[/B][/CENTER]
كان لي صديقٌ، حادُّ الذكاء، عميقُ التجربة، قضى في سجون الاحتلال عقدين من الزمن، وزعها بين العذاب والزنازين، وبين الأسى والشوق والاشتياق، لكنه ظل شامخا، صامدا، مستقيم الظهر، مرفوع الهامة.
ينظر إلى العالم والأحداث، بعينين لامعتين، ترسلان بريقا يَشِي بعمق النظرة وَحِدَّة الفكرة، قليلُ الكلام، كثيرُ التأمل والاستغراق، وحين يُسأل عن فكرة بسيطة، لا تحتاج إلى تفكير أو تمهل، ينتظر قليلا، يتأنى، وكأنه يقلب الفكرة من مكان إلى مكان، ومن حد إلى حد، ومن موقع إلى موقع، فيدخل إلى رَوْعِكَ بأنه يستنهض إجابة من عالَم خاص، غائر في العمق، سحيق المسافة، وحين يجيب، تدهشك الكلمات المعدودة التي تخرج لتزيد الواضح غموضا، ولتلبس المعهود أردية من زمن غير معهود.
التقيتُه بعد "معاهدة أوسلو"، وكنت أتمنى لقاءه، لأسأله عن رأيه فيما حصل، وعن التحول الذي تحولته "منظمة التحرير"، وعن الميثاق، وعن سنوات السجن التي دفعها من عمره، في الزنازين وفي العذاب.
وسألته، نظر إليَّ بعينيه، وهو يطبع على وجهه ابتسامة موزعة بين الدهاء والسخرية والمكر، لكنه على غير عادته، انتقل للجواب دون الدخول بحالة التأمل، وكأنه كان ينتظر السؤال، لكنه أصرَّ أوَّلا على سماع رأيي في الموضوع.
قلت: نحن الآن كمن يسير في حقل من الألغام، لا يعرف تماما أين يضع قدمه، ولا يعرف بعد الخطوة التي نجا منها، ماذا ستحمل الخطوة التالية من خطر وموت، فهو موزع بين العجز والموت والخوف والتوقع.
وفي داخله تتدافع الأشياء وتصطدم، تتصارع وترتطم، فلا هو بالقادر ولا هو بالعالم، كل ما فيه يقود نحو التمزق والتلاشي والانهيار، لكن لحظة الانهيار ذاتها تأبى أن تطل برأسها لتنهي المأساة، ولتوقف كل النوازع المبهمة والغريبة.
نظر إليّ بتمعن، وأرسل من شفتيه بَسْمَةَ مَنْ لم يَصِلْ تصويري إلى ما كان يتمنى من جواب، وأخرجَ زفيرا حادا، يجرح النفس والعقل، وقال:
أتدري، أنا نادم على كل قطرة عرق نزفتها وأنا في السجون، نادم على الألم والعذاب الذي قاسيته من أجل فكرة كنت على استعداد أن أدفع عمري وعمر أهلي من أجلها، نادم على تلك السنوات التي حملتني على راحة زمن محشو بالبطولة والرجولة الوهمية، حيث كنت أعتقد بأنني أصنع تاريخا لزمن عشته بالتصور والحلم وكأنه الحقيقة.
قلت: - وهو كذلك.
قال: - أما زلتَ تعيش الوهم والحلم؟ أما زلت تطلب من الخديعة أن تتحول إلى حقيقة، ومن الخيال أن يصبح واقعا ملموسا، وكأنك في عالم من الزمن المخطوف من الحقيقة.
قلت: - لم أَعْهَدْكَ بمثل هذا التشاؤم من قبل؟
قال: - التشاؤم لفظ نطلقه نحن على عجزنا حين نود أن نخفي تقصيرنا وشللنا وكساحنا، أرأيت لو أنك سألت أحدا فَقَدَ عينيه في لحظة ما، كيف يرى الكون والحياة، بماذا سيجيبك؟ بأنه يرى السواد والعتمة والظلمة، ليس من خلال عينيه فقط، بل ومن خلال قلبه وروحه، بماذا ستصفه؟ بالمتشائم، ولكن هل تملك أنت الحق بوصمه بتلك الصفة، وأنت ترى الربيع المتفجر، وزرقة السماء والبحر، وترى بسمة الأطفال وفرحة الأعياد المرتسمة على محياهم.
نحن يا صديقي لا نملك من أمرنا سوى التشدق بالألفاظ الناعمة، بالصور الجميلة، حين نكون بعيدين عن المأساة، عن الكارثة، ولكن حين يصل لسانها إلى طرفنا، نتحول وبسرعة الضوء، إلى عجز وتشاؤم لم يصله من فقد عينيه في لحظة زمن هائل.
قلت: - ألهذا الحد تشعر بالغُصَّة؟
قال: - ألهذا الحد لا تشعر بالغصة؟
قلت: - ولكنك أزحت سؤالي الأول عن مساره، وطلبت مني الإجابة، فأجبت، ولكنك لم تخبرني كيف ترى الأمور بعد معاهدة أوسلو؟
قال: - كنا سابقا، كمن جلس أمام شاشة الرائي، وهو مشدود الأعصاب، مستنفر العزيمة والحواس، فالفلم حربي من بدايته، تدور أحداثه تحت سماء القصف والرصاص والموت والشهداء، مجموعة تلتف من هنا، ومجموعة تلتف من هناك، والرصاص المزروع بالأفاق الممتدة يومض ببريق زمن قادم، والدماء المسفوحة تندفع بقوة إلى أعماق الأرض والتراب، تبحث عن الجذور وعن التاريخ، وعن الأرواح التي هبطت قبلها إلى خفقات الشجر ووجيب الورود، تنتقل إلى مشهد يقترب من النصر، لكنه ينحرف قليلا نحو الخلف، ليعاود الكرة من جديد.
تتلاحق المشاهد، تتكدس في الذاكرة والإحساس والشعور، تمتلئ بالتوتر المحبوب، بالترقب المشدود للنهاية، تتدافع المشاهد، تتوالد من رحم البطولة والتضحية، تشعر بالعزة، بالفخار، فالموت من أجل الوطن، من أجل الحرية، من أجل الأطفال القابعين برحم الغيب، لا يؤثر في النفس، إلا كتأثير الماء باستنهاض الحياة من الموت.
هنا معركة، وهناك معركة، وبين المعركة والمعركة معركة أخرى، ترسمها الأمهات الصابرات المرابطات، يصنعها التاريخ المروي بدماء الشهداء، يصنعها الانبثاق القادم من رحم عزائم وإصرار لا ينضب.
وفجأة، تضربك الصاعقة، تلفك بأعماقها، حين تجد أن الفلم تحول من فلم حربي، إلى فلم جنسي، زنا وشذوذ وتأوهات، انحطاط وقذارة.
نحن يا صديقي كنا نعيش حالة الوهم في المشاهد الحربية، وحين أفقنا من حالة الوهم وجدنا أنفسنا على شراع الحقيقة، فرفضنا أن نعترف بأن تاريخنا يغص بالزنا، نحن نزني ويُزنَى فينا، نعم، نحن نزني ويزنى فينا.
لم أتمنَّ يوما أن أكتب ما قاله صديقي عن قضيتنا، القضية الفلسطينية التي أَرَّقَتْ ولا زالت تؤرقُ العالَم، بشتى الطرق ومختلف الأساليب.
ولكن بعد "أحداث غزة"، والتي لم تفاجئني أبدا، وإنما فقط أعادتني إلى دائرة الإحباط التي أحيا بداخلها أصلا، وجدت نفسي مدفوعا للكتابة، مدفوعا للتساؤل، التساؤل الحقيقي: عن ماهية تكويننا؟ عن ماهية إدراكنا؟ عن ماهية أهدافنا؟
هل نحن الشعب الذي نتمنى أن نكون؟ هل نحن حقا أحفاد "موسى الخالص"، و"عز الدين القسام"، و"عبد القادر الحسيني"؟ هل نحن أحفاد أولئك الناس الذين اقتُلِعوا من جذورهم وظلوا يحملون حُلم العودة مع مفاتيح بيوتهم المندثرة؟
"فتح" تسفك دماء "حماس"، و"حماس تسفك دماء "فتح|، و"كتائب القسام" تقتل أبناء "كتائب الأقصى"، و"كتائب الأقصى تقتل أبناء "كتائب القسام"، والطائرات والمدافع الصهيونية تستهدف الجميع من أبناء الشعب الفلسطيني.
والأمهات يندبن أبناءهن، والآباء تدور الحيرة ويدور الذهول بتكوينهم، و"فتح" تفرد رجالاتها على الفضائيات لاتهام "حماس" بالخيانة، و"حماس" تتهم "فتح" بالخيانة، والجثث تتساقط، والأشلاء تتناثر.
والناس، كل الناس، موزعين بين الثأر والخوف والرعب، وبين العجز والفاقة، وبين العَوَز والفقر.
ومن كان بالأمس بطلا مقاوما، تحول اليوم إلى منتقم مطالب بالثأر.
أفلا يحق لنا أن نعود إلى الصَّدِيق لنردد معه: بأننا شعب يَزني بذاته ويُزنى فيه؟
مأمون أحمد مصطفى زيدان
كان لي صديقٌ، حادُّ الذكاء، عميقُ التجربة، قضى في سجون الاحتلال عقدين من الزمن، وزعها بين العذاب والزنازين، وبين الأسى والشوق والاشتياق، لكنه ظل شامخا، صامدا، مستقيم الظهر، مرفوع الهامة.
ينظر إلى العالم والأحداث، بعينين لامعتين، ترسلان بريقا يَشِي بعمق النظرة وَحِدَّة الفكرة، قليلُ الكلام، كثيرُ التأمل والاستغراق، وحين يُسأل عن فكرة بسيطة، لا تحتاج إلى تفكير أو تمهل، ينتظر قليلا، يتأنى، وكأنه يقلب الفكرة من مكان إلى مكان، ومن حد إلى حد، ومن موقع إلى موقع، فيدخل إلى رَوْعِكَ بأنه يستنهض إجابة من عالَم خاص، غائر في العمق، سحيق المسافة، وحين يجيب، تدهشك الكلمات المعدودة التي تخرج لتزيد الواضح غموضا، ولتلبس المعهود أردية من زمن غير معهود.
التقيتُه بعد "معاهدة أوسلو"، وكنت أتمنى لقاءه، لأسأله عن رأيه فيما حصل، وعن التحول الذي تحولته "منظمة التحرير"، وعن الميثاق، وعن سنوات السجن التي دفعها من عمره، في الزنازين وفي العذاب.
وسألته، نظر إليَّ بعينيه، وهو يطبع على وجهه ابتسامة موزعة بين الدهاء والسخرية والمكر، لكنه على غير عادته، انتقل للجواب دون الدخول بحالة التأمل، وكأنه كان ينتظر السؤال، لكنه أصرَّ أوَّلا على سماع رأيي في الموضوع.
قلت: نحن الآن كمن يسير في حقل من الألغام، لا يعرف تماما أين يضع قدمه، ولا يعرف بعد الخطوة التي نجا منها، ماذا ستحمل الخطوة التالية من خطر وموت، فهو موزع بين العجز والموت والخوف والتوقع.
وفي داخله تتدافع الأشياء وتصطدم، تتصارع وترتطم، فلا هو بالقادر ولا هو بالعالم، كل ما فيه يقود نحو التمزق والتلاشي والانهيار، لكن لحظة الانهيار ذاتها تأبى أن تطل برأسها لتنهي المأساة، ولتوقف كل النوازع المبهمة والغريبة.
نظر إليّ بتمعن، وأرسل من شفتيه بَسْمَةَ مَنْ لم يَصِلْ تصويري إلى ما كان يتمنى من جواب، وأخرجَ زفيرا حادا، يجرح النفس والعقل، وقال:
أتدري، أنا نادم على كل قطرة عرق نزفتها وأنا في السجون، نادم على الألم والعذاب الذي قاسيته من أجل فكرة كنت على استعداد أن أدفع عمري وعمر أهلي من أجلها، نادم على تلك السنوات التي حملتني على راحة زمن محشو بالبطولة والرجولة الوهمية، حيث كنت أعتقد بأنني أصنع تاريخا لزمن عشته بالتصور والحلم وكأنه الحقيقة.
قلت: - وهو كذلك.
قال: - أما زلتَ تعيش الوهم والحلم؟ أما زلت تطلب من الخديعة أن تتحول إلى حقيقة، ومن الخيال أن يصبح واقعا ملموسا، وكأنك في عالم من الزمن المخطوف من الحقيقة.
قلت: - لم أَعْهَدْكَ بمثل هذا التشاؤم من قبل؟
قال: - التشاؤم لفظ نطلقه نحن على عجزنا حين نود أن نخفي تقصيرنا وشللنا وكساحنا، أرأيت لو أنك سألت أحدا فَقَدَ عينيه في لحظة ما، كيف يرى الكون والحياة، بماذا سيجيبك؟ بأنه يرى السواد والعتمة والظلمة، ليس من خلال عينيه فقط، بل ومن خلال قلبه وروحه، بماذا ستصفه؟ بالمتشائم، ولكن هل تملك أنت الحق بوصمه بتلك الصفة، وأنت ترى الربيع المتفجر، وزرقة السماء والبحر، وترى بسمة الأطفال وفرحة الأعياد المرتسمة على محياهم.
نحن يا صديقي لا نملك من أمرنا سوى التشدق بالألفاظ الناعمة، بالصور الجميلة، حين نكون بعيدين عن المأساة، عن الكارثة، ولكن حين يصل لسانها إلى طرفنا، نتحول وبسرعة الضوء، إلى عجز وتشاؤم لم يصله من فقد عينيه في لحظة زمن هائل.
قلت: - ألهذا الحد تشعر بالغُصَّة؟
قال: - ألهذا الحد لا تشعر بالغصة؟
قلت: - ولكنك أزحت سؤالي الأول عن مساره، وطلبت مني الإجابة، فأجبت، ولكنك لم تخبرني كيف ترى الأمور بعد معاهدة أوسلو؟
قال: - كنا سابقا، كمن جلس أمام شاشة الرائي، وهو مشدود الأعصاب، مستنفر العزيمة والحواس، فالفلم حربي من بدايته، تدور أحداثه تحت سماء القصف والرصاص والموت والشهداء، مجموعة تلتف من هنا، ومجموعة تلتف من هناك، والرصاص المزروع بالأفاق الممتدة يومض ببريق زمن قادم، والدماء المسفوحة تندفع بقوة إلى أعماق الأرض والتراب، تبحث عن الجذور وعن التاريخ، وعن الأرواح التي هبطت قبلها إلى خفقات الشجر ووجيب الورود، تنتقل إلى مشهد يقترب من النصر، لكنه ينحرف قليلا نحو الخلف، ليعاود الكرة من جديد.
تتلاحق المشاهد، تتكدس في الذاكرة والإحساس والشعور، تمتلئ بالتوتر المحبوب، بالترقب المشدود للنهاية، تتدافع المشاهد، تتوالد من رحم البطولة والتضحية، تشعر بالعزة، بالفخار، فالموت من أجل الوطن، من أجل الحرية، من أجل الأطفال القابعين برحم الغيب، لا يؤثر في النفس، إلا كتأثير الماء باستنهاض الحياة من الموت.
هنا معركة، وهناك معركة، وبين المعركة والمعركة معركة أخرى، ترسمها الأمهات الصابرات المرابطات، يصنعها التاريخ المروي بدماء الشهداء، يصنعها الانبثاق القادم من رحم عزائم وإصرار لا ينضب.
وفجأة، تضربك الصاعقة، تلفك بأعماقها، حين تجد أن الفلم تحول من فلم حربي، إلى فلم جنسي، زنا وشذوذ وتأوهات، انحطاط وقذارة.
نحن يا صديقي كنا نعيش حالة الوهم في المشاهد الحربية، وحين أفقنا من حالة الوهم وجدنا أنفسنا على شراع الحقيقة، فرفضنا أن نعترف بأن تاريخنا يغص بالزنا، نحن نزني ويُزنَى فينا، نعم، نحن نزني ويزنى فينا.
لم أتمنَّ يوما أن أكتب ما قاله صديقي عن قضيتنا، القضية الفلسطينية التي أَرَّقَتْ ولا زالت تؤرقُ العالَم، بشتى الطرق ومختلف الأساليب.
ولكن بعد "أحداث غزة"، والتي لم تفاجئني أبدا، وإنما فقط أعادتني إلى دائرة الإحباط التي أحيا بداخلها أصلا، وجدت نفسي مدفوعا للكتابة، مدفوعا للتساؤل، التساؤل الحقيقي: عن ماهية تكويننا؟ عن ماهية إدراكنا؟ عن ماهية أهدافنا؟
هل نحن الشعب الذي نتمنى أن نكون؟ هل نحن حقا أحفاد "موسى الخالص"، و"عز الدين القسام"، و"عبد القادر الحسيني"؟ هل نحن أحفاد أولئك الناس الذين اقتُلِعوا من جذورهم وظلوا يحملون حُلم العودة مع مفاتيح بيوتهم المندثرة؟
"فتح" تسفك دماء "حماس"، و"حماس تسفك دماء "فتح|، و"كتائب القسام" تقتل أبناء "كتائب الأقصى"، و"كتائب الأقصى تقتل أبناء "كتائب القسام"، والطائرات والمدافع الصهيونية تستهدف الجميع من أبناء الشعب الفلسطيني.
والأمهات يندبن أبناءهن، والآباء تدور الحيرة ويدور الذهول بتكوينهم، و"فتح" تفرد رجالاتها على الفضائيات لاتهام "حماس" بالخيانة، و"حماس" تتهم "فتح" بالخيانة، والجثث تتساقط، والأشلاء تتناثر.
والناس، كل الناس، موزعين بين الثأر والخوف والرعب، وبين العجز والفاقة، وبين العَوَز والفقر.
ومن كان بالأمس بطلا مقاوما، تحول اليوم إلى منتقم مطالب بالثأر.
أفلا يحق لنا أن نعود إلى الصَّدِيق لنردد معه: بأننا شعب يَزني بذاته ويُزنى فيه؟
مأمون أحمد مصطفى زيدان
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج: 16 – 06 - 2007
النرويج: 16 – 06 - 2007