في الوقت الذي أعدت في الدولة المصرية نفسها لجنازة رسمية لصاحب نوبل نجيب محفوظ (1911-2006) إذ بوصيته التي تقول بأن تخرج جنازته من مسجد سيدنا الحسين بحي الحسين المعروف بالقاهرة، وكانت نشأة نجيب محفوظ في حي الحسين ذات تأثير خاص في ارتباط وعي الطفل الصغير بفكرة الموت، وفي تشكيل معالم هذا الوعي، ولا غرو فالحي بجملته موسوم بمقبرة ذات شأن عظيم في قلوب سكان الحي، وهي المقبرة التي تتمثل في ضريح الإمام الحسين، ويفصح الراوية الصغير عن شغفه بهذا الجسد المسجى في جوف المقبرة التي يتمسح الناس بعتباتها، وفي )بين القصرين( حين كانت أمينة تملأ عينيها من المعالم المحدقة بمحيط الضريح أعمدته وأبسطته، ومنبره، ومحاريبه، كان كمال "إلى جانبها ينظر إلى هذه الأشياء من زاوية أخرى خاصة به تري أن الجامع يكون مزارا للناس في النهار والهزيع الأول من الليل وبيتا من بعد ذلك لصاحبه الشهيد يذهب فيه ويجيء مستعملا ما فيه من أثاث على نحو ما يستعمل المالك ملكه، فيطوف بأرجائه ويصلي في المحراب ويرتقي المنبر ويعلو النوافذ ليشرف على حيه المحيط وكم تمنى حالما لو ينسونه في الجامع بعد أن بغلق أبوابه فيمكنه أن يلقى الحسين وجها لوجه وأن يمضي في حضرته ليلة كاملة حتى الصباح وتخيل ما كان عليه أن يقدمه له عند اللقاء من آي الحب والخضوع وما يجدر به أن يلقيه عند قدميه من أمانيه ورغباته وما يرجوه بعد ذلك من العطف والبركة، تخيل نفسه وهو يقترب منه خافض الرأس فيسأله الشهيد برقة: "من أنت؟"، فيجيبه وهو يقبل يده "كمال أحمد عبد الجواد..." لقد استطاع نجيب محفوظ في ثنايا أدبه الروائي عامة أن ينقل لنا صورة حية من الواقع الذي يعيشه بكل تفاصيله، معتمدا على قرائن نصية وتاريخية، غير أن المتمعن في الميثاق السردي الذي يعقده نجيب مع قارئه يلحظ مرواغة الكاتب وحذره من الاعتراف الصريح، ولعل هذه سمة من سمات الكتابة الأدبية التي تجنح إلى التلميح لا التصريح حتى لا تقع في شرك السرد المباشر ذي الطابع التاريخي المجرد للوقائع الروائية.
ليس الارتباط الفكري والبنية العقلية مع جمع بين نجيب محفوظ وكمال أحمد عبدالجواد فقط، بل على مستوى الحدث التاريخي، والتطورالاجتماع ، فكلاهما ولد في ديسمبر في مطلع النصف الأول من القرن العشرين في الحسين، وكلاهما عاصر إرهاصات ثورة 1919 م، وبداياتها الأولى في سني طفولته الباكرة، وكلاهما نشأ في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى بجوار حي الحسين، وكلاهما كان الأخ الأصغر في ترتيب إخوته الذين تعددوا ذكورا وإناثا، وعلى الرغم من هذا التوازي بين طفولة نجيب محفوظ، وطفولة العديد من شخصيات رواياته.
وكان نجيب محفوظ مسلما مستنيرا ومؤمنا من طراز فريد فقد ارتبط في شبابه بأستاذه في الفلسفة الاسلامية الشيخ مصطفى عبدالرازق وعمل معه بوزارة الأوقاف، ومن الروايات التي انشغلت بالبحث عن الإيمان والقيم الروحية رواية "رحلة ابن فطومة" التي تتجلى فيها بحث نجيب محفوظ عن الإيمان وراحة الإنسان, وتأثر فيها بمقالات كتبها في بداياته الفكرية والأدبية بعنوان "الله"، ويؤكد هذا الإنشغال فيقول نجيب محفوظ في مقاله عن مفهوم البراجماتيزم :"المادية تمحو الروحية والضمير الإنساني ولكنها لا تفسر لماذا نجد أنفسنا مع هذا الضمير في عالم غير عالم الموجودات، هو عالم المثل والقيم ؟ جميع هذه المسائل هي أوهام لا أساس لها، نشأت من اعتبار الفكر غاية في نفسه، ومن اعتباره تأملا والحق أن الفكر وظيفة تجريبية. والمتابع لخطابه بمناسبة فوزه بجائزة نوبل سيجد انشغاله بالحياة الروحية الدينية إذ يقول :" أنا ابن حضارتين هما الحضارة المصرية القديمة والعربية الاسلامية ". وقد ظل تكوينه " الفلسفي المبكر" إذ يصبح سلامة موسى أول الشخصيات المهمة في حياته، ثم تأتي شخصية مصطفى عبدالرازق أستاذ الفلسفة الاسلامية ووزير الأوقاف ثاني تلك الشخصيات إذ اختاره ليعمل سكرتيرا له في الوزارة، وكأني بخطابه في نوبل يعبر عن هذه المرحلة وهذا التكوين الذي صبغ حياته بلونها الذي رأيناه. ويشير رءوف سلامة موسي إلى أن نجيب محفوظ تحول عن الكتابة في مجلة "الجديدة" في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين وقد نشر سلامة موسى لمحفوظ مقالاته الفلسفية وكتابه التاريخي المترجم "مصر القديمة" وأول قصصه "ثمن الضعف" وأول رواياته "عبث الأقدار" ربما بتأثير من عمله سكرتيرا لوزير الأوقاف مصطفى عبد الرازق الذي كان أستاذا له لمادة الفلسفة الإسلامية بالجامعة. وأتصور أن ذلك كان تحولا ظهر جليا في أغلب رواياته لاحقا التي بحثت عن الايمان وحيرة الانسان بين الفلسفات الوضعية الكثيرة الي عاش نجيب محفوظ بين جنباتها . وهذا الايمان هو ما دفعه بأن تخرج جنازته من مسجد الحسين وهناك من يحرص على ان تكون جنازته بالجامعة أو أي مكان آخر. .
د. خالد محمد عبدالغني
ليس الارتباط الفكري والبنية العقلية مع جمع بين نجيب محفوظ وكمال أحمد عبدالجواد فقط، بل على مستوى الحدث التاريخي، والتطورالاجتماع ، فكلاهما ولد في ديسمبر في مطلع النصف الأول من القرن العشرين في الحسين، وكلاهما عاصر إرهاصات ثورة 1919 م، وبداياتها الأولى في سني طفولته الباكرة، وكلاهما نشأ في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى بجوار حي الحسين، وكلاهما كان الأخ الأصغر في ترتيب إخوته الذين تعددوا ذكورا وإناثا، وعلى الرغم من هذا التوازي بين طفولة نجيب محفوظ، وطفولة العديد من شخصيات رواياته.
وكان نجيب محفوظ مسلما مستنيرا ومؤمنا من طراز فريد فقد ارتبط في شبابه بأستاذه في الفلسفة الاسلامية الشيخ مصطفى عبدالرازق وعمل معه بوزارة الأوقاف، ومن الروايات التي انشغلت بالبحث عن الإيمان والقيم الروحية رواية "رحلة ابن فطومة" التي تتجلى فيها بحث نجيب محفوظ عن الإيمان وراحة الإنسان, وتأثر فيها بمقالات كتبها في بداياته الفكرية والأدبية بعنوان "الله"، ويؤكد هذا الإنشغال فيقول نجيب محفوظ في مقاله عن مفهوم البراجماتيزم :"المادية تمحو الروحية والضمير الإنساني ولكنها لا تفسر لماذا نجد أنفسنا مع هذا الضمير في عالم غير عالم الموجودات، هو عالم المثل والقيم ؟ جميع هذه المسائل هي أوهام لا أساس لها، نشأت من اعتبار الفكر غاية في نفسه، ومن اعتباره تأملا والحق أن الفكر وظيفة تجريبية. والمتابع لخطابه بمناسبة فوزه بجائزة نوبل سيجد انشغاله بالحياة الروحية الدينية إذ يقول :" أنا ابن حضارتين هما الحضارة المصرية القديمة والعربية الاسلامية ". وقد ظل تكوينه " الفلسفي المبكر" إذ يصبح سلامة موسى أول الشخصيات المهمة في حياته، ثم تأتي شخصية مصطفى عبدالرازق أستاذ الفلسفة الاسلامية ووزير الأوقاف ثاني تلك الشخصيات إذ اختاره ليعمل سكرتيرا له في الوزارة، وكأني بخطابه في نوبل يعبر عن هذه المرحلة وهذا التكوين الذي صبغ حياته بلونها الذي رأيناه. ويشير رءوف سلامة موسي إلى أن نجيب محفوظ تحول عن الكتابة في مجلة "الجديدة" في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين وقد نشر سلامة موسى لمحفوظ مقالاته الفلسفية وكتابه التاريخي المترجم "مصر القديمة" وأول قصصه "ثمن الضعف" وأول رواياته "عبث الأقدار" ربما بتأثير من عمله سكرتيرا لوزير الأوقاف مصطفى عبد الرازق الذي كان أستاذا له لمادة الفلسفة الإسلامية بالجامعة. وأتصور أن ذلك كان تحولا ظهر جليا في أغلب رواياته لاحقا التي بحثت عن الايمان وحيرة الانسان بين الفلسفات الوضعية الكثيرة الي عاش نجيب محفوظ بين جنباتها . وهذا الايمان هو ما دفعه بأن تخرج جنازته من مسجد الحسين وهناك من يحرص على ان تكون جنازته بالجامعة أو أي مكان آخر. .
د. خالد محمد عبدالغني