أستاذ سابق في جامعة عجمان - الإمارات
في حياته، لم يفرد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط كتاباً قائماً برأسه يتخصَّص بدلالة مصطلحات محدَّدة ذات شأن فاعل في طبيعة الخطاب الفلسفي ومسارات اشتغاله مثل مصطلح (الفيلسوف)، ومصطلح (التفلسُف)، وكذلك مصطلح (الفلسفة). عوضاً عن ذلك نراه يدلق أفكاره في شأن دلالة هذه المصطلحات بين فصول وسطور مؤلَّفاته الفلسفية الكبرى والمتوسِّطة والصغرى، ما جعل عشّاق نصوصه الفلسفية يتضلَّعون بقراءة فاحصة تُبحر بين تلك الأسفار الصعبة للظفر بما جادت به قريحة هذا الفيلسوف الكبير بشأن دلالة هذه المصطلحات الثلاثة.
ولهذا، وفي رحلته الفكرية الطويلة، لم يأت كانط إلى بناء واضح الدلالة لمفهوم (الفيلسوف) إلاّ في كتابه (نقد العقل المحض)، وتحديداً في الفصول الأخيرة منه، وذلك عندما أخذ يتحدَّث عن مفهوم (معمارية العقل المحض) الذي يعرِّفه بأنه "فن بناء منظومة"( )، والذي، ومن خلاله، دخل إلى عالم الفيلسوف النَّقدي، إلى عالم التفلسُف، وكذلك عالم الفلسفة بعد صمت دام عشر سنين نطق في نهاية طوافه بقول فلسفي رائق تجلّى في كتابه هائل الأثر (نقد العقل المحض) لتصدر مؤلَّفاته النّقدية الأخرى تباعاً وفق مشروع فلسفي كبير صار كانط بموجبه أحدوثة عصره وما تلاه من عصور حتى يومنا هذا.
الفيلسوف النَّقدي
ولا شك أن كانط ظلَّ حريصاً على فهم موجوديته كفيلسوف نقديٍّ همَّ بفحص بنية العقل البشري بكل ما في تلك البنية من قدرات تفكير وتفكُّر وممكنات تأمُّل وقوى محضة ثاوية فيه تحرف مسار الفكر البشري نحو ظلمات غامضة، وراح بذلك ينأى عن أي فهم لـ (الفيلسوف) بحسب ما هو موروث في هذا المجال، خصوصاً المفهوم المدرسي الذي ينظر إلى الفلسفة بأنها مجرَّد "منظومة للمعرفة لا يتم البحث عنها إلاّ كعلم من دون أن يكون الهدف شيئاً ما أكثر من الوحدة المنظومية لهذا العلم"( )، وبالتالي تسعى إلى تكريس "الكمال المنطقي للمعرفة"( ).
ولهذا، وفي تجربته الفلسفية الكبيرة، لم يحبِّذ كانط المفهوم المدرسي للفلسفة ولا للفيلسوف، المفهوم التقليدي، بدلاً من ذلك، نراه يحفر في ما وراء هذا المفهوم في ظلِّ اعتقاده الأصيل بوجود معنى كونياً (Cosmicus)( ) لدلالة الفلسفة والفيلسوف والتفلسُف وهو ما ينبغي أن يكون ويوجد؛ فالفلسفة، وبهذا المعنى، هي "علم العلاقة بين كل معرفة مع الغايات الجوهرية للعقل البشري"( ) أو، وبحسب ترجمة الدكتور موسى وهبه، هي "علم الصلة بين كل معرفة وغايات العقل البشري الماهوية"( )، وفيها "لا يكون الفيلسوف صانعاً لدى العقل البشري، بل مشرِّع للعقل البشري"( ) أو، وبحسب ترجمة الدكتور غانم هنا، "لا يكون الفيلسوف أحد فناني أو صنّاع العقل البشري Vernunftkünstler، بل هو مُشرِّع العقل البشري Gesetzgeber der Menschlichen Vernunft"( ). وهذا ما يجعلنا، تلقائياً، نتولَّج حدائق السؤال المشروع؛ فمن هم صنّاع (أو فنانو) العقل البشري؟ وبالتالي؛ منْ هم مشرِّعو العقل البشري؟
على نحو واضح، يفرز كانط رجل الفلسفة أو الفيلسوف (Philosophen) عن غيره من العاملين في حقول المعرفة الأخرى؛ فهناك المتخصِّص في حقل الرياضيات (Mathematiker) وهناك المتخصِّص في حقل الفيزياء (Naturkündiger)، وكذلك يوجد المتخصِّص في حقل المنطق (Logiker)، ويصف كانط أصحاب هذه الفئات الثلاث بأنَّهم صُناَّع لدى العقل البشري أو فنانو العقل البشري (Vernunftkünstler)، وهؤلاء هم نخبة علمية تختلف عن الفلاسفة من حيث الأعلمية ببنية العقل البشري؛ أعلمية الفلاسفة بتلك البنية مقارنة بالرياضيين والفيزيائيين والمناطقة؛ فالفلاسفة هم مشرِّعو العقل البشري وليس صناّع يعملون لديه كتابعين، إنَّهم يشرِّعون له كينونته وبنيته وعمله، وهم بذلك معلِّمون (Lehrer)، وليس مجرَّد عمّال أو صبيان تابعون للعقل وإن كانوا يحرقون عمرهم كاملاً اشتغالاً وعملاً في دروبه العصية ومنعرجاته المراوغة ومساراته الغامضة.
بهذا وضع كانط مقام الفيلسوف في أعلى رتبة من مراتب الأعلمية المعرفية بشؤون العقل البشري، لاسيما أنه يعتقد بوجود فيلسوف أنموذج، أو "معلِّم في المثال Ideal teacher، يحرِّكهم كلَّهم، ويستخدمهم ليرقِّي الغايات الجوهرية للعقل البشري، هذا المعلِّمُ هو وحده الذي سيكون علينا أن نسميه الفيلسوف"( ).
سيكتسب (الفيلسوف) هذا التعريف المخصوص منذ تصدير الطبعة الثانية من كتاب كانط (الدِّين في حدود مجرَّد العقل)، الذي وضعه في عام 1794، وقال فيه إنَّ الفيلسوف هو "عالم بالعقل المحض، وينبغي أن يتخذَ موقفه، وبالتالي أنْ يتجرَّد من كل تجربة"( ) مختبرية.
وكان كانط في مقدِّمة الطبعة الأولى من هذا الكتاب، التي ظهرت في عام 1793، قد أشار إلى ما اسماه بـ "عالِم اللاهوت"، وفي ضوئه أشار إلى مصطلح "عُلماء لاهوت الكتاب المقدَّس"، وإلى مصطلح "اللاهوت الفلسفي"، وكذلك إلى مصطلح "الباحث الفلسفي في الدِّين"، كما ورد ذلك في (مقدِّمة) الطبعة الثانية، من خلال مقارنته بين كل هذه الفئات و"الفيلسوف" في إشارة إلى قراءته الفلسفية المعمقة لإشكالية العلاقة بين الدِّين والعقل.
في كتابه (نقد العقل المحض) ترد تسميات تركيبية أخرى لـ (الفيلسوف)، منها مُكنى "الفيلسوف التأمُّلي" = "Spekulativen Philosophen"، الذي يعتقد كانط بأن ذلك الفيلسوف الذي يتوسَّل (النَّقد) بوصفه "الحارس الوحيد لعلم نافع للجمهور من دون أن يدري الجمهور ذلك"( )؛ الحارس الذي سعى كانط لأن يتصدَّر وجوده المشهد مقابل مشهد الفيلسوف الميتافيزيقي الذي يتوسَّل العقل المحض كأداة له في خلق الأوهام وتصديرها للناس دسَّاً مخادع الطية.
وفي كتابه (نقد العقل العملي)، يأتي كانط إلى مناقشة شبه غامضة لعدد من المفهومات القريبة من مفهوم (الفيلسوف)، وذلك في الفصل الأول من الكتاب الثاني منه، وهو بصدد الحديث عن "فقه الحكمة"( ). وكذلك في نهاية كتابه آنف الذِّكر عندما كان يتحدَّث عن "أصحاب الحجر الفلسفي"( ).
أما في كتابه (نقد مَلَكة الحكم)، فقد استخدم كانط مصطلح الفيلسوف الترْسندالي أو الفيلسوف المجاوز = (Transzendentalphilosophen)، وذلك في أثناء إشارته إلى "التعيين الخاص لكلية الحُكم الجمالي التي نجدها في حكم الذوق"( )؛ تلك الكلية التي يعتقد كانط بأنها الأمر اللافت ليس على نحو حقيقي بالنسبة للمنطقي أو المتخصِّص في حقل المنطق (Logiker)، وإنما "بكل تأكيد للفيلسوف الترْسندالي أو المجاوز، وهو أمر يتطلَّب، من هذا الفيلسوف، جهداً ليس يسيراً للكشف عن جذوره، إلاّ أنه - كانط - وبالمقابل، يكشف عن خاصيَّة من خصائص مَلَكة المعرفة فينا كانت ستبقى مجهولة لولا هذا التحليل"( ).
ما هو مؤسف، أن كانط لم يتوغَّل كثيراً في تعريف نمط (الفيلسوف الترْسندالي) أو (الفيلسوف المجاوز) كما ورد في هذا النَّص، لا سيما أنه لم يأت إلى ذكره في (نقد العقل المحض) ولا حتى في (نقد العقل العملي)، ولكن يبدو جلياً أن دلالته تطوف في فلك التفلسُف النَّقدي الذي ميز خطابه الكانطي في أغلب مؤلَّفاته لكون عمل (الفيلسوف) يختلف عن عمل (المنطقي) أو المتخصِّص بعلم المنطق في إشارة إلى الفرق بينهما من حيث علاقتهما بـ (العقل) فيما إذا تبديا كمجرَّد صنّاع لديه أم مشرِّعين له.
ومع ذلك، يبدو على كانط أنه كان يمضي نحو بناء دلالة الفيلسوف النَّقدي من دون أن يأتي إلى استخدام رسمه المصطلحي في مؤلَّفاته المنشورة حتى الآن، والفيلسوف النَّقدي مفكِّر لا يؤمن بالعقل الكسول (Faule Vernunft)( )، ولا بوصاية غيره عليه من البشر، إنما هو إنسان تنويري تمرَّد على هيمنة كسله العقلي الذي يخنق وعيه الفكري حتى خرج عليه، وتحرَّر من مأزق سلطة الآخرين كأوصياء عليه ليقود التنوير الشامل وهو يشرِّع للعقل البشري من خلال مساءلته النّقدية بوعي كوني شامل.
وبهذا يمكن لنا أن نستقي تنويرية الفيلسوف النَّقدي من تعريف التنوير = (Aufklärung) الكانطي الذي ورد في رسالته الشهيرة (ما التنوير؟)؛ ذاك الذي صدح به كانط من ذي قبل في عام 1784، وأكَّد فيه على أن إنجاز التنوير سيبلغ منتهاه عندما يخرج الإنسان من حالة القصور التي تجشَّم عناء مسؤوليتها بنفسه، ولهذا عرَّف التنوير بأنه: "خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته. القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه من دون قيادة الغير. يكون هذا القصور راجعاً إلى الذات إذا كان سببه لا يكمُن في غياب الفهم، بل في غياب العزم والجرأة على استخدامه من دون قيادة الغير! تجرأ على استخدام فهمك الخاص. هذا إذن هو شعار التنوير"( ).
وهكذا، يسوِّغ لنا هذا المقترب التعريفي لـ (التنوير) بلورة خاصَّة معينة يتمتَّع بها فيلسوف التنوير النَّقدي وفق أنموذجه الكانطي ألا وهي تحرُّر هذا الفيلسوف من حالة القصور التي تصيب (الفهم) = (Verstand)؛ فهمه أو فاهمته، و(العقل) = (Vernunft)؛ عقله أو قدرته العقلية، جرّاء هيمنة وصاية الآخرين عليهما وهما يُفلسفان الوجود والذات البشرية والتاريخ والطبيعة والمجتمع وتفكيره في المستقبل.
الإنسان المتنوِّر، وبحسب رؤية كانط، هو الذي يمسك بزمام التفكير والتفكُّر بعقله وفاهمته في الحياة والوجود بعزم وجرأة. ولو أردنا النظر إلى وراء هذا التعريف من فلسفة، فإن مسعى كانط إنما هو دعوة الإنسان، وبالتالي المجتمع والتاريخ، بل الوجود برمته، إلى توظيف العقل البشري في معرفة الحياة، وعدم فهمها بواسطة أشخاص أو مرجعيات أو أيديولوجيات أو أنساق غير مُختبرة بقدرات الإنسان العقلية وفاهمته الخاصَّة به.
ومن بين هؤلاء البشر هناك الفيلسوف النَّقدي التنويري؛ ذلك أن أنموذج البشر من هذا الطراز تراه يتحلّى بقيم الشَّجاعة والحزم والإرادة، ويتمتع كذلك بالحرية والجرأة على التفكير المفتوح بذاته بعيداً عن أية وصاية لأحد على ذاته تلك وهو يتصدّى لبناء أفكاره على نحو نقدي أصيل، وهو ما كانه كانط نفسه في حياته، كما كان عليه فلاسفة عصر التنوير الفرنسيين الذين عاشوا عقود القرن الثامن عشر؛ قرن النَّقد والتنوير، ذلك القرن الذي بقدر ما كان فلاسفة التنوير في فرنسا، أولئك الذين رسَّخوا قواعد وأسس حركة التنوير، يُلاحَقون بتُهم إفساد عقول العباد، وتعرية مقامات الملوك وكهّان الزيف الدِّينيين، كانوا - الفلاسفة - إذا ما مروا في أي شارع تراه "يضجُّ بالهتاف والتصفيق، وهذا يعني، وعلى وجه التحديد، أن عمل الفيلسوف قد أصبح أكثر مدلولية ومعنى وأهمية من الألقاب الأرستقراطية"( ) الشائعة في ذلك الزمان؛ كألقاب النُّبلاء والملوك والكهّان وما أشبه.
التفلسُف
يعتقد كانط أن هناك معنى لـ (الفيلسوف) قابع خلف الصورة المعتادة التي يظهر فيها أمامنا بردائه المدرسي؛ معنى غير مدرسي، فالتعامل مع العقل يبدو حقاً طبيعياً لدى كل الناس، بل "توجد فكرة تشريعه في كل مكان، وفي كل عقل بشري"( )، وعلى نحو متاح لكل إنسان. وتلك هي دلالة المعنى الكوني أو العالمي للفلسفة، وكذلك للتفلسُف، ولكن تلك الدلالة تفترض وجود فيلسوف تنويري يتعامل مع العقل بهذا المعنى؛ فيلسوف يُشرِّع للعقل كيانه ودوره وغاياته المطلوبة على نحو كوني؛ عدا ذلك لا يمكن أن توجد فلسفة ولا تفلسُف حقيقي؛ فالفلسفة، ومن منظور كانط، هي "مجرَّد فكرة عن علم ممكن؛ الفلسفة ليست مُعطاة بأي مكان في الواقع، وإنما يُبحث عنها بشتى الطرق"( ) من خلال التفلسُف؛ فأقصى ما يتعلَّمه العقل البشري "هو التفلسُف"( ).
إن مَهمة التفلسُف (Philosophieren)، ومن منظور الفلاسفة المدرسيين، لا تعدو أنْ تكون "ممارسة موهبة العقل في تطبيق مبادئه العامَّة لصالح محاولات مُعينة تقدِّم نفسها"( )، بينما، ومن منظور الدلالة الكونية أو العالمية، وبحسب رؤية كانط، يبدو التفلسُف النَّقدي بحثاً في "علم الصلة بين كل معرفة وغايات العقل البشري الماهوية"( ). ولعل الفرق بين الدلالتين يبدو جلياً هنا؛ دلالة تجعل من العقل مجرَّد أداة وبحث في مصادر ما يملكه هذا العقل، وأخرى تجعل منه موضوع معرفة أو موضوع تأمُّل وتحليل ونظر فكري يغربل ما تدخر بنية العقل البشري من معطيات لم تأت إليه عبر التجربة الحسية كالمعطيات الميتافيزيقية والخرافية والأسطورية.
الفلسفة
لا شك أن كانط، وبوصفه فيلسوفاً نقدياً تنويري الاتجاه، هو متورِّط بممارسة التفلسُف حدَّ التأمُّل في الأعمق والأكثر حيوية، فهو أمضى كل سنين عمره راعياً لتلك الممارسة العقلية الفذَّة، منشغلاً بهمومها، سائراً في دروبها الوعرة.
وفي كل تجربته التفلسُفية تلك، التي ألفيناه لا يميل إلى اعتبار مَهمة الفلسفة تكمن فقط في مجرَّد بناء معمار لنظام فلسفي غايته إنجاز وحدة كلية للمعرفة، راح يحث خطاه صوب الباعث النَّقدي الذي ميز تجربته الفلسفية برمتها؛ الباعث الذي يعمل على تفكيك بنية العقل ذاتها؛ بنية العقل المحض، بنية العقل في ذاته أو فياه، نراه يذهب إلى أبعد من ذلك لكي لا يسقط في فخاخ تشييد الأنظمة الميتافيزيقية الكلية الموروثة عن أسلافه التي لا تمارس فن التسآل الفلسفي الحقيقي عمّا يفعله العقل البشري بإزاء كيانه وبنيته ودوره التنويري لدى جميع البشر؛ فكانط، الذي همَّ بتعرية الفكر الميتافيزيقي من خلال تفكيك بنية العقل المحض المؤسِّسة لهذه المعرفة، رفض إقامة ميتافيزيقا بديلة، فقط أراد أن يضع المعرفة الميتافيزيقية في دروب العلم الآمنة لكنَّه لم يحظ بذلك؟
وعلى رغم قوله بأن (الفلسفة) هي: "منظومة كل المعرفة الفلسفية"( ) أو، وبترجمة الدكتور موسى وهبه: "إن سستام كل معرفة فلسفية هو الفلسفة"( ). إلاّ أنّنا نلقاه يتحسَّس من المفهوم القديم للفلسفة الذي يصف الفلسفة أو التفلسُف بأنها، بأنه مجرَّد قدرة على استخدام العقل لتحليل الظواهر التي تواجه الإنسان في حياته اليومية أو محاولة تحقيق الكمال المنطقي للمعرفة أو بناء نسْق من العلم والمعرفة بناء منظومياً محكَّماً من دون مُساءلة العقل البشري عن وضعه وصور اشتغالاته الفكرية، وعن طبيعة بنيته المحضة، وكذلك عن أوهام تطلعاته المحضة.
بدلاً من ذلك، يريد كانط من سيدة المعرفة الجميلة - (الفلسفة) - أن تُمارس دورها النَّقدي الجديد عبْرَ مُساءلة العقل البشري الذي وجده ضائعاً في منعرجات بل ومتاهات معتمة كثيرة. وبذلك، يتحوَّل العقل، مع كانط، "ولأول مرَّة، إلى معضلة فلسفية"( )، بل ويصبح المشغل الكانطي "معاودة جذرية لصياغة المشكل في الفلسفة"( ) من خلال التصدِّي للتأثير الضار الناتج عن هيمنة الفكر الميتافيزيقي على الوعي الفلسفي، وتقويض ذلك التأثير عبر تفكيك خطاب العقل المحض كمرجعية لا تنتج إلاّ الوهم والترائي والخداع والتضليل.
ولما كانت (الفلسفة) هي "علم الصلة بين كل معرفة وغايات العقل البشري الماهوية"، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، وبحسب قول كانط نفسه بأن الفيلسوف هو "مشرِّع العقل البشري"، فإن دورها – (الفلسفة) - يكتسب طبيعة تساؤلية نقدية، وهو شأن (التفلسُف) بمعناه الكوني أو العالمي التنويري الذي لا يعتبر (الفلسفة) مجرَّد أكلة جاهزة نعثر عليها في هذا الطبق أو ذاك، بل يعني إعادة بناء المعرفة الفلسفية من خلال وعي تنويري نَّقدي، وهذا النَّمط من التفلسُف، وبدلالته المغايرة، يعني الذهاب إلى العقل المحض بغية تفكيك حمولته المعرفية غير القائمة على التجربة، تلك الحمولة التي تمارس دوراً يضرُّ بمسيرة العقل البشري الحر.
ومن هنا، قال كانط في خاتمة (نقد العقل المحض) بأن "نقد العقل المغامر في الطيران بأجنحته الخاصَّة، تلك هي بالضبط، هي وحدها، ما يمكن أن نُسميه، بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلسفة"( ). ما يعني أن التفلسُف هو ممارسة النَّقد لهكذا عقل يحلِّق على هواه، والنَّقد الفلسفي ههنا إنما هو نقد حرية العقل المفرطة عندما لا يردعها رادع.
أخيراً، يبدو (التفلسُف)، وفي ضوء تجربة كانط المخصَّصة لقراءة المعرفة الدِّينية عبرَ كتابه (الدِّين في حدود مجرَّد العقل)، يبدو اشتغالاً نقدياً في حدود منطقة معرفية لا بدَّ للدَّين أن يكتسب نقاءه وذلك بتقويض ما التفَّ حوله، وعبر التاريخ، من تفسيرات وتأويلات جهويَّة باتت عنصر تشويه لذلك النَّقاء لكي يمكن أن يُنظر إليه كدين منقّى من الشوائب المتراكمة عليه، بل لا بدَّ من الرجوع إلى التجربة المحضة للدِّين؛ إلى عقل الدِّين في ذاته، إلى عقل الدِّين المحض، إلى الدِّين في أصله. ومن هنا بات (الفيلسوف)، وبوصفه قارئاً نقدياً أصيلاً للتجربة الدينية، يهمُّ بتعرية جملة العوالق التأويلية المتراكمة سوء حول جوهر الدِّين حتى لتبدو، تلك التعرية، فعلاً تفكيكياً وتقويضياً جذري التوجُّه، وتلك مَهمة تاريخانية للفيلسوف التنويري النَّقدي الكوني؛ ابن الإنسانية جمعاء، المؤمن بالعقل الحق والدِّين الحق.
لهذا، يمكن القول إن المعنى الكوني للفلسفة يبدأ من اعتبار الفيلسوف، وعندما يمضي في "الطريق النَّقدي Der kritische Weg"( )، هو المشرِّع الأول للعقل البشري وليس مجرَّد مفكِّر يستعينُ بالعقل كأداة لتحليل الظواهر الطبيعية والنَّفسية والمجتمعية، وكذلك من اعتبار الدور المعرفي لهذا الفيلسوف حالة مختلفة عن حالة المتخصِّص في الرياضيات أو الفيزياء أو المنطق أو جُملة ما ندعوهم بـ (العُلماء) أو (صنّاع العقل البشري) في ضوء فهمنا المعاصر لدلالة هذا المصطلح.
ولما كانت (الفلسفة)، وبحسب المنظور الكانطي، "ترجع كل شيء إلى الحكمة، ولكن عن طريق العلم"( )، فإن (الفيلسوف) هو الشَّخص الذي يقوم بذلك الإرجاع أو الوصل بين الطرفين؛ الشيء والحكمة، والعلم هو الضامن الحقيقي لهذا الإرجاع كونه وحده الذي "إذا ما فُتح الطريق أمامه، فإنه لا يتشابك ولا يسمح بأي خطأ"( ).
لهذا، يمكن أن نصف (الفيلسوف النَّقدي) بمعناه الكوني بأنه الفيلسوف الحقيقي، إنه فيلسوف التنوير مقابل صورة الفيلسوف الزائفة، تلك الصورة التي نضّدتها الفلسفات المدرسية التقليدية غير النّقدية التي توكل ممارسة الفلسفة إلى الاستعانة بالعقل فقط على نحو مُشوَّه عندما تطالب الفيلسوف بأن يكون خاضعاً لمنطق الوصاية والتبعية للعقل الاستسلامي الكسول، بينما الفلسفة، وبمعناها الكوني أو العالمي النَّقدي التنويري، تجعل العقل موضوعاً لتفكيك عمائره بغية تكريرها وتنقيتها ومحصها من ضلالاتها وأوهامها. ليس هذا فقط، بل والتشريع للمُنقّى منها على نحو نقدي تنويري بعيداً عن منطق الوصاية والتبعية وتشوهات العقل التأويلي المتراكمة، وتلك هي مَهمة الفيلسوف في مثالها الكانطي.
في الوقت ذاته، ينبِّه كانط إلى عدم وجود فيلسوف كوني تنويري نقدي جاهز الحضور سوى فكرته التي له، ونقد العقل وحده؛ النَّقد بمعنى الفحص والنَّظر لكل ما يرد إلى الذهن البشري من غير أن يكون قائماً على التجربة، هو وحده الكفيل بمنحنا فرصة ذهبية لملاقاة الفيلسوف النَّقدي الكوني التنويري الذي يؤمن بأنَّ فكرة التشريع للعقل توجد في كل مكان، وفي كل عقل بشري، لكنّها لا تخرج إلى العيان الفعلي إلاّ من خلال التفلسُف النَّقدي الخلاق الذي صار كانط بسببه أحدوثته الواضحة في القرن الثامن عشر عندما كشف عن مشروعه الفلسفي الذي ضمَّته مؤلَّفاته النّقدية الكبرى.
د. رسول محمَّد رسول
في حياته، لم يفرد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط كتاباً قائماً برأسه يتخصَّص بدلالة مصطلحات محدَّدة ذات شأن فاعل في طبيعة الخطاب الفلسفي ومسارات اشتغاله مثل مصطلح (الفيلسوف)، ومصطلح (التفلسُف)، وكذلك مصطلح (الفلسفة). عوضاً عن ذلك نراه يدلق أفكاره في شأن دلالة هذه المصطلحات بين فصول وسطور مؤلَّفاته الفلسفية الكبرى والمتوسِّطة والصغرى، ما جعل عشّاق نصوصه الفلسفية يتضلَّعون بقراءة فاحصة تُبحر بين تلك الأسفار الصعبة للظفر بما جادت به قريحة هذا الفيلسوف الكبير بشأن دلالة هذه المصطلحات الثلاثة.
ولهذا، وفي رحلته الفكرية الطويلة، لم يأت كانط إلى بناء واضح الدلالة لمفهوم (الفيلسوف) إلاّ في كتابه (نقد العقل المحض)، وتحديداً في الفصول الأخيرة منه، وذلك عندما أخذ يتحدَّث عن مفهوم (معمارية العقل المحض) الذي يعرِّفه بأنه "فن بناء منظومة"( )، والذي، ومن خلاله، دخل إلى عالم الفيلسوف النَّقدي، إلى عالم التفلسُف، وكذلك عالم الفلسفة بعد صمت دام عشر سنين نطق في نهاية طوافه بقول فلسفي رائق تجلّى في كتابه هائل الأثر (نقد العقل المحض) لتصدر مؤلَّفاته النّقدية الأخرى تباعاً وفق مشروع فلسفي كبير صار كانط بموجبه أحدوثة عصره وما تلاه من عصور حتى يومنا هذا.
الفيلسوف النَّقدي
ولا شك أن كانط ظلَّ حريصاً على فهم موجوديته كفيلسوف نقديٍّ همَّ بفحص بنية العقل البشري بكل ما في تلك البنية من قدرات تفكير وتفكُّر وممكنات تأمُّل وقوى محضة ثاوية فيه تحرف مسار الفكر البشري نحو ظلمات غامضة، وراح بذلك ينأى عن أي فهم لـ (الفيلسوف) بحسب ما هو موروث في هذا المجال، خصوصاً المفهوم المدرسي الذي ينظر إلى الفلسفة بأنها مجرَّد "منظومة للمعرفة لا يتم البحث عنها إلاّ كعلم من دون أن يكون الهدف شيئاً ما أكثر من الوحدة المنظومية لهذا العلم"( )، وبالتالي تسعى إلى تكريس "الكمال المنطقي للمعرفة"( ).
ولهذا، وفي تجربته الفلسفية الكبيرة، لم يحبِّذ كانط المفهوم المدرسي للفلسفة ولا للفيلسوف، المفهوم التقليدي، بدلاً من ذلك، نراه يحفر في ما وراء هذا المفهوم في ظلِّ اعتقاده الأصيل بوجود معنى كونياً (Cosmicus)( ) لدلالة الفلسفة والفيلسوف والتفلسُف وهو ما ينبغي أن يكون ويوجد؛ فالفلسفة، وبهذا المعنى، هي "علم العلاقة بين كل معرفة مع الغايات الجوهرية للعقل البشري"( ) أو، وبحسب ترجمة الدكتور موسى وهبه، هي "علم الصلة بين كل معرفة وغايات العقل البشري الماهوية"( )، وفيها "لا يكون الفيلسوف صانعاً لدى العقل البشري، بل مشرِّع للعقل البشري"( ) أو، وبحسب ترجمة الدكتور غانم هنا، "لا يكون الفيلسوف أحد فناني أو صنّاع العقل البشري Vernunftkünstler، بل هو مُشرِّع العقل البشري Gesetzgeber der Menschlichen Vernunft"( ). وهذا ما يجعلنا، تلقائياً، نتولَّج حدائق السؤال المشروع؛ فمن هم صنّاع (أو فنانو) العقل البشري؟ وبالتالي؛ منْ هم مشرِّعو العقل البشري؟
على نحو واضح، يفرز كانط رجل الفلسفة أو الفيلسوف (Philosophen) عن غيره من العاملين في حقول المعرفة الأخرى؛ فهناك المتخصِّص في حقل الرياضيات (Mathematiker) وهناك المتخصِّص في حقل الفيزياء (Naturkündiger)، وكذلك يوجد المتخصِّص في حقل المنطق (Logiker)، ويصف كانط أصحاب هذه الفئات الثلاث بأنَّهم صُناَّع لدى العقل البشري أو فنانو العقل البشري (Vernunftkünstler)، وهؤلاء هم نخبة علمية تختلف عن الفلاسفة من حيث الأعلمية ببنية العقل البشري؛ أعلمية الفلاسفة بتلك البنية مقارنة بالرياضيين والفيزيائيين والمناطقة؛ فالفلاسفة هم مشرِّعو العقل البشري وليس صناّع يعملون لديه كتابعين، إنَّهم يشرِّعون له كينونته وبنيته وعمله، وهم بذلك معلِّمون (Lehrer)، وليس مجرَّد عمّال أو صبيان تابعون للعقل وإن كانوا يحرقون عمرهم كاملاً اشتغالاً وعملاً في دروبه العصية ومنعرجاته المراوغة ومساراته الغامضة.
بهذا وضع كانط مقام الفيلسوف في أعلى رتبة من مراتب الأعلمية المعرفية بشؤون العقل البشري، لاسيما أنه يعتقد بوجود فيلسوف أنموذج، أو "معلِّم في المثال Ideal teacher، يحرِّكهم كلَّهم، ويستخدمهم ليرقِّي الغايات الجوهرية للعقل البشري، هذا المعلِّمُ هو وحده الذي سيكون علينا أن نسميه الفيلسوف"( ).
سيكتسب (الفيلسوف) هذا التعريف المخصوص منذ تصدير الطبعة الثانية من كتاب كانط (الدِّين في حدود مجرَّد العقل)، الذي وضعه في عام 1794، وقال فيه إنَّ الفيلسوف هو "عالم بالعقل المحض، وينبغي أن يتخذَ موقفه، وبالتالي أنْ يتجرَّد من كل تجربة"( ) مختبرية.
وكان كانط في مقدِّمة الطبعة الأولى من هذا الكتاب، التي ظهرت في عام 1793، قد أشار إلى ما اسماه بـ "عالِم اللاهوت"، وفي ضوئه أشار إلى مصطلح "عُلماء لاهوت الكتاب المقدَّس"، وإلى مصطلح "اللاهوت الفلسفي"، وكذلك إلى مصطلح "الباحث الفلسفي في الدِّين"، كما ورد ذلك في (مقدِّمة) الطبعة الثانية، من خلال مقارنته بين كل هذه الفئات و"الفيلسوف" في إشارة إلى قراءته الفلسفية المعمقة لإشكالية العلاقة بين الدِّين والعقل.
في كتابه (نقد العقل المحض) ترد تسميات تركيبية أخرى لـ (الفيلسوف)، منها مُكنى "الفيلسوف التأمُّلي" = "Spekulativen Philosophen"، الذي يعتقد كانط بأن ذلك الفيلسوف الذي يتوسَّل (النَّقد) بوصفه "الحارس الوحيد لعلم نافع للجمهور من دون أن يدري الجمهور ذلك"( )؛ الحارس الذي سعى كانط لأن يتصدَّر وجوده المشهد مقابل مشهد الفيلسوف الميتافيزيقي الذي يتوسَّل العقل المحض كأداة له في خلق الأوهام وتصديرها للناس دسَّاً مخادع الطية.
وفي كتابه (نقد العقل العملي)، يأتي كانط إلى مناقشة شبه غامضة لعدد من المفهومات القريبة من مفهوم (الفيلسوف)، وذلك في الفصل الأول من الكتاب الثاني منه، وهو بصدد الحديث عن "فقه الحكمة"( ). وكذلك في نهاية كتابه آنف الذِّكر عندما كان يتحدَّث عن "أصحاب الحجر الفلسفي"( ).
أما في كتابه (نقد مَلَكة الحكم)، فقد استخدم كانط مصطلح الفيلسوف الترْسندالي أو الفيلسوف المجاوز = (Transzendentalphilosophen)، وذلك في أثناء إشارته إلى "التعيين الخاص لكلية الحُكم الجمالي التي نجدها في حكم الذوق"( )؛ تلك الكلية التي يعتقد كانط بأنها الأمر اللافت ليس على نحو حقيقي بالنسبة للمنطقي أو المتخصِّص في حقل المنطق (Logiker)، وإنما "بكل تأكيد للفيلسوف الترْسندالي أو المجاوز، وهو أمر يتطلَّب، من هذا الفيلسوف، جهداً ليس يسيراً للكشف عن جذوره، إلاّ أنه - كانط - وبالمقابل، يكشف عن خاصيَّة من خصائص مَلَكة المعرفة فينا كانت ستبقى مجهولة لولا هذا التحليل"( ).
ما هو مؤسف، أن كانط لم يتوغَّل كثيراً في تعريف نمط (الفيلسوف الترْسندالي) أو (الفيلسوف المجاوز) كما ورد في هذا النَّص، لا سيما أنه لم يأت إلى ذكره في (نقد العقل المحض) ولا حتى في (نقد العقل العملي)، ولكن يبدو جلياً أن دلالته تطوف في فلك التفلسُف النَّقدي الذي ميز خطابه الكانطي في أغلب مؤلَّفاته لكون عمل (الفيلسوف) يختلف عن عمل (المنطقي) أو المتخصِّص بعلم المنطق في إشارة إلى الفرق بينهما من حيث علاقتهما بـ (العقل) فيما إذا تبديا كمجرَّد صنّاع لديه أم مشرِّعين له.
ومع ذلك، يبدو على كانط أنه كان يمضي نحو بناء دلالة الفيلسوف النَّقدي من دون أن يأتي إلى استخدام رسمه المصطلحي في مؤلَّفاته المنشورة حتى الآن، والفيلسوف النَّقدي مفكِّر لا يؤمن بالعقل الكسول (Faule Vernunft)( )، ولا بوصاية غيره عليه من البشر، إنما هو إنسان تنويري تمرَّد على هيمنة كسله العقلي الذي يخنق وعيه الفكري حتى خرج عليه، وتحرَّر من مأزق سلطة الآخرين كأوصياء عليه ليقود التنوير الشامل وهو يشرِّع للعقل البشري من خلال مساءلته النّقدية بوعي كوني شامل.
وبهذا يمكن لنا أن نستقي تنويرية الفيلسوف النَّقدي من تعريف التنوير = (Aufklärung) الكانطي الذي ورد في رسالته الشهيرة (ما التنوير؟)؛ ذاك الذي صدح به كانط من ذي قبل في عام 1784، وأكَّد فيه على أن إنجاز التنوير سيبلغ منتهاه عندما يخرج الإنسان من حالة القصور التي تجشَّم عناء مسؤوليتها بنفسه، ولهذا عرَّف التنوير بأنه: "خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته. القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه من دون قيادة الغير. يكون هذا القصور راجعاً إلى الذات إذا كان سببه لا يكمُن في غياب الفهم، بل في غياب العزم والجرأة على استخدامه من دون قيادة الغير! تجرأ على استخدام فهمك الخاص. هذا إذن هو شعار التنوير"( ).
وهكذا، يسوِّغ لنا هذا المقترب التعريفي لـ (التنوير) بلورة خاصَّة معينة يتمتَّع بها فيلسوف التنوير النَّقدي وفق أنموذجه الكانطي ألا وهي تحرُّر هذا الفيلسوف من حالة القصور التي تصيب (الفهم) = (Verstand)؛ فهمه أو فاهمته، و(العقل) = (Vernunft)؛ عقله أو قدرته العقلية، جرّاء هيمنة وصاية الآخرين عليهما وهما يُفلسفان الوجود والذات البشرية والتاريخ والطبيعة والمجتمع وتفكيره في المستقبل.
الإنسان المتنوِّر، وبحسب رؤية كانط، هو الذي يمسك بزمام التفكير والتفكُّر بعقله وفاهمته في الحياة والوجود بعزم وجرأة. ولو أردنا النظر إلى وراء هذا التعريف من فلسفة، فإن مسعى كانط إنما هو دعوة الإنسان، وبالتالي المجتمع والتاريخ، بل الوجود برمته، إلى توظيف العقل البشري في معرفة الحياة، وعدم فهمها بواسطة أشخاص أو مرجعيات أو أيديولوجيات أو أنساق غير مُختبرة بقدرات الإنسان العقلية وفاهمته الخاصَّة به.
ومن بين هؤلاء البشر هناك الفيلسوف النَّقدي التنويري؛ ذلك أن أنموذج البشر من هذا الطراز تراه يتحلّى بقيم الشَّجاعة والحزم والإرادة، ويتمتع كذلك بالحرية والجرأة على التفكير المفتوح بذاته بعيداً عن أية وصاية لأحد على ذاته تلك وهو يتصدّى لبناء أفكاره على نحو نقدي أصيل، وهو ما كانه كانط نفسه في حياته، كما كان عليه فلاسفة عصر التنوير الفرنسيين الذين عاشوا عقود القرن الثامن عشر؛ قرن النَّقد والتنوير، ذلك القرن الذي بقدر ما كان فلاسفة التنوير في فرنسا، أولئك الذين رسَّخوا قواعد وأسس حركة التنوير، يُلاحَقون بتُهم إفساد عقول العباد، وتعرية مقامات الملوك وكهّان الزيف الدِّينيين، كانوا - الفلاسفة - إذا ما مروا في أي شارع تراه "يضجُّ بالهتاف والتصفيق، وهذا يعني، وعلى وجه التحديد، أن عمل الفيلسوف قد أصبح أكثر مدلولية ومعنى وأهمية من الألقاب الأرستقراطية"( ) الشائعة في ذلك الزمان؛ كألقاب النُّبلاء والملوك والكهّان وما أشبه.
التفلسُف
يعتقد كانط أن هناك معنى لـ (الفيلسوف) قابع خلف الصورة المعتادة التي يظهر فيها أمامنا بردائه المدرسي؛ معنى غير مدرسي، فالتعامل مع العقل يبدو حقاً طبيعياً لدى كل الناس، بل "توجد فكرة تشريعه في كل مكان، وفي كل عقل بشري"( )، وعلى نحو متاح لكل إنسان. وتلك هي دلالة المعنى الكوني أو العالمي للفلسفة، وكذلك للتفلسُف، ولكن تلك الدلالة تفترض وجود فيلسوف تنويري يتعامل مع العقل بهذا المعنى؛ فيلسوف يُشرِّع للعقل كيانه ودوره وغاياته المطلوبة على نحو كوني؛ عدا ذلك لا يمكن أن توجد فلسفة ولا تفلسُف حقيقي؛ فالفلسفة، ومن منظور كانط، هي "مجرَّد فكرة عن علم ممكن؛ الفلسفة ليست مُعطاة بأي مكان في الواقع، وإنما يُبحث عنها بشتى الطرق"( ) من خلال التفلسُف؛ فأقصى ما يتعلَّمه العقل البشري "هو التفلسُف"( ).
إن مَهمة التفلسُف (Philosophieren)، ومن منظور الفلاسفة المدرسيين، لا تعدو أنْ تكون "ممارسة موهبة العقل في تطبيق مبادئه العامَّة لصالح محاولات مُعينة تقدِّم نفسها"( )، بينما، ومن منظور الدلالة الكونية أو العالمية، وبحسب رؤية كانط، يبدو التفلسُف النَّقدي بحثاً في "علم الصلة بين كل معرفة وغايات العقل البشري الماهوية"( ). ولعل الفرق بين الدلالتين يبدو جلياً هنا؛ دلالة تجعل من العقل مجرَّد أداة وبحث في مصادر ما يملكه هذا العقل، وأخرى تجعل منه موضوع معرفة أو موضوع تأمُّل وتحليل ونظر فكري يغربل ما تدخر بنية العقل البشري من معطيات لم تأت إليه عبر التجربة الحسية كالمعطيات الميتافيزيقية والخرافية والأسطورية.
الفلسفة
لا شك أن كانط، وبوصفه فيلسوفاً نقدياً تنويري الاتجاه، هو متورِّط بممارسة التفلسُف حدَّ التأمُّل في الأعمق والأكثر حيوية، فهو أمضى كل سنين عمره راعياً لتلك الممارسة العقلية الفذَّة، منشغلاً بهمومها، سائراً في دروبها الوعرة.
وفي كل تجربته التفلسُفية تلك، التي ألفيناه لا يميل إلى اعتبار مَهمة الفلسفة تكمن فقط في مجرَّد بناء معمار لنظام فلسفي غايته إنجاز وحدة كلية للمعرفة، راح يحث خطاه صوب الباعث النَّقدي الذي ميز تجربته الفلسفية برمتها؛ الباعث الذي يعمل على تفكيك بنية العقل ذاتها؛ بنية العقل المحض، بنية العقل في ذاته أو فياه، نراه يذهب إلى أبعد من ذلك لكي لا يسقط في فخاخ تشييد الأنظمة الميتافيزيقية الكلية الموروثة عن أسلافه التي لا تمارس فن التسآل الفلسفي الحقيقي عمّا يفعله العقل البشري بإزاء كيانه وبنيته ودوره التنويري لدى جميع البشر؛ فكانط، الذي همَّ بتعرية الفكر الميتافيزيقي من خلال تفكيك بنية العقل المحض المؤسِّسة لهذه المعرفة، رفض إقامة ميتافيزيقا بديلة، فقط أراد أن يضع المعرفة الميتافيزيقية في دروب العلم الآمنة لكنَّه لم يحظ بذلك؟
وعلى رغم قوله بأن (الفلسفة) هي: "منظومة كل المعرفة الفلسفية"( ) أو، وبترجمة الدكتور موسى وهبه: "إن سستام كل معرفة فلسفية هو الفلسفة"( ). إلاّ أنّنا نلقاه يتحسَّس من المفهوم القديم للفلسفة الذي يصف الفلسفة أو التفلسُف بأنها، بأنه مجرَّد قدرة على استخدام العقل لتحليل الظواهر التي تواجه الإنسان في حياته اليومية أو محاولة تحقيق الكمال المنطقي للمعرفة أو بناء نسْق من العلم والمعرفة بناء منظومياً محكَّماً من دون مُساءلة العقل البشري عن وضعه وصور اشتغالاته الفكرية، وعن طبيعة بنيته المحضة، وكذلك عن أوهام تطلعاته المحضة.
بدلاً من ذلك، يريد كانط من سيدة المعرفة الجميلة - (الفلسفة) - أن تُمارس دورها النَّقدي الجديد عبْرَ مُساءلة العقل البشري الذي وجده ضائعاً في منعرجات بل ومتاهات معتمة كثيرة. وبذلك، يتحوَّل العقل، مع كانط، "ولأول مرَّة، إلى معضلة فلسفية"( )، بل ويصبح المشغل الكانطي "معاودة جذرية لصياغة المشكل في الفلسفة"( ) من خلال التصدِّي للتأثير الضار الناتج عن هيمنة الفكر الميتافيزيقي على الوعي الفلسفي، وتقويض ذلك التأثير عبر تفكيك خطاب العقل المحض كمرجعية لا تنتج إلاّ الوهم والترائي والخداع والتضليل.
ولما كانت (الفلسفة) هي "علم الصلة بين كل معرفة وغايات العقل البشري الماهوية"، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، وبحسب قول كانط نفسه بأن الفيلسوف هو "مشرِّع العقل البشري"، فإن دورها – (الفلسفة) - يكتسب طبيعة تساؤلية نقدية، وهو شأن (التفلسُف) بمعناه الكوني أو العالمي التنويري الذي لا يعتبر (الفلسفة) مجرَّد أكلة جاهزة نعثر عليها في هذا الطبق أو ذاك، بل يعني إعادة بناء المعرفة الفلسفية من خلال وعي تنويري نَّقدي، وهذا النَّمط من التفلسُف، وبدلالته المغايرة، يعني الذهاب إلى العقل المحض بغية تفكيك حمولته المعرفية غير القائمة على التجربة، تلك الحمولة التي تمارس دوراً يضرُّ بمسيرة العقل البشري الحر.
ومن هنا، قال كانط في خاتمة (نقد العقل المحض) بأن "نقد العقل المغامر في الطيران بأجنحته الخاصَّة، تلك هي بالضبط، هي وحدها، ما يمكن أن نُسميه، بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلسفة"( ). ما يعني أن التفلسُف هو ممارسة النَّقد لهكذا عقل يحلِّق على هواه، والنَّقد الفلسفي ههنا إنما هو نقد حرية العقل المفرطة عندما لا يردعها رادع.
أخيراً، يبدو (التفلسُف)، وفي ضوء تجربة كانط المخصَّصة لقراءة المعرفة الدِّينية عبرَ كتابه (الدِّين في حدود مجرَّد العقل)، يبدو اشتغالاً نقدياً في حدود منطقة معرفية لا بدَّ للدَّين أن يكتسب نقاءه وذلك بتقويض ما التفَّ حوله، وعبر التاريخ، من تفسيرات وتأويلات جهويَّة باتت عنصر تشويه لذلك النَّقاء لكي يمكن أن يُنظر إليه كدين منقّى من الشوائب المتراكمة عليه، بل لا بدَّ من الرجوع إلى التجربة المحضة للدِّين؛ إلى عقل الدِّين في ذاته، إلى عقل الدِّين المحض، إلى الدِّين في أصله. ومن هنا بات (الفيلسوف)، وبوصفه قارئاً نقدياً أصيلاً للتجربة الدينية، يهمُّ بتعرية جملة العوالق التأويلية المتراكمة سوء حول جوهر الدِّين حتى لتبدو، تلك التعرية، فعلاً تفكيكياً وتقويضياً جذري التوجُّه، وتلك مَهمة تاريخانية للفيلسوف التنويري النَّقدي الكوني؛ ابن الإنسانية جمعاء، المؤمن بالعقل الحق والدِّين الحق.
لهذا، يمكن القول إن المعنى الكوني للفلسفة يبدأ من اعتبار الفيلسوف، وعندما يمضي في "الطريق النَّقدي Der kritische Weg"( )، هو المشرِّع الأول للعقل البشري وليس مجرَّد مفكِّر يستعينُ بالعقل كأداة لتحليل الظواهر الطبيعية والنَّفسية والمجتمعية، وكذلك من اعتبار الدور المعرفي لهذا الفيلسوف حالة مختلفة عن حالة المتخصِّص في الرياضيات أو الفيزياء أو المنطق أو جُملة ما ندعوهم بـ (العُلماء) أو (صنّاع العقل البشري) في ضوء فهمنا المعاصر لدلالة هذا المصطلح.
ولما كانت (الفلسفة)، وبحسب المنظور الكانطي، "ترجع كل شيء إلى الحكمة، ولكن عن طريق العلم"( )، فإن (الفيلسوف) هو الشَّخص الذي يقوم بذلك الإرجاع أو الوصل بين الطرفين؛ الشيء والحكمة، والعلم هو الضامن الحقيقي لهذا الإرجاع كونه وحده الذي "إذا ما فُتح الطريق أمامه، فإنه لا يتشابك ولا يسمح بأي خطأ"( ).
لهذا، يمكن أن نصف (الفيلسوف النَّقدي) بمعناه الكوني بأنه الفيلسوف الحقيقي، إنه فيلسوف التنوير مقابل صورة الفيلسوف الزائفة، تلك الصورة التي نضّدتها الفلسفات المدرسية التقليدية غير النّقدية التي توكل ممارسة الفلسفة إلى الاستعانة بالعقل فقط على نحو مُشوَّه عندما تطالب الفيلسوف بأن يكون خاضعاً لمنطق الوصاية والتبعية للعقل الاستسلامي الكسول، بينما الفلسفة، وبمعناها الكوني أو العالمي النَّقدي التنويري، تجعل العقل موضوعاً لتفكيك عمائره بغية تكريرها وتنقيتها ومحصها من ضلالاتها وأوهامها. ليس هذا فقط، بل والتشريع للمُنقّى منها على نحو نقدي تنويري بعيداً عن منطق الوصاية والتبعية وتشوهات العقل التأويلي المتراكمة، وتلك هي مَهمة الفيلسوف في مثالها الكانطي.
في الوقت ذاته، ينبِّه كانط إلى عدم وجود فيلسوف كوني تنويري نقدي جاهز الحضور سوى فكرته التي له، ونقد العقل وحده؛ النَّقد بمعنى الفحص والنَّظر لكل ما يرد إلى الذهن البشري من غير أن يكون قائماً على التجربة، هو وحده الكفيل بمنحنا فرصة ذهبية لملاقاة الفيلسوف النَّقدي الكوني التنويري الذي يؤمن بأنَّ فكرة التشريع للعقل توجد في كل مكان، وفي كل عقل بشري، لكنّها لا تخرج إلى العيان الفعلي إلاّ من خلال التفلسُف النَّقدي الخلاق الذي صار كانط بسببه أحدوثته الواضحة في القرن الثامن عشر عندما كشف عن مشروعه الفلسفي الذي ضمَّته مؤلَّفاته النّقدية الكبرى.
د. رسول محمَّد رسول