في تبادل مؤقت للأدوار، اتخذ الفتى شديد الانتماء دور المحاور، مبادرا الكاتب الكبير:
- أخبرني عن البدايات!
اللافت للنظر، أن الأخير، عرف من الفور أى البدايات يقصد مريده:
- في المدرسة!
قبل أن يقوم الشاب الصغير بتصحيح مسار الحديث، ظنا منه أن مدخل الحوار قد جاء على نحو خاطىء، عاجله الرجل: - انتظر، ما أقوله صحيح.
وصمت قليلا، ربما استطاع اختراق الماضي، والعودة إلى سنوات بعيدة. استطرد بعدها، بادئا الكلام: في صباى، بالمدرسة الإعدادية تحديدا، كان يجلس إلى جواري تلميذ عبقري، موهوب بعمق، يعشق الرسم، ويجيده على نحو فريد. كان مثار إعجاب الجميع، طلبة ومدرسين. فن البورتريه يستهويه بشدة، يرسم الوجوه والملامح بإتقان شديد، لا يكف عن عمل تخطيطات، وإسكتشات سريعة، يقوم بتلوينها وفقا لذائقة رائعة في هذا العمر المبكر. وكنا ندفعه إلى الرسم بالطباشير على السبورة السوداء، بين الحصص، أو في الأوقات التي يتغيب فيها أحد المعلمين، كان الصبي يعشق صورة جمال عبد الناصر. البروفايل الشهير، الملتقط من جانب الوجه، وتلك الصورة التي يرتدي فيها قميص بنصف كم، ويضع قبضة يده اليمنى أسفل ذقنه، وهو ينظر إلى العالم بثقة، يرسمه بسلاسة وانسيابية، ثم يكتب بخط عريض أسفل الصورة: "الزعيم". كلمة واحدة محملة بالدلالات، ولها صداها المريح. كنت أتابع أصابعه وهي تمر على اللوحة السوداء، حتى حفظت تحركاتها. من أين يبدأ، وأين ينتهي. وكنت أحاول تقليده، فشلت في تعلم هذا الفن، لكني تعلقت به منذ ذلك الحين، وصرت أتابع تطوره بشكل دقيق، محتفظا بكتالوجات ضخمة لعمالقة هذا المجال، جالبا معي ما أستطيع أثناء عودتي من سفري إلى الخارج، بعد زيارة المتاحف الكبرى. ربما هزتني أخيرا، لوحات الرسام الكولومبي الشهير "فرناندو بوتيرو"، وتركت لدي أثرا لا يمحى، عندما قام بتجسيد وحشية الاحتلال الأمريكي للعراق. لقد فُجع العالم بأسره من هذه الرسومات؛ التي فضحت حجم القسوة على ضحايا سجن أبو غريب، مُعيدة إلى الأذهان بشاعة تلك اللحظات، ومنحها للتاريخ محفورة بألوان نارية، كي لا تهرب هذه الجرائم من الذاكرة إلأنسانية، وتنفلت إلى النسيان، جالبا لهذه المشاهد بقاء مؤلما. كنت مولعا ببوتيرو، يدهشني عالمه المبهج، المختلف، ملمح البدانة على شخوصه البرجوازية، المتخمين السعداء، بالغي الفخامة والتوقير، لكن عندما شق لنفسه مسارا آخر، متجها بريشته وبالتة ألوانه إلى بغداد، معرضا حياته للخطر، زاد إعجابي به، وتقديري له كفنان من طراز نادر، لقد ذهب كي يسمع ويرى، ويعاين هذا الخراب عن قرب، لينقل إلى العالم ما جرى، من تعذيب، وممارسات شاذة ووضيعة، متخليا عن سخريته هذه المرة...
كانت أصابع الفتى، لا تطاوعه على رسم المدرسين الذين يمتازون بالعنف، والقسوة، كرد
فعل صامت من جانبه، حيال من لا يستحق أن يجسد صورته، حتى جاء يوم وطلب منه تلميذ في الفصل، أن يقوم برسم معلم مرهوب الجانب، حاد، وقاس، كنا نشعر بالرعب منه، ونعمل للمادة التي يقوم بتدريسها ألف حساب، كان لا يتسامح في الخطأ، ولا يعطي فرصة لتصحيحه، يكون العقاب فوريا، وبلا إمهال، حصته بمثابة جلسة تعذيب، يتلقاها كل منا مكرها، حيث لا مفر من
حضورها...
في هذا اليوم، الذي أعلن فيه عن عدم مجيئه. أصررنا على رسمه، بإلحاح شديد، فرضخ الفتى الموهوب، وبدأ في التنفيذ بخيال يتجاوز عمره. رسم وجها مكتملا، مقطب الجبين، شديد الشبه بالمدرس. أضاف إليه قرن شيطان، ونابين طويلين، وأخذ يشكل له جسدا شائها، ويد تحمل سوط، والأخرى تحمل جمجمة. كان يبالغ في استظهار البشاعة وهو مضيفا تفصيلة بعد أخرى. فور انتهائه، كتب كلمة واحدة: الأستاذ "دراكولا". فصاح التلاميذ، مصفقين،
ومرددين: دراكولا. دراكولا. دراكولا. بإيقاع هستيري، ساقط في التشفي، وبنبرة انتقامية، تثأر لنفسها
من التنكيل وضربات العصا الموجعة.
بذهنية يقظة، وإمعان في التشويه، كان الفتى يبالغ في الخطوط واللمسات التحقيرية. ظل يجود بتمهل، ودقة، حتى دخل العالم بعدها في صمت عميق، لم ينتبه إليه الصبي، لكنه شعر بهدوء تام، يخيم وراء ظهره، وينسحب صداه على المكان. لم يعد هناك صخب أو ضجيج، تلاشت نداءات الاستحسان التي كانت تحرض على المزيد، وشعر بوخزات شائكة في ظهره، وأن هناك عينين تخترقانه، وتراقب أصابعه، لم يسمع سوى أنفاسه، وحفيف الطباشير على اللوحة السوداء، مضخما، لاتصاحبه نأمة،
فاضطر إلى الالتفات، ليعرف، ما الذي يدور خلفه. كانت المفاجأة صادمة. المدرس نفسه، هو من يقف وراءه، متطلعا إلى مايفعل، معاينا هذه الهواية السرية:
- دعها كما هي! أمره محذرا.
كانت قلوب التلاميذ تخفق، مأخوذة بالرعب، وهم يراقبون ما يحدث.
أضاف:
- من هذا؟
كان الصمت يمر ثقيلا، مقبضا، لم يكن هناك مجال للمرواغة، فالحقيقة دامغة، إنه هو. حتى لو اتخذت الشخصية هذا الشكل الكاريكاتوري المشوه.
قال الصبي بصعوبة:
- إنه "دراكولا".
- لكنك كتبت تحته "الأستاذ دراكولا".
لم تكن نبرته تنذر بالشر هذه المرة.
ابتلع الصبي ريقه بصعوبة. نطق أخيرا، وبثبات، وسط دهشتنا:
- كنت أقصد حضرتك.
كنا حائرين، بين انطلاق ضحكة مدوية، أو قبر تلك الحماقة الطارئة، حتى لايكون الثمن فادحا. شاعرين بالتوتر، والتشوش. رحنا نكتم أنفاسنا حتى ينتهي هذا الموقف برمته.
- عد مكانك. قال المعلم.
ثم نادى تلميذا أخر ليزيل الرسم. وسط ارتياحنا الحذر.
بعد لحظات من التفكير، خاطبنا بنبرة رصينة أظهرت لنا إنسانا آخر:
- ربما لا أعرف شيئا عن شكل المستقبل، ولا يمكنني التنبؤ بمصير أى منكم، ولكني أراهن على هذا الولد، إنه موهوب، يجيد ما يفعله، ويعبر عما بداخله بوضوح. لم ينكر ما قام به. لم يخف، وهذه أولى درجات الشجاعة النادرة، والنزوع إلى الحرية. قد لا تستوعبون ما أقوله الآن، ولكن سيجيء وقت وتدركونه...
في هذا اليوم، جرى كل شيء بعيدا عن توقعاتنا، لم يحدث العقاب المنتظر. تبدلت علاقة المعلم بنا، وبالصبي على وجه الخصوص، صار راعيا له، ومشجعا، يحثه على المواصلة، حتى أصبح بطلا مكرسا لحقبة صبانا إثر هذه الايماءة المبكرة...
هذه هي البداية يا صديقي، ألف باء مقاومة. صغير لا يملك سوى الخيال، وإصبع طباشير، يقوم من خلالهما بالنيل من النماذج المعادية، ومعلم شرس، يفاجئنا
بحكمته، وتقديره للموهبة. ويقوم بتثمينمها بأسلوب متحضر، متغاضيا عن إهانة بريئة، مسيطرا على موقف شائك في لحظة واحدة، قابضا على ماهو جوهري، وتثبيته في عقولنا. فكلماته ما زالت محفورة في ذهني. إنه أمر لم أستطع نسيانه..
التقط الكاتب أنفاسه، ثم أضاف مختتما حديثه: هناك تجارب كثيرة أيضا، وخبرات مكتسبة، حولتني من مؤرخ للخسارات، يطالع ممرورا ما يجري، ويسجله بآسى، وروح عدمية، إلى شخص آخر، يغويه التمرد.
صابر رشدي
* جريدة "أخبار الأدب" القاهرية
- أخبرني عن البدايات!
اللافت للنظر، أن الأخير، عرف من الفور أى البدايات يقصد مريده:
- في المدرسة!
قبل أن يقوم الشاب الصغير بتصحيح مسار الحديث، ظنا منه أن مدخل الحوار قد جاء على نحو خاطىء، عاجله الرجل: - انتظر، ما أقوله صحيح.
وصمت قليلا، ربما استطاع اختراق الماضي، والعودة إلى سنوات بعيدة. استطرد بعدها، بادئا الكلام: في صباى، بالمدرسة الإعدادية تحديدا، كان يجلس إلى جواري تلميذ عبقري، موهوب بعمق، يعشق الرسم، ويجيده على نحو فريد. كان مثار إعجاب الجميع، طلبة ومدرسين. فن البورتريه يستهويه بشدة، يرسم الوجوه والملامح بإتقان شديد، لا يكف عن عمل تخطيطات، وإسكتشات سريعة، يقوم بتلوينها وفقا لذائقة رائعة في هذا العمر المبكر. وكنا ندفعه إلى الرسم بالطباشير على السبورة السوداء، بين الحصص، أو في الأوقات التي يتغيب فيها أحد المعلمين، كان الصبي يعشق صورة جمال عبد الناصر. البروفايل الشهير، الملتقط من جانب الوجه، وتلك الصورة التي يرتدي فيها قميص بنصف كم، ويضع قبضة يده اليمنى أسفل ذقنه، وهو ينظر إلى العالم بثقة، يرسمه بسلاسة وانسيابية، ثم يكتب بخط عريض أسفل الصورة: "الزعيم". كلمة واحدة محملة بالدلالات، ولها صداها المريح. كنت أتابع أصابعه وهي تمر على اللوحة السوداء، حتى حفظت تحركاتها. من أين يبدأ، وأين ينتهي. وكنت أحاول تقليده، فشلت في تعلم هذا الفن، لكني تعلقت به منذ ذلك الحين، وصرت أتابع تطوره بشكل دقيق، محتفظا بكتالوجات ضخمة لعمالقة هذا المجال، جالبا معي ما أستطيع أثناء عودتي من سفري إلى الخارج، بعد زيارة المتاحف الكبرى. ربما هزتني أخيرا، لوحات الرسام الكولومبي الشهير "فرناندو بوتيرو"، وتركت لدي أثرا لا يمحى، عندما قام بتجسيد وحشية الاحتلال الأمريكي للعراق. لقد فُجع العالم بأسره من هذه الرسومات؛ التي فضحت حجم القسوة على ضحايا سجن أبو غريب، مُعيدة إلى الأذهان بشاعة تلك اللحظات، ومنحها للتاريخ محفورة بألوان نارية، كي لا تهرب هذه الجرائم من الذاكرة إلأنسانية، وتنفلت إلى النسيان، جالبا لهذه المشاهد بقاء مؤلما. كنت مولعا ببوتيرو، يدهشني عالمه المبهج، المختلف، ملمح البدانة على شخوصه البرجوازية، المتخمين السعداء، بالغي الفخامة والتوقير، لكن عندما شق لنفسه مسارا آخر، متجها بريشته وبالتة ألوانه إلى بغداد، معرضا حياته للخطر، زاد إعجابي به، وتقديري له كفنان من طراز نادر، لقد ذهب كي يسمع ويرى، ويعاين هذا الخراب عن قرب، لينقل إلى العالم ما جرى، من تعذيب، وممارسات شاذة ووضيعة، متخليا عن سخريته هذه المرة...
كانت أصابع الفتى، لا تطاوعه على رسم المدرسين الذين يمتازون بالعنف، والقسوة، كرد
فعل صامت من جانبه، حيال من لا يستحق أن يجسد صورته، حتى جاء يوم وطلب منه تلميذ في الفصل، أن يقوم برسم معلم مرهوب الجانب، حاد، وقاس، كنا نشعر بالرعب منه، ونعمل للمادة التي يقوم بتدريسها ألف حساب، كان لا يتسامح في الخطأ، ولا يعطي فرصة لتصحيحه، يكون العقاب فوريا، وبلا إمهال، حصته بمثابة جلسة تعذيب، يتلقاها كل منا مكرها، حيث لا مفر من
حضورها...
في هذا اليوم، الذي أعلن فيه عن عدم مجيئه. أصررنا على رسمه، بإلحاح شديد، فرضخ الفتى الموهوب، وبدأ في التنفيذ بخيال يتجاوز عمره. رسم وجها مكتملا، مقطب الجبين، شديد الشبه بالمدرس. أضاف إليه قرن شيطان، ونابين طويلين، وأخذ يشكل له جسدا شائها، ويد تحمل سوط، والأخرى تحمل جمجمة. كان يبالغ في استظهار البشاعة وهو مضيفا تفصيلة بعد أخرى. فور انتهائه، كتب كلمة واحدة: الأستاذ "دراكولا". فصاح التلاميذ، مصفقين،
ومرددين: دراكولا. دراكولا. دراكولا. بإيقاع هستيري، ساقط في التشفي، وبنبرة انتقامية، تثأر لنفسها
من التنكيل وضربات العصا الموجعة.
بذهنية يقظة، وإمعان في التشويه، كان الفتى يبالغ في الخطوط واللمسات التحقيرية. ظل يجود بتمهل، ودقة، حتى دخل العالم بعدها في صمت عميق، لم ينتبه إليه الصبي، لكنه شعر بهدوء تام، يخيم وراء ظهره، وينسحب صداه على المكان. لم يعد هناك صخب أو ضجيج، تلاشت نداءات الاستحسان التي كانت تحرض على المزيد، وشعر بوخزات شائكة في ظهره، وأن هناك عينين تخترقانه، وتراقب أصابعه، لم يسمع سوى أنفاسه، وحفيف الطباشير على اللوحة السوداء، مضخما، لاتصاحبه نأمة،
فاضطر إلى الالتفات، ليعرف، ما الذي يدور خلفه. كانت المفاجأة صادمة. المدرس نفسه، هو من يقف وراءه، متطلعا إلى مايفعل، معاينا هذه الهواية السرية:
- دعها كما هي! أمره محذرا.
كانت قلوب التلاميذ تخفق، مأخوذة بالرعب، وهم يراقبون ما يحدث.
أضاف:
- من هذا؟
كان الصمت يمر ثقيلا، مقبضا، لم يكن هناك مجال للمرواغة، فالحقيقة دامغة، إنه هو. حتى لو اتخذت الشخصية هذا الشكل الكاريكاتوري المشوه.
قال الصبي بصعوبة:
- إنه "دراكولا".
- لكنك كتبت تحته "الأستاذ دراكولا".
لم تكن نبرته تنذر بالشر هذه المرة.
ابتلع الصبي ريقه بصعوبة. نطق أخيرا، وبثبات، وسط دهشتنا:
- كنت أقصد حضرتك.
كنا حائرين، بين انطلاق ضحكة مدوية، أو قبر تلك الحماقة الطارئة، حتى لايكون الثمن فادحا. شاعرين بالتوتر، والتشوش. رحنا نكتم أنفاسنا حتى ينتهي هذا الموقف برمته.
- عد مكانك. قال المعلم.
ثم نادى تلميذا أخر ليزيل الرسم. وسط ارتياحنا الحذر.
بعد لحظات من التفكير، خاطبنا بنبرة رصينة أظهرت لنا إنسانا آخر:
- ربما لا أعرف شيئا عن شكل المستقبل، ولا يمكنني التنبؤ بمصير أى منكم، ولكني أراهن على هذا الولد، إنه موهوب، يجيد ما يفعله، ويعبر عما بداخله بوضوح. لم ينكر ما قام به. لم يخف، وهذه أولى درجات الشجاعة النادرة، والنزوع إلى الحرية. قد لا تستوعبون ما أقوله الآن، ولكن سيجيء وقت وتدركونه...
في هذا اليوم، جرى كل شيء بعيدا عن توقعاتنا، لم يحدث العقاب المنتظر. تبدلت علاقة المعلم بنا، وبالصبي على وجه الخصوص، صار راعيا له، ومشجعا، يحثه على المواصلة، حتى أصبح بطلا مكرسا لحقبة صبانا إثر هذه الايماءة المبكرة...
هذه هي البداية يا صديقي، ألف باء مقاومة. صغير لا يملك سوى الخيال، وإصبع طباشير، يقوم من خلالهما بالنيل من النماذج المعادية، ومعلم شرس، يفاجئنا
بحكمته، وتقديره للموهبة. ويقوم بتثمينمها بأسلوب متحضر، متغاضيا عن إهانة بريئة، مسيطرا على موقف شائك في لحظة واحدة، قابضا على ماهو جوهري، وتثبيته في عقولنا. فكلماته ما زالت محفورة في ذهني. إنه أمر لم أستطع نسيانه..
التقط الكاتب أنفاسه، ثم أضاف مختتما حديثه: هناك تجارب كثيرة أيضا، وخبرات مكتسبة، حولتني من مؤرخ للخسارات، يطالع ممرورا ما يجري، ويسجله بآسى، وروح عدمية، إلى شخص آخر، يغويه التمرد.
صابر رشدي
* جريدة "أخبار الأدب" القاهرية
صابر رشدي
صابر رشدي is on Facebook. Join Facebook to connect with صابر رشدي and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com