قديما، في عصور يحمل لنا التاريخ المسجل بين طيات الأدب الشعبي، أو بين صفحات كتب العقلاء المجانين، عبق ثقافة هامشية تناوش الرسمية و تتحداها بحرية كبيرة. رافعة عقيرتها في الأسواق والمساجد وحلقات الحكي ومقامات التنذر والتفكه.برز صوت البهلول ليفضح واقعا وثقافة باتت تثقل الكاهل وتضطهد الروح، عاملة على طمس معالمها و قتل المبادرة والفعل الحر فيها، واستغلال طاقاتها؛ لتختط معلم ثقافة يمكن وسمها بثقافة المضطهد والـحكيم المـقموع أو الـمجنون العاقل.
إن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان يعيش فيه هؤلاء المـجانين، حكم عليهم بالثنائية المتجلية في المفارقة الكامنة بين ظاهر الحال سواء أكان: تصرفات، وأفعال، وملابس. والباطن المتجلي في منطوقات ذات طابع حكمي، وعظي يقلل من شأن الدنيا و يزهد الناس فيها و يذكرهم بالمآل. هذه المفارقة جعلت الناس يلقبونهم بالمجانين العقلاء.
لذلك تسعى هذه الدراسة إلى تلمس بعض ملامح المفارقة التي حكمت واقع البهلول. وقبل ذلك لابد من وقفة لتوضيح المقصود بالبهلول أو المـجنون العاقل.
1-معنى الجنون في الثقافة العربية:
تفترق دلالة الجنون في سياقها القاموسي الـمبنية على معنى الحجب و الاستتار، عن دلالتها في السياق الاجتماعي و التاريخي باعتبارها حاملة لفكر تثو يري، يناهض الواقع ويسعى إلى خلخلة نظامه، متسترا برداء العُته الـمُـتخذ كتقية تحمي صاحبها من مغَبات القول. فتتولد المفارقة بين محتوى الفعل ومعنى الكلمة، التي تجعل المتلقي يقف على محور كله تردد.
و لعل للتمييز الذي قدمه أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري في كتابه عقلاء المجانين، خير مرجع من شأنه أن يؤطر الحقل الدلالي للجنون؛ حيث يقف فيه عند المفارقة التي تحكم واقع هذا الكائن ذي الوعي الشقي ، المستبصر، المتجاوز للظاهر و المستبطن للحقائق الثاوية بين القشور. والذي يجعله يخالف العامة و يناقضهم في الأقوال والأفعال،
[ فالمجنون عند الناس من يُسمِع ويسُب ويرمي ويخرق الثوب، أومن يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما يُنكرون لأنهم شقوا عصاهُم فنابذُوهُم وأتوا بخلاف ما هم فيه. قال الله تعالى:{كذبت ثمود قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنزن وازدُجِر، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر}][1]
وقد قدم ابن خلدون في المقدمة تعريفا دقيقا للجنون، إذ وقف عند الفروقات المتواجدة بين المجنون وشبه المجنون أو ما سماه بالبهلول؛ إذ أبعد هذا الأخير عن الدلالة الإيجابية[2] التي ارتبطت به و المتعلقة بالسيادة، والكرم، والحسن، وعزة النفس. ليقرنه بالبلاهة ويجعله يتاخم حافات الجنون دون إقصاء تامٍ لهذه المعاني الإيجابية. لأن البهاليل [لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين و إنما فقد لهم العقل الذي يُناط به التكليف، وهي صفة خاصة للنفس[....]وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه و لا ذاهل عن معرفة المعاش][3] . فابن خلدون لا يلغي عن البهلول إمكانية المعرفة المقتربة من الكشف الصوفي المتحقق بالدربة والزهد والرياضة الدينية، التي تلغي الجسد لتحرر الروح وتجعلها تهيم في ملكوت المعرفة غير مقيدة و لا عابئة بمتطلبات الجسد و لا بالمواضعات المتعارف عليها، فتكون المعرفة المحصل عليها شبيهة بالإشراقات الصافية والرؤا التي لا يشوبها باطل.كتلك التي جعلت الحلاج يصيح في لحظة انتشاء قائلا: ما في الجبة غير الله.
في حين أن المعرفة التي ينتجها المـحنون يخالط فيها الحق الباطل لفساد نفسه الناطقة. والنفس عند ابن خلدون وغيره من الفلاسفة العرب[ جوهر روحاني مفارق....قادر على تحصيل المعرفة وإدراك المعقولات، أي المعاني المجردة][4]. أما النفس الناطقة فهي الأفعال الفكرية المعبرة عن هذا الجوهر، المجرد المفارق للمادة.
و نظرا لهذه التجليات المعرفية التي ينهل منها البهلول فإن مقامه يرتفع إلى مصاف الأولياء الصالحين، الأمر الذي يجعل منطوقاته تتسلل إلى الوعي الجماعي و تنتشر بين شرائحه المختلفة، التي تعيد إنتاجها ضامنة بذلك استمرارها داخل النسق الثقافي للفرد والجماعة.
2-المفارقة و الجنون:
لا نقصد بالمفارقة ذلك الأسلوب التعبيري الذي ينهض على أساس الاختلاف القائم بين ظاهر القول وباطنه، كما لا تقصد بها حدوث موقف في وقت غير مناسب أو غيرها من التعريفات المتولدة عن التاريخ الطويل لهذا المصطلح.وإنما نقصد بها ذلك الاختلاف ما بين صورة البهلول وأوضاعه بين الناس، وبين منطوقاته. ذلك أن شخصية البهلول انبنت في المسارد العربية بالتركيز في شقها الأول على : الشكل، والأخلاق، والأفعال. وفي شقها الثاني على المنطوقات؛ أي على الجانب اللغوي الذي يكشف المسكوت عنه والممنوع الذي لا يصرح عنه إلا جنونا. وبتلاحم الشقين تتولد المفارقة التي لا يمكن الكشف عنها إلا بالوقوف عند بعض مساريد العقلاء المجانين.
3 –مساريد العقلاء المجانين:
إن مظهر البهلول الخارجي وأفعاله اللامعقولة تجعل العامة يصفونه بالمجنون، لكن هذا المظهر المقرون بلطف العبارة و حسن المعنى و جودة الكناية هو الذي يهبه مكانة عليا لدى الولاة والسلاطين والعارفين من الناس. يقول النيسابوري: [خرج الرشيد إلى الحج، فلما كان بظهر الكوفة إذا هو ببهلول المجنون على قصبة و خلفه صبيان و هو يعدو.فقال : من ذا ؟ قالوا : بهلول المجنون. قال: كنت أشتهي أن أراه فادعوه غير مروع. فقالوا : له أجب أمير المؤمنين، فعدا على قصبته. فقال الرشيد: السلام عليك يا بهلول. فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين. قال : كنت إليك بالأشواق. قال: لكني لم أشتق إليك .قال: عظني يا بهلول.قال: و بم أعظك؟ هذه قصورهم و هذه قبورهم. قال : زدني فقد أحسنت. قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالا وجمالا فعف في جماله وواسى من ماله كتب في ديوان الأبرار. فظن الرشيد أنه يريد شيئا. فقال : قد أمرنا أن يقضى دينك. قال : كلا لا يُقضى دين بدين، أردد الحق على أهله و اقض دين نفسك من نفسك.هذه نفس واحدة، أن هلكت ما انجبرت. قال الرشيد: فإنا أمرنا أن يُجرَى عليك. فقال : يا أمير المؤمنين : إن الله لا يعطيك وينسناني . ثم ولى هارب]ا.[5] فإذا ما وقفا عند الأفعال السردية وجدناها تشي بالمفارقة بين الفعل والقول.والجدول التالي يلخص هذا الوضع:
أفعال البهلول
أقواله
يعدو على قصبة و حلفه الصبيان
رده السلام على الرشيد.
تلبيته لطلب الرشيد ركضا على عصاه
وعظه للرشيد بأسلوب موجز حكمي: هذه قصورهم و هذه قبورهم.
هروبه
تقليله من شأن المال و الجمال: من عف في جماله وواسى من ماله كتب في ديوان الأبرار.
أمره بالعدل بين الناس: اردد الحق على أهله.
أمره بعتق النفس من الهلاك بتخليصها من كل ما يثقلها: اقض دين نفسك من نفسك.
التذكير بأن الرزاق العادل هو الله عز وجل: إن الله لا يعطيك وينسناني
من خلال هذه الأقوال يتضح أن العقلاء المجانين لهم معرفة كبرى بكتاب الله. ويدعون إلى العمل بما جاء متضمنا بين صفحاته، و يعتبرون الصبر على الأدية من عزم الأمور و ابتلاء من الله تعالى، فحينما اجتمع صبيان حول فليت البهلول،[ يؤذونه ويرمونه بالحجارة كان يقول: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}][6].و في موضع آخر من كتاب عقلاء المجانين نجد أن صبيانا هجموا على بهلول بالضرب[ فهرب منهم فدخل دارا لبعض القرشيين مفتوحة الباب ورد الباب .وحرج صاحب الدار فرآه. فدعا بطبق عليه طعام فجعل الصبيان يصيحون على الباب وهو يأكل ويقول:{فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}][7]
خلاصة
من كل ما سبق يمكن القول :
1 إن البنية السردية التي تضمنت خطاب العقلاء المجانين، بنية مكتملة لجمعها بين الوصف والحوار وتحديدها للإطار الزماني والمكاني الذي تتحرك ضمنه الشخصيات.
2 إن خطاب هؤلاء المجانين يتسم بالعناصر التالية:
- أنه ذو طابع تعليمي وعظي.
- ذو طابع استشهادي ينهل من القرآن أو الشعر.
- يسمو عن الكلام المألوف رغم أنه ينتشر بين الشعب.
- خطاب هرمي يتوجه رأسا إلى السادة، ثم بعد ذلك إلى المحكومين.
و لا مندوحة في الختام، أن نؤكد على أن البهاليل هم أناس كانوا يتحامقون فرارا من الجور وخوفا من البطش. و أنهم أنتجوا خطابا سلوكيا ذو طابع استعادي يؤكد على أن العقل [إشراقه دائم ونوره منتشر وطلوعه سرمد وكسوفه معدوم وتجليه غير متوقف][8].فكم من عاقل فضل ارتداء عباءة الجنون!؟.
[1] عقلاء المجانين-أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب-ص:30-تحقيق الدكتور عمر الأسعد-دار النقاش-بيروت-لبنان-ط1-1987
[2] -انظر مادة: بهل في لسان العرب لابن منظور وفي فقه اللغة للثعالبي.
[3] انظر: حطاب الجنون في الثقافة العربية – محمد حيان السمان-ص:19-منشورات رياض الريس-قبرص ط1-1993
[4] -نفسه ص:21
[5] - عقلاء المجانين-أبو القاسم الحسن النيسابوري- ص:140
[6] نفسه – ص:155
[7] -نفسه ص: 179
[8] - الإمتاع و المؤانسة –أبو حيان التوحيدي-ص:119 –تصحيح و ضبط: أحمد أمين وأحمد الزين- المكتبة العصرية –بيروت.
إن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان يعيش فيه هؤلاء المـجانين، حكم عليهم بالثنائية المتجلية في المفارقة الكامنة بين ظاهر الحال سواء أكان: تصرفات، وأفعال، وملابس. والباطن المتجلي في منطوقات ذات طابع حكمي، وعظي يقلل من شأن الدنيا و يزهد الناس فيها و يذكرهم بالمآل. هذه المفارقة جعلت الناس يلقبونهم بالمجانين العقلاء.
لذلك تسعى هذه الدراسة إلى تلمس بعض ملامح المفارقة التي حكمت واقع البهلول. وقبل ذلك لابد من وقفة لتوضيح المقصود بالبهلول أو المـجنون العاقل.
1-معنى الجنون في الثقافة العربية:
تفترق دلالة الجنون في سياقها القاموسي الـمبنية على معنى الحجب و الاستتار، عن دلالتها في السياق الاجتماعي و التاريخي باعتبارها حاملة لفكر تثو يري، يناهض الواقع ويسعى إلى خلخلة نظامه، متسترا برداء العُته الـمُـتخذ كتقية تحمي صاحبها من مغَبات القول. فتتولد المفارقة بين محتوى الفعل ومعنى الكلمة، التي تجعل المتلقي يقف على محور كله تردد.
و لعل للتمييز الذي قدمه أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري في كتابه عقلاء المجانين، خير مرجع من شأنه أن يؤطر الحقل الدلالي للجنون؛ حيث يقف فيه عند المفارقة التي تحكم واقع هذا الكائن ذي الوعي الشقي ، المستبصر، المتجاوز للظاهر و المستبطن للحقائق الثاوية بين القشور. والذي يجعله يخالف العامة و يناقضهم في الأقوال والأفعال،
[ فالمجنون عند الناس من يُسمِع ويسُب ويرمي ويخرق الثوب، أومن يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما يُنكرون لأنهم شقوا عصاهُم فنابذُوهُم وأتوا بخلاف ما هم فيه. قال الله تعالى:{كذبت ثمود قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنزن وازدُجِر، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر}][1]
وقد قدم ابن خلدون في المقدمة تعريفا دقيقا للجنون، إذ وقف عند الفروقات المتواجدة بين المجنون وشبه المجنون أو ما سماه بالبهلول؛ إذ أبعد هذا الأخير عن الدلالة الإيجابية[2] التي ارتبطت به و المتعلقة بالسيادة، والكرم، والحسن، وعزة النفس. ليقرنه بالبلاهة ويجعله يتاخم حافات الجنون دون إقصاء تامٍ لهذه المعاني الإيجابية. لأن البهاليل [لم تعدم نفوسهم الناطقة ولا فسدت كحال المجانين و إنما فقد لهم العقل الذي يُناط به التكليف، وهي صفة خاصة للنفس[....]وليس من فقد هذه الصفة بفاقد لنفسه و لا ذاهل عن معرفة المعاش][3] . فابن خلدون لا يلغي عن البهلول إمكانية المعرفة المقتربة من الكشف الصوفي المتحقق بالدربة والزهد والرياضة الدينية، التي تلغي الجسد لتحرر الروح وتجعلها تهيم في ملكوت المعرفة غير مقيدة و لا عابئة بمتطلبات الجسد و لا بالمواضعات المتعارف عليها، فتكون المعرفة المحصل عليها شبيهة بالإشراقات الصافية والرؤا التي لا يشوبها باطل.كتلك التي جعلت الحلاج يصيح في لحظة انتشاء قائلا: ما في الجبة غير الله.
في حين أن المعرفة التي ينتجها المـحنون يخالط فيها الحق الباطل لفساد نفسه الناطقة. والنفس عند ابن خلدون وغيره من الفلاسفة العرب[ جوهر روحاني مفارق....قادر على تحصيل المعرفة وإدراك المعقولات، أي المعاني المجردة][4]. أما النفس الناطقة فهي الأفعال الفكرية المعبرة عن هذا الجوهر، المجرد المفارق للمادة.
و نظرا لهذه التجليات المعرفية التي ينهل منها البهلول فإن مقامه يرتفع إلى مصاف الأولياء الصالحين، الأمر الذي يجعل منطوقاته تتسلل إلى الوعي الجماعي و تنتشر بين شرائحه المختلفة، التي تعيد إنتاجها ضامنة بذلك استمرارها داخل النسق الثقافي للفرد والجماعة.
2-المفارقة و الجنون:
لا نقصد بالمفارقة ذلك الأسلوب التعبيري الذي ينهض على أساس الاختلاف القائم بين ظاهر القول وباطنه، كما لا تقصد بها حدوث موقف في وقت غير مناسب أو غيرها من التعريفات المتولدة عن التاريخ الطويل لهذا المصطلح.وإنما نقصد بها ذلك الاختلاف ما بين صورة البهلول وأوضاعه بين الناس، وبين منطوقاته. ذلك أن شخصية البهلول انبنت في المسارد العربية بالتركيز في شقها الأول على : الشكل، والأخلاق، والأفعال. وفي شقها الثاني على المنطوقات؛ أي على الجانب اللغوي الذي يكشف المسكوت عنه والممنوع الذي لا يصرح عنه إلا جنونا. وبتلاحم الشقين تتولد المفارقة التي لا يمكن الكشف عنها إلا بالوقوف عند بعض مساريد العقلاء المجانين.
3 –مساريد العقلاء المجانين:
إن مظهر البهلول الخارجي وأفعاله اللامعقولة تجعل العامة يصفونه بالمجنون، لكن هذا المظهر المقرون بلطف العبارة و حسن المعنى و جودة الكناية هو الذي يهبه مكانة عليا لدى الولاة والسلاطين والعارفين من الناس. يقول النيسابوري: [خرج الرشيد إلى الحج، فلما كان بظهر الكوفة إذا هو ببهلول المجنون على قصبة و خلفه صبيان و هو يعدو.فقال : من ذا ؟ قالوا : بهلول المجنون. قال: كنت أشتهي أن أراه فادعوه غير مروع. فقالوا : له أجب أمير المؤمنين، فعدا على قصبته. فقال الرشيد: السلام عليك يا بهلول. فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين. قال : كنت إليك بالأشواق. قال: لكني لم أشتق إليك .قال: عظني يا بهلول.قال: و بم أعظك؟ هذه قصورهم و هذه قبورهم. قال : زدني فقد أحسنت. قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالا وجمالا فعف في جماله وواسى من ماله كتب في ديوان الأبرار. فظن الرشيد أنه يريد شيئا. فقال : قد أمرنا أن يقضى دينك. قال : كلا لا يُقضى دين بدين، أردد الحق على أهله و اقض دين نفسك من نفسك.هذه نفس واحدة، أن هلكت ما انجبرت. قال الرشيد: فإنا أمرنا أن يُجرَى عليك. فقال : يا أمير المؤمنين : إن الله لا يعطيك وينسناني . ثم ولى هارب]ا.[5] فإذا ما وقفا عند الأفعال السردية وجدناها تشي بالمفارقة بين الفعل والقول.والجدول التالي يلخص هذا الوضع:
أفعال البهلول
أقواله
يعدو على قصبة و حلفه الصبيان
رده السلام على الرشيد.
تلبيته لطلب الرشيد ركضا على عصاه
وعظه للرشيد بأسلوب موجز حكمي: هذه قصورهم و هذه قبورهم.
هروبه
تقليله من شأن المال و الجمال: من عف في جماله وواسى من ماله كتب في ديوان الأبرار.
أمره بالعدل بين الناس: اردد الحق على أهله.
أمره بعتق النفس من الهلاك بتخليصها من كل ما يثقلها: اقض دين نفسك من نفسك.
التذكير بأن الرزاق العادل هو الله عز وجل: إن الله لا يعطيك وينسناني
من خلال هذه الأقوال يتضح أن العقلاء المجانين لهم معرفة كبرى بكتاب الله. ويدعون إلى العمل بما جاء متضمنا بين صفحاته، و يعتبرون الصبر على الأدية من عزم الأمور و ابتلاء من الله تعالى، فحينما اجتمع صبيان حول فليت البهلول،[ يؤذونه ويرمونه بالحجارة كان يقول: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}][6].و في موضع آخر من كتاب عقلاء المجانين نجد أن صبيانا هجموا على بهلول بالضرب[ فهرب منهم فدخل دارا لبعض القرشيين مفتوحة الباب ورد الباب .وحرج صاحب الدار فرآه. فدعا بطبق عليه طعام فجعل الصبيان يصيحون على الباب وهو يأكل ويقول:{فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}][7]
خلاصة
من كل ما سبق يمكن القول :
1 إن البنية السردية التي تضمنت خطاب العقلاء المجانين، بنية مكتملة لجمعها بين الوصف والحوار وتحديدها للإطار الزماني والمكاني الذي تتحرك ضمنه الشخصيات.
2 إن خطاب هؤلاء المجانين يتسم بالعناصر التالية:
- أنه ذو طابع تعليمي وعظي.
- ذو طابع استشهادي ينهل من القرآن أو الشعر.
- يسمو عن الكلام المألوف رغم أنه ينتشر بين الشعب.
- خطاب هرمي يتوجه رأسا إلى السادة، ثم بعد ذلك إلى المحكومين.
و لا مندوحة في الختام، أن نؤكد على أن البهاليل هم أناس كانوا يتحامقون فرارا من الجور وخوفا من البطش. و أنهم أنتجوا خطابا سلوكيا ذو طابع استعادي يؤكد على أن العقل [إشراقه دائم ونوره منتشر وطلوعه سرمد وكسوفه معدوم وتجليه غير متوقف][8].فكم من عاقل فضل ارتداء عباءة الجنون!؟.
[1] عقلاء المجانين-أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب-ص:30-تحقيق الدكتور عمر الأسعد-دار النقاش-بيروت-لبنان-ط1-1987
[2] -انظر مادة: بهل في لسان العرب لابن منظور وفي فقه اللغة للثعالبي.
[3] انظر: حطاب الجنون في الثقافة العربية – محمد حيان السمان-ص:19-منشورات رياض الريس-قبرص ط1-1993
[4] -نفسه ص:21
[5] - عقلاء المجانين-أبو القاسم الحسن النيسابوري- ص:140
[6] نفسه – ص:155
[7] -نفسه ص: 179
[8] - الإمتاع و المؤانسة –أبو حيان التوحيدي-ص:119 –تصحيح و ضبط: أحمد أمين وأحمد الزين- المكتبة العصرية –بيروت.