مجرّد محاولة استعادة لحظات بارزة يختزنها جراب الذاكرة، يجعلني أرتاد متاهة متشابكة المسالك، ذلك أننا لا نعيش الزمن منتظماً في إيقاعاته وأحداثه، واضحاً في دلالاته وحدوده. ونحن، فضلاً عن ذلك، لا نتوفّر في (بداية) علاقتنا بالزمن، على وعي يستطيع أن يمايز بين التجارب، ويصنّف الوقائع والذكريات. إننا، بالأحرى، نكون طوال ما نعيشه لأول مرّة، أشبه بمن يمشي ملتفّاً بغلائل الضباب حسب الصورة التي رسمها لنا الروائي تولستوي، والذي يضيف أن الرؤية الواضحة، المميزة تكون أثناء العبور الحياتي الأول متعذّرة، مختلطة، وأننا نبدأ في الفرْز والتدقيق والتقييم بعد مؤالفتنا للحياة وتعوّدنا على (منطق) الزمن المعقّد.
لكنني أجد أن الأشياء لا تتضح تماماً بعد (العبور) لأن الذاكرة التي تسعفنا على استحضار ما عشناه هي انتقائية بطبيعتها ولا تستطيع أن تفلت من قبضة التخييل والتلوين، من ثم يصعب القول بوجود تذكّر (موضوعي) يقود خطواتنا إلى مرافئ واضحة المعالم.
فضاءات المدن
وأكثر ما تكثف الرؤية وتنبهم الملامح، عندما يتعلق الأمر بفضاءات المدن التي عشت في جنباتها ردحاً من الزمن، إنها ليست مجرد أمكنة ذات حيّز وأسماء معروفة، بل هي فضاءات آهلة بالشخوص والكلام والمشاهد ولحظات المسرّة والألم، تتسرّب إلى أعماقنا وتستوطن ثنايا الذاكرة، فلا يعود ممكناً الانفصال عن صورها الملوّنة التي يزدهي بها ألبوم الذكريات، ومرافئ الفضاءات، عندي، أربع مدن تشعّ مناراتها باستمرار، موقظة شهوة الحياة ورغائبها المهددة بالغسولة والقنوط وطول السفر: فاس، الرباط، القاهرة، باريس.
هذه المدن الأربع، على اختلاف مواقعها وحمولاتها التاريخية، لا أستحضرها إلا مقترنة بغلائل خرافية انتسجت، خلسة، وأنا أعيش في كنفها لحظات أساسية من عمري. وغالباً ما كانت كل واحدة من تلك المدن عتبة نقلتني إلى تجربة جديدة ومرفأ تفيّأت شواطئه بانتظار إقلاع جديد.
تقترن فاس، في ذاكرتي، بالطفولة في معناها الواسع والعميق لأنها تُحيلني إلى معين لا ينضب من اللحظات المشرقات التي كثيراً ما أستعين بها لأبدّد ما يعترضني من كآبة ووحشة. وأظنني حظيت بطفولة (سعيدة) في ظل حنان خالي الذي احتضنني وأنا في الثانية من عمري، وفي رحاب فاس العريقة بأزقّتها (المتاهية) المعتمة وحياتها التراثية المتجددة.
كانت جامعة القرويين، ومسجد مولاي إدريس، وجامع الأندلس فضاءات مألوفة لديّ ولدى زملائي من الأطفال لأننا كنا نرتادها لنلعب في صحونها الواسعة ونبلل وجوهنا وأرجلنا بالماء المتدفق، دوْماً، من نافوراتها، ولم تكن فاس مرفأ فقط للشيطنة والطفولة المرحة، بل كانت أيضاً فضاء اكتشفت فيه وجود الآخر، المستعمر، أثناء المظاهرات التي نظمتها الحركة الوطنية سنة 1944 للمطالبة بالاستقلال والتي اتخذت من جامعة القرويين مقرّاً لتعبئة سكان فاس وقراءة (اللطيف).
وكانت فاس، أيضاً، بالنسبة للطفل الذي كنته مرفأ للتعرّف على جمال الطبيعة المحيطة بالمدينة، خاصة أيام الربيع حين تنتقل العائلات إلى الجنان القريبة من الضواحي لتمضية بضعة أيام احتفاء بأجمل الفصول، وأحسب أن الانتباه إلى سحر المرأة وحضوره تولّد لديّ بتلك المدينة أثناء ما كنتُ أستمع، مشدوهاً، إلى بعض حكايات ألف ليلة يسردها علينا شاب متعلم اختاره الكبار لتأثيث أسمار الليالي الربيعية.
حين عدت إلى الرباط، وأنا أقترب من التاسعة، فوجئت بوجود البحر واتساع الشوارع وتجاور المدينتين الرباط وسلا يفصلهما نهر (أبورقراق) فانجذبت مخيّلتي إلى الامتدادات التي ستأخذها فسحات اللعب والجري والاستكشاف.
لكن الرباط وسّعت أيضاً من فضاءاتي الخاصة: لم تكن المدرسة التي التحقت بها عادية، بل كانت تابعة للحركة الوطنية، تعتمد اللغة العربية في التدريس وتربّي التلاميذ على مبادئ حبّ الوطن والاقتناع بحقه في الاستقلال، من ثم بدأ انخراطي، أنا وزملائي، في السياسة، ونحن لم نتجاوز سن الثانية عشرة، إذ كان أساتذتنا المناضلون يخصصون ساعات في الأسبوع ليحدّثونا عن (قضية المغرب أمام الأمم المتحدة)، وعن مطالب الحركة الوطنية وعن ممارسات السلطة الاستعمارية.
إلاّ أن المرفأ الرباطي الأهم، هو لقائي بالكتابة عبر المناخ التنافسي المشجّع الذي عشتُه بالمدرسة الثانوية مع أساتذة كانوا يحضّوننا على القراءة ويمدّوننا بكتب جبران خليل جبران، وطه حسين، وتوفيق الحكيم والعقاد... وكانت حصّة الإنشاء فرصة للتعليم والتجلّي، خاصة أننا كنا في فصل مختلط يزدهي بحضور بعض التلميذات الجميلات!
القاهرة... مرفأ آخر
والقاهرة مرفأ آخر، حاسم ومؤثر، إنه يرافق نهاية المراهقة، ويدشّن نقلة جذرية صوب امتدادات ملموسة لما عشته على مستوى المتخيّل في الكتب والمجلات والإذاعة والأفلام، لم تكن مصر، بالنسبة لي آنذاك، مجرد قطر عربي آخر درسنا جغرافيته وبعضاً من تاريخه، وإنما كانت صورتها في مخيلتي مؤسطرة، متألقة، تشع بالإغراءات والفتون، وكانت نوافذ الأمل مشرعة والإحساس بالصعود القومي التحرّري يملأ الكيان، ووعود النصر القريب يؤكدها صوت عبدالناصر الرنّان. أبداً لم أكن بمثل تلك الثقة والتفاؤل وأنا بمرفأ القاهرة الناصرية إلى بداية الستينيات، ولعل مصدر ذلك الامتلاء يعود إلى تساوق وتناغم بين ذاتي العميقة المتطلعة، وبين الوجدان العام الآخذ بالتبلور آنذاك، عقب استقلال المغرب وتسامق القومية العربية المنادية بتحرير الأرض والمواطن والفكر، وكانت إقامتي، طوال خمس سنوات، على مقربة من الكُتّاب والشعراء والفنانين المبشّرين بإبداع عربيّ جديد، تقوّي في نفسي نزوعاتها إلى الكتابة والحلم والمغامرة. وعندما غادرت مصر سنة 1960، كان لديّ إحساس بأنني يمكن أن أعيش، إلى نهاية حياتي مكتفياً بما حصّلته وعشته في مصر. ولذلك أمضيت وقتاً غير قصير وأنا لا أصدّق أن بداية الانكسار العربي قد انطلقت من مصر سنة .1967
ولم تكن باريس مجرد فضاء مقترن بالمتعة والتحرر من القيود والمحرّمات، بل هي مرفأ أساسي أغْنى ذاكرتي بما شاهدته واستمعت إليه وعايشته، سواء عند الزيارات العابرة، أو خلال إقامتي الدراسية طوال ثلاث سنوات (1970-1973). ولألخّص تأثير باريس، أقول إنها الفضاء الذي علّمني شيئين: الحرية هي فردية قبل كل شيء، أي أنها لا تعيش إذا لم يؤمن الفرد بها ويدافع عنها، ويدرك أن لا أحد يتحمّل أعباءها بدلاً منه، ومن هنا تحتاج الحرية إلى أن يصارع الفرد المجتمع حتى لا تنطفئ شعلتها.
والشيء الثاني، هو نسبية الحقائق والمقاييس، مشخّصة في العلائق والتحليلات والخطابات والمعارك السياسية والثقافية، وهذا ما جعلني أشعر في باريس، خاصة خلال زيارتي لها سنة 1968، أن النزوع إلى المطلق الذي اكتسبتُه في تجاربي السابقة كان يحول بيني وبين إدراك الأواليات المتجدّدة للمجتمعات الأوربية وإدراك الدينامية الموجّهة للصراعات وإعادة النظر المستمرّة في المواقف والمقاييس والتقييمات. وداخل المناخ الثقافي الفرنسي لا تستطيع أن تتحصّن وراء المسلّمات والمطلقات والأحكام المسبقة، لأن الفكر الانتقادي المعتمد على المقارنة والتّنسيب يُحتّم عليك المغامرة في عوالم المجهول والانسياق نحو الحدود القصوى للتجارب جسداً وروحاً.
هذا هو المرفأ الأول، مرفأ المدن التي اختزنت ذاكرتي فضاءاتها وتفاعلت مع ميثولوجيتها - إذا صحّ التعبير -. ذلك أنه من الصعب أن نستحضر المدن القريبة إلى نفوسنا دون أن يتدثّر ذلك الاستحضار بتطريزات أقرب ما تكون إلى أجواء الأساطير، خاصة عندما يتعلق الأمر بفاس والقاهرة وباريس، وأظن أن فضاءات الأمكنة تلوّن بقوة الذكريات والأفكار التي تترّسب بأعماقنا، ومن ثمّ فنحن لا نحنّ إلى استرجاع الماضي وإنما نحنّ، في الواقع، إلى صور معينة من ذلك الماضي جعلتنا نحسّ بتوافق وانسجام مع ذواتنا، وجعلت مشاعرنا، آنذاك، تبدو صادقة غير متكلّفة.
وهج الشباب
والمرفأ الثاني يتصل بالزمن/الأزمنة وبالحمولات التي كانت تشغل الذاكرة والوجدان والعقل. ولا أتردّد لحظة في أن أضع مقولة التغيير على رأس قائمة الموضوعات التي شغلتني إلى حدّ الهوس، سياسياً وثقافياً وحياتياً. عندما عدتُ إلى المغرب سنة 1960، كانت فوْرة ما بعد الاستقلال تجعل النجوم قريبة من أيدينا، وحماس الجماهير التي بذلت التضحيات الجسيمة يسند قوى التغيير والتحديث، وكان هناك مناضل قائد هو المهدي بن بركة، يجسّد أفق التغيير فكراً وممارسة وحضوراً، وقد تعرّفت على المهدي وأنا ولد لم يتجاوز العاشرة حينما كان يمرّ، ممتطياً درّاجته الهوائية، بأحد أزقّة مدينة الرباط القديمة أثناء لعبنا كرة القدم، فكنّا نوقف المباراة تلقائياً ونتبادل معه الابتسامات باحترام، لأن حضوره، قبل الاستقلال، كان ملء السمع والصبر. ثم التقيته في مناسبات وطنية، وحين زار القاهرة سنة 1959، وفي مؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدار البيضاء سنة 1962، مع الأيام، وبعد محنة اختطاف المهدي بن بركة واغتياله، ومن خلال قراءتي كتابه (الاختيار الثوري في المغرب)، ومحاضراته واستجواباته، تكوّن لديّ شعور قوي بأن المهدي هو صورة أنايَ الأعلى، لأنه كان بذكائه وديناميته الخرافية، وقدرته على إقناع الناس، ومرونة تحليلاته المتماهية مع تطلعات الشعب العميقة، أفضل مَنْ يجسّد التغيير الذي كان يملأ جوانحي الشابّة آنذاك. وأظنّ أن هذه الرمزية العالية للمهدي بن بركة، عندي وعند فئات واسعة من المغاربة، تعود أيضاً إلى كونه اختفى وهو يحمل عالياً مشعل النضال على مستوى العالم الثالث، ودون أن يشارك في الحكم وما قد يستتبعه ذلك من تنازلات وانقياد لمنطق التبرير، وهذا لا يعني أن المهدي كان وُثوقياً، متحجّراً في مواقفه، على العكس، كان سريع الالتقاط للتبدّلات الداخلية والخارجية، متنبّها لما تحْبَل به الساحة العالمية من إرهاصات وأفكار ومذاهب. ومن ثم فإن التغيير الذي كان يشدّني إلى الفعل السياسي، عرف من خلاله تحوّلات منفتحة على الواقع وتعقيداته، لكن من دون تنازل عن (العقد غير المكتوب) مع الأغلبية الواسعة المضطهدة، المحرومة، التوّاقة إلى كسْر وصاية القرون الوسطى.
والمرفأ الزمني الآخر، يمكن أن أسمّيه (زئبقية التاريخ)، ذلك أن انتمائي إلى جيل مخضرم (فترة ما قبل الاستقلال ثم ما بعده) وانخراطي في العمل السياسي النضالي مدة غير قصيرة، وسعيي مع زملاء آخرين إلى التبشير بالأدب والثقافة المغربيين الجديدين، كل ذلك أتاح لي أن أعيش لحظات (تاريخية) على جانب من الأهمية، غير أنني، في مرحلة التمثّل والغرْبلة، خاصة عندما عدت إلى الكتابة الإبداعية، بدأت أتبيّن أن ما عشته على أنه وقائع تاريخية، يأخذ تجليات ثانية مغايرة من خلال ما يسرده المشاركون في (صنع) تاريخ المغرب، ومن خلال التأويلات والروايات الرسمية. ليس هناك تاريخ واحد، بل تواريخ متعددة الوجوه والحقائق، لذلك يتعذّر عليّ الاستمرار في الإيمان المطلق بالتاريخ كما كانت عليه حالي خلال فترة التمركس، خاصة أنني تبيّنت أهمية التفاصيل وتأثير المصالح في تحديد مواقف الأشخاص والفاعلين التاريخيين بصفة عامة، ويخيّل إليّ أن عدداً لا بأس به من المثقفين المغاربة والعرب الذين ينتمون إلى جيلي (الستّيني)، وجدوا أنفسهم - من غير أن ينخرطوا في الحزب الشيوعي - منجذبين إلى التمركس نتيجة لقراءاتهم وتعطّشهم إلى تصوّرات نظرية (متكاملة) قادرة على تقديم أجوبة مقنعة على أسئلتهم المحرقة الباحثة عن طريق للخلاص من التخلّف والاستغلال الإمبريالي والتسلط الطبقي. لكن زمن الطرح الشمولي وزمن الأجوبة الجاهزة، الأيديولوجية، سرعان ما تلاشى بريقه أمام تعقيدات الواقع وإفرازاته المتأبية على التحليلات الخُطاطية، الفضفاضة، من ثمّ كانت ضرورة العودة إلى التفاصيل وإلى الطرح التجزيئي، الآني، للمشكلات، بوصفه مدخلاً لإدراك المعضلة في كلّيتها وتشابكاتها.
وهذه اللحظة الزمنية الكاشفة قادتني إلى تغيير ممارستي الحياتية على صعيدين أساسيين في نظري: العودة إلى الكتابة الإبداعية لأنها مسعفة على استبطان التجربة والتغلغل في تفاصيلها الحياتية بعيداً عن التقسيمات الازدواجية المميزة بين العقل والإحساس، بين التصوّر النظري والممارسة، ثم الإصرار، سياسياً وثقافياً، على طرح الظاهرات والمشكلات حين بروزها دون اللجوء إلى الإرجاء أو التغاضي بدعوى أن السياسة ومقتضياتها تستدعي السكوت على بعض الأمور وبعض الأسئلة إلى أن يتغيّر (ميزان القوى) وتسلس أزمّة الحكم فيسهل التغيير! هذا المنطق انكشف تهافته ولافاعليته عبر ما عشناه وعاشه العالم خلال السنوات الثلاثين الماضية، من ثمّ فإن مَن يسعى إلى التغيير، عليه ألا يفصل بين العاجل والآجل، بل إنّ الآني هو تعبير عن حاضر واقعي، والمواجهة على أرض الواقع الملموس هي ما يتيح لمواطنينا إدراك مسئولية التدخّل الواعي دفاعاً عن حاضرهم وعن مستقبل أبنائهم ووطنهم.
وأجد في تجربتي داخل اتحاد كُتّاب المغرب مرفأ زمنياً يعضد هذا الاقتناع بأهمية التجليات الخصوصية لكل مسألة وبضرورة المواجهة الفورية للأسئلة في سياقها الآني وفي امتداداتها المستقبلية. لقد تأسس اتحاد كُتّاب المغرب سنة 1961، وكان الاتفاق على أن يكون منبراً لجميع الاتجاهات الفكرية والإبداعية دون استثناء ودون تحيّز للسلطة الرسمية. ولم تكن التجربة سهلة، لأن تلك الفترة جعلت الجميع يُعرض عن الأدب والثقافة وينصرف إلى (تشييد) مجتمع ما بعد الاستقلال، وقد راهنت، مع مجموعة من الكُتّاب والشعراء الشباب على تفعيل الاتحاد وصَوْن اختياراته الديمقراطية، وفوجئنا بمَن يريد استخدام الاتحاد لنيل مكاسب مادية والتقرّب من السلطة المطلقة للبلاد، آنذاك. لكن إصرارنا على استقلالية اتحاد كُتّاب المغرب أقنع المبدعين المغاربة بأن التجربة تستحق أن تعيش وأن يدافع عنها حتى لا يفقد الإبداع حرّيته التي هي شرطه الأول. وخلال الفترة التي انتُخبت فيها رئيساً للاتحاد من 1976 إلى 1983، حرصت على أن يسمع المبدعون صوتهم المتميّز انطلاقاً من النصوص والمناقشات والبيانات والمؤتمرات. ذلك أنني لا أؤمن بأن الانتماء السياسي للكاتب يُغنيه عن انتمائه إلى الأدب وإلى خصوصية هذا الحقل التي كثيراً ما تقتضي من المبدع أن يخالف أو يعارض مواقف سياسية تخضع للحسابات الضيّقة وللتنازلات الظرفية. هكذا استطاع اتحاد كُتّاب المغرب، منذ ذاك وإلى اليوم، أن يحافظ على استقلاليته وتمثيليته لجميع الاتجاهات رغم الأزمة السياسية التي عاشها المغرب أزيد من عقدين زمنيين. وأهمية تجربة اتحاد كتّاب المغرب، قياساً إلى تجربة معظم الاتحادات العربية (الرسمية) إنما تتجلى في أنها أقنعت الأعضاء بأن الأدب والخطاب الثقافي يستطيعان التعبير عن حقائق ومواقف غائبة عن بقية خطابات المجتمع المغربي، وطبيعي أن الاتحاد لا يستطيع أن يخلق مبدعين، إلا أنه يجب أن يظل دائماً منبراً مفتوحاً لجميع الأصوات، ومنظمّة تعتمد الحوار والصراع الديمقراطي، وهما القيمتان المفتقدتان في حياتنا السياسية إلى عهد قريب.
الآن، وأنا أنظر من مسافة العمر، إلى مرفأ التغيير الذي طالما أويت إليه وجعلته منارة أستدلّ بها، أدرك أن المغامرة أكثر تعقيداً وأن جوانب من مفهوم التغيير وتجلياته ظلت محجوبة عني بفعل وهج الشباب والاندفاع الفيزيقي الذي كان يوحي إليّ بأن التغيير صعود مستمر في طريق سالكة، ومن ثمّ لم أكن أتوقف كثيراً عند تبادل التأثير بين التغيير والتغيّر، إذ كنت أعتبر التغيير مرتبطاً بالذات الفاعلة القادرة على التدخّل في كل شيء، مُغفلاً التغيّر الذي يحدث خارج إرادتنا بفعل الزمن ونتيجة عوامل مادية تتحكّم في توجيه مصائرنا وتكييف العلائق الفردية والمجتمعية.
هكذا يبدو أفق التغيير وزئبقية التاريخ مرفأين يلازمان ذاكرتي، لكنهما يحملان، دوماً، أسئلة مقلقة: هل تعلّقي بالتغيير مصدره وهج الشباب وانجذابي إلى الجديد? أم أنه حصيلة ثقافة وتجربة وتطلّع إلى الأفضل? وهل زئبقية التاريخ وتجليّاته متعددة الوجوه كافية للشك التام في مصداقيته ودروسه?
مهما يكن، فأنا أرتاد، الآن، مرفأ أقلّ تفاؤلية إلا أنه لا يتنكّر للتغيير، مادام هذا الأفق قد غدا جزءًا لا ينفصل عن كياني ووعيي، وإن كانت الأيام الكالحة قد حدّت من غلوائه.
اللجوء إلى الكتابة
ويبقى المرفأ الأهم في حياتي، هو الكتابة، في رحابها، أستطيع أن أحاور الذاكرة وأن أعيد صياغة ما عشته ممتزجاً، بشطحات الخيال وأصداء النصوص الغائبة، ونبرات الأصوات المسموعة، ليست هناك حدود تعيّن للكتابة موادّها الخام وموضوعاتها وأشكالها، ولذلك فهي مجال لممارسة الحرية بامتياز، وأيضاً لممارسة المسئولية، يصعب أن نكتب دون أن توجّهنا أسئلة ضمنية نسعى إلى الإجابة عنها أو إلى التعمّق في صوغها وتجسيدها بطريقة مغايرة لما تفعله طرائق التواصل العادية الأخرى. ومصدر اقتران الكتابة بالحرية هو أننا لا نكتب لاستنساخ ما هو قائم أو محاكاة ما عشناه. دائماً هناك قسط واسع للتخييل والتحوير والإضافة والحذف. لذلك كثيراً ما استعملت تعبير (اللجوء إلى حرية الكتابة) لأجيب على أسئلة المستفسرين عن تحوّلي إلى كتابة الرواية بعد أن عرفوني ناقداً، والواقع أنني بدأت بكتابة القصة القصيرة والتأمّلات والتحليلات السياسية قبل أن أتفرّغ للنقد الأدبي طوال تدريسي بكلية الآداب، إلا أنني أحسست في نهاية السبعينيات، أن ما أكتبه من مقالات ودراسات، وما أترجمه عن اللغة الفرنسية لا يلتقط التجربة الحياتية التي تراكمت في الذاكرة والجسد موشومة بغير قليل من الانكسار والخيبة، قياساً إلى آمال عريضة كنت أحملها في مطلع الشباب. ومن سؤال معرفة ذاتي ومعرفة مجتمعي واستيعاب ما عايشته، تولّد لديّ الشعور بضرورة اللجوء إلى حرية الكتابة الإبداعية رغم أنني لم أنقطع عنها. وعلى هذا النحو، جاءت نصوصي الروائية: (لعبة النسيان)، (الضوء الهارب)، مثل صيف لن يتكرر)، تأكيداً لانتصار الكتابة على النضال السياسي والثقافي الذي كثيراً ما قادني إلى كتابة عشرات المقالات والنصوص بأسماء مستعارة وجعلني ألقي العديد من المحاضرات الشفوية وأخوض في ندوات وجدالات لا حصر لها، وأظن أن مساري في الكتابة يعكس شروط معظم الكتّاب المغاربة والعرب الذين يخوضون مغامرة الإبداع لحسابهم دون أن يستطيعوا تحقيق علاقة منتظمة مع الكتابة لأن الاحتراف شبه مستحيل، ومبيعات الإنتاج الأدبي لا تضمن لصاحبها مردودات يتعيّش منها، ولذلك كثيراً ما تكون الكتابة عملاً إضافياً ننجزه في أوقات الفراغ ونقتطعه من فترات الراحة. وهذا ما يدفعني إلى اعتبار ما أكتبه ذا حضور رمزيّ لا يتيح لي التحاور المنتظم والمستمر مع الجمهور المتلقّي.
لكن رغم الشروط الصعبة، فقد حرصت على أن أجعل من الكتابة الإبداعية فسحة حقيقية لممارسة حريّتي. ووجدت في الرواية شكلاً مرناً يسعفني على الانطلاق في رحلة البحث عن الذات المتشظية، والاقتراب من الآخر ومن المجتمع متعدد اللغات والخطابات، وكانت نقطة البداية هي استحضار الطفولة عبر التخييل وبوعي الحاضر، وشيئاً فشيئاً تتّسع الطفولة لتسدل علينا ظلالاً وارفة تباعد بيننا وبين الهجير، وتضيء المسالك المختلطة، ونحن نجري وراء الذات العميقة التي أضْحت غريبة عنّا. من خلل الطفولة، إذن، وبوساطة اللغة البكر التي أمدّتني بها، انطلقت لملاقاة ذاتي المضيّعة وسط زحمة الاجتماعات، والخطب المعادة، والمغامرات العابرة، كأنني أردت من الرواية أن تكون وسيلة معرفة قبل كل شيء، إلا أن الكتابة متعددة الهوية بطبيعتها ولا ترضى بأن (تسخّر) لأغراض يحددها الكاتب وحده. وهكذا وجدتني أعيش، وأنا أكتب روايتي الأولى طوال سنوات عدة، مغامرة ممتعة ومعذّبة لأن الكتابة لم تكن لتستقيم دون إدراك الأبعاد اللعبية الملتصقة بها، ودون الاستسلام لسحر اللغة وتجليّاتها عبر مستويات متعددة، متشابكة تقود إلى المتاهات أكثر مما تعبّر عن دلالة محددة.
.والواقع أن لجوئي إلى حرية الكتابة وضعني أمام شرك كبير، لأنني وجدت أن الكتابة التي أتطلبها مشدودة إلى ذاكرتي التي انطوت على جوانب كثيرة مسكوت عنها ولم أكن أعيرها التفاتاً بدعوى أن السياسة أسبق من بقية المجالات، أو ظنّاً مني بأن الممارسة ستوضح كل شيء، من ثم كانت الكتابة بالنسبة إليّ، وفي مرحلتي الثانية، مواجهة لا مفر منها بين الذات بما لها من تاريخ خاص، وعقد، ووعي، وبين المجتمع بمؤسساته وقوانينه وأخلاقياته الموروثة. وهذا تعارض جوهري ندركه عندما نحرص على أن نظل قريبين وأوفياء لتاريخنا الفردي الخاص. لأجل ذلك أؤيد القائلين بأن الرواية، في جوهرها، هي تشخيص صراع الفرد ضد المجتمع بحثاً عن توازن متعذّر في غالب الأحيان.
كيف أعتبر، إذن، الكتابة (ملجأ) يمدّني بالحرية؟
رغم صعوبة الكتابة، والجهد النفسي والمادي الذي تتطلبه، فقد وجدت أن المجال الوحيد الذي أستطيع أن أقول فيه ما أحسّه وأعتقده بحريّة، هو الكتابة التخييلية، من خلالها، أستطيع أن أتحدى جميع القيود والرقابات، مراهناً على قراء محتملين سيتجاوبون مع ما أكتبه. وهذا لا يعني أنني أعتمد الاستفزاز أو الإثارة. على العكس، أرى أن النص الصادر عن الأعماق لا يلتفت كثيراً إلى استمالة القرّاء، ولذلك فإن إمكانات التعبير لا تحدّ وتكون فاعلة رغم (حراسة) الرقابة. فأنا لست من الذين يراهنون على قراء سيأتون في زمن لاحق، بل أفترض أنهم يوجدون الآن، لكنني لا أرضى جلبهم عن طريق السهولة أو التنازلات. وفي مجالات أخرى للكتابة، أوثر الصمت على أن أكتب مالا يفصح عن الحد الأدنى مما أفكّر به، وليس خافياً أن القرن الذي ودّعناه، لم يكن قرن حريّة بالنسبة للمواطن العربي رغم النضالات والمعارك والتضحيات الكثيرة، الجسيمة، ومن ثمّ فإن أحد أهم إنجازات الأدب العربي الحديث، أنه استطاع أن يُبدع عوالم ونصوصاً موازية ومعارضة للخطابات الرسمية والأيديولوجية السائدة والرامية إلى التخدير وغسل الأدمغة. ومنذ هزيمة 1967 بالأخص، أخذت مجموعة لا بأس بها من الشعراء والروائيين والكتّاب العرب، على امتداد الوطن، تكتب دون الاتّكاء على سند أيديولوجي أو سلطوي لتقول المسكوت عنه، وتحرر الإبداع من الوصايات والممالأة. وهذا ما يجعلني أعتقد أن البوابة الموصلة إلى رحاب الوجدان العربي - لا فرق بين مركزه ومحيطه - هي نصوص الإبداع الأدبي المتوفر على الفنية والاستبصار والجرأة، ذلك أن الاختناق مهما اشتدّ، لا يستطيع أن يمنع المبدعين من (اللجوء إلى حرية الكتابة).
لحظات مضيئة
إذا كان صحيحاً أن معظم الذين يتابعون رحلة الحياة، يستندون إلى ما تختزنه ذاكراتهم من لحظات مضيئة تبدد تعبهم ويأسهم، فأنا أرى أن الكتابة، في أحد مقوماتها، هي استعادة لتلك اللحظات الهاربة منّا باستمرار، والتي نجري وراءها لنحدّ من سطوة الزّمان ونشغّل التخييل لندلل على أن التجارب والأشياء كان يمكن أن تكون على غير ما هي عليه، وأن اللغة يمكن أن تتحرر من وظيفة التواصل المحدودة، وأن تنقلنا إلى عوالم الحلم. وهذه المكانة التي تحتلها الذاكرة في عملية الكتابة هي التي تطرح أمامنا أسئلة صعبة، فأنا لا أريد أن أصبح أسير ذاكرتي التي هي، مهما اتسعت، تظل محدودة، مسيّجة، ولذلك أجنح إلى طريق من يعتقدون بإمكان خلق (شعريّة الذاكرة) التي تمتح من الاحتمالات ومن التخييل ومن هدم الحدود بين الواقعي والمتخيّل. وعلى هذا النحو، تتحرر الذاكرة من سطوتنا، وننعتق نحن من عبادتها واجتراراتها.
وفي العمق، فإن التطورات السريعة والمذهلة لوسائل الاتصال والمعرفة، تحتّم على ذاكرتنا أن تكون مفتوحة على مصراعيها وأن تجهد كثيراً من أجل أن تقتنص ما (تختص به) وتستثمره في البوْح والإبداع، وقد قرأت رأييْن مختلفين لكاتبين معاصرين يتحدث كل واحد منهما عمّا يشغله، قال أحدهما إنه مهموم بالناس الخائفين الذين لا يقدرون على الانغمار في الحياة والتعاطي معها، وقال الثاني: إن ما يقلقه هو تزايد شعوره بأن الناس أصبحوا مخيفين، قساة، وأظن أن مرفأ ذاكرة الكتابة عندي لا يمكن أن يبتعد عن (منطقة الخوف) هذه، المنطقة التي تحكم على الإنسان بأن يصون وجوده وحريته من خلال مغالبة جروحه الداخلية ومن خلال التصدّي للمخيفين الذين يدوسون الحياة باحتقار ولامبالاة.
* * *
وأنا أخط هذه الكلمات عن مرافئ الذاكرة، أحسّ وطأة الانتقال إلى قرن جديد، وأتسامق بخيالي لأستشرف تجربة وطني المغرب وهو يعيش مرحلة انتقالية صعبة، أخذت معالم ماضيها الشائن تتلاشى، غير أن الأفق البديل لم يتبلور بعد بالقدر الذي يتيح تخطّي اللحظات المعتمة.
ورغم الأمل الذي تتخايل ملامحه في جوانحي، فإنني لا أعرف كيف سيندمل ذلك الجرح العميق الذي عايشته أيام الاعتقالات والقمع ومصادرة الحريات منذ أواسط الستينيات إلى بداية التسعينيات.
والآن، وأنا أقرأ، في الصحف الوطنية، شهادات بعض مَن كانوا ضحايا السجن الوحشي في (تازْمَامْرتْ)، وأولئك الذين نجوا من الموت البطيء داخل مراكز التعذيب وفي ظلمات السجن، أتساءل عمّا إذا كان ذلك الجرح العميق سيعرف طريقه إلى الاندمال والتضميد والنسيان؟
محمد برادة
مجلة العربي اكتوبر 2000
لكنني أجد أن الأشياء لا تتضح تماماً بعد (العبور) لأن الذاكرة التي تسعفنا على استحضار ما عشناه هي انتقائية بطبيعتها ولا تستطيع أن تفلت من قبضة التخييل والتلوين، من ثم يصعب القول بوجود تذكّر (موضوعي) يقود خطواتنا إلى مرافئ واضحة المعالم.
فضاءات المدن
وأكثر ما تكثف الرؤية وتنبهم الملامح، عندما يتعلق الأمر بفضاءات المدن التي عشت في جنباتها ردحاً من الزمن، إنها ليست مجرد أمكنة ذات حيّز وأسماء معروفة، بل هي فضاءات آهلة بالشخوص والكلام والمشاهد ولحظات المسرّة والألم، تتسرّب إلى أعماقنا وتستوطن ثنايا الذاكرة، فلا يعود ممكناً الانفصال عن صورها الملوّنة التي يزدهي بها ألبوم الذكريات، ومرافئ الفضاءات، عندي، أربع مدن تشعّ مناراتها باستمرار، موقظة شهوة الحياة ورغائبها المهددة بالغسولة والقنوط وطول السفر: فاس، الرباط، القاهرة، باريس.
هذه المدن الأربع، على اختلاف مواقعها وحمولاتها التاريخية، لا أستحضرها إلا مقترنة بغلائل خرافية انتسجت، خلسة، وأنا أعيش في كنفها لحظات أساسية من عمري. وغالباً ما كانت كل واحدة من تلك المدن عتبة نقلتني إلى تجربة جديدة ومرفأ تفيّأت شواطئه بانتظار إقلاع جديد.
تقترن فاس، في ذاكرتي، بالطفولة في معناها الواسع والعميق لأنها تُحيلني إلى معين لا ينضب من اللحظات المشرقات التي كثيراً ما أستعين بها لأبدّد ما يعترضني من كآبة ووحشة. وأظنني حظيت بطفولة (سعيدة) في ظل حنان خالي الذي احتضنني وأنا في الثانية من عمري، وفي رحاب فاس العريقة بأزقّتها (المتاهية) المعتمة وحياتها التراثية المتجددة.
كانت جامعة القرويين، ومسجد مولاي إدريس، وجامع الأندلس فضاءات مألوفة لديّ ولدى زملائي من الأطفال لأننا كنا نرتادها لنلعب في صحونها الواسعة ونبلل وجوهنا وأرجلنا بالماء المتدفق، دوْماً، من نافوراتها، ولم تكن فاس مرفأ فقط للشيطنة والطفولة المرحة، بل كانت أيضاً فضاء اكتشفت فيه وجود الآخر، المستعمر، أثناء المظاهرات التي نظمتها الحركة الوطنية سنة 1944 للمطالبة بالاستقلال والتي اتخذت من جامعة القرويين مقرّاً لتعبئة سكان فاس وقراءة (اللطيف).
وكانت فاس، أيضاً، بالنسبة للطفل الذي كنته مرفأ للتعرّف على جمال الطبيعة المحيطة بالمدينة، خاصة أيام الربيع حين تنتقل العائلات إلى الجنان القريبة من الضواحي لتمضية بضعة أيام احتفاء بأجمل الفصول، وأحسب أن الانتباه إلى سحر المرأة وحضوره تولّد لديّ بتلك المدينة أثناء ما كنتُ أستمع، مشدوهاً، إلى بعض حكايات ألف ليلة يسردها علينا شاب متعلم اختاره الكبار لتأثيث أسمار الليالي الربيعية.
حين عدت إلى الرباط، وأنا أقترب من التاسعة، فوجئت بوجود البحر واتساع الشوارع وتجاور المدينتين الرباط وسلا يفصلهما نهر (أبورقراق) فانجذبت مخيّلتي إلى الامتدادات التي ستأخذها فسحات اللعب والجري والاستكشاف.
لكن الرباط وسّعت أيضاً من فضاءاتي الخاصة: لم تكن المدرسة التي التحقت بها عادية، بل كانت تابعة للحركة الوطنية، تعتمد اللغة العربية في التدريس وتربّي التلاميذ على مبادئ حبّ الوطن والاقتناع بحقه في الاستقلال، من ثم بدأ انخراطي، أنا وزملائي، في السياسة، ونحن لم نتجاوز سن الثانية عشرة، إذ كان أساتذتنا المناضلون يخصصون ساعات في الأسبوع ليحدّثونا عن (قضية المغرب أمام الأمم المتحدة)، وعن مطالب الحركة الوطنية وعن ممارسات السلطة الاستعمارية.
إلاّ أن المرفأ الرباطي الأهم، هو لقائي بالكتابة عبر المناخ التنافسي المشجّع الذي عشتُه بالمدرسة الثانوية مع أساتذة كانوا يحضّوننا على القراءة ويمدّوننا بكتب جبران خليل جبران، وطه حسين، وتوفيق الحكيم والعقاد... وكانت حصّة الإنشاء فرصة للتعليم والتجلّي، خاصة أننا كنا في فصل مختلط يزدهي بحضور بعض التلميذات الجميلات!
القاهرة... مرفأ آخر
والقاهرة مرفأ آخر، حاسم ومؤثر، إنه يرافق نهاية المراهقة، ويدشّن نقلة جذرية صوب امتدادات ملموسة لما عشته على مستوى المتخيّل في الكتب والمجلات والإذاعة والأفلام، لم تكن مصر، بالنسبة لي آنذاك، مجرد قطر عربي آخر درسنا جغرافيته وبعضاً من تاريخه، وإنما كانت صورتها في مخيلتي مؤسطرة، متألقة، تشع بالإغراءات والفتون، وكانت نوافذ الأمل مشرعة والإحساس بالصعود القومي التحرّري يملأ الكيان، ووعود النصر القريب يؤكدها صوت عبدالناصر الرنّان. أبداً لم أكن بمثل تلك الثقة والتفاؤل وأنا بمرفأ القاهرة الناصرية إلى بداية الستينيات، ولعل مصدر ذلك الامتلاء يعود إلى تساوق وتناغم بين ذاتي العميقة المتطلعة، وبين الوجدان العام الآخذ بالتبلور آنذاك، عقب استقلال المغرب وتسامق القومية العربية المنادية بتحرير الأرض والمواطن والفكر، وكانت إقامتي، طوال خمس سنوات، على مقربة من الكُتّاب والشعراء والفنانين المبشّرين بإبداع عربيّ جديد، تقوّي في نفسي نزوعاتها إلى الكتابة والحلم والمغامرة. وعندما غادرت مصر سنة 1960، كان لديّ إحساس بأنني يمكن أن أعيش، إلى نهاية حياتي مكتفياً بما حصّلته وعشته في مصر. ولذلك أمضيت وقتاً غير قصير وأنا لا أصدّق أن بداية الانكسار العربي قد انطلقت من مصر سنة .1967
ولم تكن باريس مجرد فضاء مقترن بالمتعة والتحرر من القيود والمحرّمات، بل هي مرفأ أساسي أغْنى ذاكرتي بما شاهدته واستمعت إليه وعايشته، سواء عند الزيارات العابرة، أو خلال إقامتي الدراسية طوال ثلاث سنوات (1970-1973). ولألخّص تأثير باريس، أقول إنها الفضاء الذي علّمني شيئين: الحرية هي فردية قبل كل شيء، أي أنها لا تعيش إذا لم يؤمن الفرد بها ويدافع عنها، ويدرك أن لا أحد يتحمّل أعباءها بدلاً منه، ومن هنا تحتاج الحرية إلى أن يصارع الفرد المجتمع حتى لا تنطفئ شعلتها.
والشيء الثاني، هو نسبية الحقائق والمقاييس، مشخّصة في العلائق والتحليلات والخطابات والمعارك السياسية والثقافية، وهذا ما جعلني أشعر في باريس، خاصة خلال زيارتي لها سنة 1968، أن النزوع إلى المطلق الذي اكتسبتُه في تجاربي السابقة كان يحول بيني وبين إدراك الأواليات المتجدّدة للمجتمعات الأوربية وإدراك الدينامية الموجّهة للصراعات وإعادة النظر المستمرّة في المواقف والمقاييس والتقييمات. وداخل المناخ الثقافي الفرنسي لا تستطيع أن تتحصّن وراء المسلّمات والمطلقات والأحكام المسبقة، لأن الفكر الانتقادي المعتمد على المقارنة والتّنسيب يُحتّم عليك المغامرة في عوالم المجهول والانسياق نحو الحدود القصوى للتجارب جسداً وروحاً.
هذا هو المرفأ الأول، مرفأ المدن التي اختزنت ذاكرتي فضاءاتها وتفاعلت مع ميثولوجيتها - إذا صحّ التعبير -. ذلك أنه من الصعب أن نستحضر المدن القريبة إلى نفوسنا دون أن يتدثّر ذلك الاستحضار بتطريزات أقرب ما تكون إلى أجواء الأساطير، خاصة عندما يتعلق الأمر بفاس والقاهرة وباريس، وأظن أن فضاءات الأمكنة تلوّن بقوة الذكريات والأفكار التي تترّسب بأعماقنا، ومن ثمّ فنحن لا نحنّ إلى استرجاع الماضي وإنما نحنّ، في الواقع، إلى صور معينة من ذلك الماضي جعلتنا نحسّ بتوافق وانسجام مع ذواتنا، وجعلت مشاعرنا، آنذاك، تبدو صادقة غير متكلّفة.
وهج الشباب
والمرفأ الثاني يتصل بالزمن/الأزمنة وبالحمولات التي كانت تشغل الذاكرة والوجدان والعقل. ولا أتردّد لحظة في أن أضع مقولة التغيير على رأس قائمة الموضوعات التي شغلتني إلى حدّ الهوس، سياسياً وثقافياً وحياتياً. عندما عدتُ إلى المغرب سنة 1960، كانت فوْرة ما بعد الاستقلال تجعل النجوم قريبة من أيدينا، وحماس الجماهير التي بذلت التضحيات الجسيمة يسند قوى التغيير والتحديث، وكان هناك مناضل قائد هو المهدي بن بركة، يجسّد أفق التغيير فكراً وممارسة وحضوراً، وقد تعرّفت على المهدي وأنا ولد لم يتجاوز العاشرة حينما كان يمرّ، ممتطياً درّاجته الهوائية، بأحد أزقّة مدينة الرباط القديمة أثناء لعبنا كرة القدم، فكنّا نوقف المباراة تلقائياً ونتبادل معه الابتسامات باحترام، لأن حضوره، قبل الاستقلال، كان ملء السمع والصبر. ثم التقيته في مناسبات وطنية، وحين زار القاهرة سنة 1959، وفي مؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدار البيضاء سنة 1962، مع الأيام، وبعد محنة اختطاف المهدي بن بركة واغتياله، ومن خلال قراءتي كتابه (الاختيار الثوري في المغرب)، ومحاضراته واستجواباته، تكوّن لديّ شعور قوي بأن المهدي هو صورة أنايَ الأعلى، لأنه كان بذكائه وديناميته الخرافية، وقدرته على إقناع الناس، ومرونة تحليلاته المتماهية مع تطلعات الشعب العميقة، أفضل مَنْ يجسّد التغيير الذي كان يملأ جوانحي الشابّة آنذاك. وأظنّ أن هذه الرمزية العالية للمهدي بن بركة، عندي وعند فئات واسعة من المغاربة، تعود أيضاً إلى كونه اختفى وهو يحمل عالياً مشعل النضال على مستوى العالم الثالث، ودون أن يشارك في الحكم وما قد يستتبعه ذلك من تنازلات وانقياد لمنطق التبرير، وهذا لا يعني أن المهدي كان وُثوقياً، متحجّراً في مواقفه، على العكس، كان سريع الالتقاط للتبدّلات الداخلية والخارجية، متنبّها لما تحْبَل به الساحة العالمية من إرهاصات وأفكار ومذاهب. ومن ثم فإن التغيير الذي كان يشدّني إلى الفعل السياسي، عرف من خلاله تحوّلات منفتحة على الواقع وتعقيداته، لكن من دون تنازل عن (العقد غير المكتوب) مع الأغلبية الواسعة المضطهدة، المحرومة، التوّاقة إلى كسْر وصاية القرون الوسطى.
والمرفأ الزمني الآخر، يمكن أن أسمّيه (زئبقية التاريخ)، ذلك أن انتمائي إلى جيل مخضرم (فترة ما قبل الاستقلال ثم ما بعده) وانخراطي في العمل السياسي النضالي مدة غير قصيرة، وسعيي مع زملاء آخرين إلى التبشير بالأدب والثقافة المغربيين الجديدين، كل ذلك أتاح لي أن أعيش لحظات (تاريخية) على جانب من الأهمية، غير أنني، في مرحلة التمثّل والغرْبلة، خاصة عندما عدت إلى الكتابة الإبداعية، بدأت أتبيّن أن ما عشته على أنه وقائع تاريخية، يأخذ تجليات ثانية مغايرة من خلال ما يسرده المشاركون في (صنع) تاريخ المغرب، ومن خلال التأويلات والروايات الرسمية. ليس هناك تاريخ واحد، بل تواريخ متعددة الوجوه والحقائق، لذلك يتعذّر عليّ الاستمرار في الإيمان المطلق بالتاريخ كما كانت عليه حالي خلال فترة التمركس، خاصة أنني تبيّنت أهمية التفاصيل وتأثير المصالح في تحديد مواقف الأشخاص والفاعلين التاريخيين بصفة عامة، ويخيّل إليّ أن عدداً لا بأس به من المثقفين المغاربة والعرب الذين ينتمون إلى جيلي (الستّيني)، وجدوا أنفسهم - من غير أن ينخرطوا في الحزب الشيوعي - منجذبين إلى التمركس نتيجة لقراءاتهم وتعطّشهم إلى تصوّرات نظرية (متكاملة) قادرة على تقديم أجوبة مقنعة على أسئلتهم المحرقة الباحثة عن طريق للخلاص من التخلّف والاستغلال الإمبريالي والتسلط الطبقي. لكن زمن الطرح الشمولي وزمن الأجوبة الجاهزة، الأيديولوجية، سرعان ما تلاشى بريقه أمام تعقيدات الواقع وإفرازاته المتأبية على التحليلات الخُطاطية، الفضفاضة، من ثمّ كانت ضرورة العودة إلى التفاصيل وإلى الطرح التجزيئي، الآني، للمشكلات، بوصفه مدخلاً لإدراك المعضلة في كلّيتها وتشابكاتها.
وهذه اللحظة الزمنية الكاشفة قادتني إلى تغيير ممارستي الحياتية على صعيدين أساسيين في نظري: العودة إلى الكتابة الإبداعية لأنها مسعفة على استبطان التجربة والتغلغل في تفاصيلها الحياتية بعيداً عن التقسيمات الازدواجية المميزة بين العقل والإحساس، بين التصوّر النظري والممارسة، ثم الإصرار، سياسياً وثقافياً، على طرح الظاهرات والمشكلات حين بروزها دون اللجوء إلى الإرجاء أو التغاضي بدعوى أن السياسة ومقتضياتها تستدعي السكوت على بعض الأمور وبعض الأسئلة إلى أن يتغيّر (ميزان القوى) وتسلس أزمّة الحكم فيسهل التغيير! هذا المنطق انكشف تهافته ولافاعليته عبر ما عشناه وعاشه العالم خلال السنوات الثلاثين الماضية، من ثمّ فإن مَن يسعى إلى التغيير، عليه ألا يفصل بين العاجل والآجل، بل إنّ الآني هو تعبير عن حاضر واقعي، والمواجهة على أرض الواقع الملموس هي ما يتيح لمواطنينا إدراك مسئولية التدخّل الواعي دفاعاً عن حاضرهم وعن مستقبل أبنائهم ووطنهم.
وأجد في تجربتي داخل اتحاد كُتّاب المغرب مرفأ زمنياً يعضد هذا الاقتناع بأهمية التجليات الخصوصية لكل مسألة وبضرورة المواجهة الفورية للأسئلة في سياقها الآني وفي امتداداتها المستقبلية. لقد تأسس اتحاد كُتّاب المغرب سنة 1961، وكان الاتفاق على أن يكون منبراً لجميع الاتجاهات الفكرية والإبداعية دون استثناء ودون تحيّز للسلطة الرسمية. ولم تكن التجربة سهلة، لأن تلك الفترة جعلت الجميع يُعرض عن الأدب والثقافة وينصرف إلى (تشييد) مجتمع ما بعد الاستقلال، وقد راهنت، مع مجموعة من الكُتّاب والشعراء الشباب على تفعيل الاتحاد وصَوْن اختياراته الديمقراطية، وفوجئنا بمَن يريد استخدام الاتحاد لنيل مكاسب مادية والتقرّب من السلطة المطلقة للبلاد، آنذاك. لكن إصرارنا على استقلالية اتحاد كُتّاب المغرب أقنع المبدعين المغاربة بأن التجربة تستحق أن تعيش وأن يدافع عنها حتى لا يفقد الإبداع حرّيته التي هي شرطه الأول. وخلال الفترة التي انتُخبت فيها رئيساً للاتحاد من 1976 إلى 1983، حرصت على أن يسمع المبدعون صوتهم المتميّز انطلاقاً من النصوص والمناقشات والبيانات والمؤتمرات. ذلك أنني لا أؤمن بأن الانتماء السياسي للكاتب يُغنيه عن انتمائه إلى الأدب وإلى خصوصية هذا الحقل التي كثيراً ما تقتضي من المبدع أن يخالف أو يعارض مواقف سياسية تخضع للحسابات الضيّقة وللتنازلات الظرفية. هكذا استطاع اتحاد كُتّاب المغرب، منذ ذاك وإلى اليوم، أن يحافظ على استقلاليته وتمثيليته لجميع الاتجاهات رغم الأزمة السياسية التي عاشها المغرب أزيد من عقدين زمنيين. وأهمية تجربة اتحاد كتّاب المغرب، قياساً إلى تجربة معظم الاتحادات العربية (الرسمية) إنما تتجلى في أنها أقنعت الأعضاء بأن الأدب والخطاب الثقافي يستطيعان التعبير عن حقائق ومواقف غائبة عن بقية خطابات المجتمع المغربي، وطبيعي أن الاتحاد لا يستطيع أن يخلق مبدعين، إلا أنه يجب أن يظل دائماً منبراً مفتوحاً لجميع الأصوات، ومنظمّة تعتمد الحوار والصراع الديمقراطي، وهما القيمتان المفتقدتان في حياتنا السياسية إلى عهد قريب.
الآن، وأنا أنظر من مسافة العمر، إلى مرفأ التغيير الذي طالما أويت إليه وجعلته منارة أستدلّ بها، أدرك أن المغامرة أكثر تعقيداً وأن جوانب من مفهوم التغيير وتجلياته ظلت محجوبة عني بفعل وهج الشباب والاندفاع الفيزيقي الذي كان يوحي إليّ بأن التغيير صعود مستمر في طريق سالكة، ومن ثمّ لم أكن أتوقف كثيراً عند تبادل التأثير بين التغيير والتغيّر، إذ كنت أعتبر التغيير مرتبطاً بالذات الفاعلة القادرة على التدخّل في كل شيء، مُغفلاً التغيّر الذي يحدث خارج إرادتنا بفعل الزمن ونتيجة عوامل مادية تتحكّم في توجيه مصائرنا وتكييف العلائق الفردية والمجتمعية.
هكذا يبدو أفق التغيير وزئبقية التاريخ مرفأين يلازمان ذاكرتي، لكنهما يحملان، دوماً، أسئلة مقلقة: هل تعلّقي بالتغيير مصدره وهج الشباب وانجذابي إلى الجديد? أم أنه حصيلة ثقافة وتجربة وتطلّع إلى الأفضل? وهل زئبقية التاريخ وتجليّاته متعددة الوجوه كافية للشك التام في مصداقيته ودروسه?
مهما يكن، فأنا أرتاد، الآن، مرفأ أقلّ تفاؤلية إلا أنه لا يتنكّر للتغيير، مادام هذا الأفق قد غدا جزءًا لا ينفصل عن كياني ووعيي، وإن كانت الأيام الكالحة قد حدّت من غلوائه.
اللجوء إلى الكتابة
ويبقى المرفأ الأهم في حياتي، هو الكتابة، في رحابها، أستطيع أن أحاور الذاكرة وأن أعيد صياغة ما عشته ممتزجاً، بشطحات الخيال وأصداء النصوص الغائبة، ونبرات الأصوات المسموعة، ليست هناك حدود تعيّن للكتابة موادّها الخام وموضوعاتها وأشكالها، ولذلك فهي مجال لممارسة الحرية بامتياز، وأيضاً لممارسة المسئولية، يصعب أن نكتب دون أن توجّهنا أسئلة ضمنية نسعى إلى الإجابة عنها أو إلى التعمّق في صوغها وتجسيدها بطريقة مغايرة لما تفعله طرائق التواصل العادية الأخرى. ومصدر اقتران الكتابة بالحرية هو أننا لا نكتب لاستنساخ ما هو قائم أو محاكاة ما عشناه. دائماً هناك قسط واسع للتخييل والتحوير والإضافة والحذف. لذلك كثيراً ما استعملت تعبير (اللجوء إلى حرية الكتابة) لأجيب على أسئلة المستفسرين عن تحوّلي إلى كتابة الرواية بعد أن عرفوني ناقداً، والواقع أنني بدأت بكتابة القصة القصيرة والتأمّلات والتحليلات السياسية قبل أن أتفرّغ للنقد الأدبي طوال تدريسي بكلية الآداب، إلا أنني أحسست في نهاية السبعينيات، أن ما أكتبه من مقالات ودراسات، وما أترجمه عن اللغة الفرنسية لا يلتقط التجربة الحياتية التي تراكمت في الذاكرة والجسد موشومة بغير قليل من الانكسار والخيبة، قياساً إلى آمال عريضة كنت أحملها في مطلع الشباب. ومن سؤال معرفة ذاتي ومعرفة مجتمعي واستيعاب ما عايشته، تولّد لديّ الشعور بضرورة اللجوء إلى حرية الكتابة الإبداعية رغم أنني لم أنقطع عنها. وعلى هذا النحو، جاءت نصوصي الروائية: (لعبة النسيان)، (الضوء الهارب)، مثل صيف لن يتكرر)، تأكيداً لانتصار الكتابة على النضال السياسي والثقافي الذي كثيراً ما قادني إلى كتابة عشرات المقالات والنصوص بأسماء مستعارة وجعلني ألقي العديد من المحاضرات الشفوية وأخوض في ندوات وجدالات لا حصر لها، وأظن أن مساري في الكتابة يعكس شروط معظم الكتّاب المغاربة والعرب الذين يخوضون مغامرة الإبداع لحسابهم دون أن يستطيعوا تحقيق علاقة منتظمة مع الكتابة لأن الاحتراف شبه مستحيل، ومبيعات الإنتاج الأدبي لا تضمن لصاحبها مردودات يتعيّش منها، ولذلك كثيراً ما تكون الكتابة عملاً إضافياً ننجزه في أوقات الفراغ ونقتطعه من فترات الراحة. وهذا ما يدفعني إلى اعتبار ما أكتبه ذا حضور رمزيّ لا يتيح لي التحاور المنتظم والمستمر مع الجمهور المتلقّي.
لكن رغم الشروط الصعبة، فقد حرصت على أن أجعل من الكتابة الإبداعية فسحة حقيقية لممارسة حريّتي. ووجدت في الرواية شكلاً مرناً يسعفني على الانطلاق في رحلة البحث عن الذات المتشظية، والاقتراب من الآخر ومن المجتمع متعدد اللغات والخطابات، وكانت نقطة البداية هي استحضار الطفولة عبر التخييل وبوعي الحاضر، وشيئاً فشيئاً تتّسع الطفولة لتسدل علينا ظلالاً وارفة تباعد بيننا وبين الهجير، وتضيء المسالك المختلطة، ونحن نجري وراء الذات العميقة التي أضْحت غريبة عنّا. من خلل الطفولة، إذن، وبوساطة اللغة البكر التي أمدّتني بها، انطلقت لملاقاة ذاتي المضيّعة وسط زحمة الاجتماعات، والخطب المعادة، والمغامرات العابرة، كأنني أردت من الرواية أن تكون وسيلة معرفة قبل كل شيء، إلا أن الكتابة متعددة الهوية بطبيعتها ولا ترضى بأن (تسخّر) لأغراض يحددها الكاتب وحده. وهكذا وجدتني أعيش، وأنا أكتب روايتي الأولى طوال سنوات عدة، مغامرة ممتعة ومعذّبة لأن الكتابة لم تكن لتستقيم دون إدراك الأبعاد اللعبية الملتصقة بها، ودون الاستسلام لسحر اللغة وتجليّاتها عبر مستويات متعددة، متشابكة تقود إلى المتاهات أكثر مما تعبّر عن دلالة محددة.
.والواقع أن لجوئي إلى حرية الكتابة وضعني أمام شرك كبير، لأنني وجدت أن الكتابة التي أتطلبها مشدودة إلى ذاكرتي التي انطوت على جوانب كثيرة مسكوت عنها ولم أكن أعيرها التفاتاً بدعوى أن السياسة أسبق من بقية المجالات، أو ظنّاً مني بأن الممارسة ستوضح كل شيء، من ثم كانت الكتابة بالنسبة إليّ، وفي مرحلتي الثانية، مواجهة لا مفر منها بين الذات بما لها من تاريخ خاص، وعقد، ووعي، وبين المجتمع بمؤسساته وقوانينه وأخلاقياته الموروثة. وهذا تعارض جوهري ندركه عندما نحرص على أن نظل قريبين وأوفياء لتاريخنا الفردي الخاص. لأجل ذلك أؤيد القائلين بأن الرواية، في جوهرها، هي تشخيص صراع الفرد ضد المجتمع بحثاً عن توازن متعذّر في غالب الأحيان.
كيف أعتبر، إذن، الكتابة (ملجأ) يمدّني بالحرية؟
رغم صعوبة الكتابة، والجهد النفسي والمادي الذي تتطلبه، فقد وجدت أن المجال الوحيد الذي أستطيع أن أقول فيه ما أحسّه وأعتقده بحريّة، هو الكتابة التخييلية، من خلالها، أستطيع أن أتحدى جميع القيود والرقابات، مراهناً على قراء محتملين سيتجاوبون مع ما أكتبه. وهذا لا يعني أنني أعتمد الاستفزاز أو الإثارة. على العكس، أرى أن النص الصادر عن الأعماق لا يلتفت كثيراً إلى استمالة القرّاء، ولذلك فإن إمكانات التعبير لا تحدّ وتكون فاعلة رغم (حراسة) الرقابة. فأنا لست من الذين يراهنون على قراء سيأتون في زمن لاحق، بل أفترض أنهم يوجدون الآن، لكنني لا أرضى جلبهم عن طريق السهولة أو التنازلات. وفي مجالات أخرى للكتابة، أوثر الصمت على أن أكتب مالا يفصح عن الحد الأدنى مما أفكّر به، وليس خافياً أن القرن الذي ودّعناه، لم يكن قرن حريّة بالنسبة للمواطن العربي رغم النضالات والمعارك والتضحيات الكثيرة، الجسيمة، ومن ثمّ فإن أحد أهم إنجازات الأدب العربي الحديث، أنه استطاع أن يُبدع عوالم ونصوصاً موازية ومعارضة للخطابات الرسمية والأيديولوجية السائدة والرامية إلى التخدير وغسل الأدمغة. ومنذ هزيمة 1967 بالأخص، أخذت مجموعة لا بأس بها من الشعراء والروائيين والكتّاب العرب، على امتداد الوطن، تكتب دون الاتّكاء على سند أيديولوجي أو سلطوي لتقول المسكوت عنه، وتحرر الإبداع من الوصايات والممالأة. وهذا ما يجعلني أعتقد أن البوابة الموصلة إلى رحاب الوجدان العربي - لا فرق بين مركزه ومحيطه - هي نصوص الإبداع الأدبي المتوفر على الفنية والاستبصار والجرأة، ذلك أن الاختناق مهما اشتدّ، لا يستطيع أن يمنع المبدعين من (اللجوء إلى حرية الكتابة).
لحظات مضيئة
إذا كان صحيحاً أن معظم الذين يتابعون رحلة الحياة، يستندون إلى ما تختزنه ذاكراتهم من لحظات مضيئة تبدد تعبهم ويأسهم، فأنا أرى أن الكتابة، في أحد مقوماتها، هي استعادة لتلك اللحظات الهاربة منّا باستمرار، والتي نجري وراءها لنحدّ من سطوة الزّمان ونشغّل التخييل لندلل على أن التجارب والأشياء كان يمكن أن تكون على غير ما هي عليه، وأن اللغة يمكن أن تتحرر من وظيفة التواصل المحدودة، وأن تنقلنا إلى عوالم الحلم. وهذه المكانة التي تحتلها الذاكرة في عملية الكتابة هي التي تطرح أمامنا أسئلة صعبة، فأنا لا أريد أن أصبح أسير ذاكرتي التي هي، مهما اتسعت، تظل محدودة، مسيّجة، ولذلك أجنح إلى طريق من يعتقدون بإمكان خلق (شعريّة الذاكرة) التي تمتح من الاحتمالات ومن التخييل ومن هدم الحدود بين الواقعي والمتخيّل. وعلى هذا النحو، تتحرر الذاكرة من سطوتنا، وننعتق نحن من عبادتها واجتراراتها.
وفي العمق، فإن التطورات السريعة والمذهلة لوسائل الاتصال والمعرفة، تحتّم على ذاكرتنا أن تكون مفتوحة على مصراعيها وأن تجهد كثيراً من أجل أن تقتنص ما (تختص به) وتستثمره في البوْح والإبداع، وقد قرأت رأييْن مختلفين لكاتبين معاصرين يتحدث كل واحد منهما عمّا يشغله، قال أحدهما إنه مهموم بالناس الخائفين الذين لا يقدرون على الانغمار في الحياة والتعاطي معها، وقال الثاني: إن ما يقلقه هو تزايد شعوره بأن الناس أصبحوا مخيفين، قساة، وأظن أن مرفأ ذاكرة الكتابة عندي لا يمكن أن يبتعد عن (منطقة الخوف) هذه، المنطقة التي تحكم على الإنسان بأن يصون وجوده وحريته من خلال مغالبة جروحه الداخلية ومن خلال التصدّي للمخيفين الذين يدوسون الحياة باحتقار ولامبالاة.
* * *
وأنا أخط هذه الكلمات عن مرافئ الذاكرة، أحسّ وطأة الانتقال إلى قرن جديد، وأتسامق بخيالي لأستشرف تجربة وطني المغرب وهو يعيش مرحلة انتقالية صعبة، أخذت معالم ماضيها الشائن تتلاشى، غير أن الأفق البديل لم يتبلور بعد بالقدر الذي يتيح تخطّي اللحظات المعتمة.
ورغم الأمل الذي تتخايل ملامحه في جوانحي، فإنني لا أعرف كيف سيندمل ذلك الجرح العميق الذي عايشته أيام الاعتقالات والقمع ومصادرة الحريات منذ أواسط الستينيات إلى بداية التسعينيات.
والآن، وأنا أقرأ، في الصحف الوطنية، شهادات بعض مَن كانوا ضحايا السجن الوحشي في (تازْمَامْرتْ)، وأولئك الذين نجوا من الموت البطيء داخل مراكز التعذيب وفي ظلمات السجن، أتساءل عمّا إذا كان ذلك الجرح العميق سيعرف طريقه إلى الاندمال والتضميد والنسيان؟
محمد برادة
مجلة العربي اكتوبر 2000