1- الكاتب والروائي زياد عبدالفتاح
اليوم زرت رام الله والتقيت بالكاتب والروائي زياد عبد الفتاح المقيم في أثناء زيارته رام الله في فندق الرتنو فيها ، ومن أجوائه كتب روايته التي حملت عنوان " الرتنو " .
كلما زار زياد رام الله تواعدنا ، وكان لقاؤنا الأول في جامعة النجاح الوطنية حيث ناقشنا له مجموعة " والبحر يغضب " عن حرب غزة في العقد الماضي ، وكان زياد في الحرب مقيما في غزة .
زرنا معا معرض الكتاب وله في جناح مكتبة كل شيء كتابان ؛ رواية " الرتنو " وكتاب " محمود درويش : صاقل الماس " واستغربت كيف لم تعقد له أمسية أو حفل توقيع .
زياد عبد الفتاح من مواليد ١٩٣٩ - يعني هو في الرابعة والثمانين - أمد الله في عمره .
في صالة الفندق تجادلنا ؛ هو وضيفه عمر الغول وأنا ، حول الأدب الفلسطيني ورموزه ، وسألني زياد لم لا أتناول كتابا آخرين غير محمود درويش والياس خوري
Khoury Elias
وغسان كنفاني واميل حبيبي .
ألا يوجد كتاب آخرون ؟ لم لا أشجع المواهب الشابة ؟
أرسلت إلى وزير الثقافة عاطف ابوسيف ووكيل الوزارة عبد السلام عطاري كتابين جمعت فيهما ما كتبته من مقالات ودراسات عن الروائيين اللاحقين للأسماء الوارد ذكرها . لقد كتبت عن أحمد حرب وأحمد رفيق عوض وعباد يحيى وعاطف أبو سيف ومحمود شقير وفاروق وادي وإبراهيم نصرالله و
د. إبراهيم السعافين وسعاد العامري ووداد البرغوثي وسهيل كيوان Sohaill Kiwana وليانة بدر وسحر خليفة وأكرم هنية وأكرم مسلم وجمال أبو غيدا وحزامه حبايب وعزت الغزاوي و أحمد أبو سليم وصافي اسماعيل صافي Safi Ismael Safi ... وربعي المدهون وغسان زقطان وزكريا محمد وحنان باكير Hanan Bakir وسامية عيسى و... و ... آخرين كثر .
السؤال هو :
- ألا يوجد بين السابقين من تجاوز كنفاني وحبيبي وجبرا ؟
ربما وجب أن ننظر في الأسئلة التي يثيرها الروائيون الجدد وفي الشكل الفني الذي يكتبون فيه ، وربما وجب أن نثير سؤال جدوى الأدب بعامة في زمننا .
كثر الروائيون وكثرت الروايات ولا أظن أن بوسع ناقد واحد الالمام بالروائيين كلهم وبالروايات كلها .
ومرة كتب مظفر النواب :
" والبلاد إذا سمنت وارمة " .
إننا نجتهد ما أمكن . ولكثرة الكتب يحار المرء ماذا يشتري وقد لا يشتري لهذا أي كتاب .
عندما أتينا على ذكر الشعر قلت لزياد :
- لا أدري لماذا ينتابني شعور بأن الشعر مات مع محمود درويش .
مساء الخير عزيزي زياد عبد الفتاح Ziad Abedelfattah
ولقد سعدت بلقائك وأمد الله في عمرك .
مساء الخير
خربشات عادل الاسطة
١٢ / ٩ / ٢٠٢٣
***
2- زياد عبد الفتاح: «محمود درويش ... صاقل الماس»
"محمود درويش صاقل الماس" عنوان الكتاب الجديد لزياد عبد الفتاح، وهو كتابه السادس عشر، ويرى مؤلفه أنه أهم كتبه ويقول، إنه لم يفرح لصدور كتاب له كما فرح لهذا الكتاب، وكان زياد نشر كتابه، على حلقات، في صفحته الخاصة الرسمية (فيسبوك)، وكنت أتابع الحلقات الـ 68، وأعقب على قسم منها، مبدياً رأيي في بعض الآراء والتواريخ والمناسبات، وكان يقرأ تعقيباتي ونتحاور حولها، فقد يأخذ بها ويشكرني وقد يبدي رأيه مبينا أنه على صواب وأكثر دقة.
صدر الكتاب الذي يقع في 303 صفحات عن مكتبة كل شيء في حيفا لصاحبها صالح عباسي، وأدرج تاريخ الإصدار العام 2020.
صدر زياد كتابه بقول السهروردي:
"أبداً تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح"،
وحين تبدأ بقراءة الكتاب، وحتى تفرغ منه، تعرف مدى حنين الكاتب إلى المكتوب عنه - أي محمود درويش، وأن وصالهما هو ريحان الأرواح وهو الراح. وأهدى زياد كتابه "إلى ناي حفيدتي، التي لم تشهد عصر محمود درويش، علها تقرأه شعرا ونثرا، تتأمله وتعاينه قيمة وقامة تستمد منها طاقة وإبداعاً فادحاً في الغناء" وواضح أن الكاتب لم ينج من تأثير قصيدة درويش "لاعب النرد"؛ درويش الذي ولد لأسرة لا تجيد الغناء، وسيمتد تأثر الكاتب بقصيدة الشاعر المذكورة إلى متن الكتاب وستحضر طاولة النرد والقصيدة في حلقات كثيرة، وربما أضاءت كتابة زياد بعض جوانب القصيدة.
قبل صفحة الإهداء يدرج الكاتب صورة إهداء من محمود درويش بخط يده
"إلى
زياد عبد الفتاح
سارق القلوب،
وفي مقدمتها قلبي.
محمود درويش"
والكتاب يقول إن الشاعر أيضاً سرق قلب زياد، فالكتاب مكتوب ممن قلبه يهيم إعجاباً وحباً بالشاعر. إنه كتابة متعاطفة إلى أبعد الحدود.
يتذكر دارس النقد الأدبي، وهو يقرأ الكتاب، منهج الناقد الفرنسي (سانت بيف) الذي يعرف بـ"صانع الصور" أو التماثيل، حيث كان يرسم صوراً لمشاهير معاصريه من الكتاب والنساء ورجال السياسة، ويعتمد في رسمه صورهم على جمع المعلومات من معارفهم وأهلهم وأصدقائهم وأعدائهم وكل من كان له صلة بهم، وهو ما يعرف بـ"وعاء الكاتب".
ولمن يريد أن يرسم صورة لمحمود درويش، متبعاً منهج (بيف)، فإن كتاب زياد ذو فائدة عظيمة له، فلقد كان مقرباً من الشاعر وسرد عنه الكثير من دقائق حياته وتفاصيلها. إنه يضاف إلى سلسلة من الكتابات التي كتبها أصدقاء الشاعر المقربون منه وأضاؤوا فيها جوانب من حياته الشخصية التي ألقت في الوقت نفسه الضوء على بعض قصائده. وللأسف فإن بعض هذه الكتابات حوربت بقوة من جهات صلتها بالنقد الأدبي والمناهج النقدية ضعيفة. هنا أشير إلى مقالات رنا قباني في "القدس العربي". إنها مقالات تضيء بعض ما غمض في أشعار الشاعر ولا يمكن شرحها شرحا علميا وفق نظرية التفسير والتأويل إلا بالاتكاء على معلومات خارجية، وما احتجت عليه بعض الجهات يعد ظاهرة مألوفة ومقبولة في النقد العالمي.
قبل أن يصدر المؤلف كتابه طلب مني أن أقترح عليه عدة عناوين لكتابه لينظر فيها، فاقترحت العناوين الآتية:
"ظلال الذاكرة: زياد عبد الفتاح ومحمود درويش/ ظلال الشاعر: محمود درويش في الذاكرة/ ذاكرة الأيام: محمود درويش كما عرفته/ صورة الشاعر: محمود درويش في ذاكرتي / شاعر في الذاكرة .. شاعر لا يموت" ويبدو أن أيا منها لم يرق له.
كنت وأنا أفكر في العنوان أنظر في مضمون الكتابة وفي جنسها الأدبي الذي تنتمي إليه، وقضية التجنيس شغلت ذهن الكاتب في مواطن كثيرة من كتابه لدرجة أن حيرته تبدو واضحة. "وإنني وأنا أكتب بحب لا يقدر عليه سواي، أتساءل الآن في هذه الحلقة من الرواية أو الشهادة" .... "هل لأنني رسام" "ولا أدري لماذا أنا الذي أكتب عن درويش رواية وشهادة ورؤية" ... الخ. وكان الكاتب وهو يكتب بحب وتعاطف يكتب بقدر من الانفعال والسيولة وكان يندهش مما يكتب، ما جعله يتساءل "من أين تأتيني الكتابة". ولما كان ذا تجربة فقد اقترح عليه بعض أصدقائه من الأساتذة الجامعيين في القاهرة أن يكتب سيرته.
وأنا أقرأ الحلقات كنت ألتفت إلى موضوعات عديدة مهمة شغلت أذهان الدارسين، مثل علاقة محمود درويش بياسر عرفات وعلاقته بريتا وأيضا علاقته بأدباء المقاومة وبخاصة سميح القاسم.
يأتي زياد عبد الفتاح على الموضوعات السابقة ويبدي وجهة نظره فيها هو الذي كان قريباً من ياسر عرفات ومقرباً منه، وأعتقد أن الكتاب سيضيء هذا الجانب، ولكن لا بد من الإصغاء هنا إلى آخرين كانوا قريبين من الشاعر وياسر عرفات، فعلينا ألا ننسى أن زياد يسرد ما ظل عالقا في الذاكرة، وبعض القضايا حدثت قبل أربعين عاماً. لقد سألت شخصياً زياد عن قصيدة "رحلة المتنبي إلى مصر" وهي في صميم العلاقة الجوهرية بين الشاعر والسياسي واستمعت إلى رواية مختلفة عن الرواية التي أعرف. هنا طبعا يمكن أن نسأل الياس خوري الذي كان جزءا من الحكاية، ومازال على قيد الحياة.
ما أوردته عما ورد عن العلاقة بين الشاعر والسياسي يمكن أن أورده بخصوص علاقة درويش بالقاسم والرسائل المتبادلة بينهما، فلقد كتب زياد عن رسائل الود التي جمعها اميل حبيبي في كتاب "الرسائل"، ولم يأت زياد على رسائل الخصام التي كتبت بعد خروج الشاعر من فلسطين في ١٩٧٠. وأما موضوع ريتا وهو موضوع شغل الدارسين فأعتقد أنه مازال بحاجة إلى تدقيق أكثر، بخاصة بعد صدور كتاب امتياز دياب "ميلاد الكلمات".
ومرة أخرى أكتب: لقد كتب زياد عبد الفتاح عن محمود درويش وعلاقته به بحب وتعاطف كبيرين، وحجته طبعاً، عدا حبه للشاعر واحترامه له، أن محمود درويش رمز فلسطيني ويجب أن نحترم رموزنا وألا نسيء إليهم، فنحن بحاجة إلى رموز.
عادل الأسطة
2019-12-15
***
3- زياد عبد الفتاح في روايته الجديدة «الرتنو»
آخر روايات الفلسطيني زياد عبد الفتاح هي رواية "الرتنو" الصادرة في العام 2018 عن دار النشر "كل شيء" في حيفا، وتقع الرواية التي صمم لوحة غلافها الفنان حسني رضوان في 322 صفحة.
ويبدو عنوان الرواية غريبا، وعموما فإن النص سرعان ما يزيل هذه الغرابة، هذا إذا لم تكن التقيت بالكاتب في فندق "الرتنو" في رام الله، وإن كنت التقيت به هناك فإنك لا تستغرب وستعرف المدلول، ولكن الغرابة سوف تلازمك كما لازمت الروائي، فلماذا اختار صاحب الفندق هذا الاسم عنوانا لفندقه ولم يختر اسما آخر.
لتوضيح معنى "الرتنو" عليك أن تقرأ تاريخ فلسطين القديم في كتب التاريخ أو عليك أن تقرأ الرواية التي تمزج بين الواقع والتاريخ.
ولمن يستعجل معرفة المعنى فيمكن أن يبدأ بقراءة الصفحات الآتية: (26/ 45 / 78 / 81 / 186) ففيها إضاءات لمدلول الدال، علما أنها ليست الصفحات الوحيدة التي ترصد تاريخ فلسطين زمن مملكة "الرتنو".
قبل أن يحل سعد الديراوي في فندق "رتنو"، الذي نصح به أحد أصدقائه الذي استقر فيه شهرا، سأله لماذا رتنو وماذا يعني ذلك الاسم ؟ بدا صاحبه متفاجئا، كما لو أنه تلقى صفعة سؤالا. كان عليه أن يفطن له ويفكر فيه. قال: "تصور أنني لم أتوقف عند الاسم، على الرغم من غرابته، ولم أسأل".
ولسوف تتوصل منذ الصفحات الأولى من الرواية إلى أن الفندق هو المكان الروائي الرئيس، ولسوف تتذكر وأنت تقرأ الرواية رواية نجيب محفوظ "ميرامار" فإن لم تتذكرها ذكرك المؤلف الضمني بها وبغيرها من الروايات العالمية والعربية والفلسطينية التي جعلت من فندق ما بعداً مكانياً لها.
في الصفحة 53 يسرد المؤلف الضمني الفقرة الآتية:
"فيما هو يواصل الكتابة عن فندق "رتنو"، تساءل في أي خانة يضعه".
وتحدث هذا المؤلف الضمني عن علاقته بالفنادق التي عرفها أو تلك التي قرأ عنها، فقد أقام في فنادق متفاوتة القيمة والمستوى و"قرأ في روايات عالمية ومحلية تحدثت عن الفنادق والنزل وعن ساكنيها وقاطنيها وركابها، أو العابرين بها. وعندما راح يفكر أيها رتنو هل هو الفندق أم النزل أم البانسيون أم الموتيل أم الهوتيل أم ماذا؟ لم يجده. هل هو "بنسيون" نجيب محفوظ في الاسكندرية في روايته الخالدة "ميرامار" ؟ هل فندق العمة العجوز في رائعة الروائي الروسي ديستوفسكي "المقامر" أم هو موتيل "فولوس" في رواية زياد عبد الفتاح "ما علينا".
ليس هذا ولا هذا ولا ذاك، وإنما كلهم جميعهم، اختصرهم الرتنو في مسرح واحد".
وعدا أن الفقرة الأخيرة تخص المكان ركنا من "أركان الرواية"، فإنها تحيلنا إلى المبنى الذهني لروايات زياد عبد الفتاح.
ثمة مبنى ذهني واحد يجمع بين كثير من روايات الكاتب ينطلق منه الروائي في صوغ رواياته وهي أنه يجعل من نفسه مؤلفا روائيا في الرواية التي يكتبها، وهكذا تنشق ذات زياد عبد الفتاح إلى ذاتين؛ ذاته كاتبا روائيا، وذاته المنشقة التي تتخذ لها في الرواية اسما آخر هو هنا أبو شهد سعد الديراوي، وتحيل هذه الذات المنشقة إلى الإحالة إلى زياد عبد الفتاح، فهي منشقة عنه ولكنها متوحدة معه تصوغ عباراته وتتمتع بما تتمتع به من خصائص كتابية تقريبا، وكلتا الشخصيتين تكونان غالبا على صلة، وغالبا ما تبدو الذات المنشقة منسجمة مع ذاتها الأخرى متصالحة معها ومعجبة فيها.
وأنت تقرأ زياد عبد الفتاح تتذكر رأي عباس محمود العقاد في ابن الرومي: "إن أدبه ترجمة لحياته" و"إن ابن الرومي كان يدون تفاصيل حياته في شعره" و .. و ..
وأنت تقرأ زياد عبد الفتاح تجد نفسك أيضا وجهاً لوجه مع مقولات المنهج الوضعي في دراسة الأدب: "وحدة المؤلف والنص" و"كما تكون الشجرة يكون ثمرها" (سانت بيف) و"لا يمكن الفصل بين بلزاك ونصوصه، فلكي نفهم بلزاك .." (هيوبوليت تين) وكانت عبارة (تين) إشارة واضحة إلى أعمال (بلزاك). إنها شيفرة.
وقد يذهب المرء وهو يقرأ "الرتنو" إلى ما هو أبعد، فيتذكر طريقة (إميل زولا) في الكتابة الروائية.
كان (زولا) يوضح طريقته في الكتابة فيقول إنه يدرس الناس كعناصر بسيطة يلاحظهم ويرصد حركاتهم وردود أفعالهم، ويهمه أن يكون طبيعيا صرفا ولا يعتمد على تعاليم كاثوليكية موروثة أو ملكية.
والمؤلف الضمني أبو شهد سعد الديراوي يرصد زوار الفندق ويتابع سلوكهم وتصرفاتهم ويصغي إليهم، بعد أن يحتك بهم، ومثله القاطنون في الفندق "سيتبين الديراوي الأمر ولن يتأخر".
فالرتنو "لا ينام طويلا على أسراره، والقاطنون لا تفوتهم شاردة ولا واردة. يراقبون ويحللون ويزنون الأمور بميزان لا يخطئ" و"تساءل أبو شهد سعد الديراوي وهو يتأمل واحدة واحدة، وواحدا واحدا. كيف تركبت هذه الخلطة المدهشة من البشر في هذا الكوكب الذي اتخذ له اسما عجائبيا "رتنو"، ولسوف يمضي أبو شهد في تفكيك الشخوص، وإعادة تركيبها، وصياغتها من جديد كي يتلقى إجابات يطمئن إليها، وتملؤه بالرضا".
وتتوصل إحدى شخصيات الرواية إلى هذه الخصيصة في طريقته في الكتابة. إن ناهد العطار المواطنة الغزية التي تعرف إليها أبو شهد في "الرتنو" وساعدها ووقف إلى جانبها ونشأت بينهما علاقة قوية، إن ناهد تعجب برواياته وحين تدرس الدكتوراه في جامعة بيرزيت (؟) تختار موضوع "الشخصيات "في رواياته موضوعا لأطروحة الدكتوراه وتنجز رسالتها وتناقشها وتخلص إلى الرأي الآتي: "اكتشفت في رواياتك عمقا وأبعادا إنسانية واجتماعية لم أعثر عليها لدى الآخرين ثم لأنك تمسك بالشخوص من داخلها، تمعن فيها إبحارا، تستخرج ما فيها من خبايا وخفايا وعقد، تخضعها للتحليل النفسي الذي يقودنا إلى فهم أعلى للنزعات والأحلام والمشاعر والأحاسيس، والأوجاع التي ينام عليها الناس و .." والكلام يطول هنا.
إن رواية "الرتنو" ترصد الواقع الفلسطيني في عهد الرئيس أبو مازن، فرواد الفندق فلسطينيون من أبناء رام الله وقطاع غزة ومن الفلسطينيين المقيمين في الشتات، وكل واحد من رواده له همومه ومشاكله وماضيه وعلاقاته الشخصية المعقدة، ويرصد أبو شهد - ومن ورائه زياد عبد الفتاح - هذا كله، وإذا كان في الرواية شيء جديد ومختلف في نتاج الكاتب فهو لا شك يكمن في رصد الواقع الفلسطيني والعلاقات التي بدأت تتعقد بين غزة والضفة، وفي العودة إلى تاريخ البلاد زمن الكنعانيين وعلاقة فلسطين بمصر في حينه، أما بخصوص البناء الفني فالرواية هي نتاج المبنى الذهني لكاتبها، فقارئ روايات زياد سرعان ما يتذكر روايتيه "وما علينا" و"المعبر".
عادل الأسطة
2019-07-21
***
4- أدب العائدين: زياد عبد الفتاح وروايته «المعبر»
وأنا أقرأ رواية القاص والروائي وكاتب المقالة، ابن مدينة طولكرم، زياد عبد الفتاح تذكرت مقولات الناقدين (سانت بيف) و(هيوبوليت تين). لم يكن الأول يفرق بين النص وصاحبه؛ ذاهباً إلى أنه "كما تكون الشجرة يكون ثمرها"، وقد فعل الشيء نفسه الثاني الذي حين درس (بلزاك) لم يفصل بينه وبين رواياته، فحديثه عن روايات (بلزاك) كان حديثاً عن (بلزاك) نفسه أو العكس.
لم أقرأ أعمال زياد عبد الفتاح كلها، فلم يطبع له في الأرض المحتلة إلاّ بعض مجموعاته القصصية، مثل "قمر على بيروت"، وقد بحثت مطولاً عن روايته "وداعاً مريم" التي صدرت في المنفى قبل عودته، بحثت عنها مطولاً، فلم أعثر عليها، ولم أعرف عنها إلاّ ما قرأته عنها من مراجعات، وما قرأته حفّزني على البحث عنها، لأتابع، ما كتبه عن الدكتاتور فيها. وفي فترة متأخرة قرأت له روايتين صدرتا عن "دار الهلال" المصرية، الأولى عنوانها "المعبر" والثانية عنوانها "وما علينا"، ولازمة "ما علينا" التي جعلها عنواناً للرواية تتكرر فيها بكثرة على لسان شخصيات روائية عديدة، وستتكرر أيضاً في روايات أخرى للكاتب، مثل "المعبر"، وإن كان تكرارها أقل، وفي مقالات زياد عبد الفتاح التي كان ينشرها في زاوية "دفاتر الأيام" قبل سنوات، من ذلك مقالته التي نشرها بتاريخ 18/5/2006، وما سبق يعني أن روح زياد تحل في رواياته، وأنه موجود في هذه الشخصية أو تلك، وفي هذه الرواية أو تلك، وإن اختلفت الشخوص وتعددت وإن اختلف الساردون/ الرواة وأسماؤهم وملامحهم. هكذا تقرأ وأنت تقرأ، روايات زياد، هكذا تقرأ زياداً نفسه، كما تقرأ مقالاته التي تعبر عن فكره. وسيحضر زياد شخصياً في بعض رواياته وسيشير إلى كتابة الرواية وإلى قرائها ونقادها أيضاً.
"وبعدين معك؟ أبو الخيزران وفهمنا أنه من تأليف ابن الكنفاني. ثم أتيتنا بالحاوي.. أما سامي نصير فمن تأليف من؟
ـ من تأليف زياد عبد الفتاح.
ـ ومن هو بلا زغرة؟" (وما علينا، ص146)
وسيتساءل عن استقبال النقاد لرواياته، وفي حدود ما أعرف فإن زياداً، هنا على الأقل، في الضفة، لم تثر رواياته جدلاً نقدياً تجعل منه صوتاً روائياً مميزاً يضاف إلى العلامات المميزة في الرواية الفلسطينية (كنفاني، جبرا، حبيبي)، مع أن رواياته تتكئ كثيراً على قراءات الكاتب التي غالباً ما يشير إليها، وهي قراءات من الأدب العالمي والعربي، من همنجواي مروراً بنجيب محفوظ وانتهاءً بغسان كنفاني، وإذا كان محجوب عبد الدايم بطل رواية محفوظ "القاهرة الجديدة" يحضر في "المعبر" ويختار الكاتب اسماً مشابهاً له: محمود عبد الدايم، فإن كنفاني يحضر، بقوة وبكثرة، في و"ما علينا"، والأخيرة تحفل بتناص عجيب مع مضامين أشعار محمود درويش، تلك التي كتبها بعد الخروج من بيروت 1982، وتلك التي ظهرت في بعض دواوينه بعد العام 2000.
تحضر شخصية أبو الخيزران في "ما علينا"، وتحضر نصوص درويش أيضاً فيها: "نزل على بحر" و"مطار أثينا" و"برتقالية"، حتى ليمكن القول إن "ما علينا" هي كتابة روائية لقصيدتي درويش الأوليين بعد الخروج، ولقصيدة "برتقالية" لاحقاً. يكتب زياد عن الخروج من بيروت وعن التيه، وعن البحر والمطارات والسفن وهجرات الفلسطيني، كما يكتب عن الشمس لحظة غروبها أيضاً، وهنا يمكن التساؤل: أيهما كان أسبق في الكتابة عن لحظة الغروب: درويش أم زياد؟ وهل تأثر أحدهما بالآخر؟ أم أن الأمر من باب وقع الحافر على الحافر.
نشر زياد عبد الفتاح "ما علينا" (2004) بعد نشره "المعبر" (2002) وكانت "المعبر" تعبر عن معاناة الفلسطينيين على معبر رفح، وهنا يتشابه زياد مع كتّاب آخرين عبروا عن تجربة العودة في نص واحد غالباً، أو نصين على أكثر تقدير، وعادوا ليكتبوا عن المنافي. كأن صلتهم بالواقع في غزة أو الضفة لما تتجذر بعد، فاتكؤوا على الذاكرة، وربما كان محمود درويش ومحمود شقير استثناء، فالأول كتب، كما ذكرت، عن الحب والموت، ثم عاد ليكتب عن الحصار "حالة حصار" وعن زيارته للجليل، والثاني كتب بعد "ظل آخر للمكان" "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا"، وإن كان عاد مؤخراً ليكتب عن الماضي والماضي البعيد. وزياد هنا مثل يحيى يخلف وخالد درويش. كتب يخلف "نهر يستحم في البحيرة" (1997) عن تجربة العودة، وما عاد يكتب عن واقع الضفة إلاّ نادراً، فروايتاه "ماء السماء" و"جنة ونار" تجري أحداثهما في المنافي، ورواية زياد عبد الفتاح "ما علينا" تجري أحداثها أيضاً في بيروت وأماكن أخرى خرج إليها الفلسطينيون بعد خروجهم من بيروت.
أشرت في كتابة سابقة إلى كتابة العائدين إلى الضفة عن معاناتهم على الجسر: مريد البرغوثي ورشاد أبو شاور ومحمود درويش وغسان زقطان، ولم تتوفر لدي نصوص أتى فيها أصحابها على معاناة أهل القطاع في معبر رفح، وهذا ما يأتي عليه زياد عبد الفتاح في روايته "المعبر" (2002) التي توفرت لي، للأسف ناقصة، حديثاً.
كتب زياد روايته في نهاية 2001 وبداية 2002 ونشرها في أيار 2002، وفيها يتطابق، تقريباً، الزمنان؛ الروائي والكتابي، ومن ثم زمن السرد. إن عبد الله/ زياد يسافر إلى القاهرة في تلك الفترة، إبان انتفاضة الأقصى، عبر معبر رفح، ويصف المعاناة التي يعانيها المسافرون، ولكن الرواية التي غلب موضوع المعبر عليها تأتي على حياة الغزيين في المنافي، ويترك عبد الله الذي يلجأ في سرده إلى الضمير الثاني/ ضمير المخاطب، يترك شخصية فنان فلسطيني شاب ترك قطاع غزة في إجازة قصيرة إلى باريس هو عبد الحميد، يتركه يقص قصته وهكذا يراوح بين أسلوبين سرديين: الضمير الثاني والضمير الأول، هذا الأسلوب ليس جديداً على الرواية العربية والفلسطينية على أية حال ـ ومن خلال عبد الله وعبد الحميد نتعرف على معاناة الفلسطينيين داخل وطنهم (قطاع غزة ومعبر رفح) وخارجه (باريس). حقاً إن الكتابة عن المعبر هي الأكثر مساحة، لكن الكتابة عن باريس تبدو أيضاً لافتة. وكثيراً ما يلجأ عبد الله/ زياد إلى الربط بين الأحداث والشخصيات، حدث يذكر بآخر مشابه، وشخصية تذكر بشخصية أخرى مشابهة، وموت يذكر بموت، والأمثلة على هذا كثيرة، ويمكن ملاحظة هذا في ص180 من الرواية على سبيل المثال. "وكان على العبث أن يأخذ مداه فيخلط شعبان برمضان، ويتداخل في ذهنك وجه جارك الطبيب بوجه عبد الحميد، بما تتخيله من وجوه الخلاسية دينليب في دوربان وصولا الى سيمون في باريس.." (ص 180)
وما دام هناك كتابة عن معبر، وفي 2001، قبل الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، فإن شخصية الآخر الإسرائيلي ستحضر أيضاً في الرواية، هناك مجندات إسرائيليات، وهناك إسرائيليون ضباط ومحققون، ومنهم من له اسم محدد، وهناك طبيب يهودي في المنفى، ولكن الصورة الغالبة للإسرائيليين هي صورة الجنود الذين يقتلون بلا رحمة، ويتفننون في قتل الفلسطيني واصطياده، كما لو أنهم يتسلون، وهؤلاء الجنود شتات بشر جاء إلى فلسطين من أماكن مختلفة، وهذه الصورة للإسرائيليين هي الصورة الغالبة في أدبيات كثيرة للعائدين، وربما شذّ ربعي المدهون عن كثير من الكتّاب في روايته "السيدة من تل أبيب".
عادل الأسطة
2015-08-16
***
5- البحر يغضب: دم على شاطئ بحر غزة
"والبحر يغضب" كما في طبعة القاهرة، و"البحر يغضب" كما في طبعة دار الرعاة/ رام الله، مضافاً هنا عنوان فرعي: "دم على شاطئ بحر غزة"، هي المجموعة القصصية للإعلامي والروائي والكاتب زياد عبد الفتاح، ابن مدينة طولكرم، وقد صدرت هذا العام 2015.
على غلاف طبعة رام الله هناك تجنيس هو "قصص قصيرة" وفي طبعة القاهرة "قصص"، وفي تصدير زياد لها تحت دال "جنون" تجنيسات أخرى: "شهادات حرصت دائماً أن تكون واقعية" و"بدأت أكتب قصصاً وحكايات" و"هذه الحكايات والقصص" و"ماذا بعد، ليس سوى هذه الحكايات الشهادات؟".
هل لبعض ساردي هذه القصص، وهم كثر، وبينهم إسرائيليون، رأي فيما يقصون؟
في نص "مدرسة" الساردة ابنة عشر سنوات، وهي تقول: "هذه ليست شهادة، ولكنها أكثر، هي ما شاهدته بعيني، وما جربته وأصابني، فلم يبق أحد من الآخرين من عائلتي حياً". (ص68).
ما قالته الطفلة عن تجربتها يعيد إلى نص "جنون"، وفيه يكتب زياد عن عودته إلى غزة قبل حرب 2014 بأيام. كان في رام الله، وآثر العودة: "كان في عقلي أنني عانيت حروباً في بيروت وفي الضفة وفي قطاع غزة، فكيف أدع هذه الحرب تمرّ دون أن أكون داخلها. كنت أريدني معايناً ومشاهداً وربما شهيداً".
عاد زياد لا ليقاتل، وإنما ليكتب شاهدا كتابة واقعية فيها بعض خيال يقتضيه القص. وهنا يختلف عن غيره ويتشابه مع آخرين.
في أثناء حرب غزة 2014، كان توفيق وصفي، يكتب لـ «الأيام»، عن أجواء الحرب من غزة نفسها، وكنت أنا من نابلس أكتب عن نصوص كنفاني ودرويش والقاسم وبسيسو ومريد البرغوثي. كنت أكتب من خارج المكان عن نصوص أنجزها المذكورون منذ حزيران 1967 حتى 2009.
كتابة زياد تتسم بطزاجتها، مثل كتابة توفيق وصفي، وقد أهداها الكاتب إلى أرواح الشهداء قبل أن تبرد دماؤهم "أردتهم أمام العالم الظالم وجهاً لوجه... سابقت الريح كي تظهر هذه الحكايات في توقيت خارق طازج يليق بهم".
وللكلام السابق دلالة تذكرنا بسطر محمود درويش في "حالة حصار" (2002): "الشهيد يعلمني: لا جماليّ خارج حريتي". ضحى زياد بجماليات النص ليعبر عما في نفسه، حتى لو كان هناك خلل طارئ في بنية النص.
هل يمكن أن يكون الكاتب محايداً؟
إنه وقت الحرب والتدمير، وهو فلسطيني، والحرب بين شعبه وعدو شعبه. في "حكاية حزينة... ولكن" (ص25/26)، ينهي القاص القصة بالتالي:
"ملاحظة من الكاتب: سوف أبدل الخاتمة، فالتراجيديا التي أمامنا فوق أي احتمالي. العاشق لم يمت، عثروا عليه تحت الركام، ولم يصب بأي سوء."
والحكاية هي حكاية طالب جامعي وطالبة جامعية لم يلتفتا لبعضهما في البداية، ومع الأيام أحبّا بعضهما، وتأتي الحرب لتدمر.
هل يمكن فصل زياد عبد الفتاح عن نصه/ نصوصه؟ "كما تكون الشجرة يكون ثمرها" قال الناقد (سانت بيف) ولم يميز (تين) بين (بلزاك) ونصوصه. والكاتب حاضر في نصوصه حضوراً لافتاً. في قصة "البحر ينام.. والبحر يغضب" يتحاور الجد مع حفيدته ناي التي تسأله: هل يغضب البحر؟، وناي ذكرت في إهداء نص آخر هو "ورق حرير": "... ثم إلى ناي حفيدتي..".
وكما كان الإسرائيلي حاضراً على أرض غزة، فقد حضر في القصص. من هو هذا الإسرائيلي؟ هل هو واقعي أم متخيل؟ وهل يروي عنه زياد أم يتركه يعبر عن نفسه؟ في قصة "حوار مع طيار"، وقد يتذكر المرء هنا قصيدة درويش" جندي يحلم بالزنابق البيضاء" وقصة أكرم هنية "زمن حسان"، قمة حلم متخيل: يتخيل زوج المرأة أنه يحاور في الحلم طيارا. والطيار شلومو يقصف، ومع ذلك يبكي، وهنا تقول الزوجة: "إنك مجنون فعلاً يا حبيبي، تقول إن الطيار قد بكى". هل يغضب البحر؟
عادل الأسطة
2015-11-29
***
6- تشابه التجربة ... تشابه الكتابة
في كتابي "سؤال الهُويّة: فلسطينية الأدب والأديب" (2000) أتيت على هذه الفكرة، وسأقرأ، بعد ذلك، في مقابلة مع الشاعر محمود درويش رأياً جميلاً ومقنعاً عن تجربته الكتابية قبل صدور ديوانه "آخر الليل" (1967) وبعده، وقبل خروجه من الأرض المحتلة وبعده.
كان رفاق الشاعر في الحزب الشيوعي بدؤوا يلاحظون تطوره جمالياً وابتعاده عن التعبير المباشر وجنوحه للرمز، أي استخدام الدال الواحد لمدلولات عديدة، قد يصعب فهمها على القارئ العادي، وكان هذا القارئ، في فلسطين، ذا ثقافة متواضعة، وربما كان ريفياً يصغي إلى القصائد أكثر مما يقرؤها، وهو الذي كان، ابتداء، في "أوراق الزيتون" (1964) في ذهن درويش، حين كتب: "قصائدنا بلا لون بلا طعم/ إذا لم يفهم البسطا معانيها.... إلخ".
وأذكر مراجعة نقدية للشاعر توفيق زياد، كتبت عنها مقالة عنوانها "توفيق زياد ناقداً"، تناول فيها ديواناً شعرياً لدرويش، وظّف فيه الأخير دال القمر توظيفاً رمزياً لم يرق لزياد، فخاطبه قائلاً ما معناه: عد إلى ما كنت، ولا تجنح إلى الرمز.
وفيما بعد سيقول درويش عن هذه الظاهرة: لو بقيت كما كنت، وكما طالبني الرفاق، لما كان هناك ضرورة لكتابة أي ديوان بعد "أوراق الزيتون" و"عاشق من فلسطين".
وسيضيف: قبل خروجي من الأرض المحتلة، كنا، نحن شعراء المقاومة، نكتب قصيدة واحدة.
مؤخراً، وأنا أقرأ كتاب زياد عبد الفتاح "والبحر يغضب" (2015) تذكرت بعض قصائد الشاعر الذي بالكاد نجا منه ومن التأثر بأشعاره كاتب فلسطيني. وتأثر زياد عبد الفتاح بدرويش، أو تشابه كتابته وكتابة درويش، تبدو في نصوص مبكرة، ففي "ما علينا" (2004) يظهر حضور درويش لافتاً ـ لا أفصل بين درويش وأشعاره.
كان الشاعر في "أثر الفراشة: يوميات" (2008) صدر كتابه بنص عنوانه "البنت/ الصرخة"، وقد استوحاه من مأساة الفتاة الغزية هدى أبو غالية التي كانت مع عائلتها على شاطئ البحر، وكان أن قصف الإسرائيليون العائلة، فاستشهد أفرادها ونجت هدى، ولا ينسى من شاهد الجريمة صرخة هدى: يابا. وقد كتب درويش:
على شاطئ البحر بنت. وللبنت أهل
وللأهل بيت. وللبيت نافذتان وباب...
وفي البحر بارجة تتسلّى
بصيد المشاة على شاطئ البحر:
أربعة، خمسة، سبعة
يسقطون على الرمل، والبنت تنجو قليلاً
لأن يداً من ضباب
يداً ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبي
يا أبي: قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا..
وستتكرّر الحروب، وسيتكرّر المشهد أيضاً. كأننا لا نقول إلاّ معاداً مكروراً، لأننا كأننا نتناسخ فيمن سبقونا. وإذا كان (يونج) قال: إن الآثار الأدبية ما هي إلاّ أساطير تتردّد في حياة البشر"، فإنه يجوز لنا أن نقول: إن التشابه في الكتابة يعود إلى التشابه في الأحداث، وإن تكرار الحدث، بصورة أو بأخرى، سيؤدي إلى تشابه في الكتابة.
هل فارق سليم بركات في روايته "فقهاء الظلام" (1986) حين جعل بطله محيميد يعيش يوماً واحداً؟ أحياناً نبدو كأننا نعيش يوماً واحداً. كأننا جبر من بطن أمه إلى القبر.
شهدت غزة ثلاث حروب، ولا شك أن هناك أحداثا تكررت وتشابهت أيضاً. هل كفّ بعض الأطفال عن الخروج من البيت إلى الشاطئ للاستمتاع بمنظر البحر؟
في قصة "حفل إعدام" من قصص زياد عبد الفتاح التي صوّرت بعض ما يجري في الحرب الدائرة، في العام 2014، ما يُذكِّر بقصة هدى أبو غالية، وبقصيدة محمود درويش.
في الحرب يتنادى الأطفال الذين أصابهم الملل ليخرجوا إلى الشاطئ. لقد ملوا من الحصار واشتاقوا إلى الملح واليود وصفق الموج والأسماك الصغيرة والكبيرة وألوانها المدهشة.
وسيطلق الضابط شلومو القذائف ليموت الأطفال كلهم، وحين يحاول اثنان منهم الهرب، يواصل شلومو إطلاق القذائف ليقتلهما.
تكررت التجربة، وتشابهت الحكاية، و.. و.. تشابهت الكتابة.
عادل الأسطة
2015-12-06
***
==================
1- الكاتب والروائي زياد عبدالفتاح
2- زياد عبد الفتاح: «محمود درويش ... صاقل الماس»
3- زياد عبد الفتاح في روايته الجديدة «الرتنو»
4- أدب العائدين: زياد عبد الفتاح وروايته «المعبر»
5- البحر يغضب: دم على شاطئ بحر غزة
6- تشابه التجربة ... تشابه الكتابة
اليوم زرت رام الله والتقيت بالكاتب والروائي زياد عبد الفتاح المقيم في أثناء زيارته رام الله في فندق الرتنو فيها ، ومن أجوائه كتب روايته التي حملت عنوان " الرتنو " .
كلما زار زياد رام الله تواعدنا ، وكان لقاؤنا الأول في جامعة النجاح الوطنية حيث ناقشنا له مجموعة " والبحر يغضب " عن حرب غزة في العقد الماضي ، وكان زياد في الحرب مقيما في غزة .
زرنا معا معرض الكتاب وله في جناح مكتبة كل شيء كتابان ؛ رواية " الرتنو " وكتاب " محمود درويش : صاقل الماس " واستغربت كيف لم تعقد له أمسية أو حفل توقيع .
زياد عبد الفتاح من مواليد ١٩٣٩ - يعني هو في الرابعة والثمانين - أمد الله في عمره .
في صالة الفندق تجادلنا ؛ هو وضيفه عمر الغول وأنا ، حول الأدب الفلسطيني ورموزه ، وسألني زياد لم لا أتناول كتابا آخرين غير محمود درويش والياس خوري
Khoury Elias
وغسان كنفاني واميل حبيبي .
ألا يوجد كتاب آخرون ؟ لم لا أشجع المواهب الشابة ؟
أرسلت إلى وزير الثقافة عاطف ابوسيف ووكيل الوزارة عبد السلام عطاري كتابين جمعت فيهما ما كتبته من مقالات ودراسات عن الروائيين اللاحقين للأسماء الوارد ذكرها . لقد كتبت عن أحمد حرب وأحمد رفيق عوض وعباد يحيى وعاطف أبو سيف ومحمود شقير وفاروق وادي وإبراهيم نصرالله و
د. إبراهيم السعافين وسعاد العامري ووداد البرغوثي وسهيل كيوان Sohaill Kiwana وليانة بدر وسحر خليفة وأكرم هنية وأكرم مسلم وجمال أبو غيدا وحزامه حبايب وعزت الغزاوي و أحمد أبو سليم وصافي اسماعيل صافي Safi Ismael Safi ... وربعي المدهون وغسان زقطان وزكريا محمد وحنان باكير Hanan Bakir وسامية عيسى و... و ... آخرين كثر .
السؤال هو :
- ألا يوجد بين السابقين من تجاوز كنفاني وحبيبي وجبرا ؟
ربما وجب أن ننظر في الأسئلة التي يثيرها الروائيون الجدد وفي الشكل الفني الذي يكتبون فيه ، وربما وجب أن نثير سؤال جدوى الأدب بعامة في زمننا .
كثر الروائيون وكثرت الروايات ولا أظن أن بوسع ناقد واحد الالمام بالروائيين كلهم وبالروايات كلها .
ومرة كتب مظفر النواب :
" والبلاد إذا سمنت وارمة " .
إننا نجتهد ما أمكن . ولكثرة الكتب يحار المرء ماذا يشتري وقد لا يشتري لهذا أي كتاب .
عندما أتينا على ذكر الشعر قلت لزياد :
- لا أدري لماذا ينتابني شعور بأن الشعر مات مع محمود درويش .
مساء الخير عزيزي زياد عبد الفتاح Ziad Abedelfattah
ولقد سعدت بلقائك وأمد الله في عمرك .
مساء الخير
خربشات عادل الاسطة
١٢ / ٩ / ٢٠٢٣
***
2- زياد عبد الفتاح: «محمود درويش ... صاقل الماس»
"محمود درويش صاقل الماس" عنوان الكتاب الجديد لزياد عبد الفتاح، وهو كتابه السادس عشر، ويرى مؤلفه أنه أهم كتبه ويقول، إنه لم يفرح لصدور كتاب له كما فرح لهذا الكتاب، وكان زياد نشر كتابه، على حلقات، في صفحته الخاصة الرسمية (فيسبوك)، وكنت أتابع الحلقات الـ 68، وأعقب على قسم منها، مبدياً رأيي في بعض الآراء والتواريخ والمناسبات، وكان يقرأ تعقيباتي ونتحاور حولها، فقد يأخذ بها ويشكرني وقد يبدي رأيه مبينا أنه على صواب وأكثر دقة.
صدر الكتاب الذي يقع في 303 صفحات عن مكتبة كل شيء في حيفا لصاحبها صالح عباسي، وأدرج تاريخ الإصدار العام 2020.
صدر زياد كتابه بقول السهروردي:
"أبداً تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح"،
وحين تبدأ بقراءة الكتاب، وحتى تفرغ منه، تعرف مدى حنين الكاتب إلى المكتوب عنه - أي محمود درويش، وأن وصالهما هو ريحان الأرواح وهو الراح. وأهدى زياد كتابه "إلى ناي حفيدتي، التي لم تشهد عصر محمود درويش، علها تقرأه شعرا ونثرا، تتأمله وتعاينه قيمة وقامة تستمد منها طاقة وإبداعاً فادحاً في الغناء" وواضح أن الكاتب لم ينج من تأثير قصيدة درويش "لاعب النرد"؛ درويش الذي ولد لأسرة لا تجيد الغناء، وسيمتد تأثر الكاتب بقصيدة الشاعر المذكورة إلى متن الكتاب وستحضر طاولة النرد والقصيدة في حلقات كثيرة، وربما أضاءت كتابة زياد بعض جوانب القصيدة.
قبل صفحة الإهداء يدرج الكاتب صورة إهداء من محمود درويش بخط يده
"إلى
زياد عبد الفتاح
سارق القلوب،
وفي مقدمتها قلبي.
محمود درويش"
والكتاب يقول إن الشاعر أيضاً سرق قلب زياد، فالكتاب مكتوب ممن قلبه يهيم إعجاباً وحباً بالشاعر. إنه كتابة متعاطفة إلى أبعد الحدود.
يتذكر دارس النقد الأدبي، وهو يقرأ الكتاب، منهج الناقد الفرنسي (سانت بيف) الذي يعرف بـ"صانع الصور" أو التماثيل، حيث كان يرسم صوراً لمشاهير معاصريه من الكتاب والنساء ورجال السياسة، ويعتمد في رسمه صورهم على جمع المعلومات من معارفهم وأهلهم وأصدقائهم وأعدائهم وكل من كان له صلة بهم، وهو ما يعرف بـ"وعاء الكاتب".
ولمن يريد أن يرسم صورة لمحمود درويش، متبعاً منهج (بيف)، فإن كتاب زياد ذو فائدة عظيمة له، فلقد كان مقرباً من الشاعر وسرد عنه الكثير من دقائق حياته وتفاصيلها. إنه يضاف إلى سلسلة من الكتابات التي كتبها أصدقاء الشاعر المقربون منه وأضاؤوا فيها جوانب من حياته الشخصية التي ألقت في الوقت نفسه الضوء على بعض قصائده. وللأسف فإن بعض هذه الكتابات حوربت بقوة من جهات صلتها بالنقد الأدبي والمناهج النقدية ضعيفة. هنا أشير إلى مقالات رنا قباني في "القدس العربي". إنها مقالات تضيء بعض ما غمض في أشعار الشاعر ولا يمكن شرحها شرحا علميا وفق نظرية التفسير والتأويل إلا بالاتكاء على معلومات خارجية، وما احتجت عليه بعض الجهات يعد ظاهرة مألوفة ومقبولة في النقد العالمي.
قبل أن يصدر المؤلف كتابه طلب مني أن أقترح عليه عدة عناوين لكتابه لينظر فيها، فاقترحت العناوين الآتية:
"ظلال الذاكرة: زياد عبد الفتاح ومحمود درويش/ ظلال الشاعر: محمود درويش في الذاكرة/ ذاكرة الأيام: محمود درويش كما عرفته/ صورة الشاعر: محمود درويش في ذاكرتي / شاعر في الذاكرة .. شاعر لا يموت" ويبدو أن أيا منها لم يرق له.
كنت وأنا أفكر في العنوان أنظر في مضمون الكتابة وفي جنسها الأدبي الذي تنتمي إليه، وقضية التجنيس شغلت ذهن الكاتب في مواطن كثيرة من كتابه لدرجة أن حيرته تبدو واضحة. "وإنني وأنا أكتب بحب لا يقدر عليه سواي، أتساءل الآن في هذه الحلقة من الرواية أو الشهادة" .... "هل لأنني رسام" "ولا أدري لماذا أنا الذي أكتب عن درويش رواية وشهادة ورؤية" ... الخ. وكان الكاتب وهو يكتب بحب وتعاطف يكتب بقدر من الانفعال والسيولة وكان يندهش مما يكتب، ما جعله يتساءل "من أين تأتيني الكتابة". ولما كان ذا تجربة فقد اقترح عليه بعض أصدقائه من الأساتذة الجامعيين في القاهرة أن يكتب سيرته.
وأنا أقرأ الحلقات كنت ألتفت إلى موضوعات عديدة مهمة شغلت أذهان الدارسين، مثل علاقة محمود درويش بياسر عرفات وعلاقته بريتا وأيضا علاقته بأدباء المقاومة وبخاصة سميح القاسم.
يأتي زياد عبد الفتاح على الموضوعات السابقة ويبدي وجهة نظره فيها هو الذي كان قريباً من ياسر عرفات ومقرباً منه، وأعتقد أن الكتاب سيضيء هذا الجانب، ولكن لا بد من الإصغاء هنا إلى آخرين كانوا قريبين من الشاعر وياسر عرفات، فعلينا ألا ننسى أن زياد يسرد ما ظل عالقا في الذاكرة، وبعض القضايا حدثت قبل أربعين عاماً. لقد سألت شخصياً زياد عن قصيدة "رحلة المتنبي إلى مصر" وهي في صميم العلاقة الجوهرية بين الشاعر والسياسي واستمعت إلى رواية مختلفة عن الرواية التي أعرف. هنا طبعا يمكن أن نسأل الياس خوري الذي كان جزءا من الحكاية، ومازال على قيد الحياة.
ما أوردته عما ورد عن العلاقة بين الشاعر والسياسي يمكن أن أورده بخصوص علاقة درويش بالقاسم والرسائل المتبادلة بينهما، فلقد كتب زياد عن رسائل الود التي جمعها اميل حبيبي في كتاب "الرسائل"، ولم يأت زياد على رسائل الخصام التي كتبت بعد خروج الشاعر من فلسطين في ١٩٧٠. وأما موضوع ريتا وهو موضوع شغل الدارسين فأعتقد أنه مازال بحاجة إلى تدقيق أكثر، بخاصة بعد صدور كتاب امتياز دياب "ميلاد الكلمات".
ومرة أخرى أكتب: لقد كتب زياد عبد الفتاح عن محمود درويش وعلاقته به بحب وتعاطف كبيرين، وحجته طبعاً، عدا حبه للشاعر واحترامه له، أن محمود درويش رمز فلسطيني ويجب أن نحترم رموزنا وألا نسيء إليهم، فنحن بحاجة إلى رموز.
عادل الأسطة
2019-12-15
***
3- زياد عبد الفتاح في روايته الجديدة «الرتنو»
آخر روايات الفلسطيني زياد عبد الفتاح هي رواية "الرتنو" الصادرة في العام 2018 عن دار النشر "كل شيء" في حيفا، وتقع الرواية التي صمم لوحة غلافها الفنان حسني رضوان في 322 صفحة.
ويبدو عنوان الرواية غريبا، وعموما فإن النص سرعان ما يزيل هذه الغرابة، هذا إذا لم تكن التقيت بالكاتب في فندق "الرتنو" في رام الله، وإن كنت التقيت به هناك فإنك لا تستغرب وستعرف المدلول، ولكن الغرابة سوف تلازمك كما لازمت الروائي، فلماذا اختار صاحب الفندق هذا الاسم عنوانا لفندقه ولم يختر اسما آخر.
لتوضيح معنى "الرتنو" عليك أن تقرأ تاريخ فلسطين القديم في كتب التاريخ أو عليك أن تقرأ الرواية التي تمزج بين الواقع والتاريخ.
ولمن يستعجل معرفة المعنى فيمكن أن يبدأ بقراءة الصفحات الآتية: (26/ 45 / 78 / 81 / 186) ففيها إضاءات لمدلول الدال، علما أنها ليست الصفحات الوحيدة التي ترصد تاريخ فلسطين زمن مملكة "الرتنو".
قبل أن يحل سعد الديراوي في فندق "رتنو"، الذي نصح به أحد أصدقائه الذي استقر فيه شهرا، سأله لماذا رتنو وماذا يعني ذلك الاسم ؟ بدا صاحبه متفاجئا، كما لو أنه تلقى صفعة سؤالا. كان عليه أن يفطن له ويفكر فيه. قال: "تصور أنني لم أتوقف عند الاسم، على الرغم من غرابته، ولم أسأل".
ولسوف تتوصل منذ الصفحات الأولى من الرواية إلى أن الفندق هو المكان الروائي الرئيس، ولسوف تتذكر وأنت تقرأ الرواية رواية نجيب محفوظ "ميرامار" فإن لم تتذكرها ذكرك المؤلف الضمني بها وبغيرها من الروايات العالمية والعربية والفلسطينية التي جعلت من فندق ما بعداً مكانياً لها.
في الصفحة 53 يسرد المؤلف الضمني الفقرة الآتية:
"فيما هو يواصل الكتابة عن فندق "رتنو"، تساءل في أي خانة يضعه".
وتحدث هذا المؤلف الضمني عن علاقته بالفنادق التي عرفها أو تلك التي قرأ عنها، فقد أقام في فنادق متفاوتة القيمة والمستوى و"قرأ في روايات عالمية ومحلية تحدثت عن الفنادق والنزل وعن ساكنيها وقاطنيها وركابها، أو العابرين بها. وعندما راح يفكر أيها رتنو هل هو الفندق أم النزل أم البانسيون أم الموتيل أم الهوتيل أم ماذا؟ لم يجده. هل هو "بنسيون" نجيب محفوظ في الاسكندرية في روايته الخالدة "ميرامار" ؟ هل فندق العمة العجوز في رائعة الروائي الروسي ديستوفسكي "المقامر" أم هو موتيل "فولوس" في رواية زياد عبد الفتاح "ما علينا".
ليس هذا ولا هذا ولا ذاك، وإنما كلهم جميعهم، اختصرهم الرتنو في مسرح واحد".
وعدا أن الفقرة الأخيرة تخص المكان ركنا من "أركان الرواية"، فإنها تحيلنا إلى المبنى الذهني لروايات زياد عبد الفتاح.
ثمة مبنى ذهني واحد يجمع بين كثير من روايات الكاتب ينطلق منه الروائي في صوغ رواياته وهي أنه يجعل من نفسه مؤلفا روائيا في الرواية التي يكتبها، وهكذا تنشق ذات زياد عبد الفتاح إلى ذاتين؛ ذاته كاتبا روائيا، وذاته المنشقة التي تتخذ لها في الرواية اسما آخر هو هنا أبو شهد سعد الديراوي، وتحيل هذه الذات المنشقة إلى الإحالة إلى زياد عبد الفتاح، فهي منشقة عنه ولكنها متوحدة معه تصوغ عباراته وتتمتع بما تتمتع به من خصائص كتابية تقريبا، وكلتا الشخصيتين تكونان غالبا على صلة، وغالبا ما تبدو الذات المنشقة منسجمة مع ذاتها الأخرى متصالحة معها ومعجبة فيها.
وأنت تقرأ زياد عبد الفتاح تتذكر رأي عباس محمود العقاد في ابن الرومي: "إن أدبه ترجمة لحياته" و"إن ابن الرومي كان يدون تفاصيل حياته في شعره" و .. و ..
وأنت تقرأ زياد عبد الفتاح تجد نفسك أيضا وجهاً لوجه مع مقولات المنهج الوضعي في دراسة الأدب: "وحدة المؤلف والنص" و"كما تكون الشجرة يكون ثمرها" (سانت بيف) و"لا يمكن الفصل بين بلزاك ونصوصه، فلكي نفهم بلزاك .." (هيوبوليت تين) وكانت عبارة (تين) إشارة واضحة إلى أعمال (بلزاك). إنها شيفرة.
وقد يذهب المرء وهو يقرأ "الرتنو" إلى ما هو أبعد، فيتذكر طريقة (إميل زولا) في الكتابة الروائية.
كان (زولا) يوضح طريقته في الكتابة فيقول إنه يدرس الناس كعناصر بسيطة يلاحظهم ويرصد حركاتهم وردود أفعالهم، ويهمه أن يكون طبيعيا صرفا ولا يعتمد على تعاليم كاثوليكية موروثة أو ملكية.
والمؤلف الضمني أبو شهد سعد الديراوي يرصد زوار الفندق ويتابع سلوكهم وتصرفاتهم ويصغي إليهم، بعد أن يحتك بهم، ومثله القاطنون في الفندق "سيتبين الديراوي الأمر ولن يتأخر".
فالرتنو "لا ينام طويلا على أسراره، والقاطنون لا تفوتهم شاردة ولا واردة. يراقبون ويحللون ويزنون الأمور بميزان لا يخطئ" و"تساءل أبو شهد سعد الديراوي وهو يتأمل واحدة واحدة، وواحدا واحدا. كيف تركبت هذه الخلطة المدهشة من البشر في هذا الكوكب الذي اتخذ له اسما عجائبيا "رتنو"، ولسوف يمضي أبو شهد في تفكيك الشخوص، وإعادة تركيبها، وصياغتها من جديد كي يتلقى إجابات يطمئن إليها، وتملؤه بالرضا".
وتتوصل إحدى شخصيات الرواية إلى هذه الخصيصة في طريقته في الكتابة. إن ناهد العطار المواطنة الغزية التي تعرف إليها أبو شهد في "الرتنو" وساعدها ووقف إلى جانبها ونشأت بينهما علاقة قوية، إن ناهد تعجب برواياته وحين تدرس الدكتوراه في جامعة بيرزيت (؟) تختار موضوع "الشخصيات "في رواياته موضوعا لأطروحة الدكتوراه وتنجز رسالتها وتناقشها وتخلص إلى الرأي الآتي: "اكتشفت في رواياتك عمقا وأبعادا إنسانية واجتماعية لم أعثر عليها لدى الآخرين ثم لأنك تمسك بالشخوص من داخلها، تمعن فيها إبحارا، تستخرج ما فيها من خبايا وخفايا وعقد، تخضعها للتحليل النفسي الذي يقودنا إلى فهم أعلى للنزعات والأحلام والمشاعر والأحاسيس، والأوجاع التي ينام عليها الناس و .." والكلام يطول هنا.
إن رواية "الرتنو" ترصد الواقع الفلسطيني في عهد الرئيس أبو مازن، فرواد الفندق فلسطينيون من أبناء رام الله وقطاع غزة ومن الفلسطينيين المقيمين في الشتات، وكل واحد من رواده له همومه ومشاكله وماضيه وعلاقاته الشخصية المعقدة، ويرصد أبو شهد - ومن ورائه زياد عبد الفتاح - هذا كله، وإذا كان في الرواية شيء جديد ومختلف في نتاج الكاتب فهو لا شك يكمن في رصد الواقع الفلسطيني والعلاقات التي بدأت تتعقد بين غزة والضفة، وفي العودة إلى تاريخ البلاد زمن الكنعانيين وعلاقة فلسطين بمصر في حينه، أما بخصوص البناء الفني فالرواية هي نتاج المبنى الذهني لكاتبها، فقارئ روايات زياد سرعان ما يتذكر روايتيه "وما علينا" و"المعبر".
عادل الأسطة
2019-07-21
***
4- أدب العائدين: زياد عبد الفتاح وروايته «المعبر»
وأنا أقرأ رواية القاص والروائي وكاتب المقالة، ابن مدينة طولكرم، زياد عبد الفتاح تذكرت مقولات الناقدين (سانت بيف) و(هيوبوليت تين). لم يكن الأول يفرق بين النص وصاحبه؛ ذاهباً إلى أنه "كما تكون الشجرة يكون ثمرها"، وقد فعل الشيء نفسه الثاني الذي حين درس (بلزاك) لم يفصل بينه وبين رواياته، فحديثه عن روايات (بلزاك) كان حديثاً عن (بلزاك) نفسه أو العكس.
لم أقرأ أعمال زياد عبد الفتاح كلها، فلم يطبع له في الأرض المحتلة إلاّ بعض مجموعاته القصصية، مثل "قمر على بيروت"، وقد بحثت مطولاً عن روايته "وداعاً مريم" التي صدرت في المنفى قبل عودته، بحثت عنها مطولاً، فلم أعثر عليها، ولم أعرف عنها إلاّ ما قرأته عنها من مراجعات، وما قرأته حفّزني على البحث عنها، لأتابع، ما كتبه عن الدكتاتور فيها. وفي فترة متأخرة قرأت له روايتين صدرتا عن "دار الهلال" المصرية، الأولى عنوانها "المعبر" والثانية عنوانها "وما علينا"، ولازمة "ما علينا" التي جعلها عنواناً للرواية تتكرر فيها بكثرة على لسان شخصيات روائية عديدة، وستتكرر أيضاً في روايات أخرى للكاتب، مثل "المعبر"، وإن كان تكرارها أقل، وفي مقالات زياد عبد الفتاح التي كان ينشرها في زاوية "دفاتر الأيام" قبل سنوات، من ذلك مقالته التي نشرها بتاريخ 18/5/2006، وما سبق يعني أن روح زياد تحل في رواياته، وأنه موجود في هذه الشخصية أو تلك، وفي هذه الرواية أو تلك، وإن اختلفت الشخوص وتعددت وإن اختلف الساردون/ الرواة وأسماؤهم وملامحهم. هكذا تقرأ وأنت تقرأ، روايات زياد، هكذا تقرأ زياداً نفسه، كما تقرأ مقالاته التي تعبر عن فكره. وسيحضر زياد شخصياً في بعض رواياته وسيشير إلى كتابة الرواية وإلى قرائها ونقادها أيضاً.
"وبعدين معك؟ أبو الخيزران وفهمنا أنه من تأليف ابن الكنفاني. ثم أتيتنا بالحاوي.. أما سامي نصير فمن تأليف من؟
ـ من تأليف زياد عبد الفتاح.
ـ ومن هو بلا زغرة؟" (وما علينا، ص146)
وسيتساءل عن استقبال النقاد لرواياته، وفي حدود ما أعرف فإن زياداً، هنا على الأقل، في الضفة، لم تثر رواياته جدلاً نقدياً تجعل منه صوتاً روائياً مميزاً يضاف إلى العلامات المميزة في الرواية الفلسطينية (كنفاني، جبرا، حبيبي)، مع أن رواياته تتكئ كثيراً على قراءات الكاتب التي غالباً ما يشير إليها، وهي قراءات من الأدب العالمي والعربي، من همنجواي مروراً بنجيب محفوظ وانتهاءً بغسان كنفاني، وإذا كان محجوب عبد الدايم بطل رواية محفوظ "القاهرة الجديدة" يحضر في "المعبر" ويختار الكاتب اسماً مشابهاً له: محمود عبد الدايم، فإن كنفاني يحضر، بقوة وبكثرة، في و"ما علينا"، والأخيرة تحفل بتناص عجيب مع مضامين أشعار محمود درويش، تلك التي كتبها بعد الخروج من بيروت 1982، وتلك التي ظهرت في بعض دواوينه بعد العام 2000.
تحضر شخصية أبو الخيزران في "ما علينا"، وتحضر نصوص درويش أيضاً فيها: "نزل على بحر" و"مطار أثينا" و"برتقالية"، حتى ليمكن القول إن "ما علينا" هي كتابة روائية لقصيدتي درويش الأوليين بعد الخروج، ولقصيدة "برتقالية" لاحقاً. يكتب زياد عن الخروج من بيروت وعن التيه، وعن البحر والمطارات والسفن وهجرات الفلسطيني، كما يكتب عن الشمس لحظة غروبها أيضاً، وهنا يمكن التساؤل: أيهما كان أسبق في الكتابة عن لحظة الغروب: درويش أم زياد؟ وهل تأثر أحدهما بالآخر؟ أم أن الأمر من باب وقع الحافر على الحافر.
نشر زياد عبد الفتاح "ما علينا" (2004) بعد نشره "المعبر" (2002) وكانت "المعبر" تعبر عن معاناة الفلسطينيين على معبر رفح، وهنا يتشابه زياد مع كتّاب آخرين عبروا عن تجربة العودة في نص واحد غالباً، أو نصين على أكثر تقدير، وعادوا ليكتبوا عن المنافي. كأن صلتهم بالواقع في غزة أو الضفة لما تتجذر بعد، فاتكؤوا على الذاكرة، وربما كان محمود درويش ومحمود شقير استثناء، فالأول كتب، كما ذكرت، عن الحب والموت، ثم عاد ليكتب عن الحصار "حالة حصار" وعن زيارته للجليل، والثاني كتب بعد "ظل آخر للمكان" "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا"، وإن كان عاد مؤخراً ليكتب عن الماضي والماضي البعيد. وزياد هنا مثل يحيى يخلف وخالد درويش. كتب يخلف "نهر يستحم في البحيرة" (1997) عن تجربة العودة، وما عاد يكتب عن واقع الضفة إلاّ نادراً، فروايتاه "ماء السماء" و"جنة ونار" تجري أحداثهما في المنافي، ورواية زياد عبد الفتاح "ما علينا" تجري أحداثها أيضاً في بيروت وأماكن أخرى خرج إليها الفلسطينيون بعد خروجهم من بيروت.
أشرت في كتابة سابقة إلى كتابة العائدين إلى الضفة عن معاناتهم على الجسر: مريد البرغوثي ورشاد أبو شاور ومحمود درويش وغسان زقطان، ولم تتوفر لدي نصوص أتى فيها أصحابها على معاناة أهل القطاع في معبر رفح، وهذا ما يأتي عليه زياد عبد الفتاح في روايته "المعبر" (2002) التي توفرت لي، للأسف ناقصة، حديثاً.
كتب زياد روايته في نهاية 2001 وبداية 2002 ونشرها في أيار 2002، وفيها يتطابق، تقريباً، الزمنان؛ الروائي والكتابي، ومن ثم زمن السرد. إن عبد الله/ زياد يسافر إلى القاهرة في تلك الفترة، إبان انتفاضة الأقصى، عبر معبر رفح، ويصف المعاناة التي يعانيها المسافرون، ولكن الرواية التي غلب موضوع المعبر عليها تأتي على حياة الغزيين في المنافي، ويترك عبد الله الذي يلجأ في سرده إلى الضمير الثاني/ ضمير المخاطب، يترك شخصية فنان فلسطيني شاب ترك قطاع غزة في إجازة قصيرة إلى باريس هو عبد الحميد، يتركه يقص قصته وهكذا يراوح بين أسلوبين سرديين: الضمير الثاني والضمير الأول، هذا الأسلوب ليس جديداً على الرواية العربية والفلسطينية على أية حال ـ ومن خلال عبد الله وعبد الحميد نتعرف على معاناة الفلسطينيين داخل وطنهم (قطاع غزة ومعبر رفح) وخارجه (باريس). حقاً إن الكتابة عن المعبر هي الأكثر مساحة، لكن الكتابة عن باريس تبدو أيضاً لافتة. وكثيراً ما يلجأ عبد الله/ زياد إلى الربط بين الأحداث والشخصيات، حدث يذكر بآخر مشابه، وشخصية تذكر بشخصية أخرى مشابهة، وموت يذكر بموت، والأمثلة على هذا كثيرة، ويمكن ملاحظة هذا في ص180 من الرواية على سبيل المثال. "وكان على العبث أن يأخذ مداه فيخلط شعبان برمضان، ويتداخل في ذهنك وجه جارك الطبيب بوجه عبد الحميد، بما تتخيله من وجوه الخلاسية دينليب في دوربان وصولا الى سيمون في باريس.." (ص 180)
وما دام هناك كتابة عن معبر، وفي 2001، قبل الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، فإن شخصية الآخر الإسرائيلي ستحضر أيضاً في الرواية، هناك مجندات إسرائيليات، وهناك إسرائيليون ضباط ومحققون، ومنهم من له اسم محدد، وهناك طبيب يهودي في المنفى، ولكن الصورة الغالبة للإسرائيليين هي صورة الجنود الذين يقتلون بلا رحمة، ويتفننون في قتل الفلسطيني واصطياده، كما لو أنهم يتسلون، وهؤلاء الجنود شتات بشر جاء إلى فلسطين من أماكن مختلفة، وهذه الصورة للإسرائيليين هي الصورة الغالبة في أدبيات كثيرة للعائدين، وربما شذّ ربعي المدهون عن كثير من الكتّاب في روايته "السيدة من تل أبيب".
عادل الأسطة
2015-08-16
***
5- البحر يغضب: دم على شاطئ بحر غزة
"والبحر يغضب" كما في طبعة القاهرة، و"البحر يغضب" كما في طبعة دار الرعاة/ رام الله، مضافاً هنا عنوان فرعي: "دم على شاطئ بحر غزة"، هي المجموعة القصصية للإعلامي والروائي والكاتب زياد عبد الفتاح، ابن مدينة طولكرم، وقد صدرت هذا العام 2015.
على غلاف طبعة رام الله هناك تجنيس هو "قصص قصيرة" وفي طبعة القاهرة "قصص"، وفي تصدير زياد لها تحت دال "جنون" تجنيسات أخرى: "شهادات حرصت دائماً أن تكون واقعية" و"بدأت أكتب قصصاً وحكايات" و"هذه الحكايات والقصص" و"ماذا بعد، ليس سوى هذه الحكايات الشهادات؟".
هل لبعض ساردي هذه القصص، وهم كثر، وبينهم إسرائيليون، رأي فيما يقصون؟
في نص "مدرسة" الساردة ابنة عشر سنوات، وهي تقول: "هذه ليست شهادة، ولكنها أكثر، هي ما شاهدته بعيني، وما جربته وأصابني، فلم يبق أحد من الآخرين من عائلتي حياً". (ص68).
ما قالته الطفلة عن تجربتها يعيد إلى نص "جنون"، وفيه يكتب زياد عن عودته إلى غزة قبل حرب 2014 بأيام. كان في رام الله، وآثر العودة: "كان في عقلي أنني عانيت حروباً في بيروت وفي الضفة وفي قطاع غزة، فكيف أدع هذه الحرب تمرّ دون أن أكون داخلها. كنت أريدني معايناً ومشاهداً وربما شهيداً".
عاد زياد لا ليقاتل، وإنما ليكتب شاهدا كتابة واقعية فيها بعض خيال يقتضيه القص. وهنا يختلف عن غيره ويتشابه مع آخرين.
في أثناء حرب غزة 2014، كان توفيق وصفي، يكتب لـ «الأيام»، عن أجواء الحرب من غزة نفسها، وكنت أنا من نابلس أكتب عن نصوص كنفاني ودرويش والقاسم وبسيسو ومريد البرغوثي. كنت أكتب من خارج المكان عن نصوص أنجزها المذكورون منذ حزيران 1967 حتى 2009.
كتابة زياد تتسم بطزاجتها، مثل كتابة توفيق وصفي، وقد أهداها الكاتب إلى أرواح الشهداء قبل أن تبرد دماؤهم "أردتهم أمام العالم الظالم وجهاً لوجه... سابقت الريح كي تظهر هذه الحكايات في توقيت خارق طازج يليق بهم".
وللكلام السابق دلالة تذكرنا بسطر محمود درويش في "حالة حصار" (2002): "الشهيد يعلمني: لا جماليّ خارج حريتي". ضحى زياد بجماليات النص ليعبر عما في نفسه، حتى لو كان هناك خلل طارئ في بنية النص.
هل يمكن أن يكون الكاتب محايداً؟
إنه وقت الحرب والتدمير، وهو فلسطيني، والحرب بين شعبه وعدو شعبه. في "حكاية حزينة... ولكن" (ص25/26)، ينهي القاص القصة بالتالي:
"ملاحظة من الكاتب: سوف أبدل الخاتمة، فالتراجيديا التي أمامنا فوق أي احتمالي. العاشق لم يمت، عثروا عليه تحت الركام، ولم يصب بأي سوء."
والحكاية هي حكاية طالب جامعي وطالبة جامعية لم يلتفتا لبعضهما في البداية، ومع الأيام أحبّا بعضهما، وتأتي الحرب لتدمر.
هل يمكن فصل زياد عبد الفتاح عن نصه/ نصوصه؟ "كما تكون الشجرة يكون ثمرها" قال الناقد (سانت بيف) ولم يميز (تين) بين (بلزاك) ونصوصه. والكاتب حاضر في نصوصه حضوراً لافتاً. في قصة "البحر ينام.. والبحر يغضب" يتحاور الجد مع حفيدته ناي التي تسأله: هل يغضب البحر؟، وناي ذكرت في إهداء نص آخر هو "ورق حرير": "... ثم إلى ناي حفيدتي..".
وكما كان الإسرائيلي حاضراً على أرض غزة، فقد حضر في القصص. من هو هذا الإسرائيلي؟ هل هو واقعي أم متخيل؟ وهل يروي عنه زياد أم يتركه يعبر عن نفسه؟ في قصة "حوار مع طيار"، وقد يتذكر المرء هنا قصيدة درويش" جندي يحلم بالزنابق البيضاء" وقصة أكرم هنية "زمن حسان"، قمة حلم متخيل: يتخيل زوج المرأة أنه يحاور في الحلم طيارا. والطيار شلومو يقصف، ومع ذلك يبكي، وهنا تقول الزوجة: "إنك مجنون فعلاً يا حبيبي، تقول إن الطيار قد بكى". هل يغضب البحر؟
عادل الأسطة
2015-11-29
***
6- تشابه التجربة ... تشابه الكتابة
في كتابي "سؤال الهُويّة: فلسطينية الأدب والأديب" (2000) أتيت على هذه الفكرة، وسأقرأ، بعد ذلك، في مقابلة مع الشاعر محمود درويش رأياً جميلاً ومقنعاً عن تجربته الكتابية قبل صدور ديوانه "آخر الليل" (1967) وبعده، وقبل خروجه من الأرض المحتلة وبعده.
كان رفاق الشاعر في الحزب الشيوعي بدؤوا يلاحظون تطوره جمالياً وابتعاده عن التعبير المباشر وجنوحه للرمز، أي استخدام الدال الواحد لمدلولات عديدة، قد يصعب فهمها على القارئ العادي، وكان هذا القارئ، في فلسطين، ذا ثقافة متواضعة، وربما كان ريفياً يصغي إلى القصائد أكثر مما يقرؤها، وهو الذي كان، ابتداء، في "أوراق الزيتون" (1964) في ذهن درويش، حين كتب: "قصائدنا بلا لون بلا طعم/ إذا لم يفهم البسطا معانيها.... إلخ".
وأذكر مراجعة نقدية للشاعر توفيق زياد، كتبت عنها مقالة عنوانها "توفيق زياد ناقداً"، تناول فيها ديواناً شعرياً لدرويش، وظّف فيه الأخير دال القمر توظيفاً رمزياً لم يرق لزياد، فخاطبه قائلاً ما معناه: عد إلى ما كنت، ولا تجنح إلى الرمز.
وفيما بعد سيقول درويش عن هذه الظاهرة: لو بقيت كما كنت، وكما طالبني الرفاق، لما كان هناك ضرورة لكتابة أي ديوان بعد "أوراق الزيتون" و"عاشق من فلسطين".
وسيضيف: قبل خروجي من الأرض المحتلة، كنا، نحن شعراء المقاومة، نكتب قصيدة واحدة.
مؤخراً، وأنا أقرأ كتاب زياد عبد الفتاح "والبحر يغضب" (2015) تذكرت بعض قصائد الشاعر الذي بالكاد نجا منه ومن التأثر بأشعاره كاتب فلسطيني. وتأثر زياد عبد الفتاح بدرويش، أو تشابه كتابته وكتابة درويش، تبدو في نصوص مبكرة، ففي "ما علينا" (2004) يظهر حضور درويش لافتاً ـ لا أفصل بين درويش وأشعاره.
كان الشاعر في "أثر الفراشة: يوميات" (2008) صدر كتابه بنص عنوانه "البنت/ الصرخة"، وقد استوحاه من مأساة الفتاة الغزية هدى أبو غالية التي كانت مع عائلتها على شاطئ البحر، وكان أن قصف الإسرائيليون العائلة، فاستشهد أفرادها ونجت هدى، ولا ينسى من شاهد الجريمة صرخة هدى: يابا. وقد كتب درويش:
على شاطئ البحر بنت. وللبنت أهل
وللأهل بيت. وللبيت نافذتان وباب...
وفي البحر بارجة تتسلّى
بصيد المشاة على شاطئ البحر:
أربعة، خمسة، سبعة
يسقطون على الرمل، والبنت تنجو قليلاً
لأن يداً من ضباب
يداً ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبي
يا أبي: قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا..
وستتكرّر الحروب، وسيتكرّر المشهد أيضاً. كأننا لا نقول إلاّ معاداً مكروراً، لأننا كأننا نتناسخ فيمن سبقونا. وإذا كان (يونج) قال: إن الآثار الأدبية ما هي إلاّ أساطير تتردّد في حياة البشر"، فإنه يجوز لنا أن نقول: إن التشابه في الكتابة يعود إلى التشابه في الأحداث، وإن تكرار الحدث، بصورة أو بأخرى، سيؤدي إلى تشابه في الكتابة.
هل فارق سليم بركات في روايته "فقهاء الظلام" (1986) حين جعل بطله محيميد يعيش يوماً واحداً؟ أحياناً نبدو كأننا نعيش يوماً واحداً. كأننا جبر من بطن أمه إلى القبر.
شهدت غزة ثلاث حروب، ولا شك أن هناك أحداثا تكررت وتشابهت أيضاً. هل كفّ بعض الأطفال عن الخروج من البيت إلى الشاطئ للاستمتاع بمنظر البحر؟
في قصة "حفل إعدام" من قصص زياد عبد الفتاح التي صوّرت بعض ما يجري في الحرب الدائرة، في العام 2014، ما يُذكِّر بقصة هدى أبو غالية، وبقصيدة محمود درويش.
في الحرب يتنادى الأطفال الذين أصابهم الملل ليخرجوا إلى الشاطئ. لقد ملوا من الحصار واشتاقوا إلى الملح واليود وصفق الموج والأسماك الصغيرة والكبيرة وألوانها المدهشة.
وسيطلق الضابط شلومو القذائف ليموت الأطفال كلهم، وحين يحاول اثنان منهم الهرب، يواصل شلومو إطلاق القذائف ليقتلهما.
تكررت التجربة، وتشابهت الحكاية، و.. و.. تشابهت الكتابة.
عادل الأسطة
2015-12-06
***
==================
1- الكاتب والروائي زياد عبدالفتاح
2- زياد عبد الفتاح: «محمود درويش ... صاقل الماس»
3- زياد عبد الفتاح في روايته الجديدة «الرتنو»
4- أدب العائدين: زياد عبد الفتاح وروايته «المعبر»
5- البحر يغضب: دم على شاطئ بحر غزة
6- تشابه التجربة ... تشابه الكتابة