وعندما استيقظ، انتبه السيد سين للمرة الأولى في حياته، أن جسده حي. كان يعلم أن روحه حية. وكما يحدث للجميع، كان يخلط بين روحه وجسده، فيحدث أن يقول: قلبي يؤلمني، ورأسي يؤلمني، وجسدي منهك؛ بدل أن يقول روحي تعاني من ألم عاطفي، أو روحي لا تستوعب ما يحدث، أو روحي تتألم. كان أيضا يولي الأهمية لروحه ويعتبرها أكبر شأنا، ولذا اعتاد أن يستعمل جسده مثل وعاء. وكما تعرفون، وكما كان يعتقد: الوعاء هو مادة جامدة، لا حياة تدب فيه. كان يردد لمن يريد أو لا يريد أن يسمع ذلك: هذا الجسد وعائي الناقل في هذه الحياة، لذا أهتم به. فعليه أن يحملني لأكبر مدة وفي أفضل الظروف الممكنة.
ولكنه كان مخطئا، بعضكم أيضا ربما شاركه هذا الخطأ الجسيم !
في ذلك الصباح من منتصف دجنبر، كان من المتوقع مثلما كانت تلك عادته، أن يهتم بحالة الطقس؛ يستيقظ نشطا، يذهب إلى النافذة، يزيح الستارة التي تخبئ حميميته عن فضول الجيران، ويحاول أن يرى السماء وأن يتوقع حالة الطقس. ثم يعود إلى سريره، يجلس على طرفه ليتناول هاتفه من المنضدة حتى يطالع حالة الطقس. بالنسبة للسيد سين، تكتسي أحوال السماء أهمية كبرى في برنامجه اليومي. فهي تحدد نوع ثيابه وشكلها، إذ تكون رسمية ودافئة شتاءً، بينما تتخفف من ذلك كلما اقترب الصيف وأثناءه. كما تتدخل حالة الطقس في اختيار طريقه، فهو يحب أن يمشي إلى عمله بمحاذاة النهر عندما تمطر، بينما يحب شكل سيقان النساء وانتعاشة أذرعهن صيفا، في حين يأسره دفء عيونهن ووقع صوتهن على مسامعه شتاء.
في ذلك الصباح، كان عليه أن يرتدي معطفه الأسود وأن يعلق محفظته على كتفه ثم يحمل مظلته. وكان عليه أن يخرج من باب شقته ويغلقها بانتباه شديد، فهو يعرف أن جارته المُطلَّقة تنام حتى وقت الظهيرة، وهو يحب أن يسمح لها بهذا الترف. وكان عليه في ذاك الصباح الماطر أن ينزل الدرج ثقيل الخطو، وأن يحرص على فتح مظلته قبل أن يخرج من البناية. كان سيتجنب التلاميذ الصغار وهم يتوجهون فرادى وجماعات، مع أمهات متعبات وقلقات، إلى مدارسهم. ثم على بعد مأتي متر سيتمكن أخيرا من الوصول إلى النهر، وبجانبه، سيسلك الطريق الهادئ إلى عمله، وسيشعر بالتناغم مع الماء الذي يهطل على مظلته والذي يُعَبِّد خطوه، وذاك الذي يجري بمحاذاته إلى مستقر بعيد. وكان عليه، في ذلك الصباح، أن يصل إلى مكتبه وينظم حسابات زبائنه؛ المال، نعم المال، حي إيضا. إنه يكبر ويموت. عليك أن تطعمه بعرق الآخرين وبأحلامهم لكي ينمو، وإذا ما سهوت عنه يضمحل حتى يموت.
هناك أشياء كثيرة حية في هاذا العالم، هذا ما كان يعتقده السيد سين. روحه التي كان يخلط بينها وبين جسده طبعا، والمال بالتأكيد، ولكن أيضا نبتة اللواية التي تنمو في شرفته، وجارته المطلقة، والتلاميذ وأمهاتهم، والأشجار التي تسكن أمام النهر، والنهر نفسه… تلك الأشياء التي ليست وعاءً فقط.
وفي ذاك الصباح، انتبه السيد سين أخيرا إلى كون جسده حي. بالأحرى، كان عليه أن يحدد هذا بوضوح: جسده مُكَوَّن من مجموعاتٍ حية؛ أعضاء وعظام وعضلات تشكل الأطراف والرأس والجذع. كل مجموعة تنقسم بدورها إلى مجموعات أخرى… وفجأة تذكر درس العلوم الطبيعية عن الخلية. ذاك الجزء الصغير الذي رآه في الفيلم التربوي الذي قدمه الأستاذ، والذي كان يدب حيوية.
انشغل السيد سين عن الذهاب إلى العمل. لم ينظر من النافذة، لم يغتسل ويشرب الشاي مع خبز شعير وزيت زيتون، لم يلبس طقمه الأسود، ولم ينهض عن سريره. كان للمرة الأولى منذ أن لم يعد طفلا، مستعدا للاعتراف بشعوره بالخوف. ولكن، لأنه لم يتزوج حتى لا يزعج نظامه اليومي، ولأن والديه اختارا أن يموتا معا قبل سنتين بنزلة برد مشتركة، فقد أصبح يعيش وحيدا، لا يؤنسه إلا صمت جارته. كان يعلم أنها تعاني من الكآبة منذ تطلقت. وقد أمكنه أن يتفهم حالتها، فهو مثلها قد ضجر من صفوف الأسوار التي تحيط به. لولا النوافذ، واللواية التي تجرب تسلق البيت في الشرفة، والسماء التي تنحني قليلا كل صباح ليتمكن من رؤيتها، لربما جرب-مثلما حاولت جارته ذلك مرتين سابقا- أن يترك جسده يسقط عن النافذة. ولكن السيد سين مصاب بمرض التفاؤل، وهو ما بدا متناقضا مع حرصه على عزلته المطلقة. كان يحب المال ولكنه لا يصطحبه إلى البيت، كان يحترم جارته المطلقة ولكنه لا يدعوها إلى فنجان شاي على شط النهر، ويحب فوضى الأطفال في الشارع لكنه لا يبتسم لهم. في عزلته فقط كان يحقق تفاؤله.
وها هو ممدد على سريره يشعر بوخز في قدميه، كأن جيشا من النمل يدب هناك. ها هو يشعر بتلك الأشياء الصغيرة داخله تتحرك، إنها تعبر عن وجودها وتجعله عاجزا عن الحركة. قال لجارته التي أتت أخيرا تستفقده:
– الأشياء الحية بداخلي تَقتُلُني. خلاياي تَقتُلُني.
قال الطبيب للجارة بصوت خافتٍ في الممر المؤدي إلى الباب الخارجي:
– إنها حالة تعب حاد. يحتاج إلى فيتاميناتٍ وكثير من الفرح.
لكن السيد سين كان مقتنعا أن جسده قد استيقظ من سباته العميق وأنه قد قرر أن يقتله. وقد تأكد له ذلك تماما عندما ارتعشت روحه في حضن جارته المُطَلَّقة التي نفذت وصية الطبيب، فأعطت للسيد سين فيتامينات حتى يقاوم التعب، وجسدها لكي يسترجع الفرح.
: فاطمة الزهراء الرغيوي
ولكنه كان مخطئا، بعضكم أيضا ربما شاركه هذا الخطأ الجسيم !
في ذلك الصباح من منتصف دجنبر، كان من المتوقع مثلما كانت تلك عادته، أن يهتم بحالة الطقس؛ يستيقظ نشطا، يذهب إلى النافذة، يزيح الستارة التي تخبئ حميميته عن فضول الجيران، ويحاول أن يرى السماء وأن يتوقع حالة الطقس. ثم يعود إلى سريره، يجلس على طرفه ليتناول هاتفه من المنضدة حتى يطالع حالة الطقس. بالنسبة للسيد سين، تكتسي أحوال السماء أهمية كبرى في برنامجه اليومي. فهي تحدد نوع ثيابه وشكلها، إذ تكون رسمية ودافئة شتاءً، بينما تتخفف من ذلك كلما اقترب الصيف وأثناءه. كما تتدخل حالة الطقس في اختيار طريقه، فهو يحب أن يمشي إلى عمله بمحاذاة النهر عندما تمطر، بينما يحب شكل سيقان النساء وانتعاشة أذرعهن صيفا، في حين يأسره دفء عيونهن ووقع صوتهن على مسامعه شتاء.
في ذلك الصباح، كان عليه أن يرتدي معطفه الأسود وأن يعلق محفظته على كتفه ثم يحمل مظلته. وكان عليه أن يخرج من باب شقته ويغلقها بانتباه شديد، فهو يعرف أن جارته المُطلَّقة تنام حتى وقت الظهيرة، وهو يحب أن يسمح لها بهذا الترف. وكان عليه في ذاك الصباح الماطر أن ينزل الدرج ثقيل الخطو، وأن يحرص على فتح مظلته قبل أن يخرج من البناية. كان سيتجنب التلاميذ الصغار وهم يتوجهون فرادى وجماعات، مع أمهات متعبات وقلقات، إلى مدارسهم. ثم على بعد مأتي متر سيتمكن أخيرا من الوصول إلى النهر، وبجانبه، سيسلك الطريق الهادئ إلى عمله، وسيشعر بالتناغم مع الماء الذي يهطل على مظلته والذي يُعَبِّد خطوه، وذاك الذي يجري بمحاذاته إلى مستقر بعيد. وكان عليه، في ذلك الصباح، أن يصل إلى مكتبه وينظم حسابات زبائنه؛ المال، نعم المال، حي إيضا. إنه يكبر ويموت. عليك أن تطعمه بعرق الآخرين وبأحلامهم لكي ينمو، وإذا ما سهوت عنه يضمحل حتى يموت.
هناك أشياء كثيرة حية في هاذا العالم، هذا ما كان يعتقده السيد سين. روحه التي كان يخلط بينها وبين جسده طبعا، والمال بالتأكيد، ولكن أيضا نبتة اللواية التي تنمو في شرفته، وجارته المطلقة، والتلاميذ وأمهاتهم، والأشجار التي تسكن أمام النهر، والنهر نفسه… تلك الأشياء التي ليست وعاءً فقط.
وفي ذاك الصباح، انتبه السيد سين أخيرا إلى كون جسده حي. بالأحرى، كان عليه أن يحدد هذا بوضوح: جسده مُكَوَّن من مجموعاتٍ حية؛ أعضاء وعظام وعضلات تشكل الأطراف والرأس والجذع. كل مجموعة تنقسم بدورها إلى مجموعات أخرى… وفجأة تذكر درس العلوم الطبيعية عن الخلية. ذاك الجزء الصغير الذي رآه في الفيلم التربوي الذي قدمه الأستاذ، والذي كان يدب حيوية.
انشغل السيد سين عن الذهاب إلى العمل. لم ينظر من النافذة، لم يغتسل ويشرب الشاي مع خبز شعير وزيت زيتون، لم يلبس طقمه الأسود، ولم ينهض عن سريره. كان للمرة الأولى منذ أن لم يعد طفلا، مستعدا للاعتراف بشعوره بالخوف. ولكن، لأنه لم يتزوج حتى لا يزعج نظامه اليومي، ولأن والديه اختارا أن يموتا معا قبل سنتين بنزلة برد مشتركة، فقد أصبح يعيش وحيدا، لا يؤنسه إلا صمت جارته. كان يعلم أنها تعاني من الكآبة منذ تطلقت. وقد أمكنه أن يتفهم حالتها، فهو مثلها قد ضجر من صفوف الأسوار التي تحيط به. لولا النوافذ، واللواية التي تجرب تسلق البيت في الشرفة، والسماء التي تنحني قليلا كل صباح ليتمكن من رؤيتها، لربما جرب-مثلما حاولت جارته ذلك مرتين سابقا- أن يترك جسده يسقط عن النافذة. ولكن السيد سين مصاب بمرض التفاؤل، وهو ما بدا متناقضا مع حرصه على عزلته المطلقة. كان يحب المال ولكنه لا يصطحبه إلى البيت، كان يحترم جارته المطلقة ولكنه لا يدعوها إلى فنجان شاي على شط النهر، ويحب فوضى الأطفال في الشارع لكنه لا يبتسم لهم. في عزلته فقط كان يحقق تفاؤله.
وها هو ممدد على سريره يشعر بوخز في قدميه، كأن جيشا من النمل يدب هناك. ها هو يشعر بتلك الأشياء الصغيرة داخله تتحرك، إنها تعبر عن وجودها وتجعله عاجزا عن الحركة. قال لجارته التي أتت أخيرا تستفقده:
– الأشياء الحية بداخلي تَقتُلُني. خلاياي تَقتُلُني.
قال الطبيب للجارة بصوت خافتٍ في الممر المؤدي إلى الباب الخارجي:
– إنها حالة تعب حاد. يحتاج إلى فيتاميناتٍ وكثير من الفرح.
لكن السيد سين كان مقتنعا أن جسده قد استيقظ من سباته العميق وأنه قد قرر أن يقتله. وقد تأكد له ذلك تماما عندما ارتعشت روحه في حضن جارته المُطَلَّقة التي نفذت وصية الطبيب، فأعطت للسيد سين فيتامينات حتى يقاوم التعب، وجسدها لكي يسترجع الفرح.
: فاطمة الزهراء الرغيوي