1- قبل اللقاء (1960/1969)
كَمْ أُرِيدْ
كَمْ أُرِيدْ
لَوْصَحِبْنَا الشَّمْسَ فِي اْأُمدفْقِ الْبَعِيدْ
وَاقْتَفَيْنَا الْعُمْرَ فِي خَطْوٍ وَئِيدْ
نَحْنُ أَحْبَبْنَا سَنَاهَا مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدْ
يسعدني أن تكون افتتاحيةُ كلمتي هذه، هذا المطلعَ الشعري الذي استمتعتُ به من خلال حنجرة محمد المزكلدي رحمه الله؛ لأن له دورا في تجربتي الشعرية خلال خطواتي الأولى التي كانت ما بين أواخر سنوات الخمسين، وسنوات الستين. فقذ ذكرتُ في أكثرَ من مناسبة أن الغناءَ، خلال هذه السنوات، هو من قادني إلى جمر الشعر، وعزز هذا الكتبُ المدرسيةُ التي كانت مقررةً على جيلي، والتي كانت تأتينا من لبنان. فَكُنَّا نحن الأطفالَ مشدودين إلى بعلبك، وبردى ....، وإلى أسماء أدباء الشرق العربي حتى ظن الطفلُ الذي كُنْتُه بسيدي قاسم، أن المغرب لا ينتج أدبا. وعزز اعتقادَه هذا الشعراءُ الكبار الذين كان بعضُهم منتجا للشعر الذي رققه ملحنوه، من أمثال أحمد شوقي، وصالح جودت، وكامل الشناوي، وعلى محمود طه، وحافظ إبراهيم، وبشارة الخوري (الذي كان الطفل يعتبره مصريا). مع سنوات الستين سيشدني الشعرُ المغربي من خلال حضوره في الأغنية المغربية: محمدالخمار الكنوني، والمهدي زريوح، وعبد الرفيع الجواهري ..... وإبراهيم السولامي.
الطفلُ الذي كنته شَدَّتْه تجربةُ الخمار، والسولامي: رغم أن حضورهما في الأغنية المغربية لم يكن في حجم حضور عبد الرفيع الجواهري. ومع ذلك فقد تركتْ تجربتُهما الشعريةُ أثرا في نفسي، فقد حَبَّبَا إلي بَحْرَ الرَّمَل الذي استولى على نصوصي الشعرية الأولى التي كتبتها للغناء أواخر سنوات الستين ومطلع سنوات السبعين.
قصيدة الخمار أعطت (يا غزالا اشتهينا مطلعك)، دون أن يحضر فيها روحُ الخمار، ولكن قصيدة (كم أريد) للشاعر إبراهيم السولامي تسربت إلى جل قصائدي الغناية. فقد حفرت اسم هذا الشاعر في ذاكرتي، وتعزز هذا حين التقطتْ أذناي صوتَه الشجي عبر أثير إذاعة فاس من خلال البرامج الأدبية، والثقافية التي كان يُعدها بنجاح. في هذه المرحلة كانت أغلبُ البرامج الإذاعية المكملَ المعرفي للتلميذ بالإبتدائي، والإعدادي. ومن خلال تتبعي حلقاتِ ما كان يقدمه الأستاذ اعتبرتُ نفسي تلميذا يَتَلَقَّى منه دروسَه عن بعد. واستأنستُ به، وصرت أشعر بأني أراه جالسا وهو يقدم "ألوانَه"، و"نصوصه"، و"هوامشه". وكأني التلميذُ الوحيد المخاطبُ بهذه البرامج وغيرها.
كنت طفلا خجولا، لم أجد شيخا أصحبه ليدلني على الطريق، بل حياءً لم أجرأ على أن أبحث عنه لأضع محاولاتي الشعرية بين يديه، ليرشدني، وليعلمني العومَ في بحار لا ساحل لها.
وأنا بالرباط/ أشتغل معلما أواخر سنوات الستين، أخذتُ دَفتراً في حجم 24 ورقة، ودَوَّنْت فيه قصائدي التي لم يطلع عليها أحد. وضعتُ الدَّفترَ / الديوانَ في ظرف كبير. داخلَ الدفتر، وضعتُ ظرفا صغيرا عليه العنوان التالي: ( محمد الرباوي زنقة روما حي المحيط الرباط)، وألصقت بهذا الظرف الصغير طابعَ بريد بقيمة 0,15 ده؛ ليسهل على المرسَل إليه الردُّ عليَّ دون أن يتعب نفسه. أرسلت الرسالة إلى الأستاذ إبراهيم، عبر أحد برامجه بإذاعة فاس، ولعله البرنامج الذي كان يعده في تلك المرحلة (أواخر سنوات الستين) صحبةَ الأستاذين أحمد الريفي، ومحمد الكغاط رحمه الله.
2- اللقاء (1976/ 1982)
حضرتُ المؤتمرَ الخامسَ لاتحاد كتاب المغرب عام 1976. كنتُ مرفوقا بحسن الأمراني، والمرحومين محمد بنعمارة، والطاهر دحاني. هؤلاء الأصدقاء يعرفون الأستاذ السولامي باعتبارهم من طلبته. رأيناه واقفا وحده، في زاوية من القاعة، يتأمل وجوه الأدباء الذين كانوا يشكلون مجموعات يتحدثون في أمر ما. هو يعرف مضمون أحاديثهم، لكن نحن البداةَ القادمين من من أرض قاحلة بأقصى شرق البلاد، لا نعرف، ولا نرغب في أن نعرف. اقتربنا منه، عانقنا بابتسامة عريضة. هذه هي أول مرة أشاهد فيها أستاذا يرحب بطلبته بهذا الحب الصادق. صافحني بحرارة، وكأنه يعرفني من زمان، مع أني لم أجلس أمامه للتلمذة كما جلس أصدقائي. أهديناه "الشمسَ والبحرَ والأحزان"، و"الحزنَ الذي كان يزهر مرتين"، و"بريدَنا الذي كنا نحلم أن يصل غدا". فرح بهديانا، ثم أعطيته عنواني الجديد.
بعد أسبوع من عودتي، توصلتُ بخطاب من الشاعر إبراهيم السولامي، وهو أولُ خطاب يصلني من أستاذ مغربي. أحسست بفخر، واعتزاز وهو يكتب على ظهر الظرف إلى "الأستاذ....". فتحتُ الرسالةَ بلهفة شديدة، فتحتها بلهفة الطفل الذي يتوصل بهدية ملفوفة بورق ذي ألوان تسر العين، فإذا بداخلها رسالةٌ بخط الأستاذ، ومعها مفاجأة غيرُ متوقعة، كان بها الظرفُ الذي دسسته في أولى رسائلي إليه. وتمنيتُ لو أعاد إلى الدفتر/الديوان.
3- اللقاء الثاني (1982/
في إحدى قاعات كلية الآداب بفاس، جلستُ أمام لجنة علمية يرأسها الدكتورمحمد السرغيني، تتكون من الدكتور إبراهيم السولامي والدكتور عبد الله الطيب، والدكتور فخر الدين قباوة والمرحومين الأستاذ عبد القادر زمامة، والدكتور عبد السلام الهراس. كنتُ لا أعرف من هؤلاء الأفاضل سوى إبراهيم السولامي. كان مهابا في ذلك المجلس، أو كان مختلفا عن الأستاذ الذي التقيته في مؤتمر اتحاد كتاب المغرب. ومن شدة هيبته أنني وأنا أقرأ نص الامتحان، تسرب إلى صوتي إضطراب خفيف. ويجب أن يكون اضطرابا خفيفا، بل يجب ألا يملأ صوتي هذا الاضطراب؛ فأنا بحضرة صديق عزيز. لكن يبدو أن هذا الصوت كان لا يصل إلى الأسماع، فبادرني الأستاذ السولامي قائلا بلهجة قوية حادة: "ارفع صوتك". كدت أفقد الطريق وأنا أحبو كالرضيع بين سطور النص. كنتُ أقرأُ، وفي الوقت ذاته كنتُ أحلل لهجة الأستاذ. هل تحمل غضبا؟ هل تحمل حبا كالحب الذي لمستُه فيه يوم التقينا في المؤتمر؟ بعد خروجي من قاعة الامتحان تبين لي أن الرجل خارج الكلية مختلف عن الرجل داخل الكلية. هو مرح هناك، وجاد هنا.
4- الطالب
بعد فوزي في المباراة 1982 جلسـتُ طالبا أمامه. تعلمتُ من دروسه ألا ألج المدرجَ، أو القسمَ إلا بعد تحضير المحاضرة، وتوثيقها. فهو يجلس بمكتبه، وأمامَه أوراقُه التي ينظر فيها مستعينا بما سطره. وتعلمت منه أمرا آخر، لعله الأهمُّ، وهو ألا تجعل الطالبَ أسيرَ محاضراتك، بل عليك أن تكلفه بأعمال متممة للمحاضرات.
كان يقدم لنا محاضرات عن الشعر المغربي، وكانت إحدى قصائدي ضمن النصوص المستشهد بها. ووجدتني طالبا غريبا عن قصيدتي، أدون من القصيدة الأبياتَ التى يمليها الأستاذ، وكم أثار هذا جدلا بين زملائي الطلبة. كلفنا الأستاذ بقراءة المعسول للمختار السوسي، وكان من نصيبي الجزءُ العاشر. المعسول كتاب لا يغري بالقراءة؛ لأن به استطرادات كثيرة، وبه نصوص شعرية خالية من الشكل، ينبغي للقارئ أن يكون عالما بنحو اللغة، ونحوِ الشعر؛ لقراءته قراءة سليمة. لا شك أن الأستاذ كان يدرك هذا الذي قلته، ولكي يضمن أننا سنقرأ الكتاب كلمةً كلمةً، وجملةً جملةً، وصفحةً صفحةً طلب أن نستخرج من الكتاب القضايا النقدية. وهذا دفع بنا إلى قراءته من ألفه إلى يائه. بعدما أنهيتُ القراءة اكتشفت القيمة العلمية، للكتاب. ومن قراءة نصوصه الشعرية انبثقت بعض قضايا أطروحتي في العروض.
تُوجت علاقتي بالأستاذ بمصاحبته لي في تحضير رسالة جامعية؛ لنيل دبلوم الدراسات العليا تأطيرا، وتوجيها، مقترحا علي دراسة الشعر العربي بالمغرب الشرقي.
5- المقدمة
منذ التحاقي بالجامعة (1984) توطدت العلاقةُ أكثر، وخلال هذه المرحلة اكتشفتُ أن في الأستاذ خَصلةً من خصال الوفاء، تتمثل في حبه طلبتَه. هو من يتصل هاتفيا؛ ليسأل عن صحتي، ثم يسأل عن أحوال محمد بنعمارة، فحسن الأمراني، فيوجيل حماد. كلَّ صباح عيد الفطر، أو الأضحي يتصل، فيشعرني هذا الاتصال بالخجل؛ لأني أنا الذي يجب علي أن أبادر بالاتصال.
وبعد أستاذي إبراهيم، هاهم طلبتك الذين كنتَ تسألني عنهم. يحضرون بين يديك في هذه الكلية العامرة. استمعتَ لكلمتي هذه، و كلمةِ الأستاذين حسن الأمراني وحماد يوجيل. أما شهادة محمد بنعمارة فقد آثرتَ أن تسمعها وحدك. وأنا أتصور أنك فُتنت بلغتها الشعرية القوية.
وبعد:
كَمْ أُريدْ
كم أريد
لو صحبتُ الشِّعْرَ في الأفْق البعيد
واقتفيتُ الشيخ في خطوٍ وئيد
أنا أحببتُ سناه من قريب أو بعيد
كَمْ أُرِيدْ
كَمْ نُرِيدْ
لَوْ فَرَشْنَا لَكَ هَذِي الْأَرْضَ وَرْدَا
كم أريد
كم نريد
(وجدة المحروسة: ذو الحجة 1444/ يونيو 2023)
* شهادة في حق الأستاذ إبراهيم السولامي، ألقيت يوم 13 يونيو 2023 بكلية الآداب القنيطرة
كَمْ أُرِيدْ
كَمْ أُرِيدْ
لَوْصَحِبْنَا الشَّمْسَ فِي اْأُمدفْقِ الْبَعِيدْ
وَاقْتَفَيْنَا الْعُمْرَ فِي خَطْوٍ وَئِيدْ
نَحْنُ أَحْبَبْنَا سَنَاهَا مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدْ
يسعدني أن تكون افتتاحيةُ كلمتي هذه، هذا المطلعَ الشعري الذي استمتعتُ به من خلال حنجرة محمد المزكلدي رحمه الله؛ لأن له دورا في تجربتي الشعرية خلال خطواتي الأولى التي كانت ما بين أواخر سنوات الخمسين، وسنوات الستين. فقذ ذكرتُ في أكثرَ من مناسبة أن الغناءَ، خلال هذه السنوات، هو من قادني إلى جمر الشعر، وعزز هذا الكتبُ المدرسيةُ التي كانت مقررةً على جيلي، والتي كانت تأتينا من لبنان. فَكُنَّا نحن الأطفالَ مشدودين إلى بعلبك، وبردى ....، وإلى أسماء أدباء الشرق العربي حتى ظن الطفلُ الذي كُنْتُه بسيدي قاسم، أن المغرب لا ينتج أدبا. وعزز اعتقادَه هذا الشعراءُ الكبار الذين كان بعضُهم منتجا للشعر الذي رققه ملحنوه، من أمثال أحمد شوقي، وصالح جودت، وكامل الشناوي، وعلى محمود طه، وحافظ إبراهيم، وبشارة الخوري (الذي كان الطفل يعتبره مصريا). مع سنوات الستين سيشدني الشعرُ المغربي من خلال حضوره في الأغنية المغربية: محمدالخمار الكنوني، والمهدي زريوح، وعبد الرفيع الجواهري ..... وإبراهيم السولامي.
الطفلُ الذي كنته شَدَّتْه تجربةُ الخمار، والسولامي: رغم أن حضورهما في الأغنية المغربية لم يكن في حجم حضور عبد الرفيع الجواهري. ومع ذلك فقد تركتْ تجربتُهما الشعريةُ أثرا في نفسي، فقد حَبَّبَا إلي بَحْرَ الرَّمَل الذي استولى على نصوصي الشعرية الأولى التي كتبتها للغناء أواخر سنوات الستين ومطلع سنوات السبعين.
قصيدة الخمار أعطت (يا غزالا اشتهينا مطلعك)، دون أن يحضر فيها روحُ الخمار، ولكن قصيدة (كم أريد) للشاعر إبراهيم السولامي تسربت إلى جل قصائدي الغناية. فقد حفرت اسم هذا الشاعر في ذاكرتي، وتعزز هذا حين التقطتْ أذناي صوتَه الشجي عبر أثير إذاعة فاس من خلال البرامج الأدبية، والثقافية التي كان يُعدها بنجاح. في هذه المرحلة كانت أغلبُ البرامج الإذاعية المكملَ المعرفي للتلميذ بالإبتدائي، والإعدادي. ومن خلال تتبعي حلقاتِ ما كان يقدمه الأستاذ اعتبرتُ نفسي تلميذا يَتَلَقَّى منه دروسَه عن بعد. واستأنستُ به، وصرت أشعر بأني أراه جالسا وهو يقدم "ألوانَه"، و"نصوصه"، و"هوامشه". وكأني التلميذُ الوحيد المخاطبُ بهذه البرامج وغيرها.
كنت طفلا خجولا، لم أجد شيخا أصحبه ليدلني على الطريق، بل حياءً لم أجرأ على أن أبحث عنه لأضع محاولاتي الشعرية بين يديه، ليرشدني، وليعلمني العومَ في بحار لا ساحل لها.
وأنا بالرباط/ أشتغل معلما أواخر سنوات الستين، أخذتُ دَفتراً في حجم 24 ورقة، ودَوَّنْت فيه قصائدي التي لم يطلع عليها أحد. وضعتُ الدَّفترَ / الديوانَ في ظرف كبير. داخلَ الدفتر، وضعتُ ظرفا صغيرا عليه العنوان التالي: ( محمد الرباوي زنقة روما حي المحيط الرباط)، وألصقت بهذا الظرف الصغير طابعَ بريد بقيمة 0,15 ده؛ ليسهل على المرسَل إليه الردُّ عليَّ دون أن يتعب نفسه. أرسلت الرسالة إلى الأستاذ إبراهيم، عبر أحد برامجه بإذاعة فاس، ولعله البرنامج الذي كان يعده في تلك المرحلة (أواخر سنوات الستين) صحبةَ الأستاذين أحمد الريفي، ومحمد الكغاط رحمه الله.
2- اللقاء (1976/ 1982)
حضرتُ المؤتمرَ الخامسَ لاتحاد كتاب المغرب عام 1976. كنتُ مرفوقا بحسن الأمراني، والمرحومين محمد بنعمارة، والطاهر دحاني. هؤلاء الأصدقاء يعرفون الأستاذ السولامي باعتبارهم من طلبته. رأيناه واقفا وحده، في زاوية من القاعة، يتأمل وجوه الأدباء الذين كانوا يشكلون مجموعات يتحدثون في أمر ما. هو يعرف مضمون أحاديثهم، لكن نحن البداةَ القادمين من من أرض قاحلة بأقصى شرق البلاد، لا نعرف، ولا نرغب في أن نعرف. اقتربنا منه، عانقنا بابتسامة عريضة. هذه هي أول مرة أشاهد فيها أستاذا يرحب بطلبته بهذا الحب الصادق. صافحني بحرارة، وكأنه يعرفني من زمان، مع أني لم أجلس أمامه للتلمذة كما جلس أصدقائي. أهديناه "الشمسَ والبحرَ والأحزان"، و"الحزنَ الذي كان يزهر مرتين"، و"بريدَنا الذي كنا نحلم أن يصل غدا". فرح بهديانا، ثم أعطيته عنواني الجديد.
بعد أسبوع من عودتي، توصلتُ بخطاب من الشاعر إبراهيم السولامي، وهو أولُ خطاب يصلني من أستاذ مغربي. أحسست بفخر، واعتزاز وهو يكتب على ظهر الظرف إلى "الأستاذ....". فتحتُ الرسالةَ بلهفة شديدة، فتحتها بلهفة الطفل الذي يتوصل بهدية ملفوفة بورق ذي ألوان تسر العين، فإذا بداخلها رسالةٌ بخط الأستاذ، ومعها مفاجأة غيرُ متوقعة، كان بها الظرفُ الذي دسسته في أولى رسائلي إليه. وتمنيتُ لو أعاد إلى الدفتر/الديوان.
3- اللقاء الثاني (1982/
في إحدى قاعات كلية الآداب بفاس، جلستُ أمام لجنة علمية يرأسها الدكتورمحمد السرغيني، تتكون من الدكتور إبراهيم السولامي والدكتور عبد الله الطيب، والدكتور فخر الدين قباوة والمرحومين الأستاذ عبد القادر زمامة، والدكتور عبد السلام الهراس. كنتُ لا أعرف من هؤلاء الأفاضل سوى إبراهيم السولامي. كان مهابا في ذلك المجلس، أو كان مختلفا عن الأستاذ الذي التقيته في مؤتمر اتحاد كتاب المغرب. ومن شدة هيبته أنني وأنا أقرأ نص الامتحان، تسرب إلى صوتي إضطراب خفيف. ويجب أن يكون اضطرابا خفيفا، بل يجب ألا يملأ صوتي هذا الاضطراب؛ فأنا بحضرة صديق عزيز. لكن يبدو أن هذا الصوت كان لا يصل إلى الأسماع، فبادرني الأستاذ السولامي قائلا بلهجة قوية حادة: "ارفع صوتك". كدت أفقد الطريق وأنا أحبو كالرضيع بين سطور النص. كنتُ أقرأُ، وفي الوقت ذاته كنتُ أحلل لهجة الأستاذ. هل تحمل غضبا؟ هل تحمل حبا كالحب الذي لمستُه فيه يوم التقينا في المؤتمر؟ بعد خروجي من قاعة الامتحان تبين لي أن الرجل خارج الكلية مختلف عن الرجل داخل الكلية. هو مرح هناك، وجاد هنا.
4- الطالب
بعد فوزي في المباراة 1982 جلسـتُ طالبا أمامه. تعلمتُ من دروسه ألا ألج المدرجَ، أو القسمَ إلا بعد تحضير المحاضرة، وتوثيقها. فهو يجلس بمكتبه، وأمامَه أوراقُه التي ينظر فيها مستعينا بما سطره. وتعلمت منه أمرا آخر، لعله الأهمُّ، وهو ألا تجعل الطالبَ أسيرَ محاضراتك، بل عليك أن تكلفه بأعمال متممة للمحاضرات.
كان يقدم لنا محاضرات عن الشعر المغربي، وكانت إحدى قصائدي ضمن النصوص المستشهد بها. ووجدتني طالبا غريبا عن قصيدتي، أدون من القصيدة الأبياتَ التى يمليها الأستاذ، وكم أثار هذا جدلا بين زملائي الطلبة. كلفنا الأستاذ بقراءة المعسول للمختار السوسي، وكان من نصيبي الجزءُ العاشر. المعسول كتاب لا يغري بالقراءة؛ لأن به استطرادات كثيرة، وبه نصوص شعرية خالية من الشكل، ينبغي للقارئ أن يكون عالما بنحو اللغة، ونحوِ الشعر؛ لقراءته قراءة سليمة. لا شك أن الأستاذ كان يدرك هذا الذي قلته، ولكي يضمن أننا سنقرأ الكتاب كلمةً كلمةً، وجملةً جملةً، وصفحةً صفحةً طلب أن نستخرج من الكتاب القضايا النقدية. وهذا دفع بنا إلى قراءته من ألفه إلى يائه. بعدما أنهيتُ القراءة اكتشفت القيمة العلمية، للكتاب. ومن قراءة نصوصه الشعرية انبثقت بعض قضايا أطروحتي في العروض.
تُوجت علاقتي بالأستاذ بمصاحبته لي في تحضير رسالة جامعية؛ لنيل دبلوم الدراسات العليا تأطيرا، وتوجيها، مقترحا علي دراسة الشعر العربي بالمغرب الشرقي.
5- المقدمة
منذ التحاقي بالجامعة (1984) توطدت العلاقةُ أكثر، وخلال هذه المرحلة اكتشفتُ أن في الأستاذ خَصلةً من خصال الوفاء، تتمثل في حبه طلبتَه. هو من يتصل هاتفيا؛ ليسأل عن صحتي، ثم يسأل عن أحوال محمد بنعمارة، فحسن الأمراني، فيوجيل حماد. كلَّ صباح عيد الفطر، أو الأضحي يتصل، فيشعرني هذا الاتصال بالخجل؛ لأني أنا الذي يجب علي أن أبادر بالاتصال.
وبعد أستاذي إبراهيم، هاهم طلبتك الذين كنتَ تسألني عنهم. يحضرون بين يديك في هذه الكلية العامرة. استمعتَ لكلمتي هذه، و كلمةِ الأستاذين حسن الأمراني وحماد يوجيل. أما شهادة محمد بنعمارة فقد آثرتَ أن تسمعها وحدك. وأنا أتصور أنك فُتنت بلغتها الشعرية القوية.
وبعد:
كَمْ أُريدْ
كم أريد
لو صحبتُ الشِّعْرَ في الأفْق البعيد
واقتفيتُ الشيخ في خطوٍ وئيد
أنا أحببتُ سناه من قريب أو بعيد
كَمْ أُرِيدْ
كَمْ نُرِيدْ
لَوْ فَرَشْنَا لَكَ هَذِي الْأَرْضَ وَرْدَا
كم أريد
كم نريد
(وجدة المحروسة: ذو الحجة 1444/ يونيو 2023)
* شهادة في حق الأستاذ إبراهيم السولامي، ألقيت يوم 13 يونيو 2023 بكلية الآداب القنيطرة