باقر صاحب - اشتباك العقل والجنون..تأملات في كتاب (عقلاء المجانين)

يعد هذا الكتاب التراث القيم حمال أوجه فرادات عديدة،منها غرابة عنوانه الذي جمع نقيضين لا يلتقيان، فقد يتساءل المتلقي في الوهلة الأولى التي وقع فيها نظره على العنوان : هل المؤلف يقصد اعقل المجانين ، ام ان المجانين، ربما تخرج من هذياناتهم بلورات حكم ، فرادته الأخرى كما يصفه مقدم الكتاب مهدي محمد علي، انه (كتاب غير مسبوق وغير ملحوق)، كيف؟ ذلك لأنه أول كتاب في التراث العربي فيه وحدة موضوع من بدايته إلى نهايته، موضوعة الجنون التي تناثرت حكاياتها فرادى في كتب الجاحظ،ابن منظور،المبرد، الذي ميز هذا الكتاب انه شمل حكايات المجانين كافة ، بما فيها تلك التي لا تستحق الذكر (ولكنه أدرجها في مصنفه الفريد هذا، إنها تقع ضمن الحقل الذي يفلح فيه_وقد افلح فيه- وعليه توثيقها ضمن موضوعه المحدد منها تكن أهميتها ،كي يجمع ما ينبغي ،ويطرح مالا ينبغي ، ولكنه يظل مخلصا لوحدة موضوعه)، ويذكر المقدم سببا في تأليف كتاب من هذا النوع قي القرن الرابع الهجري، ففي هذا القرن كان التدهور الاقتصادي -الاجتماعي - السياسي في الحياة العربية كبيرا،فتزدهر حكايات الجنون والطرافة والسخرية ، بما يتناسب ووفرة الحصيلة الثقافية والإبداعية في القرن ذاته.
ان هذا السفر النادر احتوى في فصوله الأساسية على حكايات ألطف المجانين (اويس القرني )، ثم (مجنون بني عامر)، ثم حكايات ونوادر طائفة من (عقلاء المجانين)، ومن ثم فصل (المجانين من النساء)، ويشمل (ريحانة الابلية )، و(عوسجة الوسطية)، ومن ثم فصل (مجانين لايبينون ولا تعرف أسماؤهم), من الأمثلة على إيراد ما يشي بعدم الجدوى ،باب (اجتناب الأحمق وصحبته)، فعندما يقول اكثم بن صيفي لبنيه(إياكم وصحبة الأحمق فانه إلى أن يضركم اقرب منه إلى أن ينفعكم)، يرد المحقق د. عمر الأسعد ان هذه الحكمة معروفة ، وإيرادها من قبل النيسابوري وتخصيص باب خاص بالحمق ، هومن باب التجميع والتوثيق لكل أخبار الحمقى والمجانين وما فيل بشأنهم
بعد المقدمة ترد مقتطفات عن المجانين وعقلائهم، اذيرد مقتطف في غاية الأهمية يفسر اتهامات الناس عامة وذوي الشأن والحظوة والثروة والسلطة لأناس ما بالجنون، هؤلاء الناس المتهمون بالجنون ، هم بشر خرقوا ما هو سائد او قالوا كلاما جديدا غير مألوف يحاربون عليه، ويسفهونه، كأن يكون السائد ظلما او أعرافا بالية فيها انتهاك لكرامة الإنسان وحقوقه ، ولذلك دعت الأمم الرسل مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم واتوا بخلاف ماهم فيه (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ، فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون)
يتناول (ابو القسم بن الحسن محمد بن حبيب النيسابوري) أصل الجنون في اللغة وهو الاستتار (جن الشيء يجن جنونا اذا استتر) وكذلك (اجن الليل الشيء اجنانا اذا غطاه بظلامه) وكذلك معنى الجنة البستان لالتفاف الاشجار ، إذن يستطرد النيسابوري في أصل الجنون باللغة ليدلف بعدها أسماء المجنون في اللغة,هي كثيرة (الأحمق ، المعتوه :من يولد مجنونا ، الأخرق: الذي لا يحسن التدبير والتقدير،الرقي‘او المرقعان:الأحمق الذي يتمزق عليه رأيه وعقله، الممسوس، المخيل، المهوس:الهوس ضرب من الجنون، الموسوس ، الأهوج ، الهائم، المدله، الأبله، المستهتر ، الوله) .ليدلف النيسابوري بعد ذلك إلى الأمثال المضروبة في الحمقى ، حتى قيل لمن بالغ في حمقه جنونه مجنون،قال الشافعي (جنونك مجنون ولست بواجد /طبيبا يداوي من جنون جنون)
وبالتأكيد عد كل العشاق الصادقين في عشقهم مجانين (قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم/مالذة العشق الاللمجانين)
تم يتناول النيسابوري المادة الأساسية للكتاب ألا وهي أخبار عقلاء المجانين وأوصافهم، مبتدئا من (اويس القرني)، يصفه قومه (أهل قرن) عندما سألهم عنه(عمر بن الخطاب) بانه مجنون يسكن القفار (لا يألف ولايؤلف)،ونستشف من حديث النيسابوري عنه ، بانه حين اسلم تزود من الجنون والاسلام عرفانية ، حتى بات الكثير من البناء قومه يسال عنه للافادة من روحانيته ، حتى ان رجلا يدعى (هرم بن حيان)، كان يسأل عنه كثيرا حتى لقيه في الكوفة على شط الفرات ، فسمى اويس الجنون الرجل ، فتعجب : كيف عرفه، فقال له: (عرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك ان الارواح لها انفس كانفس الاحياء)كان لايقارق ذكر الموت وينصح من يطلب منه النصح (عليك بذكر الموت فلا يقارقن قلبك طرفة عين ما بقيت).
وليجهل الكثيرون مجنون بني عامر ،الذي اشهر هواه اشهارا غاظ به الشعراء من العشاق، فانقلبوا عن فضيلة البوح بالهوى الى روحانية الكتمان :
باح مجنون عامر بهواه = وكتمت الهوى فمت بوجدي
فاذا كان في القيامة نودي = من قتيل الهوى؟تقدمت وحدي
وفق نزعة الاستتاربما يتناسب و اعراف المجتمع العربي انذاك ومازالت الى الان في قطاعات كثيرة منه (قيل لليلى : حبك للمجنون اكثر ام حبه لك؟ فقالت: بل حبي له. قيل وكيف؟ قالت : لان حبه لي كان مشهورا وحبي له كان مستورا)من كل ذلك نرى ان الانسجام مع السائد يعد فضيلة وتفوقا روحانيا واخلاقيا ،عكس الجنون ومشاهيره في التراث الذين ضاقوا ذرعا من التوافق مع عادات المجتمع وتقاليده، فعدوا البوح والإشهار حد الهذيان والجنون فضيلتهم ايضا ونمطا من ممارسة الانسان لإنسانيته.
وفرة البوح تولد الجرأة وانتقاد اخطاء الناس وعيوبهم التي يكتمونها ويظنون ان الاخر لا يرى عيوبهم ، فيما في الوقت ذاته ينتقدون اخطاء الاخرين ولا يقومون اخطاءهم ، احد المجانين الملقب (ابو عطاء سعيد المجنون ) انكشفت عورته جالسا في الشمس ، فقال له رجل يسمى عطاء : استريا أخا الجهل ، فقال: أمالك مثلها؟ فأمنته، ثم مرسعيد المجنون بالرجل ذاته وهو يأكل رمانا في السوق، فيقول هذا الرجل عن المجنون سعيد (فعرك أذني وفال: من الجاهل منا انا ام انت؟ ثم انشأيقول :
ارى كل انسان يرى عيب غيره = ويعمى عن العيب الذي هو فيه
اذن الجنون هو من لا يستحي من ان يكون ناقدا بصيرا باخطاء الاخرين ، ويمكن القول تبعا لذلك ان الجنون مرتبط بالمعرفة (قال رجل لعليان المجنون: اجننت؟ قال: اما عن الغفلة فنعم، وعن المعرفة فلا، قلت : كيف حالك مع المولى؟ قال كما جفلته مذ عرفته؟ قال: مذ جعل اسمي في المجانين).
من المجانين من يعدون انفسهم عقلاء ، والعقلاء هم المجانين ، الى حد انهم يعدون من يتمنون السلطة والجاه غير عقلاء اذ تزداد أعباؤهم ويتضاعف قلقهم، وهناك حكاية يرويها النيسابوري عن فليت المجنون تصح ان يكون ممن يعدون اعقل المجانين، قيل لفليت يوما (ايسرك انك امير المؤمنين؟ فقال: لا.فقلت: ولم؟ قال: يثقل ظهري ويكثر همي وينسيني النعيم ذكر ربي.قلت: وفي الارض عاقل لا يتمنى انه خليفة؟ قال: وفي الارض عاقل لا يتمنى انه خليفة؟)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى