مثل البرق ومض الأديب محمد مستجاب واختفى.. جاء موته صادما ومفاجئا للوسط الثقافي العربي كله.. فقد كان الاديب المصري الراحل يتدفق حيوية ونشاطا وهو في الثامنة والستين من عمره.. لكنه انسحب من الحياة بهدوء بعد ان خاض غمارها وذاق مرها طويلا.. وذاق بعض حلوها قليلا.. فقد حال الفقر وشظف العيش دون ان يبدأ مستجاب انطلاقته الادبية مبكرا فقد بدأ نجمه يسطع في منتصف سبعينيات القرن الماضي وهو في حوالي الثامنة والثلاثين من عمره أو أكثر.. وذاعت شهرته وكان لديه الكثير الذي يود اضافته الى مشروعه الادبي لكن الموت كان له رأي آخر وكتب كلمة النهاية لحياة حافلة بالمر الكثير والحلو القليل.. وسار أدباء ومثقفو مصر خلف جثمان مستجاب امس الاول 'الاثنين' وقد أخذتهم المفاجأة وهالتهم الصدمة.
ومحمد مستجاب من الاسماء المرموقة في ساحة القصة بالعالم العربي، وكان نجما متألقا من نجومها، وحصل على جائزة الدولة في الاداب في ثمانينيات القرن الماضي، وأصدر طوال مسيرته الادبية أكثر من عشرة أعمال بين القصة والرواية والنقد والمقالات المجمعة، وأشهر أعماله 'ديروط الشريف' و 'القصص الاخرى' و 'قيام وانهيار آل مستجاب' و 'قصص حمقاء'، وآخرها رواية 'اللهو الخفي' التي صدرت عن دار 'ميريت' بالقاهرة منذ شهور، وروايته الاولى 'التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ' الصادرة عام 1975 من علامات الكتابة الروائية عن صعيد مصر، وصنفها اتحاد الكتاب العرب ضمن افضل مئة رواية صدرت باللغة العربية، وترجمت لاكثر من لغة منها الهولندية والفرنسية واليابانية.
نشأة قاسية
ولد مستجاب في مركز ديروط الشريف التابع لمحافظة اسيوط جنوب مصر لأسرة شديدة الفقر، وكان يقول بخليط من الاسى والسخرية 'حتى الطعام الخشن لم نكن نجده'، وبسبب إهمال أسرته وفقرها فقد إحدى عينيه نتيجة عدم الاعتناء بعلاجها من الرمد وهو في الثانية من عمره، وفي طفولته كان نبيها وتفوق على أقرانه في الكتّاب والمرحلة الاولية، لكنه لم يواصل تعليمه نظرا لظروف أسرته، واشتغل عاملا في السد العالي، ومن هناك كان يراسل المجلات بخواطر ومقالات، والخاطرة التي نشرها له د. مصطفى محمود في بابه بمجلة 'صباح الخير' أولى تجاربه في النشر، وفي عام 1969 نشر قصته الاولى، وبسبب زيارة قام بها وفد من المثقفين يقوده وزير الثقافة المصري الاسبق ثروت عكاشة لعمال السد العالي - انتقل مستجاب للعمل بمجمع اللغة العربية، وتدرج في المناصب حتى وصل الى درجة المدير العام، وقصصه الاولى لفتت اليه النظر بشدة ككاتب له أسلوب ساخر متميز، واستكتب في عدد من الصحف والمجلات منها 'الاتحاد' و'الشرق الاوسط' و'المصور' و'العربي'.
بداية متأخرة
بدأ مستجاب الكتابة متأخرا، في بداية السبعينيات تقريبا، لكنه سرعان ما أصبح من كتاب مصر المعدودين، كما كان من الكتاب أصحاب المواقف، وظل طوال حياته متمسكا برفض التطبيع مع اسرائيل، وفي عام 1998 رفض المشاركة في مؤتمر أدبي بباريس بسبب مشاركة بعض الادباء الاسرائيليين، كما كان جريئا، ويواجه خصومه بعنف، وله حضور مؤثر بين الادباء المصريين، وطوال مسيرته خاض كثيرا من المعارك سواء مع المؤسسات الثقافية أو مع الكتاب والمثقفين، وجائزة الدولة نفسها حصل عليها بمعركة، وكان يقول: 'أبعدت عن جائزة الدولة لأسباب غير موضوعية وحصلت عليها لاسباب غير موضوعية'، كما كان خصما لدودا للتيارات المتطرفة، فمدافعا عن حرية الرأي والتعبير، وهاجم الرقابة على الاعمال الفنية بشراسة، وكان يعتبر نفسه ابنا لثورة يوليو ،1952 وكان يقول 'لولاها ما تعلم أمثالي'، وكان من المناصرين لمشروعها القومي والحالمين بالوحدة العربية، ولكنه كان ضد الاستبداد وحكم العسكر، وله قصة اعتبرها البعض إسقاطا على ضباط ثورة يوليو، وتصف عصبة من الشباب الريفيين الجوعى والاقوياء يسيرون وسط الحقول واثناء سيرهم وهم يتلمظون جوعا ظهرت لهم شاة فانقضوا عليها وسحبوا السكاكين وذبحوها، ثم وقعوا في ورطة حيث اكتشفوا انه لا يوجد بينهم من يعرف السلخ، وبدافع الجوع انقضوا عليها ونهشوها بجلدها!!
إهمال وتهميش.. و'حرق دم'
حتى سنوات قليلة كان مستجاب نجما متألقا، وكان صوته مسموعا في الحياة الثقافية المصرية، وكنت تسمع ضحكته المجلجلة من أي مكان في وسط القاهرة، وكان يتردد على الاتيليه ومقاهي وسط البلد، ولكنه خفت فجأة وقل حضوره، وجسده الضخم أصبح نحيلا، ربما لمرضه، وربما لظروف أسرته وخصوصا مرض ابنته، وربما لان الذائقة التي تربى عليها وآمن بها تغيرت، وهو كاتب ساخر في الأساس، وفي سنواته الاخيرة كان يرى الاسلوب الساخر السائد في الكتابة الصحفية وأيضا الروائية لا يناسبه، حيث رآه مسفا وخفيفا أكثر من اللازم، فانزوى، حتى الصحف التي يحرص على الكتابة لها لم يعد يوليها اهتماما. وقبل سنوات قليلة كان كاتبا دائما في الصحافة المصرية والصحف الجديدة كانت تحرص على ضم مستجاب لكتابها حتى تضمن نوعا حادا من السخرية، وعمود مستجاب 'حرق الدم' تنقل بين العديد من الصحف المصرية والعربية، غير ان الصحف المصرية التي صدرت في الفترة الاخيرة أهملته وقدمت خطابا ساخرا أعطى انطباعا بأن الاسلوب 'المستجابي' لم يعد يناسبها، ورواية مستجاب الاخيرة التي أصدرتها دار ميريت لم تنل الاهتمام اللائق، وكان يحس بأن هناك من يتعمد تجاهله، واستبعاده من جائزة التفوق ولكن اسمه كان مطروحا طوال الوقت وفي السنوات الاخيرة كان يصدر عملا واثنين في العام.
موهبة وحشية
المثقفون المصريون صدموا بخبر وفاة مستجاب، فقد كان يتحرك بينهم منذ أيام. وقال الروائي الكبير خيري شلبي انه كان موهبة وحشية لا مثيل لها في كافة الاجيال، والذين قلدوا أسلوبه فشلوا جميعا وقصص مستجاب شديدة التكثيف والذكاء، وقصصه القصيرة عن عمال السد العالي في مرتبة الامثولة. واضاف ان محمد مستجاب ويحيى الطاهر عبدالله، كانا فرسي الرهان في كتابة صعيد مصر، ولكن أعمال مستجاب كانت أكثر تخمرا والاثنان انطلقا من مكان جغرافي واحد تقريبا، لكن مستجاب كان أكثر زخما وأعماله كانت اشبه بالعاصفة، بينما أعمال يحيى أقرب للسمر اللطيف والمهرج أحيانا، ولكنه تهريج منظم، بينما مستجاب الذي ينتمي لبيئة أشد فقرا وانسحاقا، كان كثيفا وحادا وقويا، وفي أعماله أرخ لشخصيات تعيش في ظروف قاسية دون مرتبة الانسانية، والمفارقة انه حكى عنهم بلغة مفخمة وكأنهم من عظماء التاريخ، ومن خلال هذه المفارقة استطاع ان يكشف أعمق أعماق الطبقات الفقيرة في صعيد مصر، وروايته 'نعمان عبد الحافظ' من العلامات في تاريخ الرواية العربية.
صوت خاص
الناقد د. محمد بدوي من أشد المتحمسين لمشروع مستجاب الابداعي، وتناول العديد من أعماله، وقال انه واحد من الكتاب المهمين، وله عالمه الخاص، ولغته المتميزة وطريقته الفريدة في النظر للتجارب والشخصيات تتجلى في سخريته، وفي المعارضة النصية للتراث وطرق كتابة التاريخ كما في روايته المهمة 'التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ'. كما ان مستجاب واحد من الذين خلقوا صوتا خاصا في الكتابة العربية الحديثة، واستطاع ان يتخذ مكانته ككاتب مرموق وسط كوكبة كبيرة من الكتاب المتميزين، كما تميز عن مجايليه بميزتين الأولى أنه لم يكتب عن الواقع مباشرة مثلهم، ولكنه خلط الواقع بالفانتازيا والاساطير، وهذا منحه خاصية السخرية، وهي مهمة لانها تعني التحرر من المفهوم الرومانسي والواقع التقليدي، والثانية هي الاعتماد على الخيال، بمعنى ان كتابة مستجاب تعيد الاعتبار للخيال بعيدا عن الانشداد للواقعية مثل المنشغلين بربط الادب بالواقع.
أضيق الأبواب
الشاعر شعبان يوسف كان من أصدقاء مستجاب وبدا شديد التأثر برحيله وقال إنه لا يصدق ان مستجاب نال منه فعل 'كان'، فمن الصعب ان نقول كان مستجاب، فهو الذي استطاع ان يدخل عالم الكتابة من أضيق الابواب، حيث لم يحصل على أي شهادة دراسية، ولكنه حصل على درجة كاتب بامتياز بشهادة القراء قبل النقاد، ورغم ذلك تخلت عنه المؤسسة الثقافية الرسمية، وبخلت عليه بجائزة 'التفوق'، وحصل عليها من هم دونه بمراحل. وكان مستجاب يعتبر نفسه الكاتب الساخر الاول في مصر، واستطاع ان يصنع من اسمه اسطورة ومن منا ينسى أعماله مثل 'مستجاب الاول' و 'الرابع' و'الخامس' و'السابع' والاخيرة بطلها تمنى ان يصبح رئيسا للجمهورية، رغم ان مستجاب نفسه نفى ذلك وقال في تصدير أحد كتبه 'من قال انني أريد ان أكون رئيسا للجمهورية، فكل رؤساء الجمهورية يتمنون ان يصبحوا كتابا'. وأضاف ان مستجاب شغل الناس بروايته الاولى 'التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ' التي نشرها له الشاعر صلاح عبدالصبور مسلسلة على صفحات مجلة 'الكاتب' عام ،1975 وقدمها مستجاب اولا لعبد الصبور على انها قصة قصيرة، ولكن صلاح عبد الصبور اعتبرها رواية ونشر القصة التي سلمها له مستجاب على أنها الفصل الاول في رواية وطلب منه ان يواصل الكتابة فيها وواصل مستجاب حتى خرجت واحدة من أجمل الروايات العربية.
عُمدة كتاب الجنوب
الروائي ادريس علي كان قريبا من مستجاب وسكن بجانب منزله في ضواحي الجيزة، وعمل معه في شركة المقاولون العرب وينتمي مثله لجنوب مصر، وقال: سعيت للتعرف على مستجاب في أوائل السبعينيات بعد قراءة قصته البديعة 'كلب الصنط' وظللت أقرأ له بلهفة، ونشأت بيننا علاقة وطيدة، وكان ذكيا ولماحا وساخرا، لا يشكو ولا يتذمر رغم انه مر بظروف صعبه خصوصا في آواخر أيامه، كما احتضن وتبنى العديد من الاعمال ومنها أعمالي وكتب عنها في عموده الشهير 'جبر الخواطر'. وأكد ان محمد مستجاب كان ظاهرة أدبية مثيرة، غير انه بدد موهبته في الكتابة الصحفية تحت ضغوط أكل العيش، فهو لم يكن يملك غير قلمه، ولم ينل التقدير اللازم في حياته بسبب الواقع الثقافي العشوائي. وأضاف: أشعر بتأنيب الضمير لاني تقاعست عن رؤيته في أيامه الاخيرة، كان المرض يعتصره، وحينما اتصلت به قال لي :'تعبان يا ادريس' ولا أجد أي سبب يبرر قعودي عن زيارته، وحزني اليوم لا يقل فداحة عن حزني يوم رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، فمستجاب كان عمدة كُتاب الجنوب بلا منازع .
مع البسطاء
الروائي خالد اسماعيل يشارك مستجاب الكتابة عن صعيد مصر. وقال: مستجاب كتب مجموعة قصص طيبة اسمها 'الحزن يميل للمازحة' وهذه المجموعة صدرت بعد 'ديروط الشريف' و'القصص الاخرى' وفيها يطرح نفسه ومكانه بكل صدق، فالمنطقة التي ينتمي اليها ذات طبيعة خاصة، كانت مملوكة للشريف 'حصن الدين بن ثعلب' قائد ثورة بدو الصعيد في ظل حكم المماليك، واستمرت هذه الثورة سنوات وأدت الى انفصال الصعيد عن الحكومة المركزية وانتهت بإعدام قادة الثورة وبدفنهم أحياء، وتم اعدام 'حصن الدين بن ثعلب' في الاسكندرية. وأوضح أن هذه اللقطة التاريخية أشار اليها مستجاب في تصدير مجموعة 'ديروط الشريف' وأخذ من حياة ناس هذه المنطقة الشق 'الفلاحي' القبطي والاسلامي، وكان يميل الى إعلاء شأن الثقافة الفلاحية، وهو بهذا الموقف قدم صورة مختلفة عن 'صعيده' هو والفترة التي ظهر فيها مستجاب أعطته موقعا على خريطة الابداع وأعطته موهبة في القص والسخرية، وبرحيله فقدت القصة القصيرة واحدا من صناعها في مصر حيث كان له دور مهم في تقديم جانب من حياة منطقة من مناطق الصعيد لم تشغل أحدا قبله.
ومحمد مستجاب من الاسماء المرموقة في ساحة القصة بالعالم العربي، وكان نجما متألقا من نجومها، وحصل على جائزة الدولة في الاداب في ثمانينيات القرن الماضي، وأصدر طوال مسيرته الادبية أكثر من عشرة أعمال بين القصة والرواية والنقد والمقالات المجمعة، وأشهر أعماله 'ديروط الشريف' و 'القصص الاخرى' و 'قيام وانهيار آل مستجاب' و 'قصص حمقاء'، وآخرها رواية 'اللهو الخفي' التي صدرت عن دار 'ميريت' بالقاهرة منذ شهور، وروايته الاولى 'التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ' الصادرة عام 1975 من علامات الكتابة الروائية عن صعيد مصر، وصنفها اتحاد الكتاب العرب ضمن افضل مئة رواية صدرت باللغة العربية، وترجمت لاكثر من لغة منها الهولندية والفرنسية واليابانية.
نشأة قاسية
ولد مستجاب في مركز ديروط الشريف التابع لمحافظة اسيوط جنوب مصر لأسرة شديدة الفقر، وكان يقول بخليط من الاسى والسخرية 'حتى الطعام الخشن لم نكن نجده'، وبسبب إهمال أسرته وفقرها فقد إحدى عينيه نتيجة عدم الاعتناء بعلاجها من الرمد وهو في الثانية من عمره، وفي طفولته كان نبيها وتفوق على أقرانه في الكتّاب والمرحلة الاولية، لكنه لم يواصل تعليمه نظرا لظروف أسرته، واشتغل عاملا في السد العالي، ومن هناك كان يراسل المجلات بخواطر ومقالات، والخاطرة التي نشرها له د. مصطفى محمود في بابه بمجلة 'صباح الخير' أولى تجاربه في النشر، وفي عام 1969 نشر قصته الاولى، وبسبب زيارة قام بها وفد من المثقفين يقوده وزير الثقافة المصري الاسبق ثروت عكاشة لعمال السد العالي - انتقل مستجاب للعمل بمجمع اللغة العربية، وتدرج في المناصب حتى وصل الى درجة المدير العام، وقصصه الاولى لفتت اليه النظر بشدة ككاتب له أسلوب ساخر متميز، واستكتب في عدد من الصحف والمجلات منها 'الاتحاد' و'الشرق الاوسط' و'المصور' و'العربي'.
بداية متأخرة
بدأ مستجاب الكتابة متأخرا، في بداية السبعينيات تقريبا، لكنه سرعان ما أصبح من كتاب مصر المعدودين، كما كان من الكتاب أصحاب المواقف، وظل طوال حياته متمسكا برفض التطبيع مع اسرائيل، وفي عام 1998 رفض المشاركة في مؤتمر أدبي بباريس بسبب مشاركة بعض الادباء الاسرائيليين، كما كان جريئا، ويواجه خصومه بعنف، وله حضور مؤثر بين الادباء المصريين، وطوال مسيرته خاض كثيرا من المعارك سواء مع المؤسسات الثقافية أو مع الكتاب والمثقفين، وجائزة الدولة نفسها حصل عليها بمعركة، وكان يقول: 'أبعدت عن جائزة الدولة لأسباب غير موضوعية وحصلت عليها لاسباب غير موضوعية'، كما كان خصما لدودا للتيارات المتطرفة، فمدافعا عن حرية الرأي والتعبير، وهاجم الرقابة على الاعمال الفنية بشراسة، وكان يعتبر نفسه ابنا لثورة يوليو ،1952 وكان يقول 'لولاها ما تعلم أمثالي'، وكان من المناصرين لمشروعها القومي والحالمين بالوحدة العربية، ولكنه كان ضد الاستبداد وحكم العسكر، وله قصة اعتبرها البعض إسقاطا على ضباط ثورة يوليو، وتصف عصبة من الشباب الريفيين الجوعى والاقوياء يسيرون وسط الحقول واثناء سيرهم وهم يتلمظون جوعا ظهرت لهم شاة فانقضوا عليها وسحبوا السكاكين وذبحوها، ثم وقعوا في ورطة حيث اكتشفوا انه لا يوجد بينهم من يعرف السلخ، وبدافع الجوع انقضوا عليها ونهشوها بجلدها!!
إهمال وتهميش.. و'حرق دم'
حتى سنوات قليلة كان مستجاب نجما متألقا، وكان صوته مسموعا في الحياة الثقافية المصرية، وكنت تسمع ضحكته المجلجلة من أي مكان في وسط القاهرة، وكان يتردد على الاتيليه ومقاهي وسط البلد، ولكنه خفت فجأة وقل حضوره، وجسده الضخم أصبح نحيلا، ربما لمرضه، وربما لظروف أسرته وخصوصا مرض ابنته، وربما لان الذائقة التي تربى عليها وآمن بها تغيرت، وهو كاتب ساخر في الأساس، وفي سنواته الاخيرة كان يرى الاسلوب الساخر السائد في الكتابة الصحفية وأيضا الروائية لا يناسبه، حيث رآه مسفا وخفيفا أكثر من اللازم، فانزوى، حتى الصحف التي يحرص على الكتابة لها لم يعد يوليها اهتماما. وقبل سنوات قليلة كان كاتبا دائما في الصحافة المصرية والصحف الجديدة كانت تحرص على ضم مستجاب لكتابها حتى تضمن نوعا حادا من السخرية، وعمود مستجاب 'حرق الدم' تنقل بين العديد من الصحف المصرية والعربية، غير ان الصحف المصرية التي صدرت في الفترة الاخيرة أهملته وقدمت خطابا ساخرا أعطى انطباعا بأن الاسلوب 'المستجابي' لم يعد يناسبها، ورواية مستجاب الاخيرة التي أصدرتها دار ميريت لم تنل الاهتمام اللائق، وكان يحس بأن هناك من يتعمد تجاهله، واستبعاده من جائزة التفوق ولكن اسمه كان مطروحا طوال الوقت وفي السنوات الاخيرة كان يصدر عملا واثنين في العام.
موهبة وحشية
المثقفون المصريون صدموا بخبر وفاة مستجاب، فقد كان يتحرك بينهم منذ أيام. وقال الروائي الكبير خيري شلبي انه كان موهبة وحشية لا مثيل لها في كافة الاجيال، والذين قلدوا أسلوبه فشلوا جميعا وقصص مستجاب شديدة التكثيف والذكاء، وقصصه القصيرة عن عمال السد العالي في مرتبة الامثولة. واضاف ان محمد مستجاب ويحيى الطاهر عبدالله، كانا فرسي الرهان في كتابة صعيد مصر، ولكن أعمال مستجاب كانت أكثر تخمرا والاثنان انطلقا من مكان جغرافي واحد تقريبا، لكن مستجاب كان أكثر زخما وأعماله كانت اشبه بالعاصفة، بينما أعمال يحيى أقرب للسمر اللطيف والمهرج أحيانا، ولكنه تهريج منظم، بينما مستجاب الذي ينتمي لبيئة أشد فقرا وانسحاقا، كان كثيفا وحادا وقويا، وفي أعماله أرخ لشخصيات تعيش في ظروف قاسية دون مرتبة الانسانية، والمفارقة انه حكى عنهم بلغة مفخمة وكأنهم من عظماء التاريخ، ومن خلال هذه المفارقة استطاع ان يكشف أعمق أعماق الطبقات الفقيرة في صعيد مصر، وروايته 'نعمان عبد الحافظ' من العلامات في تاريخ الرواية العربية.
صوت خاص
الناقد د. محمد بدوي من أشد المتحمسين لمشروع مستجاب الابداعي، وتناول العديد من أعماله، وقال انه واحد من الكتاب المهمين، وله عالمه الخاص، ولغته المتميزة وطريقته الفريدة في النظر للتجارب والشخصيات تتجلى في سخريته، وفي المعارضة النصية للتراث وطرق كتابة التاريخ كما في روايته المهمة 'التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ'. كما ان مستجاب واحد من الذين خلقوا صوتا خاصا في الكتابة العربية الحديثة، واستطاع ان يتخذ مكانته ككاتب مرموق وسط كوكبة كبيرة من الكتاب المتميزين، كما تميز عن مجايليه بميزتين الأولى أنه لم يكتب عن الواقع مباشرة مثلهم، ولكنه خلط الواقع بالفانتازيا والاساطير، وهذا منحه خاصية السخرية، وهي مهمة لانها تعني التحرر من المفهوم الرومانسي والواقع التقليدي، والثانية هي الاعتماد على الخيال، بمعنى ان كتابة مستجاب تعيد الاعتبار للخيال بعيدا عن الانشداد للواقعية مثل المنشغلين بربط الادب بالواقع.
أضيق الأبواب
الشاعر شعبان يوسف كان من أصدقاء مستجاب وبدا شديد التأثر برحيله وقال إنه لا يصدق ان مستجاب نال منه فعل 'كان'، فمن الصعب ان نقول كان مستجاب، فهو الذي استطاع ان يدخل عالم الكتابة من أضيق الابواب، حيث لم يحصل على أي شهادة دراسية، ولكنه حصل على درجة كاتب بامتياز بشهادة القراء قبل النقاد، ورغم ذلك تخلت عنه المؤسسة الثقافية الرسمية، وبخلت عليه بجائزة 'التفوق'، وحصل عليها من هم دونه بمراحل. وكان مستجاب يعتبر نفسه الكاتب الساخر الاول في مصر، واستطاع ان يصنع من اسمه اسطورة ومن منا ينسى أعماله مثل 'مستجاب الاول' و 'الرابع' و'الخامس' و'السابع' والاخيرة بطلها تمنى ان يصبح رئيسا للجمهورية، رغم ان مستجاب نفسه نفى ذلك وقال في تصدير أحد كتبه 'من قال انني أريد ان أكون رئيسا للجمهورية، فكل رؤساء الجمهورية يتمنون ان يصبحوا كتابا'. وأضاف ان مستجاب شغل الناس بروايته الاولى 'التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ' التي نشرها له الشاعر صلاح عبدالصبور مسلسلة على صفحات مجلة 'الكاتب' عام ،1975 وقدمها مستجاب اولا لعبد الصبور على انها قصة قصيرة، ولكن صلاح عبد الصبور اعتبرها رواية ونشر القصة التي سلمها له مستجاب على أنها الفصل الاول في رواية وطلب منه ان يواصل الكتابة فيها وواصل مستجاب حتى خرجت واحدة من أجمل الروايات العربية.
عُمدة كتاب الجنوب
الروائي ادريس علي كان قريبا من مستجاب وسكن بجانب منزله في ضواحي الجيزة، وعمل معه في شركة المقاولون العرب وينتمي مثله لجنوب مصر، وقال: سعيت للتعرف على مستجاب في أوائل السبعينيات بعد قراءة قصته البديعة 'كلب الصنط' وظللت أقرأ له بلهفة، ونشأت بيننا علاقة وطيدة، وكان ذكيا ولماحا وساخرا، لا يشكو ولا يتذمر رغم انه مر بظروف صعبه خصوصا في آواخر أيامه، كما احتضن وتبنى العديد من الاعمال ومنها أعمالي وكتب عنها في عموده الشهير 'جبر الخواطر'. وأكد ان محمد مستجاب كان ظاهرة أدبية مثيرة، غير انه بدد موهبته في الكتابة الصحفية تحت ضغوط أكل العيش، فهو لم يكن يملك غير قلمه، ولم ينل التقدير اللازم في حياته بسبب الواقع الثقافي العشوائي. وأضاف: أشعر بتأنيب الضمير لاني تقاعست عن رؤيته في أيامه الاخيرة، كان المرض يعتصره، وحينما اتصلت به قال لي :'تعبان يا ادريس' ولا أجد أي سبب يبرر قعودي عن زيارته، وحزني اليوم لا يقل فداحة عن حزني يوم رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، فمستجاب كان عمدة كُتاب الجنوب بلا منازع .
مع البسطاء
الروائي خالد اسماعيل يشارك مستجاب الكتابة عن صعيد مصر. وقال: مستجاب كتب مجموعة قصص طيبة اسمها 'الحزن يميل للمازحة' وهذه المجموعة صدرت بعد 'ديروط الشريف' و'القصص الاخرى' وفيها يطرح نفسه ومكانه بكل صدق، فالمنطقة التي ينتمي اليها ذات طبيعة خاصة، كانت مملوكة للشريف 'حصن الدين بن ثعلب' قائد ثورة بدو الصعيد في ظل حكم المماليك، واستمرت هذه الثورة سنوات وأدت الى انفصال الصعيد عن الحكومة المركزية وانتهت بإعدام قادة الثورة وبدفنهم أحياء، وتم اعدام 'حصن الدين بن ثعلب' في الاسكندرية. وأوضح أن هذه اللقطة التاريخية أشار اليها مستجاب في تصدير مجموعة 'ديروط الشريف' وأخذ من حياة ناس هذه المنطقة الشق 'الفلاحي' القبطي والاسلامي، وكان يميل الى إعلاء شأن الثقافة الفلاحية، وهو بهذا الموقف قدم صورة مختلفة عن 'صعيده' هو والفترة التي ظهر فيها مستجاب أعطته موقعا على خريطة الابداع وأعطته موهبة في القص والسخرية، وبرحيله فقدت القصة القصيرة واحدا من صناعها في مصر حيث كان له دور مهم في تقديم جانب من حياة منطقة من مناطق الصعيد لم تشغل أحدا قبله.