النضج الفني سواء من حيث البناء أو الدلالة.
الهوامش :
* صدرت عن دار سليكي أخوين بطنجة سنة 2022. من 212 صفحة
1 ـ عبدالفتاح الحجمري ، عتبات النص / البنية والدلالة ، ط.1 ، منشورات الرابطة ، الدار البيضاء، 1996 ، ص 19 .
2 - المنظور السردي في رواية مدام بوفاري ، ترحمة : عيدالجبار العلمي ، مجلة " نوافذ "، عدد 12 ، سنة 2000 ، ص : 120 وما بعدها . كتاب : ـ
LA ORGIA PERPETUA , FLAUBERT Y MADAME BOVARI, MARIO VARGAS LLOSA ,ED.SEIXBARRAL, BARCELONA,1981 P.P, 213
3 ـ الرواية في نهاية القرن العشرين، دار المستقبل العربي ، مصر الجديدة ، القاهرة ، 2000 ص : 159
4 ـ محمد كامل الخطيب ، الرواية والواقع ، ط.1 ، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ـ لبنان ، 1981 ، ص : 24 .
5 ـ نفسه ، ص : 24 .
6 ـ جدلية الخفاء والتجلي / دراسات بنيوية في الشعر ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1979 .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...