إثر هزيمة حزيران ١٩٦٧ أخذت أردد قصائد تناقضت رؤى شعرائها، ولم ألتفت في حينه إلى هذا التناقض الذي يجعل مني شخصا متناقضا يميل جهة هذه القصيدة أو تلك حسب حالته النفسية واللحظة التي يعيشها، ولا أظن أنني حتى اللحظة أمتلك موقفا ثابتا نهائيا من كثير من القضايا. إنني لا أنكر تأثير اللحظة وما يعتمل في النفس وتوفر الإمكانيات التي تحقق إنجاز ما تتوق النفس إليه.
قبل أن أقرأ قصائد شعراء الأرض المحتلة في ١٩٤٨ عن الهزيمة ورؤيتهم لها، كنت قرأت قصيدة كتبها طالب طب في جامعة دمشق وعزيت إلى نزار قباني مطلعها:
غنت فيروز مغردة وقلوب الشعب لها تسمع:
«الآن الآن وليس غدا
أجراس العودة فلتقرع»
وترنمت بها وكتبتها على دفاتري المدرسية والجامعية وحفظتها عن ظهر قلب وتوقفت أمام أبياتها التي عززتها الحروب الأهلية في الأردن ولبنان وقطاع غزة و ... و ...:
«عفوا فيروز ومعذرة
أجراس العودة لن تقرع
خازوق دق بأسفلنا
خازوق دق ولن يقلع»
وحتى اللحظة لم تقرع الأجراس وأغلب الظن أنني سأموت بحسرتي كما مات جدي وأبي وأعمامي بحسرتهم فلم يعودوا إلى بيتهم في يافا ودفنوا غرباء عن أرض ولادتهم.
عندما قرأت قصائد الأرض المحتلة صرت أردد مقاطع حفظتها عن ظهر قلب أيضا؛ قصائد كتبها توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، ولما اقتربت من الفصائل اليسارية وقرأت بعض أدبياتها آمنت بتلك الأشعار كما لو أنها نبوءة مقدسة سوف تتحقق بالتأكيد، ولفترة رددت مقولة «الحتمية التاريخية» بانتصار الحق والعدل والطبقات العاملة والفقيرة على الرأسمالية وشرورها و... و... وظللت أؤمن بهذه المقولة حتى زرت ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وقررت ألا أظل ببغاء، وصرت ميالا للواقعية النقدية المتشائمة متخليا عن الواقعية الاشتراكية. أخذت بمقولات (جورج لوكاش) في كتابه «معنى الواقعية المعاصرة» عنها. إنها احتمالية أكثر منها إمكانية محققة، وهي تصور ذهني لعالم افتراضي قد يتحقق وقد لا يتحقق.
كان توفيق زياد الشيوعي العقائدي مؤمنا بالحزب وطروحاته والأفكار الماركسية وبالمستقبل وانتصار العالم الشيوعي وقوى التحرر على الرأسمالية وكتب هذا في قصائده، ولهذا رأى في هزيمة حزيران١٩٦٧:
«كبوة - وكم يحدث أن يكبو
الهمام
إنها للخلف خطوة
من أجل عشر للأمام».
ولم تختلف رؤية محمود درويش رفيقه في الحزب عن رؤيته إلا بعد سنوات، فإثر الهزيمة وحين كتب عنها مباشرة رأى أنه خسر حلما ولم يخسر الطريق:
«خسرت حلما جميلا
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلا
على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا».
مات زياد ودرويش والقاسم ولم نخط للأمام أي خطوة، وما زالت الأوضاع تزداد سوءا وصار من وصفناهم بالجبن وأبناء الميتة و ... و ... صاروا يتمرجلون أكثر وأكثر علينا، وتمرجل علينا آخرون كثر، حتى ظن قسم منا أن أغنية فيروز التي تقول فيها:
«مين ما كان بيتمرجل علينا»
موجهة إلينا وأننا نحن، الفلسطينيين، المعنيون بها.
ربما كل ما كتب آنفا قيل من قبل، فما الجديد؟
كان محمود درويش وهو يلاحظ ما يكتب وما كتبه سابقوه، كان كتب:
«لكن قيل ما سأقول
يسبقني غد ماض. أنا ملك الصدى.
لا عرش لي إلا الهوامش، والطريق
هو الطريقة. ربما نسي الأوائل وصف
شيء ما، أحرك فيه ذاكرة وحسا».
وها أنا أحرك في الكتابة عن حزيران ذاكرة وحسا، وربما الأصح أن ما قرأته من روايات في الأعوام الأخيرة عن حزيران هو ما حرك فيه الذاكرة.
في حزيران ٢٠١٦ بدأت أكتب كتابي «حزيران الذي لا ينتهي» وقد صدر في العام ٢٠١٨، ورأيت في حزيران ١٩٦٧ حزيران لا ينتهي.
لم تتوقف الكتابة عن حزيران ولم يتوقف استحضار الروائيين له بعد ذلك. كتب نبيل عمرو روايته «وزير إعلام الحرب» (٢٠١٩)، والعام الماضي أهداني كامل أبو صقر روايته «فتى الغور ٦٧» (٢٠٢٢) وهي رواية يأتي فيها كاتبها المولود في ١٩٦٠ في عقربا - الضفة الغربية - على طفولته في غور الأردن وأجواء حزيران ١٩٦٧ يوم كان في السابعة من عمره. إنه يستحضر أجواء الحرب التي يتذكرها كل من كان عاش أجواءها. وفي العام نفسه الذي صدرت فيه الرواية صدرت رواية إبراهيم نصر الله «طفولتي حتى الآن» (٢٠٢٢). إنها أيضا رواية عن الطفولة والمخيم وحرب حزيران وما تلاها من مقاومة فلسطينية في الأردن. لقد كان إبراهيم، يوم اندلعت حرب حزيران ١٩٦٧، في الثالثة عشرة من عمره.
ولنلاحظ أن الأعمال الأربعة المشار إليها كتبت بين ٢٠١٦ و٢٠٢٢ - أي بعد خمسين عاما من الهزيمة. كأن الهزيمة لما تنته. كأننا ما زلنا نجلس على الخازوق، والجلوس على الخازوق هو عنوان فصل من رواية إميل حبيبي «المتشائل» (١٩٧٤) وقد فصل الكتابة عن الخازوق علاء حليحل في روايته «أورفوار عكا» (٢٠١٤) التي دار زمنها الروائي في نهاية القرن ١٨ وبداية القرن ١٩ - زمن غزو نابليون فلسطين.
حقا كأن هزيمة حزيران ١٩٦٧ خازوق دق بأسفلنا!!
عادل الأسطة
2023-06-18
قبل أن أقرأ قصائد شعراء الأرض المحتلة في ١٩٤٨ عن الهزيمة ورؤيتهم لها، كنت قرأت قصيدة كتبها طالب طب في جامعة دمشق وعزيت إلى نزار قباني مطلعها:
غنت فيروز مغردة وقلوب الشعب لها تسمع:
«الآن الآن وليس غدا
أجراس العودة فلتقرع»
وترنمت بها وكتبتها على دفاتري المدرسية والجامعية وحفظتها عن ظهر قلب وتوقفت أمام أبياتها التي عززتها الحروب الأهلية في الأردن ولبنان وقطاع غزة و ... و ...:
«عفوا فيروز ومعذرة
أجراس العودة لن تقرع
خازوق دق بأسفلنا
خازوق دق ولن يقلع»
وحتى اللحظة لم تقرع الأجراس وأغلب الظن أنني سأموت بحسرتي كما مات جدي وأبي وأعمامي بحسرتهم فلم يعودوا إلى بيتهم في يافا ودفنوا غرباء عن أرض ولادتهم.
عندما قرأت قصائد الأرض المحتلة صرت أردد مقاطع حفظتها عن ظهر قلب أيضا؛ قصائد كتبها توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، ولما اقتربت من الفصائل اليسارية وقرأت بعض أدبياتها آمنت بتلك الأشعار كما لو أنها نبوءة مقدسة سوف تتحقق بالتأكيد، ولفترة رددت مقولة «الحتمية التاريخية» بانتصار الحق والعدل والطبقات العاملة والفقيرة على الرأسمالية وشرورها و... و... وظللت أؤمن بهذه المقولة حتى زرت ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وقررت ألا أظل ببغاء، وصرت ميالا للواقعية النقدية المتشائمة متخليا عن الواقعية الاشتراكية. أخذت بمقولات (جورج لوكاش) في كتابه «معنى الواقعية المعاصرة» عنها. إنها احتمالية أكثر منها إمكانية محققة، وهي تصور ذهني لعالم افتراضي قد يتحقق وقد لا يتحقق.
كان توفيق زياد الشيوعي العقائدي مؤمنا بالحزب وطروحاته والأفكار الماركسية وبالمستقبل وانتصار العالم الشيوعي وقوى التحرر على الرأسمالية وكتب هذا في قصائده، ولهذا رأى في هزيمة حزيران١٩٦٧:
«كبوة - وكم يحدث أن يكبو
الهمام
إنها للخلف خطوة
من أجل عشر للأمام».
ولم تختلف رؤية محمود درويش رفيقه في الحزب عن رؤيته إلا بعد سنوات، فإثر الهزيمة وحين كتب عنها مباشرة رأى أنه خسر حلما ولم يخسر الطريق:
«خسرت حلما جميلا
خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلا
على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا».
مات زياد ودرويش والقاسم ولم نخط للأمام أي خطوة، وما زالت الأوضاع تزداد سوءا وصار من وصفناهم بالجبن وأبناء الميتة و ... و ... صاروا يتمرجلون أكثر وأكثر علينا، وتمرجل علينا آخرون كثر، حتى ظن قسم منا أن أغنية فيروز التي تقول فيها:
«مين ما كان بيتمرجل علينا»
موجهة إلينا وأننا نحن، الفلسطينيين، المعنيون بها.
ربما كل ما كتب آنفا قيل من قبل، فما الجديد؟
كان محمود درويش وهو يلاحظ ما يكتب وما كتبه سابقوه، كان كتب:
«لكن قيل ما سأقول
يسبقني غد ماض. أنا ملك الصدى.
لا عرش لي إلا الهوامش، والطريق
هو الطريقة. ربما نسي الأوائل وصف
شيء ما، أحرك فيه ذاكرة وحسا».
وها أنا أحرك في الكتابة عن حزيران ذاكرة وحسا، وربما الأصح أن ما قرأته من روايات في الأعوام الأخيرة عن حزيران هو ما حرك فيه الذاكرة.
في حزيران ٢٠١٦ بدأت أكتب كتابي «حزيران الذي لا ينتهي» وقد صدر في العام ٢٠١٨، ورأيت في حزيران ١٩٦٧ حزيران لا ينتهي.
لم تتوقف الكتابة عن حزيران ولم يتوقف استحضار الروائيين له بعد ذلك. كتب نبيل عمرو روايته «وزير إعلام الحرب» (٢٠١٩)، والعام الماضي أهداني كامل أبو صقر روايته «فتى الغور ٦٧» (٢٠٢٢) وهي رواية يأتي فيها كاتبها المولود في ١٩٦٠ في عقربا - الضفة الغربية - على طفولته في غور الأردن وأجواء حزيران ١٩٦٧ يوم كان في السابعة من عمره. إنه يستحضر أجواء الحرب التي يتذكرها كل من كان عاش أجواءها. وفي العام نفسه الذي صدرت فيه الرواية صدرت رواية إبراهيم نصر الله «طفولتي حتى الآن» (٢٠٢٢). إنها أيضا رواية عن الطفولة والمخيم وحرب حزيران وما تلاها من مقاومة فلسطينية في الأردن. لقد كان إبراهيم، يوم اندلعت حرب حزيران ١٩٦٧، في الثالثة عشرة من عمره.
ولنلاحظ أن الأعمال الأربعة المشار إليها كتبت بين ٢٠١٦ و٢٠٢٢ - أي بعد خمسين عاما من الهزيمة. كأن الهزيمة لما تنته. كأننا ما زلنا نجلس على الخازوق، والجلوس على الخازوق هو عنوان فصل من رواية إميل حبيبي «المتشائل» (١٩٧٤) وقد فصل الكتابة عن الخازوق علاء حليحل في روايته «أورفوار عكا» (٢٠١٤) التي دار زمنها الروائي في نهاية القرن ١٨ وبداية القرن ١٩ - زمن غزو نابليون فلسطين.
حقا كأن هزيمة حزيران ١٩٦٧ خازوق دق بأسفلنا!!
عادل الأسطة
2023-06-18