لبابة صبري - قناع مقاوم بلون السماء.. قراءة في رواية الأسير باسم خندقجي «قناع بلون السماء»

يمكن اعتبار رواية الأسير باسم خندقجي «قناع بلون السماء» (2023) جزءًا من الإنتاج الفكريّ اليساريّ الّذي يقول عنه المفكّر الفرنسيّ رولان بارت: "إنّ واحدة من أكثر الأساطير سذاجة تجعلنا نظنّ أنّ اللذّة، ولا سيّما لذّة النصّ، هي فكرة يمينيّة. في اليمين ينسب الناس كلّ ما هو مجرّد ومملّ إلى اليسار، ويحتفظون باللذّة لأنفسهم، ويتّهمون اليسار باسم الأخلاق بأنّهم مملّون، متناسين لفّافة التبغ الفاخرة لماركس وبرخت"[1]. أهلًا وسهلًا بكم بيننا، أنتم يا مَنْ وصلتم أخيرًا إلى لذّة الأدب مع رواية باسم اليساريّة.
تُعَدّ رواية خندقجي تأريخًا لمجتمع الأفراد العاديّين، وهي الأصدق تعبيرًا عن الواقع الاجتماعيّ أو رواية ’المسكوت عنه‘، كما ورد على لسان الشخصيّة الرئيسيّة ’نور‘. عبّرت الرواية عن الواقع الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ الّذي ينتمي إليه الروائيّ، المنبثق من إحدى المنظومات أو التشكيلات الفكريّة الموجودة في المجتمع الفلسطينيّ، وهي التشكيلة الفكريّة اليساريّة والمتجادلة مع بقيّة المنظومات الفكريّة الأخرى، مثل اليمينيّة، الّتي تتمثّل في السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة من ناحية، والاستعماريّة السائدة أيضًا، من ناحية أخرى. كما أنّ الرواية، في تعبيرها عن التشكيل الفكريّ للروائيّ، تتضمّن إرادة لتغيير الواقع، من خلال معرفة الروائيّ الدقيقة بالمنظومة أو التشكيل الفكريّ المهيمن في المجتمع[2].


في البحث عن كنز مريم المجدليّة
يقوم المبنى الاجتماعيّ والأدبيّ للرواية على مقوّمَين اثنين؛ الأوّل تأريخيّ يتمثّل في كتابة الشخصيّة الرئيسيّة نور لرواية «مريم المجدليّة»، داخل رواية «قناع بلون السماء»، وتتحدّث هذه الرواية حول رحلة بحث عن صندوق غامض يحتوي على كنز يخصّ ’مريم المجدليّة‘، وذلك من خلال رحلة تنقيب للآثار في كيبوتس «مشمار هعيمق». يمارس الكاتب – الشخصيّة الرئيسيّة، نور، الندّيّة في شخصيّته من أجل إيجاد العطر الّذي عطّرت به مريم المجدليّة يسوع، وبإيجاده ينفي التأريخ الرسميّ للاستعمار الّذي يهدف إلى إثبات يهوديّة الأرض، ويثبّت التأريخ الفلسطينيّ. يستخدم نور عدّة شخصيّات، منها نسيم شاكر، المتخصّص في الآثار، ليكون بطل روايته، وشخصيّة ’مريم المجدليّة‘، وإلى جانبها مريدها سمعان الأعرج، وبقيّة التلاميذ، مثل بطرس ويوحنّا.
المقوّم الثاني وطنيّ، وهو الالتزام ببرنامج «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» الّذي شكّل خطابًا مناهضًا لخطاب الاستعمار، وينحو منحى التحرّر منه بغية استعادة الأرض المفقودة؛ حيث تجلّى ذلك بموقف كلّ من شخصيّة مراد الّذي اعْتُقِل وحُكِم بالسجن المؤبّد مدى الحياة، وشخصيّة مهدي (والد نور)، الّذي قضى خمس سنوات في السجن، فقدَ خلالها زوجته وكبر ابنه وتخلّى عنه أصدقاؤه. وشخصيّة نور البطل، الّذي كتب رواية «مريم المجدليّة» التأريخيّة، وشخصيّة الشيخ مرسي، الّذي يساعد نورًا ويدعمه، ويكون بمنزلة مرفأ الطمأنينة والأمان في مسيرة نور البحثيّة والروائيّة، وشخصيّة سماء الحيفاويّة الّتي تدعم مقاومة نور في نهاية الرواية، ليتّجها معًا نحو التحرّر، بل أكثر من ذلك، حين تمثّل سماء أحد تمثيلات مريم المجدليّة وتجلّياتها في رمزها التحرّريّ.
شكّلت الروايةَ ثلاث روايات متداخلة: رواية الراوي عن البطل نور، ورواية نور عن روايته المرتقبة حول ’مريم المجدليّة‘، متمثّلة بالبطل نسيم شاكر، ورواية نور السرديّة لصديقه مراد باسم. وفي هذه المحاولة الّتي تسعى إلى رصد الواقع الأدبيّ لرواية باسم خندقجي، على اعتبار أنّ الأدب وثيقة تاريخيّة، استخرجت بنًى أدبيّة ثلاثًا، هي: الهروب، والمواجهة، والمقاومة؛ وهي الصفات الّتي اشتركت فيها شخصيّات خندقجي الروائيّة.
الهروب، المواجهة، المقاومة
أدّى الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ البائس في عالم خندقجي الروائيّ، إلى هروب كلّ من مريم المجدليّة ونور ووالده مهدي وسماء؛ فقد هربت مريم المجدليّة من بطرس، وهرب نور من المخيّم، ومن صمت أبيه، ومن صاحب شركة السياحة شكيب القصّابي، ولاحقًا من مستوطنة «مشمار هعيمق»، وهرب مهدي من أصدقائه القادة الفلسطينيّين الّذين خذلوه، وهربت سماء من المستوطنة. قادت هذه الأمثلة إلى تشكيل بنية الهروب، لتشكّل حلًّا من الحلول الّتي ينبغي تبنّيها للوقوف ضدّ الحالة الاستعماريّة، ومن الممكن اعتبار هذا الحلّ حلًّا أوّليًّا يرهص لحلول أخرى.
أمّا على صعيد المواجهة، فقد واجه كلّ منهم واقعه؛ نور واجه شخصيّة أور الصهيونيّ، وواجه السيّاح في أرض صرعة المهجَّرة، وواجه أيضًا (بشخصيّة أور) «معهد أولبرايت» متمثّلًا بالمشرف العامّ بريان وجميع أفراد بعثة موسم التنقيب. ومريم المجدليّة واجهت بطرس، وسماء الفلسطينيّة واجهت أيالا الصهيونيّة بشكل مباشر. وبالتالي، تشكّلت أدبيًّا بنية المواجهة الّتي تُعَدّ إحدى الحلول المقترحة للوقوف ضدّ الحالة الاستعماريّة أيضًا.
أخيرًا، المقاومة، حيث اعتنى الكاتب بالفرد الفلسطينيّ الّذي يقاوم يوميًّا اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا ليكمل مشواره عنوة، وقد تمثّل بشخصيّة البطل نور. وغَدَتْ المقاومة جزءًا من ثقافته، يقاوم التضادّ والاقتتال الداخليّ (نور/ أور)، إضافة إلى مقاومته للاستعمار وحواجزه لينتهي به الأمر إمّا إلى العيش داخل مخيّمه في معاناة يوميّة بائسة، وإمّا العيش بعيدًا عن مخيّمه وأسرته. هكذا، ينظر الكاتب إلى الشعب الفلسطينيّ بوصفه شعبًا مقاومًا، ما أمكنه من الصعاب والصراع والتضادّ والاقتتال، ليستمرّ في مقاومته؛ ولذلك نراه يعيش مقاوِمًا مقاتلًا من دون سلاح قتاليّ، بل بسلاح معرفته ووعيه بقضيّته[3].

معارضة الواقع لنفيه
تعبّر الرواية عن معارضتها للموقفَين الرسميَّين المتضادَّين: الموقف الفلسطينيّ الرسميّ والموقف الإسرائيليّ الاستعماريّ المقابل له، على حدّ سواء، وتنفيهما؛ فالرواية تنفي «اتّفاقات أوسلو» والمفاوضات، وتنفي حصول المناضلين الفلسطينيّين على امتيازات مادّيّة، مقابل نضالهم ليعيشوا الرفاهيّة في سلطة ’الوهم والحيرة‘، حسب تعبير الكاتب. كما تنفي الرواية أيضًا وجود الاستعمار الإسرائيليّ وممارساته القمعيّة؛ من طمس معالم المكان وقتل وتهجير وتشريد؛ إذ تنفيه من باب الندّيّة المباشرة.
من هنا، تعبّر الرواية عن أدب المقاومة الّذي يعرف طريقه، واثقًا حاملًا الفكر الشعبيّ واللارسميّ. وكما يشير إيجلتون إلى ضرورة معرفة الأيديولوجيّات الأخرى الموجودة في المجتمع للتحرّر والانعتاق من أسرها[4]، يشير خندقجي إلى أنّ التحرّر والانعتاق لا يتحقّقان إلّا من خلال المقاومة، الّتي هي حالة إنسانيّة عامّة يستطيع أيّ إنسان اكتسابها؛ من خلال الوعي بالقضيّة والتضحية والإيثار والشجاعة والصبر. وهذا ما عبّر عنه الكاتب من خلال شخصيّات الرواية؛ نور، ووالده مهدي، ومراد، وهم أفراد المخيّم الواعون بقضيّتهم، الّذين قدّموا التضحيات، والشيخ مرسي المقدسيّ الّذي وقف مع الجيل الجديد الناهض والساعي إلى التحرّر، وسماء الحيفاويّة الشجاعة الّتي ساندت نورًا في نهاية الرواية؛ ليواجها الواقع الاستعماريّ معًا وليقاوماه.
تُعَدّ رواية خندقجي رواية إنسانيّة وتأريخيّة وشعبيّة نافية لما هو غير إنسانيّ وغير شعبيّ، والمتمثّل في النظامَين الرسميَّين: الفلسطينيّ والاستعماريّ. إنّ الأحداث الماضية في الرواية كانت هروبًا، والحاضر نفاه بالمواجهة، والمستقبل إنتاج جديد هو المقاومة والتحرّر.


إحالات
[1] رولان بارت. لذّة النصّ. ترجمة: محمّد خير البقاعي. (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1998) ص 12.
[2] عبد القادر زيدان. "الأدب والأيديولوجيا". مجلّة فصول، المجلّد 5، العدد 4. (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1985). ص 12- 26.
[3] أرنولد كتيل. مدخل إلى الرواية الإنجليزيّة. ترجمة: هاني الراهب. (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1977) ص 35.
[4] تيري إيجلتون. الماركسيّة والنقد الأدبيّ. ترجمة: جابر عصفور. ط2. (الدار البيضاء: منشورات، 1986) ص 26.
لبابة صبري: محاضرة في «جامعة بيت لحم»، وباحثة متخصّصة في سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الفنّ والأدب والمسرح.


لبابة صبري



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...