خلاصة:
يرسم لنا النيسابوري بطريقة منهجية، بسيطة لكنها محكمة، صورة كاريكاتورية يختلط فيها الجد بالهزل والعقل باللاعقل، فنجد أنفسنا مرارا على حافة التناقض، من المجنون ومن العاقل؟ هذا هو السؤال المؤطر الذي يمكننا اعتباره حجر الزاوية في الكتاب والدفة الموجهة لحركة الأفكار التي يعرضها النيسابوري… عاقل/مجنون، دنيا/آخرة، حياة/موت، تفريط/افراط، اسراف/زهد، ضحك/بكاء…الخ. هذه هي التقابلات التي يلعب على حبلها صاحب كتاب عقلاء المجانين؛ تقابلات لا تنتهي هنا في الحياة الدنيا، بل تظهر حقيقتها هناك في الآخرة، التي يسلم بوجودها في كتاب النيسابوري العاقل والمجنون.
بين يدي الكتاب:
خصص أبو القاسم النيسابوري، في القرن الرابع الهجري، مؤلفا للمجانين، الذين يحس نحوهم باهتمام كبير، ليس اهتماما من مستوى علاجي، بل كما نقول اهتماما أدبيا: إنه مفتون برؤيتهم للعالم (…) يتألف كتابه مما قرأ عن المجانين وما روي له عنهم. إنه تجميع، يشبه المصنفات الكثيرة، قبل النيسابوري وبعده، عن البخلاء، والمغفلين، والأذكياء، والمعمرين، والقصاص…؛ كل واحد من هذه المؤلفات يعرض نفسه باعتباره مجموعة من النصوص، قصيرة في الأغلب، مسبوقة بذكر السند، أي سلسلة الرواة الذين نقلوها (الإسناد) ([2]).
يقول النيسابوري في مقدمة الكتاب «وكما شاب صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقولهم بالجنون، فلا يخلو العاقل فيها من ضرب من الجنون» {ص 29}، «والمجنون عند الناس من يُسمِع ويسب ويرمي ويخرِق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيءُ بما ينكرون» {ص 30}. إننا هنا أمام “أحكام” ومحددات اجتماعية للجنون، فالمجنون هو من يخالف العادات، وبلغة سوسيولوجية (حديثة) المجنون هو “من يخيب انتظارات الآخرين”.
1- القسم الأول من الكتاب (قضية المنهج):
منذ البداية (بداية الكتاب) نلاحظ أن النيسابوري يعتمد منهجا يمكننا الاصطلاح عليه “بالمنهج العلمي”، ذلك أنه يوضح الدوافع من وراء كتابته الكتاب؛ وباستعمالنا لغة العلوم الانسانية والاجتماعية المعاصرة نجده يقسمها إلى دوافع ذاتية وأخرى موضوعية، هذا بعد أن يذكر مصنفات وكتابات من سبقوه، فلننظر إلى قوله: «ولقد سألني بعض أصحابي عودا على بدء أن أصنف كتابا في ذكر عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم (…) وكنت في حداثة سني سمعت كتبا في هذا الباب، مثل كتاب الجاحظ وكتاب ابن أبي الدنيا (…) فوقع كل منها في جزء أو ما يقارب جزءا، فتتبعتها وتعقبتها وضممت إليها قرائنها وعزوتها إلى أصحابها وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب/ وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب، وأرجو أني لم أسبق إلى مثله والله الموفق والمعين» {ص 37-38}.
صاحب “عقلاء المجانين” يعلن أنه يعتمد منهجا علميا صارما (وهو المنهج المتبع في جمع الأحاديث النبوية/ المنهج السائد في ذلك الوقت)، ينسب الأقوال إلى أصحابها، ويقارن رواية برواية؛ لكنه لا ينسى أن يذكر القارئ بأن هذا المصنف يختلف عمن سبقوه (وإلا فما الحاجة إليه؟)، بل يدعي بأنه لم يسبق إلى مثل هذا العمل! والاطلاع عليه يكفي عن البحث في غيره.
بعد هذا ينتقل بنا النيسابوري إلى التحديد “الايتيمولوجي” (الاشتقاق اللغوي)، حيث يبدأ بالحديث عن أصل الجنون في اللغة، «فيعني الاستتار؛ تقول العرب: جن الشيء يجن جنونا إذا استتر وأجنه غيره إجنانا إذا ستره (…) وكل هذا يؤول إلى معنى الاستتار، والمجنون المستور العقل، والفعل منه جُنً يُجَن جنونا فهو مجنون، وأجنه الله فهو مجنون» {ص 39-42}. ثم ينتقل إلى الحديث عن أسماء المجنون في اللغة، فيذكر ثلاثة وعشرون اسما يبدأها بالأحمق {ص43} ويختمها بالهَبَنْقع {ص49}؛ بعدها ينتقل للحديث عن الأمثال المضروبة في الحمق والحمقى، ثم بعد ذلك عما يوصف بالحمق من غير الناس فيورد بعض الحيوانات كالضباع…؛ أما في الباب المخصص لأسماء جنون الدواب فيذكر أسماء جنون الإبل والكلاب…
ضروب المجانين هو عنوان الباب التالي حيث يقول بأن «منهم المعتوه، ومنهم الممرور، ومنهم الممسوس، ومنهم العاشق {ص61}، ومنهم من اعتقد بدعة أو ارتكب كبيرة فأدركه شؤمها فجن {ص62}، ومنهم من جن من خوف الله عز وجل» {ص63}. كما هناك صنف يدعي الجنون!! «فمنهم من تجان وتحامق وهو صحيح العقل وهم ضروب، فمنهم من تعاطى ذلك ليوري شأنه ويستره على الناس {ص67}، ومنهم من تحامق ليزجي وقتا ويطيب عيشا» {ص72}.
أما في الباب المعنون بحروف (أي حدود) الجد والعقل ودولة الحمق والجهل، يتحدث النيسابوري عن كون الجد والعقل في نظر البعض لا يجلب المنفعة والغنى، بل ما يجلبهما هو الحمق والجهل!! فيسوق لنا الأبيات الشعرية التي نظمت في هذا الشأن، لينتقل إلى باب اجتناب الأحمق وصحبته فيورد الخبر التالي: «إياكم وصحبة الأحمق فإنه إلى أن يضركم أقرب منه إلى أن ينفعكم {ص87}، اتق الأحمق فليس للأحمق خير من هجرانه» {ص88}.
كان هذا عبارة عن “قسم أول” فرضته الضرورة المنهجية حيث يقول النيسابوري في نهاية الباب الأخير أعلاه: «وقد أوردنا في صدر هذا الكتاب أبوابا لم نجد بدا من إيرادها ليكون الكتاب جامعا للفن المشار إليه، وسنعود الآن إلى الغرض المقصود في تأليفه فنذكره» {ص91}.
2- القسم الثاني (عقلاء المجانين):
الباب الأول من “القسم الثاني” جاء بعنوان أخبار عقلاء المجانين وأوصافهم، ومرة أخرى يذكر النيسابوري القارئ بالقصد من وراء الكتاب من خلال عرضه المنهج الذي سيتبعه: «ونحن الآن نذكر عقلاء المجانين وطبقاتهم ونعزوهم إلى بلادهم، ثم نذكر مجانين الأعراب، ثم المجانين من النساء ثم نذكر أخبار من لا تثبت أسماؤهم من المجانين، ونسأل الله التوفيق» {ص93}.
هكذا بعد أن يذكر صاحب الكتاب، عقلاء المجانين من الحضر الذين ذكر منه ستة وأربعين مجنونا، ينتقل إلى المجانين من الأعراب (البدو) حيث يذكر سبعة منهم، فالمجانين من النساء حيث يذكر إحدى عشرة مجنونة، ثم يذكر أخبار ستة وتسعين من المجانين الذين لا تثبت أسماؤهم، وبهذا يختم النيسابوري مصنفه/كتابه.
3- تحليل الكتاب (أو قراءتنا للكتاب):
كما لاحظ ذلك عبد الفتاح كيليطو فإن النيسابوري لا يتكلم عن أي مجانين، بل عن فئة خاصة، المجانين الذين ينطقون بالحكمة. وقد جعل لكتابه عنوان عقلاء المجانين أي العقلاء من بين المجانين. هذا العنوان القائم على تزاوج لفظين نقيضين يشكل إردافا خُلفيا (Oxymore هو تزاوج لفظتين متناقضتي الدلالة) ([3]).
فالخصائص المشتركة بين عقلاء المجانين الذين يذكرهم النيسابوري يمكننا إجمالها في كونهم: زهاد، عباد، عارفون بالله، بعضهم متصوفة، منعزلون عن الناس، يؤثرون المقابر، وكلهم ينطقون بالحكمة، شعراء، ولهم لسان بليغ يفحمون الجميع حتى من يعتبرون أنفسهم شعراء، أدباء أو فقهاء…
على طول الكتاب نرى بالإضافة إلى القصص التي تحكي تفوق عقلاء المجانين على من يعتبرون أنفسهم عقلاء (أسوياء)، قصصا تحكي عن لقاء هؤلاء المجانين بشعراء، وفقهاء، وقضاة، وولاة، وأمراء، تنتهي دائما بتفوق المجانين وغلبتهم. إنهم حاضرون في عمق النقاش الذي طبع عصرهم، الدائر بين المعتزلة والجبرية (ما يعرف في التراث الإسلامي بمحنة خلق القرءان).
ولما يريد الناس مخاطبة أصحاب السلطة، فإليهم يلجؤون؛ وهم حينئذ وسطاء ناجحون، لأنهم جريؤون، وصرحاء في القول، وواثقون بالإفلات من القصاص. يوبخون الملوك، ويبلغ من شدة أقوالهم أن يجعلوهم يبكون بكاء حارا (…) المجانين كذلك وسطاء ناجحون مع السماء، وسط لجة البحر، يهدئ دعاؤهم العاصفة. وإليهم يتوجه الناس لما يحل الجفاف ببلد، يتمنعون قليلا، لكنهم ما أن يستغيثوا بالله حتى ينهمر الغيث ([4]).
الموت والبعث والوقوف بين يدي الله مواضيع حاضرة بقوة في كل صفحات الكتاب، إنها إشكالات مركزية لا يمر عليها النيسابوري (ومجانينه) مرور الكرام، فتعلق العقلاء بالدنيا وزهد المجانين فيها هو ما يعطي لخطاب هؤلاء القوة والمصداقية؛ إننا أمام ازدواجية محيرة ولكن يسكنها منطق يمكننا تتبع دروبه ومسالكه، فنحن أمام مجانين في الدنيا بمنطق المجتمع، لكنهم عقلاء في الآخرة بالمنطق الديني؛ أليس سبب جنون أغلبهم (إذا استثنينا من جنوا بسبب حب النساء) سببه حب الله وتعلقهم به؟ إن إفراطهم في التقوى هو ما جعلهم يعتبرون مجانين في نظر مجتمعاتهم، لكنهم لا يفتؤون يعكسون المعادلة ليجعلوا مخاطَبِيهم يشعرون بتفريطهم في الدين والخوف من الآخرة.
النيسابوري يسلك طريقة في الكتابة والوصف، تجعل القارئ يحس بنوع من “الانحياز والتعاطف” اتجاه المجانين، هذا إن لم يجعلك تعتبر المجانين هم العقلاء، والعقلاء هم المجانين! فالمنطق الديني يعتبر بأن الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت (حسب الحديث المشهور)، وبهذا فمجانين النيسابوري هم أكيس الناس لأنهم تركوا الدنيا وملذاتها واتجهوا بقلوبهم وسلموا عقولهم للآخرة.
عاقل/مجنون، دنيا/آخرة، حياة/موت، تفريط/افراط، اسراف/زهد، ضحك/بكاء…هذه هي التقابلات التي يلعب على حبلها صاحب كتاب عقلاء المجانين؛ تقابلات لا تنتهي هنا في الحياة الدنيا، بل تظهر حقيقتها هناك في الآخرة، التي يسلم بوجودها في كتاب النيسابوري العاقل والمجنون. هناك في العالم الآخر عالم ما بعد الحياة البرزخية (في القبر) تنقلب التقابلات ليصبح المجنون عاقلا! وكما يقول كيليطو «فالإنسان العاقل ليس عاقلا إلا لأنه ينسى الموت» ([5]).
الحديث عن الموت والبعث والنشور، لا يجب أن يجعلنا نغفل حس المرح والضحك الذي لا يفارق ثنايا الكتاب؛ فالقصص التي يوردها النيسابوري تجعلنا لا نكاد نتمالك أنفسنا من الضحك (من بين أهداف الكتاب الترويح عن النفس بالضحك)، فالصبيان دائما هم أعداء المجانين، مطاردات تنتهي غالبا بتدخل أحد الراشدين، أو بقصة طريفة كالتالية: «بلغني أن بهلولا (وهو أحد المجانين) عبث به الصبيان ذات يوم ففر منهم والتجأ إلى دار وجد ببابها مفتوحا، فدخلها وصاحب الدار قائم له ضفيرتان، فصاح: ما أدخلك داري؟ فقال بهلول: يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض» {ص152}.
قصص وطرائف حتى من داخل قصور الخلفاء، فها هو موسى الخليفة (الهادي العباسي) «يأمر بإحضار عليًان (أحد المجانين) وبهلول، فأحضرا، فلما دخلا عليه قال لعليًان: أيش معنى عليان؟ فقال عليان: فأيش معنى موسى أطبق؟ (فقد كان في الشفة العليا للخليفة الهادي موسى تقلص، وكان أبوه وكل به في صغره خادما كلما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطبق، فشهر بذلك)، قال موسى خذوا برِجل ابن الفاعلة. فالتفت عليان إلى بهلول وقال: خذها إليك كنا اثنين فصرنا ثلاثة!» {ص169}.
يرسم لنا النيسابوري بطريقة منهجية بسيطة لكنها محكمة، صورة كاريكاتورية يختلط فيها الجد بالهزل والعقل باللاعقل، فنجد أنفسنا مرارا على حافة التناقض، من المجنون ومن العاقل؟ هذا هو السؤال المؤطر الذي يمكننا اعتباره حجر الزاوية في الكتاب والدفة الموجهة لحركة الأفكار التي يعرضها النيسابوري.
عقلاء المجانين كتاب ليس ككل الكتب، لا تكفي فيه قراءة واحدة ومن زاوية نظر واحدة، بل يلزمه تعدد زوايا النظر، كما يلزمه طول النفس، إنه كما يقول نيتشه مثله مثل اللوحات الفنية يجب أن نقف أمامها ونطيل النظر عسى أن تبوح لنا بسر من أسرارها.
ولنجعل خاتمة قراءتنا التساؤل التالي الذي ورد في آخر الكتاب: «سأل أحد “العقلاء” “مجنونا”: أنت عاقل؟ رد عليه قائلا: وأنت عاقل؟ يخيم الصمت على من يعتبر نفسه “عاقلا” فيبادر من يُعتبر “مجنونا” بالقول وكأنه ينقذ الموقف: الناس كلهم مجانين ولكن حظي سار أوفر» {ً343}.
المراجع:
ü أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري، عقلاء المجانين، تحقيق د. عمر الأسعد، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1987.
ü عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1995.
[1] – طالب باحث بشعبة علم الاجتماع، ماستر أنتروبولوبجيا وسوسيولوجيا التغير(2015/2017)، كلية الآداب والعلوم الانسانية مكناس ([email protected]).
[2] – عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1995. ص9.
[3] – عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1995. ص100.
[4] – نفسه، ص100.
[5] – نفسه، ص100.
قراءة في كتاب “عقلاء المجانين” للنيسابوري
كتاب عقلاء المجانين، من تأليف أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري،
تحقيق: د. عمر الأسعد،
دار النفائس، الطبعة الأولى، 1987. (385 صفحة)
يرسم لنا النيسابوري بطريقة منهجية، بسيطة لكنها محكمة، صورة كاريكاتورية يختلط فيها الجد بالهزل والعقل باللاعقل، فنجد أنفسنا مرارا على حافة التناقض، من المجنون ومن العاقل؟ هذا هو السؤال المؤطر الذي يمكننا اعتباره حجر الزاوية في الكتاب والدفة الموجهة لحركة الأفكار التي يعرضها النيسابوري… عاقل/مجنون، دنيا/آخرة، حياة/موت، تفريط/افراط، اسراف/زهد، ضحك/بكاء…الخ. هذه هي التقابلات التي يلعب على حبلها صاحب كتاب عقلاء المجانين؛ تقابلات لا تنتهي هنا في الحياة الدنيا، بل تظهر حقيقتها هناك في الآخرة، التي يسلم بوجودها في كتاب النيسابوري العاقل والمجنون.
بين يدي الكتاب:
خصص أبو القاسم النيسابوري، في القرن الرابع الهجري، مؤلفا للمجانين، الذين يحس نحوهم باهتمام كبير، ليس اهتماما من مستوى علاجي، بل كما نقول اهتماما أدبيا: إنه مفتون برؤيتهم للعالم (…) يتألف كتابه مما قرأ عن المجانين وما روي له عنهم. إنه تجميع، يشبه المصنفات الكثيرة، قبل النيسابوري وبعده، عن البخلاء، والمغفلين، والأذكياء، والمعمرين، والقصاص…؛ كل واحد من هذه المؤلفات يعرض نفسه باعتباره مجموعة من النصوص، قصيرة في الأغلب، مسبوقة بذكر السند، أي سلسلة الرواة الذين نقلوها (الإسناد) ([2]).
يقول النيسابوري في مقدمة الكتاب «وكما شاب صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقولهم بالجنون، فلا يخلو العاقل فيها من ضرب من الجنون» {ص 29}، «والمجنون عند الناس من يُسمِع ويسب ويرمي ويخرِق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيءُ بما ينكرون» {ص 30}. إننا هنا أمام “أحكام” ومحددات اجتماعية للجنون، فالمجنون هو من يخالف العادات، وبلغة سوسيولوجية (حديثة) المجنون هو “من يخيب انتظارات الآخرين”.
1- القسم الأول من الكتاب (قضية المنهج):
منذ البداية (بداية الكتاب) نلاحظ أن النيسابوري يعتمد منهجا يمكننا الاصطلاح عليه “بالمنهج العلمي”، ذلك أنه يوضح الدوافع من وراء كتابته الكتاب؛ وباستعمالنا لغة العلوم الانسانية والاجتماعية المعاصرة نجده يقسمها إلى دوافع ذاتية وأخرى موضوعية، هذا بعد أن يذكر مصنفات وكتابات من سبقوه، فلننظر إلى قوله: «ولقد سألني بعض أصحابي عودا على بدء أن أصنف كتابا في ذكر عقلاء المجانين وأوصافهم وأخبارهم (…) وكنت في حداثة سني سمعت كتبا في هذا الباب، مثل كتاب الجاحظ وكتاب ابن أبي الدنيا (…) فوقع كل منها في جزء أو ما يقارب جزءا، فتتبعتها وتعقبتها وضممت إليها قرائنها وعزوتها إلى أصحابها وألفت هذا الكتاب على غير سمت تلك الكتب/ وهو كتاب يكفي الناظر فيه الترداد وتصفح الكتب، وأرجو أني لم أسبق إلى مثله والله الموفق والمعين» {ص 37-38}.
صاحب “عقلاء المجانين” يعلن أنه يعتمد منهجا علميا صارما (وهو المنهج المتبع في جمع الأحاديث النبوية/ المنهج السائد في ذلك الوقت)، ينسب الأقوال إلى أصحابها، ويقارن رواية برواية؛ لكنه لا ينسى أن يذكر القارئ بأن هذا المصنف يختلف عمن سبقوه (وإلا فما الحاجة إليه؟)، بل يدعي بأنه لم يسبق إلى مثل هذا العمل! والاطلاع عليه يكفي عن البحث في غيره.
بعد هذا ينتقل بنا النيسابوري إلى التحديد “الايتيمولوجي” (الاشتقاق اللغوي)، حيث يبدأ بالحديث عن أصل الجنون في اللغة، «فيعني الاستتار؛ تقول العرب: جن الشيء يجن جنونا إذا استتر وأجنه غيره إجنانا إذا ستره (…) وكل هذا يؤول إلى معنى الاستتار، والمجنون المستور العقل، والفعل منه جُنً يُجَن جنونا فهو مجنون، وأجنه الله فهو مجنون» {ص 39-42}. ثم ينتقل إلى الحديث عن أسماء المجنون في اللغة، فيذكر ثلاثة وعشرون اسما يبدأها بالأحمق {ص43} ويختمها بالهَبَنْقع {ص49}؛ بعدها ينتقل للحديث عن الأمثال المضروبة في الحمق والحمقى، ثم بعد ذلك عما يوصف بالحمق من غير الناس فيورد بعض الحيوانات كالضباع…؛ أما في الباب المخصص لأسماء جنون الدواب فيذكر أسماء جنون الإبل والكلاب…
ضروب المجانين هو عنوان الباب التالي حيث يقول بأن «منهم المعتوه، ومنهم الممرور، ومنهم الممسوس، ومنهم العاشق {ص61}، ومنهم من اعتقد بدعة أو ارتكب كبيرة فأدركه شؤمها فجن {ص62}، ومنهم من جن من خوف الله عز وجل» {ص63}. كما هناك صنف يدعي الجنون!! «فمنهم من تجان وتحامق وهو صحيح العقل وهم ضروب، فمنهم من تعاطى ذلك ليوري شأنه ويستره على الناس {ص67}، ومنهم من تحامق ليزجي وقتا ويطيب عيشا» {ص72}.
أما في الباب المعنون بحروف (أي حدود) الجد والعقل ودولة الحمق والجهل، يتحدث النيسابوري عن كون الجد والعقل في نظر البعض لا يجلب المنفعة والغنى، بل ما يجلبهما هو الحمق والجهل!! فيسوق لنا الأبيات الشعرية التي نظمت في هذا الشأن، لينتقل إلى باب اجتناب الأحمق وصحبته فيورد الخبر التالي: «إياكم وصحبة الأحمق فإنه إلى أن يضركم أقرب منه إلى أن ينفعكم {ص87}، اتق الأحمق فليس للأحمق خير من هجرانه» {ص88}.
كان هذا عبارة عن “قسم أول” فرضته الضرورة المنهجية حيث يقول النيسابوري في نهاية الباب الأخير أعلاه: «وقد أوردنا في صدر هذا الكتاب أبوابا لم نجد بدا من إيرادها ليكون الكتاب جامعا للفن المشار إليه، وسنعود الآن إلى الغرض المقصود في تأليفه فنذكره» {ص91}.
2- القسم الثاني (عقلاء المجانين):
الباب الأول من “القسم الثاني” جاء بعنوان أخبار عقلاء المجانين وأوصافهم، ومرة أخرى يذكر النيسابوري القارئ بالقصد من وراء الكتاب من خلال عرضه المنهج الذي سيتبعه: «ونحن الآن نذكر عقلاء المجانين وطبقاتهم ونعزوهم إلى بلادهم، ثم نذكر مجانين الأعراب، ثم المجانين من النساء ثم نذكر أخبار من لا تثبت أسماؤهم من المجانين، ونسأل الله التوفيق» {ص93}.
هكذا بعد أن يذكر صاحب الكتاب، عقلاء المجانين من الحضر الذين ذكر منه ستة وأربعين مجنونا، ينتقل إلى المجانين من الأعراب (البدو) حيث يذكر سبعة منهم، فالمجانين من النساء حيث يذكر إحدى عشرة مجنونة، ثم يذكر أخبار ستة وتسعين من المجانين الذين لا تثبت أسماؤهم، وبهذا يختم النيسابوري مصنفه/كتابه.
3- تحليل الكتاب (أو قراءتنا للكتاب):
كما لاحظ ذلك عبد الفتاح كيليطو فإن النيسابوري لا يتكلم عن أي مجانين، بل عن فئة خاصة، المجانين الذين ينطقون بالحكمة. وقد جعل لكتابه عنوان عقلاء المجانين أي العقلاء من بين المجانين. هذا العنوان القائم على تزاوج لفظين نقيضين يشكل إردافا خُلفيا (Oxymore هو تزاوج لفظتين متناقضتي الدلالة) ([3]).
فالخصائص المشتركة بين عقلاء المجانين الذين يذكرهم النيسابوري يمكننا إجمالها في كونهم: زهاد، عباد، عارفون بالله، بعضهم متصوفة، منعزلون عن الناس، يؤثرون المقابر، وكلهم ينطقون بالحكمة، شعراء، ولهم لسان بليغ يفحمون الجميع حتى من يعتبرون أنفسهم شعراء، أدباء أو فقهاء…
على طول الكتاب نرى بالإضافة إلى القصص التي تحكي تفوق عقلاء المجانين على من يعتبرون أنفسهم عقلاء (أسوياء)، قصصا تحكي عن لقاء هؤلاء المجانين بشعراء، وفقهاء، وقضاة، وولاة، وأمراء، تنتهي دائما بتفوق المجانين وغلبتهم. إنهم حاضرون في عمق النقاش الذي طبع عصرهم، الدائر بين المعتزلة والجبرية (ما يعرف في التراث الإسلامي بمحنة خلق القرءان).
ولما يريد الناس مخاطبة أصحاب السلطة، فإليهم يلجؤون؛ وهم حينئذ وسطاء ناجحون، لأنهم جريؤون، وصرحاء في القول، وواثقون بالإفلات من القصاص. يوبخون الملوك، ويبلغ من شدة أقوالهم أن يجعلوهم يبكون بكاء حارا (…) المجانين كذلك وسطاء ناجحون مع السماء، وسط لجة البحر، يهدئ دعاؤهم العاصفة. وإليهم يتوجه الناس لما يحل الجفاف ببلد، يتمنعون قليلا، لكنهم ما أن يستغيثوا بالله حتى ينهمر الغيث ([4]).
الموت والبعث والوقوف بين يدي الله مواضيع حاضرة بقوة في كل صفحات الكتاب، إنها إشكالات مركزية لا يمر عليها النيسابوري (ومجانينه) مرور الكرام، فتعلق العقلاء بالدنيا وزهد المجانين فيها هو ما يعطي لخطاب هؤلاء القوة والمصداقية؛ إننا أمام ازدواجية محيرة ولكن يسكنها منطق يمكننا تتبع دروبه ومسالكه، فنحن أمام مجانين في الدنيا بمنطق المجتمع، لكنهم عقلاء في الآخرة بالمنطق الديني؛ أليس سبب جنون أغلبهم (إذا استثنينا من جنوا بسبب حب النساء) سببه حب الله وتعلقهم به؟ إن إفراطهم في التقوى هو ما جعلهم يعتبرون مجانين في نظر مجتمعاتهم، لكنهم لا يفتؤون يعكسون المعادلة ليجعلوا مخاطَبِيهم يشعرون بتفريطهم في الدين والخوف من الآخرة.
النيسابوري يسلك طريقة في الكتابة والوصف، تجعل القارئ يحس بنوع من “الانحياز والتعاطف” اتجاه المجانين، هذا إن لم يجعلك تعتبر المجانين هم العقلاء، والعقلاء هم المجانين! فالمنطق الديني يعتبر بأن الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت (حسب الحديث المشهور)، وبهذا فمجانين النيسابوري هم أكيس الناس لأنهم تركوا الدنيا وملذاتها واتجهوا بقلوبهم وسلموا عقولهم للآخرة.
عاقل/مجنون، دنيا/آخرة، حياة/موت، تفريط/افراط، اسراف/زهد، ضحك/بكاء…هذه هي التقابلات التي يلعب على حبلها صاحب كتاب عقلاء المجانين؛ تقابلات لا تنتهي هنا في الحياة الدنيا، بل تظهر حقيقتها هناك في الآخرة، التي يسلم بوجودها في كتاب النيسابوري العاقل والمجنون. هناك في العالم الآخر عالم ما بعد الحياة البرزخية (في القبر) تنقلب التقابلات ليصبح المجنون عاقلا! وكما يقول كيليطو «فالإنسان العاقل ليس عاقلا إلا لأنه ينسى الموت» ([5]).
الحديث عن الموت والبعث والنشور، لا يجب أن يجعلنا نغفل حس المرح والضحك الذي لا يفارق ثنايا الكتاب؛ فالقصص التي يوردها النيسابوري تجعلنا لا نكاد نتمالك أنفسنا من الضحك (من بين أهداف الكتاب الترويح عن النفس بالضحك)، فالصبيان دائما هم أعداء المجانين، مطاردات تنتهي غالبا بتدخل أحد الراشدين، أو بقصة طريفة كالتالية: «بلغني أن بهلولا (وهو أحد المجانين) عبث به الصبيان ذات يوم ففر منهم والتجأ إلى دار وجد ببابها مفتوحا، فدخلها وصاحب الدار قائم له ضفيرتان، فصاح: ما أدخلك داري؟ فقال بهلول: يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض» {ص152}.
قصص وطرائف حتى من داخل قصور الخلفاء، فها هو موسى الخليفة (الهادي العباسي) «يأمر بإحضار عليًان (أحد المجانين) وبهلول، فأحضرا، فلما دخلا عليه قال لعليًان: أيش معنى عليان؟ فقال عليان: فأيش معنى موسى أطبق؟ (فقد كان في الشفة العليا للخليفة الهادي موسى تقلص، وكان أبوه وكل به في صغره خادما كلما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطبق، فشهر بذلك)، قال موسى خذوا برِجل ابن الفاعلة. فالتفت عليان إلى بهلول وقال: خذها إليك كنا اثنين فصرنا ثلاثة!» {ص169}.
يرسم لنا النيسابوري بطريقة منهجية بسيطة لكنها محكمة، صورة كاريكاتورية يختلط فيها الجد بالهزل والعقل باللاعقل، فنجد أنفسنا مرارا على حافة التناقض، من المجنون ومن العاقل؟ هذا هو السؤال المؤطر الذي يمكننا اعتباره حجر الزاوية في الكتاب والدفة الموجهة لحركة الأفكار التي يعرضها النيسابوري.
عقلاء المجانين كتاب ليس ككل الكتب، لا تكفي فيه قراءة واحدة ومن زاوية نظر واحدة، بل يلزمه تعدد زوايا النظر، كما يلزمه طول النفس، إنه كما يقول نيتشه مثله مثل اللوحات الفنية يجب أن نقف أمامها ونطيل النظر عسى أن تبوح لنا بسر من أسرارها.
ولنجعل خاتمة قراءتنا التساؤل التالي الذي ورد في آخر الكتاب: «سأل أحد “العقلاء” “مجنونا”: أنت عاقل؟ رد عليه قائلا: وأنت عاقل؟ يخيم الصمت على من يعتبر نفسه “عاقلا” فيبادر من يُعتبر “مجنونا” بالقول وكأنه ينقذ الموقف: الناس كلهم مجانين ولكن حظي سار أوفر» {ً343}.
المراجع:
ü أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري، عقلاء المجانين، تحقيق د. عمر الأسعد، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1987.
ü عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1995.
[1] – طالب باحث بشعبة علم الاجتماع، ماستر أنتروبولوبجيا وسوسيولوجيا التغير(2015/2017)، كلية الآداب والعلوم الانسانية مكناس ([email protected]).
[2] – عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1995. ص9.
[3] – عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1995. ص100.
[4] – نفسه، ص100.
[5] – نفسه، ص100.
قراءة في كتاب “عقلاء المجانين” للنيسابوري
كتاب عقلاء المجانين، من تأليف أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري،
تحقيق: د. عمر الأسعد،
دار النفائس، الطبعة الأولى، 1987. (385 صفحة)