الروايات أربعة أصناف: روايات أحداثٍ كبيرة مثل "قصة مدينتين" لديكنز و"الحرب والسلام" لتولستوي و"أولاد حارتنا" لمحفوظ، ورواية أفكار كتبَها سارتر وكامو وتوماس مان وهاروكي موراكامي وكونديرا وبول أوستر، وروايات شخصيات مهيمنة نجد مثيلاتها في روايات كافكا، والنوع الرابع هو روايات تتوازن فيها الشخصيات مع الأحداث والأفكار كروايات ماركيز. وما نتحدث عنه هنا حول رواية (الضحية)* لعلي فالح، يحيلنا إلى نوع الروايات التي تسودها الشخصيات المهيمنة، ويقتصر البناء الروائي فيها على تشريح شخصية تنتمي إلى نظام قمعي مزدوح، قمع الواقع وقمع الذات، بينما تتركز الأوصافُ لرسم حالة جبروتٍ كاريكاتيرية، تستولي على واقعها، بعنف سلطويّ متكلَّف؛ على النقيض من حالات الاستسلام والانطواء نحو الداخل النفسي في روايات كافكا.
وما يساعد على توضيح حالة القمع المزدوج تلك، تذبذب شعور الشخصية الرئيسة كبندول ساعةٍ كبيرة أحياناً، أو كساعة بيولوجية أحياناً أخرى، فيبدو النموذج الروائيّ انعكاساً لشخصيات من ماضٍ قريب، أعادَ المؤلف ضبْطَ زمنها كي تشكّل نوعاً من الهيمنة المتكرّرة على شعور قرّائه. كانت لهذا الشعور المتذبذب للشخصية هيمنةٌ موازية أيضاً على المؤلف، الذي ضبط ساعتَه السّردية، وضغطَ بناء روايته في فسحة قصيرة من الظهور الشخصيّ الطاغي على الأحداث، فكأنّهما_ الاثنان_ حبيسا سجن يحكمانه، فيجدا نفسيهما ضحيّتين لسلطة أقوى منهما، آخر الأمر، هي سلطة النماذج العليا لشخصيات روائية نمطية، طغَت على ذاكرتنا القرائية (روايات عبد الرحمن منيف مثلا). لكن رواية علي فالح تقترب بالفعل من ساعة كافكا، التي تحكم شخصياتها سلطةٌ خارجية تمسخ هويتَها الرمزية، فتندفع لتسجن ذاتها في محتوى شعورها الداخلي، وتعلن عن عجزها في التحكّم بواقعها التسلّطي، ووظائفه المزيّفة (المسّاحون_ سجناءُ القصر، والعاملون على تحقيق العدالة_ المتّهمون بتُهم غامضة، والأبناء ضحايا مسخ الآباء لهم). أمّا في روايتنا _الضحيّة_ فننتقل إلى أعلى سلطة الهرم البوليسيّ، فنرى رجلاً يعمل بوظيفة رئيس "مصلحة التأهيل"_ الاسم المخفَّف لسجن كبير بممرّاته وأقبيته وزنازينه الأرضية وموظّفيه الكثيرين، الذين يساعدون رئيسَهم في ابتكار أساليب العقاب اليومي_ أما هذا الرجل فهو في حقيقته موظّف متغطرس، متحلّل من "الواجب والمبدأ والالتزام" بعد أن كان متلذّذاً بواجبه اليوميّ البشع، الذي يمتثل له "مثل عبدٍ أسطوريّ" و"يحرص كل الحرص على عزل مشاعره عنه". إنّه "الجلاد الأكبر" المشرِف على تعذيب السجناء في بنايته الأخطبوطية؛ الشخصية المرسومة بدقّة كاريكاتيرية_ القامة، الأطراف، الوجه، الشَّعر، الشارب، العظام، البذلة السوداء_ ينتظر هو الآخر أن يتلذّذ بأنّات المعاقَبين، وينتشي راقصاً من آلامهم، فلا يشعر بأيّ "ضغينة ولا انتقام" جرّاء عمله، بل يعتقد "أن هذه المتعة هي هِبة من هِبات الواجب ومِنّة من مِنَنِه". وبهذا الشعور تبعَه موظّفوه، عبيدُ السجن الآخرون، وتطبّعوا بطباعه.
لن يدوم هذا الشعور الساديّ لرئيس "مصلحة التأهيل" طويلا، إذ سيأتي اليوم الذي يواجه فيه صمودَ أحد السّجناء المعاقَبين، وبذلك تتغيّر موازين الشخصية_ المتطبّعة على الانتقام. سيتحوّل الواجب العقابيّ إلى كابوس ثقيل يحطم قياسات الشخصية المرسومة سلفاً على مقياس المصلحة_ السجن وخضوع الموظفين العبيد لإرادة السجّان. جاء اليوم الذي ينظر السجّان في عيني "ضحيّته" المعذَّبة بقسوة لا مثيل لها (الصَّلب على صليب حديديّ يتدلّى من السقف) فيرى في بريق العينين "حلماً" يخترق جدران السّجن ويحلّق بعيداً نحو الحرية ونور الشمس المحجوبة وراء جدران سميكة. سيتفجّر الدّم من جسد "الضحيّة" المُخوزَق ويجري شلالاً صامتاً، يكتسح شرورَ النفس المتلذّذة ب"واجبها" غير المشرِّف. وفوق هذا كلّه ستتضاءل ذكورة السجّان إزاء شبوب ذكورة السجين المعذَّب، في مشهد التعذيب الأخير من الرواية؛ فكان هذا الفعل الغريب _مداعبة عضو ذكورة السّجين المعذَّب حتى انتصابه_ نهايةً رمزية، تسبق حالةَ اليأس والاندحار الفعليّ للسجّان.
كذلك فإن نظام الرواية، وهو نظام الفصول القصيرة، ذات التوالي المتصاعد، كنوابض مضغوطة، سيتحطّم تحت الضربات القوية لأسلوب الراوي ولغته المهيمنة_ بعد أن أفرغ مقدّماتِ الشخصيّة وتخلص من هيمنتها عليه_ من نموذجها الروائي الطاغي. كلّ مقطع في الرواية يشير إلى تحطّم جزء في بناء النصّ، كطبق خزفٍ أثريّ، تناثرت اجزاؤه إلى قطع صغيرة، بل متناهية الصِّغر. وأخيراً سيشعر شركاءُ الراوي_ المنتظرِون نهاية الرقصة الوحشية في أعماق رئيس السّجن_ بأنّ ثمة رغبة في الاختفاء والهرب من مواجهة صمود الضحايا الأقوياء أمام رغبات السّجن السّاديّة. نشعر بانحدار سريع نحو الهاوية_ هاوية العدم السّردية، في مثل هذا النوع من روايات الشخصية_ ويتصاعد من مكان ما في ثقب الرواية دخانُ النهاية_ التي تأتي عادة من غير مفاجأة كبيرة. ستتهاوى الهيئة الجبّارة للشخصية، المقدَّمة بعنف متواصل، من قبل الايحاء بذلك الاحتراق، مع تقوّض البناء الداخلي للرواية. لكن دخان الاحتراق سيخنق شعور القارئ الذي يتابع القراءة حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، ولم ينقطع يوماً في تسويد ذاكرته القريبة بنماذج مرسومة، على مقاسات عائلية ووظيفية.
يضيف تشريحُ الحالات الكاريكاتورية لشخصيّة الجلاد، في رواية علي فالح، طبقةً أخرى إلى طبقات القراءة لتاريخ القمع السّلطويّ، اخترقت عيونَنا، نحن القرّاء القريبين من آخر صفحة فيها؛ فنحن جميعاً كنّا ضحايا ذلك السّجن الكبير، وما زلنا نتحسّس صلابةَ جدرانه وظلاله العالية ودخان شخصياته الخانق تحيط بذكرياتنا عنه. وما يذكّرنا بذلك المكان_ السّجن الرهيب_ أسماءُ الضحايا الذين قَضَوا بصمت. ولم نكن بحاجة إلى استرجاع عشرات الروايات العربية والعالمية التي شرّحت قسوةَ الطغيان الشّمولي، وفكّّكت أشباه الشخصية التي رسمَها المؤلف العراقي، كي نتثبّت من حقيقة الزمن الذي أسرع في طيّ سجلاته، طيَّ الطاغية_ السجٌان لأمسهِ القريب.
___________________
* (الضحية، رواية علي فالح، صدرت عن الاتحاد العام الأدباء والكتاب العراقيين، ٢٠٢١)
وما يساعد على توضيح حالة القمع المزدوج تلك، تذبذب شعور الشخصية الرئيسة كبندول ساعةٍ كبيرة أحياناً، أو كساعة بيولوجية أحياناً أخرى، فيبدو النموذج الروائيّ انعكاساً لشخصيات من ماضٍ قريب، أعادَ المؤلف ضبْطَ زمنها كي تشكّل نوعاً من الهيمنة المتكرّرة على شعور قرّائه. كانت لهذا الشعور المتذبذب للشخصية هيمنةٌ موازية أيضاً على المؤلف، الذي ضبط ساعتَه السّردية، وضغطَ بناء روايته في فسحة قصيرة من الظهور الشخصيّ الطاغي على الأحداث، فكأنّهما_ الاثنان_ حبيسا سجن يحكمانه، فيجدا نفسيهما ضحيّتين لسلطة أقوى منهما، آخر الأمر، هي سلطة النماذج العليا لشخصيات روائية نمطية، طغَت على ذاكرتنا القرائية (روايات عبد الرحمن منيف مثلا). لكن رواية علي فالح تقترب بالفعل من ساعة كافكا، التي تحكم شخصياتها سلطةٌ خارجية تمسخ هويتَها الرمزية، فتندفع لتسجن ذاتها في محتوى شعورها الداخلي، وتعلن عن عجزها في التحكّم بواقعها التسلّطي، ووظائفه المزيّفة (المسّاحون_ سجناءُ القصر، والعاملون على تحقيق العدالة_ المتّهمون بتُهم غامضة، والأبناء ضحايا مسخ الآباء لهم). أمّا في روايتنا _الضحيّة_ فننتقل إلى أعلى سلطة الهرم البوليسيّ، فنرى رجلاً يعمل بوظيفة رئيس "مصلحة التأهيل"_ الاسم المخفَّف لسجن كبير بممرّاته وأقبيته وزنازينه الأرضية وموظّفيه الكثيرين، الذين يساعدون رئيسَهم في ابتكار أساليب العقاب اليومي_ أما هذا الرجل فهو في حقيقته موظّف متغطرس، متحلّل من "الواجب والمبدأ والالتزام" بعد أن كان متلذّذاً بواجبه اليوميّ البشع، الذي يمتثل له "مثل عبدٍ أسطوريّ" و"يحرص كل الحرص على عزل مشاعره عنه". إنّه "الجلاد الأكبر" المشرِف على تعذيب السجناء في بنايته الأخطبوطية؛ الشخصية المرسومة بدقّة كاريكاتيرية_ القامة، الأطراف، الوجه، الشَّعر، الشارب، العظام، البذلة السوداء_ ينتظر هو الآخر أن يتلذّذ بأنّات المعاقَبين، وينتشي راقصاً من آلامهم، فلا يشعر بأيّ "ضغينة ولا انتقام" جرّاء عمله، بل يعتقد "أن هذه المتعة هي هِبة من هِبات الواجب ومِنّة من مِنَنِه". وبهذا الشعور تبعَه موظّفوه، عبيدُ السجن الآخرون، وتطبّعوا بطباعه.
لن يدوم هذا الشعور الساديّ لرئيس "مصلحة التأهيل" طويلا، إذ سيأتي اليوم الذي يواجه فيه صمودَ أحد السّجناء المعاقَبين، وبذلك تتغيّر موازين الشخصية_ المتطبّعة على الانتقام. سيتحوّل الواجب العقابيّ إلى كابوس ثقيل يحطم قياسات الشخصية المرسومة سلفاً على مقياس المصلحة_ السجن وخضوع الموظفين العبيد لإرادة السجّان. جاء اليوم الذي ينظر السجّان في عيني "ضحيّته" المعذَّبة بقسوة لا مثيل لها (الصَّلب على صليب حديديّ يتدلّى من السقف) فيرى في بريق العينين "حلماً" يخترق جدران السّجن ويحلّق بعيداً نحو الحرية ونور الشمس المحجوبة وراء جدران سميكة. سيتفجّر الدّم من جسد "الضحيّة" المُخوزَق ويجري شلالاً صامتاً، يكتسح شرورَ النفس المتلذّذة ب"واجبها" غير المشرِّف. وفوق هذا كلّه ستتضاءل ذكورة السجّان إزاء شبوب ذكورة السجين المعذَّب، في مشهد التعذيب الأخير من الرواية؛ فكان هذا الفعل الغريب _مداعبة عضو ذكورة السّجين المعذَّب حتى انتصابه_ نهايةً رمزية، تسبق حالةَ اليأس والاندحار الفعليّ للسجّان.
كذلك فإن نظام الرواية، وهو نظام الفصول القصيرة، ذات التوالي المتصاعد، كنوابض مضغوطة، سيتحطّم تحت الضربات القوية لأسلوب الراوي ولغته المهيمنة_ بعد أن أفرغ مقدّماتِ الشخصيّة وتخلص من هيمنتها عليه_ من نموذجها الروائي الطاغي. كلّ مقطع في الرواية يشير إلى تحطّم جزء في بناء النصّ، كطبق خزفٍ أثريّ، تناثرت اجزاؤه إلى قطع صغيرة، بل متناهية الصِّغر. وأخيراً سيشعر شركاءُ الراوي_ المنتظرِون نهاية الرقصة الوحشية في أعماق رئيس السّجن_ بأنّ ثمة رغبة في الاختفاء والهرب من مواجهة صمود الضحايا الأقوياء أمام رغبات السّجن السّاديّة. نشعر بانحدار سريع نحو الهاوية_ هاوية العدم السّردية، في مثل هذا النوع من روايات الشخصية_ ويتصاعد من مكان ما في ثقب الرواية دخانُ النهاية_ التي تأتي عادة من غير مفاجأة كبيرة. ستتهاوى الهيئة الجبّارة للشخصية، المقدَّمة بعنف متواصل، من قبل الايحاء بذلك الاحتراق، مع تقوّض البناء الداخلي للرواية. لكن دخان الاحتراق سيخنق شعور القارئ الذي يتابع القراءة حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، ولم ينقطع يوماً في تسويد ذاكرته القريبة بنماذج مرسومة، على مقاسات عائلية ووظيفية.
يضيف تشريحُ الحالات الكاريكاتورية لشخصيّة الجلاد، في رواية علي فالح، طبقةً أخرى إلى طبقات القراءة لتاريخ القمع السّلطويّ، اخترقت عيونَنا، نحن القرّاء القريبين من آخر صفحة فيها؛ فنحن جميعاً كنّا ضحايا ذلك السّجن الكبير، وما زلنا نتحسّس صلابةَ جدرانه وظلاله العالية ودخان شخصياته الخانق تحيط بذكرياتنا عنه. وما يذكّرنا بذلك المكان_ السّجن الرهيب_ أسماءُ الضحايا الذين قَضَوا بصمت. ولم نكن بحاجة إلى استرجاع عشرات الروايات العربية والعالمية التي شرّحت قسوةَ الطغيان الشّمولي، وفكّّكت أشباه الشخصية التي رسمَها المؤلف العراقي، كي نتثبّت من حقيقة الزمن الذي أسرع في طيّ سجلاته، طيَّ الطاغية_ السجٌان لأمسهِ القريب.
___________________
* (الضحية، رواية علي فالح، صدرت عن الاتحاد العام الأدباء والكتاب العراقيين، ٢٠٢١)